رمضان بن منصور: القول الفلسفي في المتن الرشدي


فئة :  حوارات

رمضان بن منصور: القول الفلسفي في المتن الرشدي

يوسف بن عدي: أهلاً بكم دكتور رمضان بن منصور في منبر مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

كيف تقدمون أنفسكم دكتور رمضان بن منصور للقارئ؟

رمضان بن منصور: في الواقع، يصعب على المرء أن يقدم نفسه للقراء، خاصة إذا ما تعلق التقديم بأمور مرتبطة بالجوانب النظرية في الإنسان. إنّ مأتى الصعوبة لا يكمن فقط في طبيعة التقديم بقدر ما يكمن أيضاً في طريقة التقديم لمثل هذا الضرب من الأمور. لذلك تبقى الإنتاجات الفكرية المستندة إلى النصوص والأعمال الإبداعية المستقلة هي الأوْلى، في نظرنا، بأن تقدم كاتباً ما لمجموع القراء المشاركين له في مواضع الاهتمام المعرفي والثقافي.

بقي أنّ هناك تقديماً ﺁخر، وهو في الحقيقة تقديم كلاسيكي، يُعرف فيه المرء نفسه من جهات عدة: أفقه الحضاري الذي ينتمي إليه، مدارات انشغالاته التفكّرية الراهنة، الرهانات التي يسعى إلى إنجازها في مسار مختلف بحوثه العلمية.

إنّ الأفق الحضاري الذي ننطلق منه وإن كان تونسياً من جهة المنشأ إلا أنه يتجاوز ذلك، من جهة الثقافة التي نتغذّى منها وبها، نحو نزعة لا ترى في الحق سوى مطلب كوني، تارة يعبّر عنه الأنا وطوراً يعبّر عنه اﻵخر. هذا التحالف الكوني بين الإنساني والمعرفي وجدت آثاره ثاوية في الفلسفة الرشدية، سواء في شروحات ابن رشد على أرسطو أو في كتبه الموسومة بالمستقلة، لذلك وجهت أغلب أعمالي نحو ابن رشد. بفضل "فائض المعنى" الذي ترشح به مختلف أجناس الكتابة الرشدية وجدنا أنفسنا مشدودين إلى جملة من الانشغالات الفلسفية: تقاطع العلوم والصنائع من جهة المبادئ، ومسالك التعليم، وأدلة البرهنة، طبيعة القول الميتافيزيقي وتجذّره بالاستعمالات المنطقية (موضوع أطروحتي في الدكتوراه)، التمييز بين مختلف الأقاويل العلمية من جهات الخواص وقوة مختلف التصورات والتصديقات الواقعة في النفس.

مثل هذه الانشغالات وغيرها، التي نحن بصدد النظر فيها كتابة وتأليفاً، تجعل من الرهان الذي نبتغي الوصول إليه رهاناً محورياً، وهو إخراج الفلسفة الرشدية من عنق القراءات التراثية والأيديولوجية وتنزيلها في سياق معرفي يحاول قدر الإمكان الالتزام بشروط البحوث الأكاديمية.

يوسف بن عدي: إذا ما أردنا أن نرسم مقوّمات الفلسفة العربية الإسلامية، فأين يمكن تحديد مدارها ودوائرها؟

رمضان بن منصور: إذا ما فهمنا المقوّمات بمعنى الإشكالات أو المسائل الكبرى التي استقصت فيها الفلسفة العربية الإسلامية فإنّ الدوائر التي تتحرك فيها لا تختلف كثيراً عن تلك الدوائر التي نعثر عليها في الفلسفات القديمة، ونقصد هنا تحديداً الفلسفة الهلينية وامتداداتها الهلينستية في مدرسة الإسكندرية. من بين هذه المسائل نذكر على سبيل المثال: المسائل الميتافيزيقية بأبوابها النظرية التقليدية، وهنا يتداخل علم الكلام كصناعة إسلامية بالموضوعات المألوفة في التقليد الميتافيزيقي القديم، والمسائل المنطقية التي تشكّل في أغلب الأحيان أدوات العلوم النظرية منها والعملية، والمسائل الأخلاقية والسياسية، وهي وإن خفت صوتها مقارنة بغيرها من المسائل فإنها في نظرنا لا تنفك عن الأقاويل الميتافيزيقية والمنطقية.

