شرائع التكفيريين وأحكام المستبدين


فئة :  مقالات

شرائع التكفيريين وأحكام المستبدين

لا تزال الجماعات التكفيريّة تمارس نشاطها، رغم الإجماع العالمي على إدانتها ومقاومتها. وتبدو آخر معالم هذا البقاء من خلال ظهور خليفة "داعش" بعد أن أضحى خليفة بلا خلافة، صوّر المعركة بين أمّة الإسلام وأمّة الصليبيين بأنّها معركة الإيمان والكفر، وراح يثني على ولاته وفرسان إعلامه وأعضاء هيئته الشرعيّة وأمرائه وجنده. ويبارك مبايعة المبايعين ويعدّ العمليات الإرهابيّة التي نُفذت في "سيريلانكا" واستهدفت دور عبارة للمسيحيين ثأرا لهزائم "داعش" في الباغوز[1]. وفي الوقت الذي تحاول فيه هذه الجماعات إضفاء شرعيّة على عنفها من خلال الربط بين أحداث منفصلة ومتباعدة، فإنّها بخطابها وممارساتها تمثّل تجسيدا للاستبداد، وهو ما سنحاول بيانه من خلال رصد تجلياته.

إنّ من نصّب نفسه وصيّا على الإسلام والمسلمين وحاكما أعلى يدافع عن قضاياهم ويقتصّ لقتلاهم لَوَاقِع تحت وهم سلطويّ

1- إهدار البعد التاريخيّ:

أوّل أصول هذا الاستبداد كامنة في إهدار البعد التاريخيّ؛ فمحاولة المطابقة بين الوعي التاريخي والوعي الراهن يقوم على مغالطة كبرى أساسها استدعاء التراث عبر متخيّل تصوغه اللّغة الدينيّة الموروثة، وتحمل فيه القضايا الراهنة أسماء تراثيّة مضلّلة تهدر الواقع في ظلّ ما ترسمه لنفسها من هندسة التقابل بين المؤمنين والكفّار. فالفكر السلفيّ بوجه عام ينكر التطوّر وتجديد الفكر الدينيّ والسلفيّ "عموما، يعتبر نفسه سادن الهويّة وحاميها والمحافظ عليها، في مواجهة الانحرافات، أيّا كانت، عقائديّة (فرق أخرى) أو فقهيّة أو فكريّة."[2] وقد أدّى انتشار هذه الرؤية إلى تجاهل الفوارق الكبيرة بين وضع المسلمين قديما ووضعهم الراهن. وما الاستبداد التكفيري الذي شرّع القتل في "سيريلانكا" باسم الانتقام لمقاتلي "داعش" في الباغوز سوى تجسيد لاستبداد فكريّ وعنف لاهوتيّ أساسهما الوهم الذي جعل جماعة تنتمي إلى دولة ما تعاقب من ليسوا مسؤولين عن معركة تدور رحاها في منطقة أخرى. فكيف يحاسب مواطن سيريلانكيّ مهما كانت ديانته على معركة دارت رحاها في الشرق السوريّ؟ وهل من العدل أن يقتل (قصاصا) من لم يقترف جريمة قتل؟ ألا يشرّع ذلك الثأر المضادّ وقتل كلّ مسلم بسبب هويّته؟

تمنح القداسة الجماعات التكفيريّة قدرة على احتكار النطق باسم اللّه وتطبيق أحكام تعدّ سماويّة، وهي في عرف أصحابها غير قابلة للنقض والتعديل

"إن بُنیان الاستبداد بنیان مرصوص، وجذوره ضاربة في عمق التاریخ، حتى صار عقیدة وفقھاً وكتباً ومنابرَ وجامعاتٍ ودور نشر ووزارات تشرف على بنیانھا."[3] وإنّ من نصّب نفسه وصيّا على الإسلام والمسلمين وحاكما أعلى يدافع عن قضاياهم ويقتصّ لقتلاهم لَوَاقِع تحت وهم سلطويّ، يجعله يعتقد أنّه القادر على إصدار الأحكام وتنفيذها في آن واحد.

