سؤال التّجديد في الدّراسات القرآنية الحديثة: محمّد أحمد خلف الله والقصص القرآني أنموذجا


فئة :  مقالات

سؤال التّجديد في الدّراسات القرآنية الحديثة:  محمّد أحمد خلف الله والقصص القرآني أنموذجا

عندما سمع سادة قريش وشعراؤها وخطباؤها بخبر النبوّة والقرآن تبلبلت أفكارهم. مع أنّهم لم يهتمّوا بمصدر القرآن ولا بطبيعته، ولكن عندما سمعوا السّور الأولى منه، مثل: العلق والمدّثر والمزّمّل وقرؤوها، أيقنوا أنّهم أمام نصّ من نوع جديد، لم يألفه العرب ولا غيرهم. ولعلّ بعض المكّيين حفظها أو كتب شيئا منها لنفسه، حبّا للاطّلاع والمعرفة. فكانت محاولاتهم بعد ذلك لتحديد نوع هذا الخطاب الجديد وتأطيره أمرا عاديّا، يدلّ على تفاعل إيجابيّ بين النصّ القرآنيّ والمتلقّي. وهم لم يرفضوا النصّ القرآنيّ كنصّ أدبيّ، إلاّ لما احتواه من دعوة إلى تجديد رؤية الإنسان للكون على أساس مبادئ نبذ الأوثان، والإقرار بالتّوحيد والبعث، التي كانوا ينكرونها، ويرونها أمرا بعيد التحقّق: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) ق﴾.

أمّا المفسّرون الأوائل، فقد اضطرّوا إلى البحث عن معاني الكلمات في أشعار العرب، عندما ظهرت الحاجّة إلى فهم النصّ القرآنيّ فهما جديدًا، في اللّفظ والبناء والمضمون، مثل ما فعل عبد الله بن العبّاس وعبد الله بن مسعود. واستأنس غيرهم بالإسرائيليّات كما فعل عبد الله بن عمرو بن العاص، واكتفوا كلّهم بآرائهم الشخصيّة في كلّ ما لم يجدوا له تفسيرا في الشّعر، وفي مرويّات بني إسرائيل؛ وذلك لأنّ الرّسول لم يفسّر من النصّ القرآنيّ شيئا.

درس خلف الله بعض القصص الواردة في القرآن، وفق مفهومه الفنّي للقصّة، وحسب مواصفات اعتبرها هو من المسلّمات، مع أنّها مجرّد آراء قابلة للتّجاوز

ظهر التّفسير باعتباره علما. وبدأ في أصله عقليّا أي تفسيرا بالرّأي، إذ لم ينقل المفسّرون الأوائل من الصّحابة والتّابعين أيّة رواية عن الرّسول. وبداية من تدوين التّفسير مع الطبريّ خصوصا، تغيّر مسار التّفسير ليتحوّل إلى علم بالنّقل والعنعنات المملّة.

وبداية من القرن الثّالث الهجري، ظهر التّنظير لما سُمّي النّظم أو الإعجاز. ومن أوائل المنظّرين للإعجاز، كان الجاحظ (ت225هـ) في كتابه نظم القرآن. ومحمّد بن يزيد الواسطي (ت306هـ) في كتابه إعجاز القرآن، وهو أوّل كتاب وُضع لشرح الإعجاز. وعلي بن عيسى الرمّاني (ت384هـ) اللغويّ والنحويّ له كتاب أيضا في إعجاز القرآن. وفي القرن الخامس، انتشرت كتب الإعجاز بصفة بارزة، مثل إعجاز القرآن للباقلاّني (ت402هـ) ودلائل الإعجاز للجرجاني (ت471هـ).[1]

لعلّه من المفيد أن نعرف لماذا صارت نظريّة الإعجاز أبرز صفات القرآن في الفكر الإسلاميّ، إلى حدّ أن أصبح مبدأ عقائديّا إيمانيّا يُكفَّر من لم يقل به. ولنأخذ رأي الباقلانيّ في الموضوع: «ولمّا أرسل رسوله محمّدا، ﷺ، إلى النّاس أجمعين، وجعله خاتم النبييّن، أيّده بمعجزات حسيّة كمعجزات من سبقه من المرسلين، وخصّه بمعجزة عقليّة خالدة وهي إنزال القرآن الكريم الّذي لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله لم يستطيعوا ولم يقاربوا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا».[2]

الظّاهر، حسب كلام الباقلاّني، أنّ المعجزة هي الدّليل القاطع على النبوّة، فمن أنكر المعجزة أنكر النبوّة. وعلى افتراض أنّ الله عزّ وجلّ خصّ رسله السّابقين بمعجزات حسيّة، فهل خصّهم بمعجزة عقليّة؟ هذا لم يذكره الباقلاّني. ولماذا لم يخصّ محمّدا بمعجزة حسيّة؟ لم يذكر الباقلاّني نفسه أيّة معجزة حسيّة للرّسول، لأنّ القرآن لا يسعفه.