أمّا بالنسبة إلى المدار الذي ينبغي أن تتحرك فيه هذه الدوائر والإشكالات، قلت "ينبغي" لأنّ الأمر جرى في الدراسات الفلسفية الناطقة بالعربية على شاكلة مبتورة، فتتوزع في نظرنا على المدارات الفلسفية التالية: المدار الأوّل هو مدار الفلسفة اليونانية بمختلف مدارسها الفكرية بدءاً بما قبل السقراطية وصولاً إلى الأرسطية مروراً بالأفلاطونية، والرواقية، والأبيقورية...، المدار الثاني هو مدار الفلسفة الإسكندرانية الوريث الثقافي والفلسفي للأفلاطونية والأرسطية، والمدار الثالث هو مدار الفلسفة اليهودية حيث ينبغي معاينة التأثير الذي مارسه فلاسفة الإسلام على أقطاب الفلاسفة اليهود في العصر الوسيط، كما يمكن أن ينظر المدار أيضاً في كيفيات نقل الأصول العربية المفقودة اليوم إلى اللسان العبري المحفوظ، أمّا المدار الرابع فهو مدار الفلسفة المسيحية اللاتينية، أين يمكن أن نعثر على رحلات الفلسفة العربية الإسلامية إلى عالم بصدد النهوض؟ في هذا المدار يمكن البحث أيضاً عن مصائر السينوية والرشدية.

إنّ واقع الدراسات العربية المعاصرة في الموروث الفلسفي الإسلامي القديم يشكو من "عرج مداري" جعله لا يهتم إلا بالمدار الأوّل اليوناني في حين أنّ استيفاء الاستقصاء العلمي إنما كان يقتضي بالضرورة العروج على بقية المدارات، وخاصة مدار الفلسفة الإسكندرانية. ولعل هذا "العرج المداري" هو الذي تسبّب في استشراء الدراسات الاستشراقية وادعاءاتها التحكمية.

يوسف بن عدي: هل هذا شرط لازم للقول إنّ القول الفلسفي العربي هو قول مبدعٌ وأصيل؟ أم أنّ الأمر لا يكاد يتخطى ما قاله المستشرقون إنّ الفلسفة الإسلامية ليست إلا فلسفة يونانية بلسان عربي؟

رمضان بن منصور: كما ذكرت لك سابقاً إنّ زعم أهل الاستشراق أنّ "الفلسفة الإسلامية ليست إلا فلسفة يونانية بلسان عربي" إنما هو ناتج في نظرنا عن اقتصار ربطها بالمنتج الفلسفي اليوناني المتأخّر (أفلاطون وأرسطو) في حين أنّ العارف الثاقب بجذور بعض التصورات الفلسفية العربية لا يمكن أن يردّها إلى أصولها اليونانية، وذلك بسبب أنّ فلاسفة اليونان لم يقدموا حلاً أو رأياً يخصّ هذه المسألة أو تلك.

سأقدم لك مثالاً بسيطاً يتعلق بفكرة العناية الإلهية عند ابن رشد. نحن نعلم على جهة القطع أنّ أرسطو لم يعط لهذه المسألة فحصاً مبسوطاً، وهو وإن ذكرها في مقالة اللام فإنما كانت على جهة الالتباس والغموض فضلاً عن طبيعة معالجتها العلمية الكوسمولوجية الخالصة. أمّا أبو الوليد فتحضر عنده واضحة التجلّي مثبتاً إيّاها بالقول الشرعي والحكمي. من أين جاء هذا الوضوح الرشدي في مسألة العناية الإلهية في حين أنّ قول أرسطو جاء على غاية من الإيجاز والغموض؟

نعتقد أنّ الوضوح إنما كان مأتاه ما ذكره الإسكندر الأفروديسي (أحد أعلام المدار الفلسفي الإسكندراني) في مقالته في العناية. ذلك يعني أنّ كلام أهل الاستشراق المبكّر في الفلسفة الإسلامية إنما هو كلام قاصر عن الحق اليوم، وذلك بسبب حصر نظره في الحلقة الأولى من السلسلة التي ساهمت في تكوّن الفلسفة العربية الإسلامية، في حين أنّ هنالك حلقة وسطى بين اليونانية والعربية وهي الإسكندرانية.