وليست المسألة شاذة عن تصوّر الجماعات التكفيريّة التي تجنّد جماعاتها المقاتلة أو ذئابها المنفردة في جميع أنحاء العالم لاقتراف الجرائم باسم الدين وبدعوى مقاومة الكفر والكافرين. فحادثة الذبح التي تعرّضت لها السائحتان في المغرب دليل على أنّ الاستبداد يمكن أن يصير بمثابة عدوى تنتقل من زعيم التنظيم إلى كلّ المؤمنين برسالته والمبايعين على التوحّش والنكاية بمن عدّوا أعداء، وإن كانوا سيّاحا مسالمين. وما فعله الدواعش مع الإيزيديين يزيد اليقين بأنّ للاستبداد أصولا ثابتة في فكر الجماعات التكفيريّة وأجلى مظاهره في أنّه يمارس القتل العشوائيّ تحت مسميات الانتماء الطائفيّ. وتهمة الكفر مرنة وقابلة، لتتوسع أو تضيق دائرتها بحسب أهواء التكفيريين وقادتهم.

2- الطابع السلطويّ وإهدار التنوّع التأويليّ:

ليس إهدار البعد التاريخيّ سوى المدخل التأويليّ الذي منح الجماعات التكفيريّة عدّة دينيّة مشحونة بمصطلحات افتراق الفرق وبوهم الانفراد بالنجاة. ولكنّه لا يفسّر وحده ممارسة العنف ضدّ المختلفين والموسومين بالكفر. فأصول الاستبداد كامنة في ارتباط السلطة بالمقدّس، و"بين الاستبدادين السياسيّ والدينيّ مقارنة ما تنفكّ متى وجد أحدهما في أمّة جرّ الآخر إليه."[4] والقداسة تمنح الجماعات التكفيريّة قدرة على احتكار النطق باسم اللّه وتطبيق أحكام تعدّ سماويّة، وهي في عرف أصحابها غير قابلة للنقض والتعديل. وتلك الدوغمائيّة هي التي رسّخت الوهم بأنّ جوهر الأحكام التي ينفّذها التكفيريّون إلهيّ، ومن هنا كان إيمانهم بالحاكميّة والجهاد المقدّس، وهي مفاهيم تمثّل مفاتيح فهم الاستبداد؛ ذلك أنّ القول بالحاكميّة ينفي عن سائر الأحكام صفة القداسة، بل يسمها بالمدنّسة والكافرة. فالحاكميّة احتكار للنطق باسم الإله وتلك أعلى درجات الاستبداد، وينتهي هذا المفهوم إلى "تكريس أشدّ الأنظمة الاجتماعيّة والسياسيّة رجعيّة وتخلّفا، بل إنّه ينقلب على دعاته أنفسهم، إذا أتيح له أن يتبنّاه بعض السّاسة الانتهازيين كما هو واقع الأمر في كثير من أنظمة الحكم في العالم العربيّ والإسلاميّ. وإذا كانت الدكتاتوريّة هي المظهر السياسيّ الكاشف عن مدى تدهور الأوضاع في هذا العالم، فإنّ الخطاب الدينيّ يصبّ بمفهوم الحاكميّة مباشرة في تأييد هذا المظهر وتأبيد كلّ ما يتستّر وراءه من أوضاع."[5] أمّا الجهاد، فجوهره الإيمان بالحرب الإلهيّة المقدّسة التي تقوم عادة على قسمة ينشئها متخيّل الزعيم وجماعته بقسمة البشر إلى مؤمنين وكفّار، وتقسيم العالم إلى ديار إسلام وسلم، وديار كفر وحرب. والمقدّس أصل من أصول الاستبداد، لأنّه يجعل طرفا من الصراع خصما وحكما له مطلق الصلاحيّة في القتل والأسر والسبي، فإن قتلاه بحسب اعتقاده في الجنّة وقتلى أعدائه في النار.

إنّ احتكار النطق باسم الإسلام لا يمثّل استبدادا في حقّ من وسموا بالكفر وشرعن العنف ضدّهم لاختلافهم في الدين أو شِركهم، وإنّما في حقّ سائر المسلمين الذين يختلفون مع الجماعات التكفيريّة في تأويل آي القرآن. فالجماعات التكفيريّة تحتكر التأويل وتحمّل سائر المسلمين تهم الإرهاب والعنف ونبذ التسامح مادام فعل الجزء يُحمل على الكل؛ فالأعمال الإرهابيّة لم تنتج خوفا من المتطرفين فحسب، وإنّما أنتجت في المتخيّل الغربي خوفا من المسلمين، وهو ما اصطلح عليه "الإسلامفوبيا". وجعل الاعتقاد سائدا بأنّ الإسلام بوصفه دينا يؤمن أتباعه بأنّهم أصحاب كتاب مقدّس ينطق بالحقيقة المطلقة والنهائيّة، هو مصدر لإنتاج التعصّب والتطرّف والعنف، لأنّ مآل مثل هذا الاعتقاد المغلق والنهائيّ هو قمع حريّة التفكير بتغليب الأمر على الرأي والاشتغال بلغة الإدانة والتكفير، على سبيل الإقصاء للآخر على المستوى الرمزي أو الجسديّ، وإنّ الإضرار بصورة المسلمين في الغرب كان حتما على حساب مصالحهم التي تضرّرت بسب تسلّط التكفيريين وتحميل كلّ مسلم وزر عنفهم.