وماذا عن صحف إبراهيم وصحف موسى والزبور والإنجيل، أليست معجزات عقليّة؟ إذ ما هي إلاّ هداية ظرفيّة قبل القرآن. نجد في كلام الباقلاّني ما يفسّر لنا أهمّ إشكال ظهر في الفكر الإسلاميّ ونتائجه الوخيمة على تدبّر القرآن. فمن فِعل أعجز اشتُقّ مصطلح المعجزة والإعجاز، من أجل تفسير آيات التحدّي الّتي لخّصها الباقلاّني في قوله السّابق: «لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله لم يستطيعوا ولم يقاربوا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا».

إنّ هذا التّفسير الخاطئ والتّأويل البعيد، هو الّذي سجن الفكر الإسلاميّ، خاصّة في تدبّر القرآن. لذلك، لم يخرج التّفسير عن النمطيّة الّتي وضعت له منذ القرن الرّابع الهجريّ. فهو سلفيّ شكلا وبناء ومضمونا. ولمّا شرع المستشرقون يدرسون القرآن كنصّ إنسانيّ، كما درسوا الكتاب المقدّس، ظهر القول بقدسيّة القرآن بعد القول بالإعجاز.

فمن أين جاء تعبير المقدّس؟

نقرأ بعض الآراء المعاصرة؛ كتب محسن راضي مقالا بعنوان: قدسيّة القرآن الكريم متّفق عليها بالزّمان ومختلف عليها بالمكان جاء فيه: «يتّفق المسلمون عامّة وبعض من غير المسلمين أصحاب العقل السّليم على أنّ القرآن الكريم كتاب مقدّس. ويعتبرون المساس بآياته تحدّيا كبيرا لمشاعر المسلمين. وهذه القدسيّة متّفق عليها اليوم، مع تفسير مختلف لحيثيّة هذه القدسيّة».[3]

ليس في القرآن وصف بأنّه مقدّس. ولم يقل الرّسول: إنّ القرآن مقدّس. ولم تُعرف هذه المقولة عند الصّحابة ولا عند علماء المسلمين. وحسب علمنا، لم تصدر فتوى واحدة في قدسيّة القرآن من أيّة جهة رسميّة في الجامعات الإسلاميّة. وقد حدّد محسن راضي زمن قدسيّة القرآن في قوله: «وهذه القدسيّة متّفق عليها اليوم»؛ أي إنّ هذه المقولة حديثة لم تعرف عند السّلف، فما سبب ظهورها؟

أجاب نايف عبّوش في مقال له بعنوان: هوس العقلانيّة الحداثيّة وحقيقة قدسيّة القرآن، قائلا: «تأتي الحداثوية اليوم بشقّيها الفكري والفلسفي، في محاولة متعمّدة لتقديس العقل الإنساني، والاستنارة تارة، والبنيويّة والتّفكيكيّة وغيرها من التسميّات، تارة أخرى. ومنها الطّعن بالقرآن والجرأة على القول بأنسنته إلى الحدّ الذي باتت معه كثير من الكتابات الحداثوية المعاصرة تعتبره من وضع البشر من دون تردّد».[4]

إنّ القول بأنسنة القرآن؛ أي إنّ القرآن من تأليف محمّد أو بعض الصّحابة أو الحجّاج بن يوسف، قديم قدم القرآن. وإذا حذفت المليار من المسلمين من سكّان الأرض، فإنّ المليارات الباقية من البشر يقولون بأنسنة القرآن ويعتقدون ذلك. فظهور القول بقدسيّة القرآن هو ردّ، كالعادة، على المناهج الحديثة في دراسة القرآن.