أمّا بالنسبة إلى الجزء الأوّل من السؤال المتعلق بإمكان الإبداع والأصالة في الفلسفة العربية الإسلامية فهو من الأسئلة العويصة التي اختلف فيها المختصون طرائق قدداً. إذ بينما يذهب بعضهم إلى تبعيتها وعدم الجدّة التي أتت بها فإنّ البعض اﻵخر يعتبرها شيئاً أصيلاً ومستحدثاً. أقول، وبغض النظر عن متانة حجج كل فريق، إنّ ما تفرّدت به الفلسفة العربية هو قدرتها ليس فقط على هضم الاستشكالات الفلسفية المجردة وزرعها في رحم ثقافة قرآنية بيانية، وإنما أيضاً صياغة أجهزة اصطلاحية لم تكن واردة في السابق. إنّ استشكالاً فلسفياً أبيقورياً من قبيل "الجزء الذي لا يتجزأ" كيف له أن يتحوّل مع الأشاعرة إلى دليل مثبت للوجود الإلهي بعد أن كان دالاً على أصالة المادة (المسمّى عندهم بدليل الجوهر الفرد)؟ كما أنّ مفاهيم منطقية مجردة من قبيل القياس، والصورة، والجوهر، والحد، كيف لها أن تتحوّل إلى العلوم العربية الإسلامية بعد أن كانت أدوات غير مليّة أصلاً؟

يوسف بن عدي: تطرقتم في كتابكم "ملامح من إلهيّات ابن رشد" 2014 لأصناف الكتابة الرشدية من خلال البحث في قضايا الوجود الإلهي والشرعي، فهل تعتقدون أو قلْ تنافحون عن فكرة أنّ الشروح بأنواعها الصغيرة والمتوسطة والكبيرة عند أبي الوليد هي لحظات تؤشّر على التطور للقول الفلسفي؟

رمضان بن منصور: إنّ أطروحة تطور القول الفلسفي من خلال الأنماط الثلاثة لأجناس الكتابة الرشدية، والتي ذكرها المرحوم جمال الدين العلوي في كتابه المتن الرشدي، قد تبدو وجيهة مع الغزالي أو مع ابن سينا في المسائل الميتافيزيقية، غير أنها تبقى محل تظنّن مع الفارابي في المطالب المنطقية. إنها أطروحة مغرية ولكنها تحتاج، في نظرنا، إلى استقراء جميع مواقف ابن رشد وتصوراته في كامل نصوصه الشارحة والمستقلة. وهذا العمل لا يمكن اليوم لفرد واحد أن يؤكّده أو ينفيه إذ نحتاج في استقصاء النظر فيه إلى مجموعة كبيرة من المختصين الرشديين في المنطق، والميتافيزيقا، والعلوم الطبيعية.

شكّنا لا يلحق بفكرة تطور القول الفلسفي عند ابن رشد أو عند غيره من فلاسفة الإسلام، ذلك أنّ التطور في المواقف والتصورات أمور طبيعية، فالغزالي بعد أن كفّر الفلاسفة في تهافت الفلاسفة نلاحظ تراجعه عن ذلك في كتاباته المتأخّرة. قد تكون هناك مقاييس موضوعية أخرى لإثبات مراحل تطور القول الفلسفي الرشدي غير تلك التي ذكرها المغفور له جمال الدين العلوي. إذ نعلم اليوم أنّ تقسيم الشروح الرشدية إلى تفاسير وتلاخيص وجوامع إنما هو تقليد شرع فيه الإسكندر الأفروديسي في شروحه التي وضعها لأعمال أرسطو، وبالتالي فهو لا يعني بالضرورة توصيفاً لتطور الكتابة الفلسفية، وإنما قد يكون أدخل في باب تعليمي بيداغوجي.

يوسف بن عدي: ما المحصلة التي خرجتم بها من كتابكم: "قراءة جديدة لعلم المنطق وعلاقته بالميتافيزيقا عند ابن رشد"؟

رمضان بن منصور: الكتاب الذي ذكرته هو في الحقيقة أطروحتي في الدكتوراه. غالباً ما أفضّل تدقيق عنوان هذه الأطروحة لأجعل منه بحثاً في علاقة البرهان بعلم الوجود بما هو موجود. لا أريد الدخول في التفاصيل الموجّهة نحو هذا التفضيل فذلك أمر قد يبعدنا عن السؤال الذي طرحته. في خاتمة الكتاب ذكرت أهم المحصلات التي خرجت بها، ولا بأس بإعادة ذكرها هنا على جهة الإجمال. تتعلق أولى النتائج بظاهرة تقاطع بعض العلوم النظرية مع الميتافيزيقا وتغذّيها منها. إنّ ما يمكن استنتاجه من نماذج التقاطعات هو التمايز بين التقاطع الحاصل بين الميتافيزيقا والمنطق من جهة أولى والتقاطع الحاصل بين الميتافيزيقا وبقية العلوم النظرية من جهة ثانية.