لقد مارس أصحاب الفكر التكفيريّ التعالي بوجهيه: وجهه الداخلي من خلال الاعتقاد أنّ تأويلهم هو التأويل الصحيح الذي لا يأتيه الباطل عملا بأحكام السنن الكلاميّة القديمة التي أوهمت كلّ فريق من المتنازعين على الحقيقتين الدينيّة والسياسيّة بأنّه وجماعته الناجون وسط فرق الهالكين، ووجها خارجيّا يتعالى به المسلم عن سائر الأديان. فكثيرا ما يوهم أصحاب هذا الخطاب بأنّهم الأعلون، وأنّهم أصحاب الحقّ الذي لا ريب فيه في مواجهة الأنظمة الكافرة التي تجسّد متخيّل الشيطان وصورة الشرّ الأكبر متجاهلين موازين القوى العالميّة واستراتيجيات العنف التي يسعون إلى تطبيقها. فهي كثيرا ما تعود عليهم وعلى المسلمين معهم بالوبال والدمار. وقد أثبتت الوقائع التاريخيّة أنّ كلّ رصاصة توجّه إلى الغرب باسم الجهاد أو حرب الكفّار تكون نتيجتها دمارا شاملا وحروبا يذهب ضحيّتها الأبرياء؛ وذلك هو الاستبداد بعينه، حيث يتحمّل المسالمون وزر العنيفين.

3- مستعمرة العقاب والعذاب وإهدار البعد الرمزيّ:

وحين تحوّلت التنظيمات التكفيريّة إلى دولة لها قوانينها الداخليّة، تجلّت أشكال الاستبداد التي لم يكن متاحا تطبيقها سلفا. فبدت أوّل مظاهرها في الاستبداد الذكوريّ الذي مارس شتّى أنواع التسلّط على الجسد الأنثويّ بدءا بالحجب وراء الأردية السود وانتهاء بالانتهاكات الجسديّة تحت مسميات السّبي مرورا بكلّ أشكال الحظر على الجسد الأنثويّ مثل منع الخروج ومنع الاختلاط. فقد مكنت "داعش" مقاتليها من استعادة كلّ أشكال الهيمنة الذكوريّة على الجسد الأنثويّ الذي أضحى وفق أحاكم رسميّة سلعة ذكوريّة تباع في سوق النخاسة ووسيلة، لتلبية رغبات المقاتلين وإشباع غرائزهم الجنسيّة.

ولم يكن الاستبداد حكرا على النساء، فللرجال نصيب ممّا سنّت داعش وأفتى شيوخها إذ نصبت المشانق، وقطعت كثيرا من الرؤوس دون تثبّت. وقد ثبت في كثير من الحالات أنّ التهم التي وجهت إلى الضحايا كانت كيديّة. فكانت النتيجة دفع ديّة إلى أهل القتيل. وصار إزهاق الأرواح شغلا يوميّا جعل الاستبداد يبدو بوجوهه القروسطيّة. ويذكر "فالح عبد الجبّار" اعتمادا على مقابلات بتاريخ شهر أغسطس من سنة خمس عشرة وألفين أنّ "القاضي الصغير، مصطفى الشرعيّ، أصدر وحده أكثر من 467 حكما بالإعدام، من أصل 3271 حكما معلنا بالإعدام، شمل فئات متنوّعة: شرطة ورجال أمن ونساء، وكلّهم من سنّة الموصل (نشرت الأحكام في المدينة). وأنتجت هذه الكثرة والعجلة في إصدار أحكام الإعدام وفي تنفيذها مظالم وأخطاء (على فرض أنّ إصدار الحكام عادل وصحيح). واعتذر ديوان القضاء على صدور أحكام إعدام وتنفيذها بالخطأ خلال تسعة شهور شملت 389 شخصا، وثبت في ما بعد أنّ الأحكام استندت إلى شهادات زور عبر المخبر السرّي. وقامت "داعش" بتسليم الديّات إلى أهاليهم مع رسالة تقول: "رحم الله ابنكم، ونحسبه شهيدا عند الله، لأنّه قتل بالخطأ"![6]

