رهانات علم الكلام بين اللاهوت والسياسة


فئة :  مقالات

رهانات علم الكلام بين اللاهوت والسياسة

إنّ البحث في علم الكلام يعني البحث في تاريخية تطور العقل في الإسلام، فعلم الكلام مرتهن إلى تاريخية المجتمع والنظام الثقافي الديني وأثره في المجتمع بمعنى أنّ علم الكلام هو علم يمارس البحث ضمن حدود رهانات المجتمع الإسلامي ضمن فتره معينة مما يجعل من تأملاته رهينة تلك الحقبة التاريخية، أي إنّ البحث في هذا الحقل من العلوم الإسلامية ليس متعاليًا على التاريخ، وبالتالي تصبح مقولات ضمن رهانات تلك التاريخية، وهذا يعني أن نتعامل معه بوصفه فكرًا دينيًّا تاريخيًّا أصبح يعبر عن تلك الحقبة وما افترضته من مشاكل ومحاولة علمائه أن يجدوا معالجات لها.

وبالتالي فإنّ العلم ليس متعاليًا على بيئة وليس منقطع الصلة بالفكر العالمي بزمانه فهو دخل في مرحلة النشأة في حوارات مع اللاهوت تأثر بها وأعاد تبيئة مقولاته بما يستجيب إلى تحدياته وإشكالاته الداخلية.

إنّ هذا العلم في بدايته كان جزءًا من الصراع السياسي والاجتماعي على الشرعية الدينية التي كان كل طرف يسعى من أجل حيازتها بوصفها الرأسمال الرمزي الذي يضفي على مطالبه الشرعية.

وهذا يصل بنا إلى تبيان أطروحتنا - في هذا البحث - والتي تقوم على فرضية قوامها أنّ علم الكلام علم ارتبط بالواقع التاريخي الذي كان حاكمًا في تلك الفترة من تاريخ الإسلام، وبالتالي كل ما جاء به مرتبط بتلك الظروف من التاريخ، وهو يمثل استجابة العلماء لما كان يواجه الإسلام من تحديات، مما يجعل من نظرياته في الآن نفسه جزءًا من الماضي من حيث هي خبرة ورأسمال رمزي وجهد علماء ذلك الزمان لكنّه من ناحية أخرى ليس بالضرورة جزءًا من الواقع اليوم مما يجعل من مقولاته غير متعالية على الزمن بل ضمن حدود الزمن مرتهنة له، وبالتالي أي محاولة من أجل نقل المقولات وجعلها متعالية على الزمن ليس جهدًا موضوعيًّا وعلميًّا.

فإذا كانت أطروحتنا تمثل بالتاريخية فإنّ الأطروحة محل النقد هي متمثله بتعالي المقولات الكلامية على الزمن، ومحاولة إحيائها اليوم وجعلها تعبيرًا عن الهوية الإسلامية ليس أمرًا ممكنًا.

فمقولات علم الكلام الجديد[1] هي محاولة جديدة من أجل إحياء العلم لكن من خلال انفتاحه على الواقع الجديد تداولاً للمشكلات وبحثًا عن الحلول بالانفتاح على اللاهوت الجديد وفلسفة الدين وعلم الدين وحقول أخرى كثيرة، ممكن تزويد علم الكلام الجديد بالآليات والأسلوب في إيجاد حلول ومعالجات جديدة تخلق مفاهيم وأفكارًا تستجيب إلى الواقع الذي نعيش داخل والذي يعيش اغترابًا عن قيم الحداثة والمعاصرة.

بالوقت نفسه نجد أنّ علم الكلام كان يقدم تصوره المذهبي على الوقائع العامة (ويشكلون المسارات الخاصة في التاريخ على المسارات العامة، ثم يفسرون الرجالات وفق معاييرهم في التصحيح والتفسيق والتكفير، إن لم نقل موضع النقض، وغدت مصادر الآخرين مصادر عند الآخرين فقط، وحقائق الآخرين حقائقهم دون غيرهم)[2].