النتيجة الثانية هي أنّ أبا الوليد لم يستطع تجاوز ميتافيزيقا أرسطو، بل ٳنه بقي حبيساً فيها وموثقاً بها. ولكن في مقابل هذه التبعية لاحظنا إرادة ابن رشد الواضحة في الاستقلال عن بقية شراح أرسطو الهلنستيين والعرب مثل الإسكندر اﻷفروديسي، وطامستيوس، ونيقولاوش الدمشقي، وابن سينا، والفارابي.

أمّا النتيجة الثالثة فترتبط بعلاقة الشكوك بالميتافيزيقا والمنطق. لقد مثلت الشكوك الواردة في مقالة الباء أول مناسبة تشابك فيها العلم المطلوب بالمنطق من جهة أوائل البرهان. لقد أفضى تحليل ابن رشد لمشكل التشابك إلى نتيجة مهمة لم نعثر عليها عند أرسطو، وهي أنّ أوائل البرهان موضوع علم الوجود. غير أنّ هذه الأوائل هي نفسها التي سمّاها أرسطو في كتاب البرهان بالمقدمات العامة اﻷول التي ينطلق منها البرهان اليقين. هكذا إذن تمثل أوائل البرهان القاسم المشترك اﻷول الذي يجمع الميتافيزيقا بالمنطق. ولكنّ هذا التشارك ليس تاماً، وإنما هو محدود من جهة الموضوع فقط، أمّا نحو نظر كل علم في هذه الأوائل فمختلف. من ذلك أنّ علم ما بعد الطبيعة ينظر فيها من جهة كونها ٲحد الموجودات، وأمّا المنطق فينظر فيها من جهة كونها تفضي بالإنسان إلى اليقين التام.

لقد ميّزنا - وهذه هي النتيجة الرابعة - بين ضربين من الاستعمالات للمنطق في الميتافيزيقا: هما استعماله من جهة آلاته وقوانينه، وهو الذي أطلق عليه ابن رشد بالاستعمال الخاص، واستعماله من جهة الأصول والمسلّمات التي تبينت فيه، وهو الذي سميناه بالاستعمال الأصولي.

يوسف بن عدي: في ظلّ التأويلات الكثيرة لنصوص ابن رشد إلى حدّ التباين والتنافر، هل يمكننا أن نرد الأمر إلى الإشكالات والصعوبات التي تطرق إليها الشارح وأرسطو من قبيل الجوهر والمحرك والمحركات والعلل اللانهائية...، أم أنّ الأمر يعود إلى بحث ابن رشد عن مشروعية الفلسفة عامة في الثقافة الإسلامية العربية كنظر في الوجود؟

رمضان بن منصور: تثبت غزارة التأويلات المتنافرة لنصوص ابن رشد في الدارسات الرشدية العربية المعاصرة عدة أمور، لعل أهمها هو أنّ جامعاتنا ومراكز البحوث الاجتماعية والإنسانية مازالت، بإستثناء عدد قليل منها طبعاً، لم تتمرس بعد في إنتاجاتها الأكاديمية والمعرفية بالشروط العلمية الموضوعية المتعارف عليها عالمياً، لذلك يسقط أغلبها في وحل القراءات الأيديولوجية المتسبب الرئيس في تنافر التأويلات إلى حد التضاد القبيح. كما أنّ "فائض المعنى" (عبارة محمد عابد الجابري) في النصوص الرشدية قد يكون عاملاً مساهماً أيضاً في وجود التنافرات والتناقضات، غير أنه لا يمكن أن يرتقي في نظرنا إلى مرتبة السبب البنيوي العميق لهذه الظاهرة.