فمتى ظهرت هذه المناهج؟

نقرأ إجابة عمر حسن القيّام في كتاب أدبيّة النصّ القرآنيّ: «جاء أمين الخولي رائدا طليعيّا واثقا بقدرته على تجديد القراءة القرآنيّة. فاقتحم باقتدار ملحوظ معركة التّجديد. وقدّم منظورا للقراءة يتأسّس على أنّ القرآن هو النصّ الأدبيّ الأعلى بين نصوص الثّقافة العربيّة، وأنّ أدبيّته السّامية هي الّتي جعلت العرب البلغاء العرب يخضعون لروعته البيانيّة».[5]

هذا الرّأي قديم عبّر عنه الكثيرون في حديثهم عن الإعجاز. وقد وضّح الكاتب في المقطع نفسه ذلك الأمر: «ومن هنا، دعا أمين الخولي إلى دراسة منهجيّة تنطلق من اللّغة وتعود إليها».[6]

ولكنّ هذا المنهج اللّغوي اعتمده نولدكه وبروكلمان وجاك بيرك، وغيرهم من المستشرقين. وقد اطّلع أمين الخولي (ت1966) على الدّراسات الاستشراقيّة باللّغتين الإيطاليّة والألمانيّة، التي كان يتقنهما. والمهمّ، أنّه اعتُبر مؤسّس مدرسة تجديديّة في التّفسير. ومن تلاميذه البارزين نذكر: محمّد أحمد خلف الله، وشكري عيّاد، وعائشة عبد الرّحمن (بنت الشاطئ).

شكري محمّد عيّاد (ت1999م) أستاذ جامعيّ وكاتب مصريّ. له بحوث في النّقد الأدبيّ ومناهجه ومدارسه، وله كتاب «من وصف القرآن يوم الدّين والحساب»؛ تناول في بابه الأوّل دراسة المفردات الدّينية في وصف يوم الدّين أو القيامة والحساب معجمّيا وأدبيّا، واعتمد في الباب الثّاني، الأسلوبيّة الوجدانيّة للبحث في أسلوب القرآن الوصفيّ، مبرزا طريقته في تأليف تلك الجزئيّات الوصفيّة. فالأسلوب عند شكري عيّاد، هو طريقة ائتلاف المعاني الجزئيّة لتؤدّي غرض الأدب، ثمّ فسّر الإعجاز القرآني في مقدرة اللّفظ على أن يثير في ذهن السّامع صورا حسيّة. أمّا الباب الثّالث، فبحث فيه عن مرامي القرآن الإنسانيّة والاجتماعيّة من خلال الأوصاف ليوم الدّين والحساب، وقد لخّص منهجه في دراسة القرآن بقوله: «حاولت أن أفسّر كتاب العربيّة الأكبر طبقا لمنهج يستمدّ من علوم اللّغة والأدب، كما يستمدّ من كتب التّفسير المنقول والمعقول. ويرفد الدّرس الأدبي بثقافة نفسيّة واجتماعيّة، ويبذل غاية الجهد في استقصاء الوقائع ومقارنة النّصوص قبل أن يُقدم على إبداء الرّأي».[7]

يُعتبر هذا الرّأي تنظيرا وتطبيقا حقيقيّا لتوجّهات أمين الخولي في النّقد الأدبي في حدود تعريب النظريّات الغربيّة ومقارنتها بجهود العلماء العرب القدامى، في البلاغة والبيان والمعاني ونقد الشّعر وفكرة الأسلوب عندهم. مع مراعاة التّواضع والتهيّب في إبداء الرّأي. ويبدو أنّ آراءه وتجديداته ظلّت حبيسة دائرة المختصّين في الجامعات، خلافا لزميله محمّد أحمد خلف الله، الذي أثارت أفكاره وكتاباته ضجّة كبيرة، شبيهة بتلك الّتي أثارها طه حسين.

محمّد أحمد خلف الله وأدبيّة النصّ القرآني:

محمّد أحمد خلف الله (1904-1983م) خرّيج مدرسة دار العلوم العليا في القاهرة 1928، سافر إلى لندن ودرس الفلسفة وعلم النّفس بجامعتها. وعند بلوغه سنّ التقاعد، عيّن مديراً لمعهد البحوث والدّراسات العربيّة التّابع لجامعة الدّول العربيّة. وكان عضواً بمجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة، ومجمع البحوث الإسلاميّة بالأزهر، والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعيّة.

