شكلا الليبرالية النخبوية

فئة :  مقالات

شكلا الليبرالية النخبوية

شكلا الليبرالية النخبوية

لليبرالية النخبوية شكلان:[1]

الشكل الأول هو النخبوية الثقافية: وهو الشكل الذي نتج عن قلق مستحكم من استبداد الأكثرية دفع كانط إلى الدفاع عن تنوير ينطلق من القمة إلى القاعدة، كما يمكن العثور عليها لدى مل ولدى توكفيل في ليبراليته المحافظة.

كل هؤلاء دعوا إلى طبقة حاكمة لنخب ثقافية تقع على عاتقها مسؤولية تعليم الجماهير؛ من أجل ما يسمى بديمقراطية نحيفة (وهي ديمقراطية تفسح المجال لمستوى أدنى من المشاركة الديمقراطية ونظام تصويت يعطي النخبة تمثيلاً أكثر)، حيث تعمل النخبة على تدريب الجماهير على الاستماع إلى ما هو أفضل لهم.

والقلق المشار إليه من استبداد الأكثرية ناجم عن قناعة متبنّي هذا النوع من النخبوية أن معظم الناس غير عقلانيين وغير ناضجين، وهو ما يقدمونه كتبرير لمطالبتهم بالمستوى الأدنى من المشاركة الديمقراطية، ولمطالبتهم بنظام صويت يعطي النخبة تمثيلاً أكثر.

وفقاً لهذه الرؤية، فإن الحاجة إلى نخبة ثقافية ناجم عن ضرورة الحفاظ على قيم إنسانوية، وثقافة عالية ضد الديمقراطية الجماهيرية، فيجب أن يسمح للثقافة أن تقهر الفوضى[2]. هذه الديمقراطية الرفيعة أو النحيفة التي استخلصت من نقاش فيبر عن المجتمع الحديث الذي يسجن الإنسان في قفص حديدي والحاجة - حسب رؤيته- لقائد كاريزمي لمنع الفوضى وتقييد القبضة الخانقة للبيروقراطية الحديثة يستلزمان السماح للمواطنين أن يصوتوا لنخب متنافسة، وحسب تعبير شومبيتر، فإن تدريبهم على هذا التصويت للنخب التي تضبطهم يصاغ بعبارة: عليهم أن (يخرسوا ويطيعوا)[3].

من نتائج النخبوية الليبرالية بشكلها المذكور (النخبوية الثقافية) ظهور أطروحة نهاية الأيديولوجيا وإعلان الحرب على الديمقراطية التشاركية من طرف النيو ليبراليين الذين أعلنوا نصراً عالمي النطاق لليبرالية. وقد تعولمت الأطروحة السابقة بأطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما، وإن كانت هذه النتائج ليست مسبّبة بشكل مباشرعن النخبوية الثقافية. وأطروحة نهاية التاريخ تدعي أن الليبرالية قد انتصرت وأن الاشتراكية قد قضت نحبها[4].

ادعاء فوكوياما أن العالم يشهد نصراً واضحاً لا لبس فيه لليبرالية السياسية والاقتصادية يعني نصراً للرأسمالية العالمية، للاستهلاكية. وهذا النصر يؤكده -حسب فوكوياما- انتصار الولايات المتحدة في حرب الخليج؛ لأنه يثبت أن النظام التعليمي للولايات المتحدة هو ذو مرتبة فائقة.

ينطلق فوكوياما من أن المعالجة في مجال الأيديولوجيا والوعي لا تكمن في الأفكار التي يحملها الناس في أي مكان، وإنما في الأفكار الليبرالية التي واجهت منافسيها من فاشية ونازية وانتصرت عليهما. وتظهر هذه النخبوية المعولمة في صورتها الفجة في بناء حائط يفصل بين بشر جديرين بالحياة وآخرين لا يستحقونها.