صحيح أنّ الموضوعات التي نظر فيها ابن رشد، وخاصة منها تلك الميتافيزيقية والمنطقية، عويصة وشائكة على أفهامنا اليوم. كما أنه صحيح أيضاً أنّ ابن رشد يُعدّ من الأوائل الذين أرادوا "غمس" استشكاليْ الوجود والمعرفة في بنية الثقافة العربية الإسلامية. ألم يقل في فصل المقال: "وأي حاكم أعظم من ذلك الذي ينظر في الوجود وأحكامه"؟ غير أنّ كل ذلك لا يفسّر في نظرنا أسباب تنافر القراءات التي نزعم أنها رشديّة في حين أنها تنطلق في حقيقة أمرها من غايات غير علمية إطلاقاً. سوف أبرهن لك على ذلك من خلال "نماذج" قدّمت نفسها على أنها إفرازات لإنتاجات أكاديمية. طبعاً لن أذكر لك المؤلفات والمقالات والبحوث التي حرّرت خارج أسوار الجامعات فالأمر أدعى إلى الرثاء هنالك.

بعض الأطاريح الجامعية المغرضة تُخرّج ابن رشد فيلسوفاً مؤكّداً للحرية المطلقة كما نفهمها اليوم، في حين أنه لا ينفك في معالجته الفلسفية لهذه المسألة عن التأكيد على أنّ الفعل الإنساني ما هو في واقع الأمر سوى توافق بين الشوق الحادث في النفس البشرية والعوامل الخارجية. بعضها اﻵخر يُسقط مصطلحات العلمانية على الفلسفة الرشدية ليخرجها في النهاية من الإرهاصات المبكرة لها، أي العلمانية، متجاهلاً عن قصد أطروحة ابن رشد الرئيسية في فصل المقال وهي تكامل ما هو حكمي مع ما هو شرعي في بلوغ الحق. بعض الأطاريح الأخرى تخرجه فيلسوفاً مادياً مثبتاً لفناء النفس مؤكداً على أزلية المادة، وهي بالتالي لا تخرج عن الصورة النمطية التي رسمها توما الأكويني في الفلسفة الغربية الوسيطة.

يوسف بن عدي: كيف تقوّمون الدراسات الرشدية اليوم، وأخصّ بالذكر الرشديات لجمال الدين العلوي في كتابه المتن الرشدي ودراسات المغربي المتخصص محمد المصباحي في إشكالية العقل والوجود والواحد؟

رمضان بن منصور: إذا كان لي إمكان بالاستثناء في رسم مشهد الدراسات الرشدية العربية فإني أستثني ممّا وصفت بالمرثية إنتاجات زملائنا في المغرب، حتى أصبحنا في تونس نتحدث عن "مدرسة مغربية" رائدة في دراسات الفلسفة العربية الإسلامية. ذلك أنه بفضل مركز الدراسات الرشدية بجامعة فاس حظيت أعمال ابن رشد منذ أوائل ثمانينات القرن المنصرم بعناية فائقة من قبل المغفور له جمال الدين العلوي. توجهت عناية الأخير في البداية نحو تحقيق النصوص المنطقية تأسيساً لنظرية رشدية في العلم، ثم توجت هذه العناية بعد ذلك بأعمال محمد المصباحي حول بعض المسائل الميتافيزيقية لابن رشد. طبعاً دون أن نغفل ذكر الأساتذة محمد عابد الجابري، وعبد السلام بنعبد العالي، وسالم يفوت، ومحمد سبيلا، وطه عبد الرحمن.

ما يهمنا اﻵن هو محاولة العلوي في الرشديات المعاصرة نظراً لمباشرتنا إيّاها أكثر من غيرها. مثل كتاب المتن الرشدي، في نظرنا، مدخلاً جديداً في قراءة ابن رشد، سواء من جهة تصنيف أجناس الكتابة أم من جهة التسلسل الكرونولوجي للمؤلفات الرشدية، وما يطرحه كلّ ذلك من إشكالات تتعلق بالمضامين المعرفية. غير أنّ ما كان ينقص جهد العلوي هو استقراء أطروحته المركزية، حول تطور الوعي الفلسفي الرشدي باختلاف أجناس الكتابة، في جميع مؤلفاته الميتافيزيقية والمنطقية والطبيعية فضلاً عن وضعية الكتب المستقلة في مثل هذه التقسيمات. ربما كان الموت الخاطف سبباً في عدم استيفاء العلوي البرهنة على أغلب أطروحاته التي رسمت لنا "الدرب الملكي" في الفحص العلمي الواثق في أدواته ومناهجه وأهدافه.