قدّم خلف الله في السّنة الجامعيّة: 1947-1948، أطروحته: الفنّ القصصي في القرآن لشهادة الدّكتوراه، التي قبلها وأشرف عليها أمين الخولي. وفي تصدير الكتاب الّذي كتبه خلف الله نجد الملابسات الّتي حفّت بالأطروحة من قبل أن تُعرض وتُناقش، ودور لجنة المناقشة في إثارة البلبلة حولها، إلى حدّ تكفير خلف الله.[8]

فماذا في هذه الأطروحة؟

نجد تمهيدا ذكر فيه المؤلّف أسباب اهتمامه بالقصص القرآنيّ وانتقد فيه منهج القدامى في دراسته والتّعامل معه. وممّا قاله في ذلك: «لاحظت أنّ القوم أعرضوا عن الوقوف عند الأحداث والأشخاص من حيث تصويرها تصويرا معجزا رائعا ووقفوا عندها من حيث هي أداة من أدوات التّاريخ. ومن هنا، أخذوا يسألون أنفسهم أسئلة عقّدت القصص القرآنيّ أمامهم. فكانوا يسألون مثلا عن الحادثة أوقعت أم لم تقع؟ وإذا كانت قد وقعت فمن الّذي أوقعها؟ وأين ومتى؟».[9]

لم يستثن خلف الله المستشرقين، واعتبر أنّهم كانوا يعبّرون عن عجز فادح في فهم القرآن: «ولاحظت أخيرا أنّ المستشرقين قد عجزوا عجزا يكاد يكون تامّا عن فهم أسلوب القرآن الكريم، وطريقته في بناء القصّة وتركيبها، وعن الوحدة الّتي يقوم عليها فنّ البناء والتّركيب».[10]

فأيّ منهج لم يتّبعه علماء المسلمين ولا المستشرقون، سيختاره خلف الله لتجاوز الفشل والعجز؟ قال معبّرا عن وجهة نظره في هذا المنهج: «ومن هنا، وقفت لأدرس القصص القرآنيّ على منهج الأصوليّين واللغويّين والأدباء. عسى العُقد أن تُحَلّ، وعسى المشكلات أن تزول، وعسى هذا الباب الّذي يلج منه الملاحدة والمبشّرون أن يوصد إلى غير رجعة، إن شاء الله».[11]

فالأطروحة التي قدّمها هي في رأيه ردّ دفاعيّ عن القرآن. وهي في أصلها، تطبيق لآراء أمين الخولي. وخلف الله في الظّاهر على الأقلّ، لا يسقط قداسة النصّ القرآنيّ ولا يسعى إلى أنسنته. وإنّما يعتبره نصّا أدبيّا معجزا. وسيسلّط عليه نظريّات النّقد الأدبيّ الغربيّة الّتي اطّلع عليها، مع تعريبها أو أسلمتها. وبهذا، وجد خلف الله مكانه بين مفكّرين معاصرين من أمثال محمّد عبده وعبد الله دراز ومالك بن نبيّ. فهل تندرج محاولته ضمن القديم التقليديّ نفسه، ولكن في أثواب جديدة غربيّة الصّنع؟

قال الباحث التّونسي احميدة النّيفر موضّحا رؤية خلف الله للقصّة القرآنيّة والنصّ القرآني عموما، في كتابه عن التّفاسير المعاصرة: «رأى خلف الله أنّ النصّ لا بدّ أن يحيل إلى البيئة الثقافيّة التي نزل فيها. لذلك، فهو يتخيّر في قصصه ما كان يجري على ألسنة العرب. كلّ ذلك توصّلا إلى شرح عقائد الدّعوة الجديدة، وتأييد مبادئها. لكن إذا كانت القصص ذات منطلق ثقافي عربي، فإنّ اختيارها كان لغاية تجاوز ثقافة ذلك المجتمع والانفتاح على ثقافات جديدة. لذلك، نجد إهمالا مقصودا لتفاصيل تلك القصص، لأنّ الغاية من إيرادها هو اعتمادها وسائط لمقاصد أهمّ».[12]

بحث خلف الله في الباب الثّاني من الكتاب قضيّة الجانب الفنّي في القصّة القرآنيّة، ضمن مفهوم القصّة لغويّا واصطلاحا. وقد استهلّ هذا الباب بسؤال: ما هي القصّة وهل في القرآن قصّة فنيّة؟ وانطلق في بحثه من ظاهرة لاحظها عند الأقدمين، وهي أنّ كتبهم جاءت خالية من أيّ حديث عن القصّة، حتّى ذلك الحديث الّذي يحدّدها ويعرّف بها. وللتّدليل على رأيه، أورد الكاتب التّفاسير اللغويّة لفعل «قصّ» ومشتقّاته مثل: القصّ والقصّة والقصص من خلال كتب لسان العرب والقاموس ومفردات الرّاغب والنّهاية، ثمّ اختار الفخر الرّازي (ت606ه) مثالا للمفهوم الاصطلاحيّ. وأورد تفسيره لأربع آيات وردت فيها كلمات: «نَقُصُّ»، «قُصّيهِ»، «قَصَصا»، «القصص». واستنتج التّقرير الآتي: «وهو قول يشرح معنى القصص شرحا دينيّا، والرّازي بهذا القول يدخل الميدان الأدبيّ أو يقترب منه؛ وذلك لأنّ القصّة الدينيّة ليست إلاّ لونا من القصص الأدبيّ».[13]

