شغف التخييل وصدق التمثيل في رواية "ليلة الخروج من فبراير" للكاتب المغربي عبد السلام شرماط


فئة :  مقالات

شغف التخييل وصدق التمثيل في رواية "ليلة الخروج من فبراير" للكاتب المغربي عبد السلام شرماط

شغف التخييل وصدق التمثيل في رواية "ليلة الخروج من فبراير"

للكاتب المغربي عبد السلام شرماط

ليت فبراير الجميل برعوده ووعوده لم يخرج، ليته عمّر أكثر لنرتشف المزيد من كؤوس سرده البهي التي قدمها إلينا الروائي المغربي عبد السلام شرماط في رائعته "ليلة الخروج من فبراير" في طبق شهي ليت لياليه تطول أكثر، وهو الشهر المعروف بقصر أيامه وبرده وضبابه وتلون سمائه التي تسابق الزمن لمعانقة الربيع بألوانه وأشكاله وبهاء طبيعته واستقراره، ليت الخيال أسعف مبدعنا ليطول العمل أكثر وقد وصل القارئ إلى آخر لذته النصية حيث توضحت الرؤيا أكثر ولم تضق العبارة.

لقد بدأنا ركوب صهوة السرد الخجول الهادئ، وكأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، حيث لا يدري القارئ ما سوف يعتمل في بطون الصفحات الموالية من أحداث قدمها إلينا الروائي باستراتيجية نصية ذكية تُبطن أكثر مما تُظهر وبنفسٍ سرديٍّ قويٍّ روضت ريشته الإبداعية الحرون يد مبدع ذاق مرارة "الأيام الخائنة"[1]، فانتقم بحكي شجي جعل مداد الألم ينغرس خنجرا في عمق وعي ولا وعي القارئ يذكره بأحلامه المؤجلة وواقعه المشلول وطموحه المأمول، وبين ذا وذاك تقف رؤية المبدع ممزقة بين وعيين واحد يرزح في تخلفه وتقدمه إلى الوراء، وآخر يطمح إلى تغيير واقع مغربي وعربي اختلفت فيه الظروف والحيثيات، لكنها التقت كلها عند حلبة صراع طبقي صارخ وفوارق اجتماعية عالية كانت تنتظر اللحظة المناسبة للانفجار وقد كتمت أنفاسها سنوات القهر والاستبداد.

نقل إلينا السارد بعض معالمها بقوله: "الحدود تفتح تارة وتقفل أخرى، المطار تبدأ حركته، ثم تتوقف، وقد يئس الناس وتسرب إليهم الملل، وقد تبددت السيادة في حضرة الثورة، ثم تبددت الثورة في حضرة الحراك، فأفلت نجوم من سمائها، تاركة أشعة الشمس تنوس في سحاب ثقيل يرفض الانقشاع، والنفوس تلتقط جمار الرحيل من جذوة الحزن والأسى"[2].

إنها صرخة في عمق التاريخ بداية العشرية الثانية من الألفية الثالثة، حيث تغيرت معالم كثيرة وطغت فيها وسائل التواصل، وتبدلت معها مفاهيم الزمان والمكان، وتلاشت المسافات بين الممكن والمحال وغدا الناس في شبه وهم بين برزخ الحقيقة والخيال، اغتنمها السارد فرصة للتبتل في محرابه ومراقبة دهشة البدايات ووجع النهايات عله يضمد بقية ما تبقى من كرامة وكبرياء ظاهره رحمة وباطنه عويل وبكاء على سلطة ماض متوغل في الحضور، منهك الأوصال يجر ذيول الخيبة على ظلم فات ومصير مجهول آت، فتتحول المرارة مرارات وتنقشع سحب التيه والضلال عن الأعين كالفقاعات...

ينخرط السارد إذن في لعبة حكي استرجاعي هو جمع بصيغة المفرد آخذا من شخصية عبدو نموذجا لعشرات الشباب من عبيد الله الطامح إلى الهجرة وتحسين الأحوال، حيث يمم وجه شطر ليبيا عله يجد فيها بديلا، هِجْرَةَ المُكْرَه وليس البطل، بعد تفكير عميق تأرجح بين الحلم والوهم والحيرة والشك قرر الرحيل فرارا من جحيم البطالة والفقر آملا في تحسين وضعيته والوفاء بوعوده لخطيبته وقد غادر أرض الوطن بعدما كانت أمامه فرصة التسجيل في لوائح ما سمي بالتوظيف المباشر؛ لأن البطل ساوره قلق وجودي وخوف بدهي أنطولوجي يتجرعه ولا يكاد يسيغه ببعض المقطوعات الغنائية علها تبلسم الروح وتضمد الوعي الشقي المجروح.