يوسف بن عدي: ما هي مبررات صوغ سؤال اليوم: لماذا ينبغي لنا اليوم أن نكون رشديين؟ وكيف؟

رمضان بن منصور: نحن اليوم لسنا في حاجة فقط إلى ابن رشد، بل إلى كلّ التراث المستنير المدافع عن القيم الكونية كالعقلانية والتقدم والتحرّر والعدالة...، على أنّ هذه القيم ليست بالضرورة من الأفكار المصرح بها في كتابات القدامى من فلاسفة الإسلام ومفكريه، بل قد تكون أفكاراً ثاوية في بعض النوازل النظرية والعملية الخاصة بعصرهم وفكرهم. إنّ ما يدفعنا إلى تثوير تراثنا وتحريكه من أسر القراءات السلفية والأيديولوجية السائدة هو واقعنا الراهن. ذلك أنّ البنية العرفانية لشعوبنا العربية خاصة تشكو الوهن من كلّ ما هو عقلاني خاضع للنظام والسيطرة، سواء في المؤسسات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية...، كما أنه لا يخفى على الكثيرين عدم تشبع ثقافتنا المعاصرة بأفكار التقدم والتطور، فالحقيقة بالنسبة إلينا ثابتة وغير تاريخية، كما أنّ فكرة العدالة عندنا لا يمكن أن تفهم إلا في سياق الشورى، بل يعتبرها البعض توريداً غربياً يشوّه حقيقة الشورى. أعتقد أنّ للعدالة معنى استغراقياً يجعلها أشمل من فكرة الشورى.

في دفاع ابن رشد عن الحكمة السارية في الكون، وعن النظام الخارق للطبيعة، وعن الضرورة السببية الرابطة بين الأحداث والوقائع، ضد الأطاريح الكلامية الأشعرية، قد تمثل الفلسفة الرشدية مصدر إلهام إصلاحي اجتماعي يفك عن مجتمعاتنا أغلال العبث والفوضى والقبح. كما أنّ إيمان ابن رشد بالتقدم الإنساني في بلوغ الحق ليس بالأمر الساكن، كما نعتقد نحن اليوم، فالحقيقة في نظره ينسخ الأفضل منها الأقل، ففلاسفة اليونان، وقد أدركوا شأواً عظيماً في الحق، تنصروا لما بلغتهم شريعة المسيح عليه السلام، كما أنّ فلاسفة الإسكندرية، وقد ورثوا الحق اليوناني، أسلموا لما بلغهم الإسلام. قد لا يكفي الوعي وحده بضرورة تحيين الرشدية اليوم في الأبعاد التي نحتاج إليها، لذلك لا بدّ من مقاربة كيف نكون رشديين، فهي الأوْلى والأهم بالأخذ.

إنّ ضرورة ممارسة النقد وكشف فساد حجج الخصم وبيان كونها لا ترتقي إلى مصاف الأدلة العلمية اليقينية لهو في نظرنا أول الدروس التي ينبغي فقهها والتدرب على اكتسابها في حجاجنا ومناقشاتنا العلمية. كما أنّ احترام الخصم في المحاورة بل وإيجاد تبريرات ترفع عنه الخطأ والزلل (موقفه في مقدمة تهافت التهافت من الغزالي) لهو أيضاً من الدروس التي ينبغي علينا تحيينها حتى نكون رشديين. على أنّ أهم شيء يمكن أن نشير إليه في هذا السياق، معتقدين في الحاجة الماسة إليه اليوم، هو نصرة ابن رشد للحق (العلم) ودحضه لكلّ أيديولوجيا تريد تحويل الإيمان إلى مذهب ومعتقد تكفّر من خرج عنه.

يوسف بن عدي: ماهي مشاريعكم المستقبلية؟

رمضان بن منصور: على المدى القريب، نحن بصدد إنجاز مؤلف يعالج مسألة الحقيقة والخطأ بين المعرفة والوجود عند ابن رشد. أمّا على المدى البعيد، فسنعدّ، إنّ أنسأ الله لنا في العمر، لإنجاز معجم فلسفي نعرض فيه لأهم المصطلحات المنطقية والطبيعية والميتافيزيقية التي استخدمها ابن رشد في مختلف متونه.

يوسف بن عدي: نشكر لكم تفضلكم بهذا الحوار الفلسفي الممتع.