في هذا البحث حاولنا أن نقدم توصيف حقبه معينة من تاريخ علم الكلام، إنّها النشأة أو ما يعرف بالفكر القدري الذي جاء استجابة للتحدي الذي فرضته السلطة الأموية يوم فرضت الجبر بوصفه الحل وطالبت الآخرين بتقبله مسوغًا للهيمنة على الواقع الإسلامي يومها معتمدة وسائل متنوعة بين الترغيب بالغنيمة والترهيب بالقوة والتكفير باعتماد العقيدة وفق توظيف فقهاء السلطان وقتها.

وعلى هذا الأساس حاولنا في هذا المبحث أن نقدم توصيفًا لأطروحتنا أي تاريخية علم الكلام وبالتالي نسبيته واختلاف رهاناته يومها عنها اليوم. وعلى هذا الأساس سارت معالجتنا وفق المسارات ونتائج دراسات معاصرة لها بصماتها اعتمدناها في هذا البحث بوصفها منطلقات توزعت على ثلاثة مسارات: الأول يحاول تقديم توصيف للاهوت، فيما الثاني كان يحاول دراسة السلطة السياسية وما فرضته من قناعة وآليات في قصر تفكر المعارضين لها.

ثم جاء المسار الأخير تبيان الجهود الكلامية لدى أهل القدر في نقدهم للفكر السائد وخصوصًا أهل السلطة أي الجبر وتعرية المسبقات التي انطلقت منها أطروحة الجبر وتقديم بديل أكثر إنسية يحترم إنسية الإنسان ويعمق من دوره في مواجهة السلطة ويسعى إلى تعرية مواقفها ومنطلقاتها.

هنا نود أن نبين تلك العلاقة بين اللاهوت والسياسة بوصفها أصلاً فاعلاً في استثمار الصراع الديني، ونأخذ مثال الجبرية الأموية والقدرية وهي ما تعرف بالجبر والحرية داخل هيمنة الجبر الأموي، هنا لابد من التأصيل إلى البعد اللاهوتي أولاً ثم الوقوف عند التوظيف السياسي ثانيًا.

 أولاً لاهوتيًّا يظهر أنّ الجبر عميق في الميراث القديم للمنطقة.

أولاً: البعد اللاهوتي:

منها إنّ الإنسان في بابل أو مصر أو كنعان كان يعتقد أنّ السماء تشرف إشرافًا مباشرًا على الأرض وأنّها متحكمه فيها، ولعل قصة الخليقة البابلية هي خير مثال لما نبدأ الحديث عنه، كيف قرر الإله إبادة البشر يوم أصبحوا مثيرين للاضطراب والإزعاج[3]. ما نريد تأكيده أنّ الإنسان القديم في الشرق الأوسط كان يؤمن فطريًّا بهيمنة الغيب أو الألهة على مصيره بشكل جبري ولعل هذا واضح في حوارية المعذب البابلي[4]. لهذا كان يعتقد الإنسان القديم أنّ الألهة هي من رسم مصيره وأنّ الحكام هم ممثلون للألهة بين البشر وممثلون للبشر في السماء، فهم معينون بإرادة سماوية ويتلقون تعاليم السماء ولعل هذا يظهر في تسلم حمورابي الشريعة من السماء ممثلة بالإله شمش، انطلاقًا من هذه الرؤية فالملك هو تعين سماوي ولا يمكن الاعتراض عليه أو الخروج عليه لأنه ممثل لتلك الإرادة لهذا لم يجد الإنسان القديم إمكانية التمرد بل عليه أن يتوجه إلى السماء من أجل أن تغير من سلوك الملك فهي صاحبة الشأن لهذا ظهر وتطور الجبر في الفكر الأسطوري القديم.[5]

إلى جانب هذا الجذر هناك أمر آخر يتمثل بنمو ديانات التوحيد الثلاث وتناولها السلطة المطلقة وتبيان أوجه الاتصال بها وصفاتها وعلاقتها وهي تعتمد ميراثًا عميقًا في المنطقة كان يمثل مرجعية مهمة في هذا الأمر ومن هنا ظهر اللاهوت اليهودي، ومن ثم اللاهوت المسيحي.