لماذا اعتبر خلف الله القصص القرآنيّ قصصا دينيّا؟ هل لأنّها وردت في القرآن؟ وهل القرآن كتاب دين مثل بقيّة الكتب الدينيّة؟ وإذا لم تكن القصّة الدينيّة إلاّ لونا من القصص الأدبيّ، فما ذنب المفسّر في اعتبارها كذلك؟ وكيف للرّازي والأقدمين أن يقتبسوا المعارف والمناهج الحديثة في تفاسيرهم؟

وأخيرا، ما القصّة الفنيّة في نظر خلف الله؟: «حين نذكر قصّة، نقصد ذلك العمل الأدبيّ الّذي يكون نتيجة تخيّل القاصّ لحوادث وقعت من بطل لا وجود له، أو لبطل له وجود. ولكنّ الأحداث الّتي دارت حوله في القصّة لم تقع، أو وقعت للبطل، ولكنّها نظّمت في القصّة على أساس فنيّ بلاغيّ. فقدّم بعضها وأخّر آخر، وذكر بعضها وحذف آخر. أو أضيف إلى الواقع بعض ما لم يقع، أو بولغ في التّصوير إلى الحدّ الّذي يخرج بالشخصيّة التاريخيّة عن أن تكون من الحقائق العاديّة والمألوفة، ويجعلها من الأشخاص الخياليّين».[14]

يظهر أنّ مفهوم القصّة عند خلف الله يرتكز على الخيال، أو المخيال كما يقال اليوم. وكلّ ما في القصّة هو من إنتاج خيال القاصّ (الرّاوي أو المؤلّف). ولا بدّ في هذه القصّة النمطيّة من شخصيّة تاريخيّة تصبح في نهاية القصّة شخصيّة خياليّة.

واضح أنّ تطبيق هذا المفهوم على القصص القرآنيّ يحوّله حتما إلى نشاط ذهني وإنسانيّ وأدبيّ جليّ الملامح. وعلى إثر ذلك التّحديد لمعالم القصّة الفنيّة، تساءل خلف الله بذكاء: «هل وُجِد ذلك القصد الأدبيّ أو الفنيّ في القصص القرآنيّ أم لم يوجد؟ هل قصد القرآن من قصصه إلى ما يقصد إليه الأدباء من التّأثير الوجدانيّ واستثارة العاطفة والخيال أو قصد إلى التأثير العقليّ وإقامة الدّليل والبرهان؟».[15]

لا نفهم طبيعة المقابلة التي أرساها خلف الله حول وجود التأثير الوجدانيّ واستثارة العاطفة والخيال في القصّة الفنيّة، مع التأثير العقليّ وإقامة الدّليل والبرهان؟ لأنّنا لا نجد بينهما أيّ تناقض.

خلف الله وألوان القصص القرآنيّ:

درس خلف الله بعض القصص الواردة في القرآن، وفق مفهومه الفنّي للقصّة، وحسب مواصفات اعتبرها هو من المسلّمات، مع أنّها مجرّد آراء قابلة للتّجاوز. وعرض ثلاثة ألوان وجدها في القصص القرآنيّ وهي: اللّون التّاريخيّ واللّون التّمثيليّ واللّون الأسطوريّ.

اللّون التاريخيّ:

بدأ خلف الله اللّون التّاريخيّ بعرض الآيات (18-21) من سورة القمر. وألحّ أنّ القرآن قد تخلّى عن كثير من التّفصيلات؛ فلم يذكر هودا ولم يذكر صفة عاد ولا بيوتها. ترك كلّ هذا وأسرع إلى وصف العذاب. واستنتج أنّ الغرض من القصّة هو التّخويف: «فعل القرآن كلّ هذا، لأنّ قصص هذه السّورة لم ينزل إلاّ للإنذار وللتّخويف من العذاب».[16]