إن عبدو الحامل لشهادة الدكتوراه بوعيه الأبي ومنفاه القصي، تحول العلم والفكر عنده إلى ألم وشرخ نفسي لا يدري معه ما سيقدم وما سيؤخر، فانخرط في صراع لإبراز الذات بالعلم والمحاضرات ومقارعة الأفكار بالنفي والإثبات "ركض بالي بين جوانحي كحصان هائج، كطائر يحوم في السماء وقد فقد وكره، كنار كل ما حاولت إطفاءها زاد لهيبها اشتعالا، لم يكن أمامي سوى التوجه إلى شاطئ البحر، كي أسأله، هل أنا في المركب الصحيح، أم إن قاعه تلاشى فتسرب إليه الماء، وليس أمامي سوى الاستسلام للغرق أو السباحة بقوة حتى أصل الشط"[3].

لقد واجه عبدو عسر الحال وضيق ذات اليد والمال، ولعله وجد في رأسماله الفكري والرمزي بعض العزاء والسلوى والتنفيس عن بؤس ثقافي عربي موروث وحلم في لا وعيه مكبوت، فمتى كانت الثقافة والكتب عندنا رديفا للمال؟ متى كان الأستاذ الجامعي عندنا والمهندس والطبيب والمحامي في مكانتهم الاعتبارية داخل مجتمع ينخره دود الفساد والظلم والاستبداد؟ وقد دخل البطل في تناقض مصيري فهو تارة يقول: "مللت من سماع الموسيقى، ومن قراءة الكتب التي لم تزودني سوى بأثقال قيدت حركاتي وحماقاتي"[4]، وتارة أخرى يقول: "ما أحوجنا إلى فكر عقلاني ينهض بتجاربنا، فيقفز بنا من فكر الاستمتاع إلى فكر عقلاني يؤسس لمعرفة حقة بعيدة عن الخيالات والأوهام؛ لأن بالفكر يسمو الإنسان، ويستطيع تنظيم العالم وإعادة ترتيبه"[5].

إن الوعي شقاء ومحنة والجهل وطن وذكاء وفطنة، في عالم تغيرت فيه القيم وتبدلت فيه معالم الأمم، حيث غدت التفاهة الحاكمة والآمرة الناهية بعد انتشار أسواقها وتجارتها الرائجة مقابل انحسار وعي المثقف وصمته الاضطراري عما يجري أمامه، وقد مد يده لتقبيل يد السلطة تارة وخطب ودها تارة أخرى ليتحول هو الآخر إلى بضاعة تباع وتشترى من حيث يدري أو لا يدري أمام واقع متردي بصناعة إعلامية عالمية تطمس الحقيقة وتساهم في صناعة الوهم كل دقيقة، ليكون الإبداع الروائي مضادا حيويا يمارس فيه السارد شغبه ويقلب فيه لُعَبَه علَّه يظفر بمتعة التفكيك والهدم من أجل البناء، ممتطيا شغف التخييل وصدق التمثيل في قالب سردي امتزجت فيه كل عناصر الوصف والاسترجاع والاستباق والحُلم وتعايشت في رحمه أجناس أدبية وفنية عديدة كالقصة والمثل والرسالة والموسيقى بقدرة سلسة تهضم كل ذلك بسهولة ويسر، وتنقل القارئ إلى عوالم عديدة وأزمنة مديدة، فإذا بفبراير يتمطط ليتلاشى معه مفهوم الزمن ويتحول إلى كومة من الأفكار والذكريات والشجون والآهات والحوارات والنقاشات التي تتطلع إلى الحرية والانعتاق من الخرافة والوهم "التفكير يجب أن يكون من الداخل من أجل تحرير الداخل والباقي الزمن كفيل به"[6]، ولعل المرجعية الدينية والوعي السياسي والفكر الفلسفي بمرجعياته المتعددة أعطت للرواية توازنا على مستوى تعدد الأصوات وحواريتها والتي تضع أمام القارئ حرية التفكير والاختيار.