في التصور اليهودي يشير سبينوزا إلى هذا في تأكيد ثلاث سمات طبعت اللاهوت اليهودي بالمقارنة مع التعدد السابق له حيث حل التوحيد محل التفريد البابلي، إذ يظهر التوحيد التوراتي في التعالي اللاهوتي بالأشكال الآتية:

أولاً: يشير إسبينوزا إلى: إذا أردنا أن نفسر عبارات موسى دون فكرة مسبقة لا يتضح لنا تمامًا أنّه يتصور الله موجودًا على الدوام في الماضي والحاضر والمستقبل؛ ولذلك يسميه يهوه، وهي كلمة تدل في العبرية على أصول الزمان الثلاثة هذه.(·) ولم يذكر موسى شيئًا عن طبيعة الله سوى أنّه رحيم لطيف.. إلخ وغيور جدًّا، كما يتضح في نصوص عديدة في الأسفار الخمسة.

ثانيًا: لقد اعتقد وأعلن أنّ هذا الموجود مختلف عن سائر الموجودات إلى حد أنّه لا يمكن التعبير عنه بأيّ صورة أو شيء حسي، بعيد عن الإبصار لضعف الإنسان لا لتناقض تنطوي عليه مثل هذه الرؤيا.

ثالثًا: نادى موسى بأنّ ذا الموجود قد أخرج ذا العالم المرئي من العماء وأقام فيه النظام ووضع في الطبيعة بذور الأشياء، وبذلك يكون له على الأشياء جميعًا حق مطلق وسيطرة كاملة[6].

يظهر هنا أنّ الله في التوراة كان أميل إلى اللاهوت منه إلى الناسوت بالمقابل، وظهور تيارات متنوعة تخوض في شخصية المسيح منها ما هو معترف به ومنها ما هو مجال نظر ونفي، لقد حاولت الدولة محاربة الهرطقات[7] وتبني رؤية تسمى بالمذهب "المونوثيلية" وهو مذهب يراد منه احتكار الحقيقة أو ((إنهاء النزاع العقائدي المرير بين الكنائس، ورأب التشظي المذهبي الذي أدى اشتداده إلى الفرقة بين أتباع الكراسي الكنسية، وأدى بالتالي إلى اهتزاز الكرسي الإمبراطوري))[8] فجاءت الرؤية اللاهوتية الجديدة التي تم توظيفها سياسيًّا حتى توسع نفوذ الحاكم السياسي الذي اجتهد في فرضها، مما أحدث عنفًا كبيرًا بحق المخالفين. لكن الأمر اللاهوتي هنا هو المهم إذ يقوم التنظير اللاهوتي على ((تركيز النظر على نقطة واحدة، هي أنّ (الله) له مشيئة أو إرادة واحدة، وبالتالي فإنّ له (تعالى) فعلاً واحدًا لإنفاذ هذه المشيئة، وتنفيذ هذه الإرادة. وهو الأمر الذي يقود فلسفيّاً بالضرورة، إلى الاعتقاد بالجبرية المطلقة وإلى القول بمحدودية الحرية الإنسانية. وهو ما سوف يصير مطروحًا بقوة، بعد بضعة عقود من الزمن، أمام أئمة المسلمين وآباء المتكلمين الذين توزعت مواقفهم الفكرية بين قطبين متعارضين: الحرية (مذهب القدرية)[9] و(الجبرية)[10]، هكذا فإنّ بنية الجبر عميقة في البنية الذهنية للمنطقة سواء كان هذا في الماضي البعيد أو في ظل اللاهوت المسيحي، إذ كان للعرب من المسيحيين مواقف مختلف عما عليه غيرهم، فهم وإن كانوا خارج الخطاب المركزي إلا أنّهم مهدوا لعلم الكلام الإسلامي نتيجة التقارب الفكري إذ ((كان العراق والجزيرة، إذن بلاد الهراطقة نظروا إلى أنفسهم على أنّهم أهل الإيمان الصحيح، وأنّ مخالفيهم هم الذين ضلوا وهرطقوا حين زعموا أنّ الله ثالث ثلاثة، وأنّ الله (تعالى)هو المسيح عيسى ابن مريم. أمّا مصر والحبشة وأطراف اليمن، فقد بقيت على إيمانها الأرثوذكسي (القبطي) المختلف مع، وعن، بقية الأرثوذكس.))[11].