لقد قدّمت "الدولة الإسلاميّة" صورة مشوّهة عن طوبى الخلافة التي ألهمت كثيرا من المصلحين بمدينة فاضلة أساسها المبادئ[7] تصلح ما أفسده تقهقر المكانة الحضاريّة للمسلمين، وما طغى من النزعات المادّية على الأنظمة الاستعماريّة. ولكنّ أوّل الوجوه التي ظهرت بها الدولة الإسلاميّة في صيغتها الداعشيّة هي الدولة النهّابة التي استولت على مصرف الموصل، وتفننت في فرض الضرائب على الواقعين تحت سيطرتها. وبذلك، فقد أثبتت تسلّطها الاقتصاديّ واستبدادها. وكان فيء الدولة عائدا بالفائدة على المنتمين إليها، وهم من المقاتلين السّاهرين على حمايتها وتمدّد سلطتها. فقد أثبتت "داعش" عجزا عن ابتكار وسائل حديثة للتنمية الاقتصاديّة وإيمانا راسخا بالدولة الخراجيّة النهّابة. فقدّمت بذلك صورة بشعة عن الاستبداد الاقتصاديّ والعسف الجبائيّ.

المقدّس أصل من أصول الاستبداد، لأنّه يجعل طرفا من الصراع خصما وحكما له مطلق الصلاحيّة في القتل والأسر والسبي

لقد أهدرت "داعش" فرصة إقامة ما يمكن أن يمثّل بديلا عن "توحّش الرأسماليّة"، وأن تطبّق شكلا من أشكال العدالة الاجتماعيّة، ولكنّها من خلال اعتمادها مرجعيّات راسخة في الآداب السلطانيّة والنظم الخراجيّة قد بدّدت كلّ سرديّات العدل والمساواة وحوّلت الحلم بالخلاص الإسلاميّ إلى كابوس جماعيّ ضحيّته الإسلام والمسلمون.[8] وخلاصة القول إنّ الأسس الفكريّة التي أقام عليها التكفيريون تصوّراتهم للدولة وتأويلهم للدين فاقدة لأسس العدل. فقد حوّلوا طوبى الخلافة الإسلاميّة والعدالة الاجتماعيّة إلى مستعمرة عقاب واستبداد لاهوتيّ عنيف.

 


 

[1] انظر الخطاب على الرابط التالي:

https://www.facebook.com/430745914060654/videos/1353258024815683/

[2] محمّد أبو رمّان، الصراع على السلفيّة، قراءة في الإيديولوجيا والخلافات وخارطة الانتشار، ط1، بيروت، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2016، ص15

[3] محمّد العبد الكريم، تفكيك الاستبداد، دراسة مقاصديّة في فقه التحرّر من التغلّب، ط1، بيروت، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2013، ص9

[4] عبد الرحمان الكواكبي، الأعمال الكاملة، ط2، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2004، ص445

[5] نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، ط2، مصر، دار سينا، 1994، ص 113

[6] فالح عبد الجبّار، دولة الخلافة التقدّم إلى الماضي، ("داعش" والمجتمع المحلّي في العراق)، ط1، قطر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، 2017، ص ص 177، 178

[7] يتحدّث المودودي مثلا عن دولة الخلافة فيقول: "هي دولة تقوم على أساس المبدأ فحسب لا على أساس عصبيات اللون أو الجنس أو اللغة أو الحدود الجغرافيّة." ص34

[8] صار شعار الدولة الإسلاميّة إدارة التوحّش، وهو عنف قائم على تأصيل نظريّ يقوم على مرحلة شوكة النكاية والإنهاك التي تعني إنهاك القوى العظمى بالتهديدات والإرهاب والعنف المتواصل لاستنزافه عسكريّا واقتصاديّا، ثمّ تليها مرحلة التوحّش الذي يعني مرحلة الدمار الشامل من خلال دفع الأمريكيين إلى إرسال جنودهم، ليخوضوا معركة مباشرة ضدّ السلفيين الجهاديين.