ذلك هو مثال لتفسير خلف الله لسورة القمر، وقد أكّد فيه أن القرآن ترك كلّ ما يهمّ التّاريخ، فلماذا اعتبر السّورة من اللّون التاريخيّ؟ هل لأنّها جمعت الحديث عن أقوام نوح وعاد وثمود ولوط وآل فرعون؟ ألم يلاحظ أنّ القرآن يذكر تارة القوم، وتارة النبيّ الّذي أرسل إلى قومه؟ ألم يقرأ بداية السّورة ونهايتها؟ ثمّ إنّ سورة القمر ليست قصّة فنيّة ولا هي من القصص القرآنيّ. إنّها إخبار بماضٍ ذُكرت شخصيّاته الرئيسة ووقعت فيه أحداث في أزمنة وأماكن مختلفة، لا يربط بينها التّاريخ، وإنّما يؤلّف بينها وحدة الموقف لكلّ تلك الأقوام في رفض الرّسالة الإلهيّة.

قال محمّد الطّاهر ابن عاشور(ت1973) في مستهلّ تفسيره لسورة القمر: «وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا تَحْذِيرُهُمْ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً فِي الدُّنْيَا عِنْدَ وُجُودِ مِيقَاتِهِ وَسَبْقِ إِيجَادِ أَسْبَابِهِ وَمُقَوِّمَاتِهِ الَّتِي لَا يَتَفَطَّنُونَ لِوُجُودِهَا، وَفِي الْآخِرَةِ بِحُلُولِ الْمَوْتِ ثُمَّ بِقِيَامِ السَّاعَةِ».[17]

فخلف الله لم يأت بجديد، ولم يحتج الشّيخ ابن عاشور إلى كلّ تلك المقدّمات والإطالة وتطبيق نظريّات القصص الفنيّ، ليقول كلامه بصورة أدقّ من كلام خلف الله وقبله بسنين. ولذا يمكن الحكم بأنّ اعتبار تلك الآيات قصّة فنيّة، هو تعسّف على الفنّ الأدبيّ نفسه. فلو اعتبرها أقصوصة، وهو خطأ، لهان الأمر. ولكن خلف الله طبّق منهج التّجزئة وتقطيع أواصر القصص القرآنيّ دون أن يشعر.

اللّون التمثيليّ:

بداية من الصّفحة 182، من كتاب الفنّ القصصي، دخل بنا خلف الله اللون التمثيليّ. وكعادته، بدأ بنقد الأقدمين في مقارنة غريبة بين معارفهم ومعارفه هو. وأخيرا، أقرّ بما يأتي: «القصّة التمثيليّة قصّة فنيّة، هذا ما يقرّره الأقدمون ويشهد به الواقع. وهذا هو الّذي نريد أن نستعرضه سويّا من النّصوص».[18]

ولدراسة اللّون التمثيليّ في القصص القرآنيّ، بدأ خلف الله بالآيات (21-25) من سورة صاد. وفيها قصّة النبيّ داود وحكمه في قضيّة: «التّسع وتسعين نعجة». أورد خلف الله ما جاء في تفسير تلك الآيات في الكشّاف للزّمخشريّ وفي مفاتيح الغيب للرّازي وما قاله أبو السّعود في تفسير: «بغى بعضنا على بعض» وما جاء في تفسير تلك الجملة في معالم التّنزيل للبغويّ، وما جاء في البحر المحيط لأبي حيّان في خصوص «لفظة النّعجة». وكلّ هذا العرض الطّويل، إنّما ساقه ليستنتج منه أنّ: «سرّ الاختلاف لا يقوم على التّمثيل من حيث هو تمثيل، ولا على أثره القويّ في النّفس؛ فكلّهم يعترف بذلك، حتّى من يخشى منهم أن يكون التّمثيل في قصّة الملَكين كذبا».[19]

لم يفسّر خلف الله مصطلح التّمثيل ولا وضّح مفهومه في القصّة الفنيّة، بل اكتفى بعرض أقوال اختارها هو واجتثّها من سياقاتها في كتب التّفسير لبعض الأقدمين. فما غرضه من كلّ ذلك؟ نقرأ إجابته: «وهنا، أحبّ أن أصرّح بأنّي لا أقصد إلى القول بأنّ كلّ الموادّ القصصيّة في القصص التمثيليّ القرآنيّ وليدة الخيال؛ ذلك لأنّ بعضها قد يكون وليد الأحداث الواقعيّة. وذلك هو الواقع في قصّة المَلَكين السّابقة. وما فيها من أحداث من تاريخ داود عليه السّلام».[20]