لقد جاء القرآن الكريم بتصور مفارق عما عليه التوراة وعما عليه الإنجيل، إذ وجدنا في التوراة هيمنة الجانب البشري في تصوير الله كما في صراعه مع إسرائيل وما نتج عنه من الوعد، ومختلف عن الإنجيل والتعبير عن التثليث والقول بألوهية المسيح. لقد جاء القرآن الكريم مختلفًا عنهما ((لقد سطع الله بقوة في القرآن الكريم، حتى لا يكاد اسمه (تعالى) يغيب عن سطر واحد، ولا يكاد حضوره يفارق أي معنى من المعاني القرآنية. وبذلك عاد (اللاهوت) إلى صدارة المعتقد الديني، وسطعت شمس الله بقوة في النص القرآني. ومن جهة أخرى، توارى (الناسوت) فلم يعد مطروحًا كأصل إيماني))[12].

إنّ مكمن الاختلاف بين الخطابين أنّه في الأوّل يطغى الناسوت فيما في الخطاب الثاني يطغى اللاهوت على الناسوت. إلا أنّ هذا الأمر يؤكد أنّه كان لهذا اللاهوت تأثير عميق في علم الكلام الإسلامي الذي يبحث في ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد. مع إثبات العقائد الدينية، بإيراد الحجج عليها، ودفع الشبهة عنها، والرد على المنحرفين في الاعتقادات.

ثانيًا: البعد السياسي

لا شكّ أنّ العامل السياسي كان عاملاً فاعلاً إذ كان يحاول أن يستثمر البنية الذهنية والموروث اللاهوتي في إسباغ الشرعية على الذات في صراعها مع خصومها على السلطة، والعامل الديني عامل فاعل بل مهيمن في تسويغ الشرعية السياسية وإسباغ البعد العقائدي على المتصارعين، وكان الأمر لا يتعلق بالأرض وبعده الناسوتي بل إنّ الأمر أخذ منحى لاهوتيًّا، وهنا بدأ الصراع العقائدي وتركت السياسة آثاراً عميقة لما هو يومي حيث تم تأبيده من خلال تحويله إلى بعد عقائدي كوني.

على هذا الأساس ممكن أن نلمس أنّ هناك مشروعًا سياسيًّا متنوعاً لاعتراض مشروع السلطة ومشاريع معارضة له تحاول كل منها أن تقدم توصيفًا كلاميًّا لاهوتيًّا يعبر عن معارضتها، وتحاول تجريد السلطة من أي شرعية مثلما تفعل السلطة مع المعارضين فظهرت قراءات كلامية متنوعة متصارعة فيما بينها، تأخذ بعدًا (قبليًّا) مقابل القبائل العربية الأخرى المتنافسة مع قريش متمثلة بأهل الشرق ربيعة وأهل جنوب اليمن. ظهر الأمر جليًّا أثناء حروب الردة، وتصبح قبيلة قريش صاحبة السيادة على باقي القبائل، وسيادة العرب على الموالي ممن لم يدخلوا الجيش واكتفوا بالوظائف الخدمية يقابل هذا (الغنيمة) التي كانت معيار إشغال العرب بالفتوحات ومصدر العطاء الذي تقدمه السلطة لمن يطيعها يقابل كل هذا (العقيدة)، وهي تدخلنا في الصراع على الرأسمال الرمزي الديني الذي أصبح محل تأويلات متنوعة لدى السنة والخوارج والشيعة، لكل منها قراءته اللاهوتية. نجد أنّ العلاقة بين السلطة والمعرفة ترتبط إلى حد بعيد بتحول تلك المعارضة من أفقها النظري إلى العملي (لم يكن يتردد الأمويون، بمن فيهم معاوية، في الفتك بأفراد هذه النخبة الدينية والفكرية إذا هم انتقلوا بمعارضتهم من (القول)إلى (العمل) أو ظهر من سلوكهم ما يهدد)[13].