لقد أومأ السارد بطرف خفي أن الوطن هو الوطن بمتعته وألمه برائحة ترابه، وأهله لا يدرك أهميته إلا من لسعته سياط الغربة، فقرر العودة مكرها مرة أخرى، وقد اشتعلت نار شعار "الشعب يريد إسقاط الفساد" فتحررت الإرادة الشعبية في لحظة صحو إنسانية رغم أن التغيير والجهل خطان متوازيان لا يلتقيان ورغم ركوب قوى الغرب على ما سمي بالربيع العربي في بلدان تونس وليبيا ومصر والجزائر، حيث "خالط الزمن التاريخ، وتجاوزت فصول السنة أوقاتها، تخلى الخريف عن زمنه؛ لأن الأوراق التي لم تسقط فيه فكانت خائنة، وتأخر الشتاء؛ لأنه رأى في أوراق الخريف وفاء وإخلاصا للأشجار بينما جاء الربيع غاضبا، لما وجد الأوراق متمردة، وهي تعلن عصيانها وعدم سقوطها ومفارقتها لأشجارها، لم تزهر الأرض، ولم تخرج نباتها أخضر، فعلى الرغم من نزول المطر لم يستطع ماؤه غسل دماء الأبرياء"[7].

إن تحول المغرب الكبير إلى مسرح كبير بالوجه والقناع، جعل بلدنا المغرب يمثل فيه شهر فبراير رمزا للتغيير وليس شهرا عاديا مندسا بين بقية الشهور، حيث طمحت الجماهير إلى التغيير والإصلاح وهما: "مفهومان متقاربان ينشدان وضعا أفضل من وضع متردي يسوده الفساد والتسلط والظلم، التغيير هو منعطف نحو البحث عن نظم تتخذ من الحرية قيمة سامية ونبيلة، وتجعل منها سلوكا يسمح بالتعبير في إطار آراء تتعدد بتعددية سياسية تسمح بتداول السلطة بشكل ديمقراطي مع احترام جميع الحقوق، وهذا لا يتحقق إلا بإرادة وعمل جادين بعيدا عن الأهواء العاطفية"[8].

وبهذا التغيير تحول رقم عشرين إلى دلالة رمزية مشعة في المتخيل الشعبي المغربي، رغم أفول نجمها مع توالي السنين وسرقة وإجهاض أحلامها وطموحاتها من الأصدقاء والأعداء، لكنها لا يمكن أن تُنسى من ذاكرة المغرب الحداثي في وعي ولا وعي المثقف، فسلطة الزمن أقوى من كل طمس، والتاريخ بطبعه مُذَكِّر بالعلامات الفارقة في تغيير أحوال الإنسانية ووجهها شرقا وغربا، حيث تساءل السارد بحرقة في هذا الصدد قائلا: "لماذا يتظاهرون؟ هل يحتجون أم يتمردون؟ وما الفرق بين التظاهر والاحتجاج والتمرد؟ زمن الحركات الإصلاحية ولّى، ويبدو أن العالم في طور تشكل جديد، تشكل حين انقسم إلى رأسمالي واشتراكي، ثم أعيد جمعه في نظام جديد باسم العولمة، وها هي شعوب أخرى، تعيد ترتيبه، ولكن نحو ماذا؟ هل المناداة بالكرامة والحرية هي ما سيعيد بناء العالم، أم هي أشياء تتكرر هنا وهناك، فتنجح هناك وتنتهي هنا؟"[9].

لقد جاءت رواية ليلة الخروج من فبراير في ظل مناخ جيو­ سياسي فقدت فيه الكثير من المجتمعات العربية البوصلة ودخلت في مرحلة تيه وجودي، تحاول فيه ترميم ما تبقى من وجهها في مرآة مشروخة، تشتري السلاح من العدو لتحارب به الصديق، وتحاول اجتثاث فكر التطرف والإرهاب الذي زرعه الغرب، وانزوى يراقب ما سيحصد العرب من خيبات وانكسارات فوقف المثقف متفرجا تارة ومعلقا تارة أخرى بخجل بعدما جعلته الرقابة يبتلع لسانه، ولا يفتح فمه إلا للتثاؤب والعودة للسبات، اللهم بعض الاستثناءات وسط قبح قاعدة العديد من المجتمعات، والتي غدت فيها الطائفية والنزاعات طعما لذيذا لتخريب النسل والزرع وإلقاء الفتات على كل من طالب بالحرية والعدل والمساواة، لتصبح الديمقراطية شعارات براقة كثيرا ما تتم المتاجرة بها في المناسبات، ليأتي الربيع العربي فرصة "مواتية للتمرد على سنوات وصفت بالاستبداد والظلم، سنوات التُهِمَتْ فيها الحرية، وساد الطغيان والإسكات؟ عقود طويلة من الصمت والمداراة، أعوام مليئة بالهتافات والشعارات التي أثقلت الصدور التي لا تكاد تعيد أنفاسها إلا بمعاشرة الظل أو الجمجمة في المربوعات أو المزارع البعيدة، حتى صار الخوف صراخا يتنفس في قسمات الأرواح، يهرب تارة إلى الماضي، ويركض أخرى خارج الحدود، أملا في شيء غطته ظلال الحماقات والتوقع، والجميع ينظر خلف أكتافه، أثقل الخوف كاهل الناس وتعبوا من الانتظار والسؤال"[10].