وجدنا تعتيما وغموضا في مفهوم التّمثيل عند خلف الله. ولذلك، يمكن أن نجتهد ونفترض أنّه قصد الكناية والمجاز والرمزيّة، وخاصّة ضرب المثل. لو كان الافتراض صحيحا يكون خلف الله أساء الاختيار، لأنّ القرآن مليء بالأمثال: «ضرب الله مثلا»، «يضرب الأمثال للنّاس». أمّا الآيات الّتي اعتمدها أنموذجا في اللّون التّمثيليّ، فلا نرى لها علاقة البتّة بالتّمثيل أيّا كان مفهوم التّمثيل. لماذا لا تكون أقصوصة واقعيّة. ليس المهمّ فيها مثال «النّعجة»، وإنّما هي السّبب المباشر لما هو أهمّ للمجتمع، وهو الحكم في نزاع بين شخصين. وقد حكم داود دون أن يسمع كلام أحد الخصمين. وتفطّن إلى ذلك وأناب إلى ربّه. والنّعجة هي في تلك الآيات أنثى الضّأن، إذ لم يكن من عادة بني إسرائيل تسمية المرأة نعجة. ولكنّ المفسّرين الذين رجع إليهم خلف الله، أسقطوا عادة عربيّة جاهليّة على أحداث وقعت خارج المجتمع العربيّ، وقبل الإسلام بقرون.

ظهر التّفسير باعتباره علما وبدأ في أصله عقليّا أي تفسيرا بالرّأي، إذ لم ينقل المفسّرون الأوائل من الصّحابة والتّابعين أيّة رواية عن الرّسول

اللّون الأسطوريّ:

بدأ خلف الله، كعادته، بمقدّمة طويلة متشعّبة مملّة. وغرضه في ذلك تبيين كيف تناول الأقدمون مسألة الأسطورة في القرآن. ثمّ استشهد بتفسير المنار لقصّة هاروت وماروت في سورة البقرة. وأخيرا، توصّل إلى الاستنتاج الآتي: «وتلك هي آيات القرآن الكريم الّتي عرضت لذكر الأساطير نجمعها مستقصين لننظر فيها النّظرة العلميّة الّتي تسلم إلى الحقّ المبين».[21]

ومن أجل تحقيق ذلك المطلب، أورد تسع مقاطع نصيّة من القرآن فيها عدد من الآيات تعرّضت لكلمة الأساطير. وقد طبّق عليها بعض مفاهيم التّحليل النّفسي واستنتج منها بعد ذلك الفكرة الآتية: «ما يُفهَم من النّظر في هذه الآيات الّتي هي كلّ ما تحدّث به القرآن عن الأساطير، أنّ القرآن نفسه لم يحرص على أن ينفي عن نفسه وجود الأساطير فيه. وإنّما حرص على أن ينكر أن تكون هذه الأساطير هي الدّليل على أنّه من عند محمّد عليه السّلام، وليس من عند الله».[22]

لاحظ خلف الله ظاهرة معيّنة في القرآن المكّي وتساءل حولها هذا التّساؤل: «لماذا انقطع القول بالأساطير حينما انتقل النبيّ إلى المدينة»؟[23]

وفسّر ذلك باختلاف الثّقافة في مكّة وفي يثرب. وإشكاليّة هذا البحث عند خلف الله هي: هل توجد في القرآن أساطير؟ طبعا لا يتعلّق الأمر بوصف المشركين للقصص القرآنيّ بأنّه أساطير الأوّلين، وإنّما نعني الأسطورة بمفاهيمها اللغويّة والاصطلاحيّة والأدبيّة. فبماذا أجاب خلف الله؟ وكيف حلّل المسألة؟: «إذا ما قال المستشرقون: إنّ بعض القصص القرآنيّ كقصّة أصحاب الكهف أو قصّة موسى في سورة الكهف، قد بُنيت على بعض الأساطير، قلنا ليس في ذلك على القرآن من بأس. فإنّما هذه السّبيل سبيل الآداب العالميّة والأديان الكبرى. ونستطيع الآن أن ننتهي من هذه الفقرة، إلى القول بأنّ القرآن الكريم لا ينكر أنّ فيه أساطير، وإنّما ينكر أن تكون الأساطير هي الدّليل على أنّه من عند محمّد عليه السّلام، لم يجئ به الوحي ولم ينزل عليه من السّماء. ومن هنا، يجب ألاّ يزعجنا أن يثبت عالم من العلماء أو أديب من الأدباء أنّ بالقرآن أساطير؛ ذلك لأنّ هذا الإثبات لن يعارض نصّا من نصوص القرآن الكريم».[24]

من خصائص لغة خلف الله التّعميم والتّعتيم؛ ولذلك يحقّ لنا أن نفهم ما نشاء ونفترض ما اقتضاه السّياق. وهذا يجعلنا نطرح الإشكال الآتي: هل أراد خلف الله أن يقول إنّ النصّ القرآنيّ يتكوّن من جزأين اثنين:

الأوّل: هو كلام الله نزل به الوحي إلى الرّسول.