طبعًا محاولة الدولة الأموية انتهاج ممارسات العنف ضد المعارضين بأشكال متنوعة من القسوة. أمّا الشكل الآخر فهي قد أقامت قراءة سياسية تقوم على التفرقة بين القبائل العربية باعتماد وسائل متنوعة من أجل إخضاعها إلى سيطرة قريش وخصوصًا الأمويين، منها استثمار العنف أو الغنيمة حتى ظهر تيار جديد خارج القبيلة، إنّهم الموالي، فجاءت عقيدة التجبر التي اعتمدتها السلطة وسيلةً لتبرير هيمنتها على السلطة وهي رؤية تنتمي إلى اللاهوت القديم الذي استقر في البنية الذهنية وتجلى في الحاكمية والجبر، فالجبر ينتمي في بنيته العميقة إلى ذهنية القبيلة بالأساس(فالفرد في "القبيلة" لا يتصور أنّه مسؤول كفرد عمّا يفعل، لسبب بسيط هو أنّه يصدر في أفعاله عن مخيال "القبيلة".. إنّه يصدر إذن في نشاطه الاجتماعي/ السياسي خاصة عن "قهر" اجتماعي، عن جبرية قبلية تمنعه من تصور أنّه كان بإمكانه أن يفعل غير ما فعل. إّنه لا ينسب فشله إلى نفسه ولا إلى القبيلة ككل، لأنّ فشله معناه فشل القبيلة ولأنّ فشل القبيلة ككلّ معناه سقوط رموزه واختراق مخياله وانهيار عالمه.. وكما يحدث دائمًا فإنّ السبيل الوحيد للتخلص من الشعور بالفشل هو التعالي به، هو نسبته إلى الدهر والأيام، إلى القضاء والقدر.)[14].

هذا التفسير النفسي الاجتماعي يمكن ربطه بما سبق في البنية الذهنية للمنطقة وهيمنة الغيب على تسيير مقدراتها، من هنا جاءت قراءات السلطة في تسويغ أفعاله الإرهابية بحق الخصوم بأنّها مجبرة بفعل الإرادة الإلهية، وبهذا تكمل أضلاع المثلث: القبيلة، والغنيمة، والعقيدة. فقد استثمرها الأمويون وخصوصًا معاوية بشكل فعال، وسار على نهجه خلفاؤه من بعده، (كان الأمويون يقولون، إنّ الله ساق إليهم الخلافة بسابق علمه وقضاء وقدراً، أي أنّه كان يعلم منذ الأزل أنّهم سيستولون على الحكم، وعلم الله نافذ، فيكون الله هو الذي حتم عليهم أن يقاتلوا على الخلافة وأن يرتكبوا ما ارتكبوه من الأعمال لأنّ ذلك كله قد جرى "سابق علمه")[15]. يظهر هنا أنّ هناك من المثقفين الذين يبررون خطاب الجبر من يوظف مقولة العلم الإلهي من أجل تبرير العنف الذي كانت ترتكبه السلطة بحق المخالفين لها.

وقد كانت السلطة تعتمد أشكالاً متنوعة من احتواء المعارضين لها، إذ يقول معاوية: (لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قيل وكيف ذلك ؟ قال: إذا مدوها خليتها وإذا خلوها مددتها)[16].