فكيف لا يطلع السرد إذن في ظل كل ذا وذاك بمهمة الجنوح بالخيال إلى بر الأمان ونسيان الواقع ولو لحين، وقد تداخلت في رواية ليلة الخروج من فبراير محكيات صغرى أقرب إلى جنس السيرة الذاتية تجعلنا نصدق فيها كل ما قرأناه وشاهدناه والسارد في لَعِبِه وشَغَبِه يَجرُّنا إلى غواية المحكي وشهوة فتنة قَصِّه الذكي يقلبنا ذات اليمين وذات الشمال ونحن في فجوة قلق المحال وهاجس السؤال، فإذا بنا نقف حائرين بين البينين. هل نجاريه في لعبته أم نقف في فلسفة تأمل فيما مضى وما كان وسيكون؟ لطالما أن الوعي الكائن والممكن تعايشا جنبا إلى جنب في لا شعور السارد، فقد كان للعب دور الضحية والشاهد على مرحلة مغرب ما بعد الربيع العربي وقد تحول فيها الجيش الإلكتروني عبر المواقع الاجتماعية خصوصا الفيسبوك إلى قوة ضاغطة لتحقيق بعض المطالب الاجتماعية، والتي لا ننكر تعامل الدولة المغربية معها بذكاء خاصة بعد دستور 2011 وما تلاه من إصلاحات...

إن في هذا الحراك جَسٌّ لنبضِ وعي المجتمعات ومحاولة حسابية لحجم الربح وهامش الخيبات والانكسارات، فجدلية الثقافي والسياسي عندنا مسألة يصعب الفصل فيها كمن يود فصل الماء عن الدواء؛ لأن منطق السياسة هو التوغل في المراقبة والحضور، ومنطق الثقافة هو النقد ومتابعة ما يعتمل في بطون المجتمعات من قضايا وأمور، ولعل الرواية بطبعها من أقدر وأجدر الأجناس الأدبية قدرة على حياكة عالم بلا خرائط منظم داخل فوضاه، اختارها الأستاذ عبد السلام شرماط مطية ذلول لتعكس أمله وألمه وفكره وإحساسه، وهو القادم إليها من شرفة تخصصه الأكاديمي كأستاذ جامعي عارف بقواعد الجنس الروائي تنظيرا وممارسة إبداعية.

لقد تحاقل وتجاور في الرواية المثل والحكاية الشعبية والتاريخ، وتعدد اللهجات المغربية والليبية جعلتها مسرحا لرؤى وأفكار متعددة، يتجول فيه القارئ العادي من مختلف الأوعاء والطبقات الاجتماعية، حيث ضمت وعي الطالب والأستاذ والعامل والتاجر والصحفي والإنسان البسيط العادي...

عموما أخلص في نهاية ورقتي إلى القول إن رواية الخروج من فبراير لن يخرج منها القارئ لا يلوي على شيء، بل إنها ستدخله عوالمها وقد بدأها بفضول شقي ليتحول حتما إلى مراقب واع وذكي بأحوال الشخوص والنفسيات والمصائر، وتعدد الأزمنة والأمكنة وشساعة مساحات البوح وسخائها السردي، وامتدادها بين الحاضر والماضي والمستقبل بقدرة فنية تأرجحت بين شغف التخييل وصدق التمثيل على امتداد صفحات الرواية.

لقى انتهى فبراير وخرج، ولم نرتو بعد من كل ما كنا ننوي، ليتركنا السارد نكمل من عندنا، ونستمر في نسج وظفر خيوط الواقع والخيال، وملء مساحات الفراغ والبياض ورتق أثواب الممكن والمحال.

[1]­ أيام خائنة: رواية لعبد السلام شرماط، صادرة عن المركز الثقافي للكتاب، 2019

[2]­ عبد السلام شرماط، ليلة الخروج من فبراير، ليبيا المستقبل للنشر والتويع والإعلان، ليبيا، ط1، 2022، صص10-11

[3]­ نفسه، ص114

[4]­ نفسه، ص66

[5]­ نفسه، ص67

[6]­ نفسه، ص137

[7]­ نفسه، ص211

[8]­ نفسه، ص ص217­218

[9]­ نفسه، ص197

[10]­ نفسه، ص ص181­182