والثّاني: هو ذلك القصص التمثيليّ والأسطوري، حسب تصنيفه.

يقرّر هذا الجزء دون خفاء بأنّ الأساطير القرآنيّة هي الدّليل على أنّه من عند محمّد عليه السّلام. لم يجئ به الوحي، ولم ينزل عليه من السّماء؟

لم يتفطّن خلف الله أنّ هذا الطّرح يجعل من النصّ القرآنيّ لا هو إلهيّ ولا هو بشريّ! وهو يذكّرنا بقول المسيحيّين في عيسى بن مريم. وربّما لم يقصد خلف الله ذلك، ولكنّ الاستنتاج يقود إليه.

قد تكون أطروحة الفنّ القصصيّ في القرآن الكريم هي المجال التطبيقيّ لآراء أمين الخولي. وقد يكون المنهج المتّبع والمضمون هما من تنظير الخولي نفسه، لأنّ خلف الله لم يكن مختصّا في النّقد الأدبيّ، وهو لم يدرس في الواقع أيّة قصّة كاملة كما وردت في القرآن. فإذا كان غرض مدرسة الخولي نزع القداسة عن النصّ القرآنيّ، كما قال بعض المعارضين لهذا الاتّجاه، فإنّ الجهد يذهب هباء بما أنّ القرآن ليس مقدّسا. أمّا إذا كان الغرض «أنسنة النصّ القرآنيّ»؛ أي اعتباره تأليفا بشريّا، فهذا قيل منذ نزول القرآن في مكّة. ويقوله كلّ المستشرقين اليوم، وسوف يقال غدا. فما جدوى أن يكرّره عربيّ أو مسلم؟

تبقى لا محالة عناصر الاجتهاد والتّجديد واضحة في ملامح هذه المدرسة، كما تظلّ أعمالها إثراء للدّراسات القرآنيّة الحديثة، وتعميقًا لاتّجاهات البحث النّقدي، وخدمة اللّغة العربيّة.


 

[1]- عبد الرّحمن، عائشة (بنت الشّاطئ) الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق، دار المعارف بمصر، ط3، القاهرة، 2004. ص19

[2]- الباقلاّني، أبو بكر، إعجاز القرآن، تحقيق السيّد أحمد صقر، دار المعارف بمصر، ط5، القاهرة، 1997م. ص5

[3]- شبكة البصرة، الاثنين 7 ربيع الثاني 1426/16 آيار 2005.

(http: //articles.abolkhaseb.net/maqalat_mukhtara/arabic/0505/radi_160505.htm).

[4]- الحوار المتمدّن (http: //www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=340515).

[5]- القيّام، عمر حسن، أدبيّة النصّ القرآنيّ، المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ بفيرجينيا، الولايات المتّحدة، مكتب التّوزيع في العالم العربيّ، ط1، بيروت، 2011. ص19

[6]- المرجع السّابق، ص19

[7]- عيّاد، شكري، من وصف القرآن يوم الدّين والحساب، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 2012. ص9

[8]- خلف الله، محمّد أحمد، الفنّ القصصي في القرآن، مؤسّسة الانتشار العربي، ط4، بيروت، 1999. ص17

[9]- المرجع السّابق، ص37

[10]- المرجع نفسه، ص37

[11]- م. ن، ص36

[12]- النّيفر، احميدة، الإنسان والقرآن وجها لوجه، التّفاسير القرآنية المعاصر: قراءة في المنهج، دار الفكر، دمشق، 2000. ص128

[13]- الفنّ القصصي في القرآن، ص152. مرجع سابق.

[14]- م. ن. ص 152

[15]- م. ن. ص152

[16]- م. ن، ص153

[17]- ابن عاشور، محمّد الطّاهر، التّحرير والتّنوير، الدّار التّونسية للنّشر، تونس، 1984ـ ج 27، ص220

[18]- خلف الله، محمّد أحمد، الفنّ القصصي في القرآن، ص182. مرجع سابق.

[19]- م. ن. ص185

[20]- م. ن، ص187

[21]- م. ن، ص201

[22]- م. ن، ص205

[23]- م. ن، ص208

[24]- م. ن، ص209