على الرغم من أنّ هذا التصور مرتبط بالبيئة القبلية التي كان يتمتع بها زعيم العشيرة داخل البادية إذ في عهد بني أمية كان وضع الخليفة لا يختلف في جوهره عن وضع شيخ القبيلة، يحظى باحترام الناس، ولكن دون أن يظهر بمظهر من التقديس يستقبل الخاص والعام، ولم يكن يتميز عن الشيوخ في الآخرين إلا بالحنكة وهي هنا إتقان ممارسة السياسة في كل من القبيلة والغنيمة والعقيدة، عّبر معاوية عن ذلك بقوله في خطبة بالمدينة: "فإن لم تجدوني خيركم فإنّي خيركم ولاية"[17] على الرغم من أنّه مارس توظيف التراث الديني من أجل إسباغ القداسة على سلوكه من ذكر الأحاديث التي تشير إلى كرامته، وبالمقابل الأخرى التي تعارضها، إلا أنّ سياسته في جوهرها مختلفة عما سوف تكون عليه السياسة العباسية في ظل الأحكام السلطانية، لكنها لا تخفي مفهوم الترويض أو من هنا معنى السياسة في اللغة، لكن على الرغم من نسبيته، إلا أنّه أخذ طابعًا جبريًّا كونيًّا يطغى فيه البعد اللاهوتي الجبري على حساب ما هو ناسوتي بشري من حرية في الاختيار، وكأنّها أرادت أن تسبغ الثبات على الترابية في السلطة التأبيد للاهوتي وتبين التحول الذي أصاب الملك مع الأمويّين حيث الانفصال بين العلم والسلطة، إذ أصبح معاوية لا يكنى باسم كونه صحابيًّا ولا كونه من أهل العلم بل بوصفه أميرًا، وهذا يظهر جليًّا بالقول السابق له في مدينة العلم مدينة الرسول، إلا أنّ السلطة الأموية مارست تدوين الذاكرة الجمعية للإسلام وعادة ترويض العلماء بما يتواءم مع ما تريد في حربها على الخصوم الذين ينازعونها على الشرعية في الحكم باسم الإسلام. (وهكذا حكم معاوية باسم "القبيلة" وليس باسم "العقيدة" فانفصل في شخصه "الأمير" عن "العالم" وامتد ذلك إلى أجهزة الدولة فصار "الأمراء" فريقًا و"العلماء" فريقاً آخر. هذا في القمة أما في القاعدة التي كانت تؤطرها "القبيلة" فقد انقسمت زمن الفتنة إلى معسكرين: معسكر قريش، ومعسكر "العرب" (من اليمن وربيعة) وعلى رأسه علي، وبينهما أفراد وجماعات قررت اعتزال الفتنة، وبانتصار معاوية صارت القبائل التي قاتلت معه أو انضمت إليه هي وحدها "الجند"، وقد بلغ تعداده ستين ألفاً، أما المجموعات التي قاتلت ضده فقد أصبحت هي والتي كانت مترددة أو معتزلة، أصبحت (رعية). وهكذا انقسمت (القاعدة) بدورها إلى جند ورعية.)[18]

يبدو أنّ انقسام المسلمين إلى أهل سلطة وحول وطول ولهم الغنيمة، وآخرين مجرد رعية خاضعة إلى أمر السلطان هنا جاءت مقولة الجبر من أجل تحويل هذا الوضع التاريخي في الصراع إلى كونه أمرًا كونيًّا لاهوتيًّا تجلى إلى علم الله وإرادته وعليهم أن يتقبلوه كأمر مفارق غيبي. أو بحسب مقولة السلفية الخروج يعني الفتنة وخروجًا على ولي الأمر.

كذا قام أهل العلم بتبرير الأمر الواقع واعتبار أي خروج قرين الكفر والهرطقة وبالمقابل بذلت السلطة العطاء لعلمائها. ولم (يتردد الأمويون، بمن فيهم معاوية، في الفتك بأفراد هذه النخبة الدينية والفكرية إذا هم انتقلوا بمعارضتهم من "القول" إلى "العمل" أو ظهر من سلوكهم ما يهدد بذلك)[19].

هنا تظهر بوضوح الظروف التاريخية التي كانت تحكم الواقع السياسي الذي شكل محرضًا تاريخيًّا من أجل ظهور علم الكلام والظروف التي شكلت تحديات ومارست ضغوطها على متكلمي الإسلام والفقهاء بين معارض أو مؤيد للسلطة، والنتائج التي كانت وراء تلك الأفكار والمصير الذي وصل إليه هؤلاء المتكلمون بأفكارهم يوم كانوا يجمعون بين القول والعمل وكيف كانت السلطة بما مارسته من قسوة مؤثرة في انفصال الفكر النظري عن الواقع العملي لدى علم الكلام.


[1] من أجل متابعة هذا المفهوم انظر كلّاً من: عبد الجبار الرفاعي، علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، دار الهادي، ط2، بيروت، 2008. وانظر: مصطفى مليكان، الشوق والهجران، ت: أحمد القابنجي، دار الفكر الجديد، النجف الأشرف.

[2] حسن سلهب، علم الكلام والتاريخ، مركز الكلام لتنمية الفكر الإسلامي، ط1 4، بيروت، 2011، ص 41

[3] انظر: جورج بو، العراق القديم، ت: حسين علوان حسين، بغداد 1984. وانظر: عامر عبد زيد، المخيال السياسي في العراق القديم، دار ينابيع، ط1، دمشق، 2010، 2810283

[4] انظر: جورج بوييه شمار، المسؤولية الجزائية في الآداب الآشورية والبابلية، ت: سليم الصويص، دار الرشيد، بغداد، 1981، ص 103

[5] انظر: محمد عابد الجابري، نحن والتراث. دار الطليعة، بيروت.

  • يختلف علماء اللغة العبرية في أصل كلمة يهوه فيظن بعضهم أنّها ترجع إلى المعنى الظاهر لا المعنى الأنطولوجي، وتفيد هذه الصيغة الماضي الناقص والمستقبل في آن واحد. ويرى بعضهم الآخر أنّ يهوه مشتقة أيضًا من فعل الكينونة بمعناه الأنطولوجي لا بمعناه الظاهر، وبذلك يكون معناه أنا الموجود الذي يوجد وهو الصوت الذي سمعه موسى وكاهن مدين الخروج 3: 1، 4: 18

[6] إسبينوزا رسالة في اللاهوت والسياسة، ت: حسن حنفي، دار التنوير، ط1، بيروت، 2005، ص ص 155-156

[7] في هذا المجال ممكن العودة إلى: ج. ويتلر: الهرطقة في المسيحية تاريخ البدع والفرق الدينية المسيحية، ت: جمال سالم، دار تنوير ط2، بيروت، 2010

[8] يوسف زيدان، اللاهوت العربي وأصول العنف الديني، دار الشروق ـ ط3، القاهرة، 2010، ص 130

[9] يرى النشار أنّ هؤلاء "القدريين" الأوائل، هم أصحاب مذهب الإ رادة الحرة في الإسلام. انظر: النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص314. بواسطة: أحمد خواجة: الله والإنسان في الفكر العربي والإسلامي، منشورات عويدات، ط1، بيروت، 1883، ص85.

[10] يوسف زيدان، اللاهوت العربي وأصول العنف الديني، ص 130

[11] ن، م، ص 134

[12] يوسف زيدان، اللاهوت العربي وأصول العنف الديني، 145

[13] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، بيروت، 2000، ص 240

[14] المصدر نفسه، ص 260

[15] ن، م، ص 320

[16] ن، م، ص 237، وانظر: أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري بن قتيبه، عيون الأخبار، ج1، المؤسسة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1963, 9

[17] ن، م، ص 334

[18] ن، م، ص 235

[19] ن، م، ص 2240