في الجانب الأول توجد الشعوب التي تعيش في دول تتبنى أنظمتها الديمقراطية الليبرالية، وهو جانب لا أثر للصراعات بين دوله وتهيمن فيه علاقات التفاعل الاقتصادي. أما الجانب الآخر، فتوجد فيه الشعوب التي تتبنى أنظمتها السياسية شكلاً آخر غير الديمقراطية الليبرالية، وهو سيستمر في انقساماته وصراعاته الأيديولوجية والقومية والدينية ولا خلاص لهذه الدول إلا بالالتحاق بركب الديمقراطية الليبرالية، وإلا فإن العلاقة بين الجانبين ستظل علاقة يحكمها الحذر والخوف، وستظل الهيمنة الإمبريالية ثابتاً من الثوابت التاريخية والوسيلة التي تتحقق بها الغريزة التيموسية.

وفي تكريس للنخبوية الثقافية يفسر فوكوياما عدم تبني أغلب البلدان الديمقراطية الليبرالية بالعوامل الثقافية التي تعيق هذا التبني لأكثر أشكال الحكم عقلانية وتتجسد هذه العوامل في:

1- الانتماء الإثني «فلن تظهر الديمقراطية في البلاد التي تكون فيها القومية أو الانتماء الإثني لمجموعاتها الدستورية نامية جداً إلى درجة لا تسمح لهذه المجموعات أن تقتسم مفهوماً موحداً للأمة أو أن تتبادل الاعتراف بحقوق بعضها».

2- الدين وهو يشكل عائقاً إذا كان يطمح إلى فرض قواعده على كل مظاهر الحياة كما هو الحال في الإسلام واليهودية، وعلى عكس المسيحية التي يعدها هيغل إحدى العوامل التي مهدت للثورة الفرنسية.

3- البنية الاجتماعية: فالفرق بين استقرار الديمقراطية في أمريكا وهيمنة الاستبداد في أمريكا اللاتينية يعود إلى العادات الثقافية التي انتقلت إلى أمريكا الشمالية من إنجلترا وهولندا الليبراليتين، بينما طغت في أمريكا اللاتينية بنية مسبقة غير عادلة واستبدادية.

4- قدرة الجماعة على خلق مجتمع مدني سليم: فالشعوب تتفاوت في قدرتها على تطبيق «فن التجمع» على حد تعبير توكفيل بعيداً عن كل تدخل للدولة، حيث تكون السلطة المركزية ناتجاً طبيعيا للسلطات الحاكمة المحلية.

هذه العوامل المعيقة للانتقال إلى الديمقراطية الليبرالية - وفقاً لفوكوياما- تصدر جميعها من الافتراض الأساسي أن اختلاف ثقافات الشعوب يفسر اختلاف قابلياتها للنظام الأكثر عقلانية.

وقد ترافقت هذه النخبوية الثقافية مع ظهور فكرة مجتمع الجماهير خلال القرن التاسع عشر لدى الفيلسوف الألماني نيتشه (1900)، كيركغور[5]، كليفورد[6]، سبنسر[7]. ومجتمع الجماهير هذا يمثله الشخص المتوسط الذي يمثل محموله هذا خطراً كفيلاً بتدمير الثقافة العالية، والتي عبرت عنها الفكرة الألمانية بالتهذيب الذاتي التي توجه الليبراليين اتجاهاً نخبوياً، وقد كان مهندس الليبرالية الحديثة «مل» موالياً لهذه الفكرة، وقد دفعته إلى عدّ الديمقراطية السياسية محدودة كما كانت السبب في افتراضه أن التصويت المتناسب والتمثيل إنما هما تعبير عما أسماه أحد الكتاب: «انتصار النخب».

وقد عولجت ظاهرة «المجتمع الجماهيري» من خلال رؤى ثلاث:[8]

- رؤية محافظة.

- راديكالية (ماركسية، اشتراكية ديمقراطية).

- ليبرالية.

بالنسبة إلى أصحاب الرؤية المحافظة تعد الجماهير خطرة؛ لأنها جاهلة وغير عقلانية. ولهذا، فإن من واجب النخبة الثقافية أن تمنع الفوضى؛ وذلك بتعليم أعضائها الأفكار الأرستقراطية والدين التقليدي داخل إطار الثقافة العالية؛ بغية الحفاظ على الثقافة وإبقاء البرابرة والمتخلفين خارج هذا الإطار.

الرؤية الراديكالية التي عبرت عنها مدرسة فرانكفورت، والتي جمع بين كتابها رؤية للمجتمع على أنه لا عقلاني أو قمعي، وتظهر نخبوية مدرسة فرانكفورت النقدية بشكل أساسي في تحليلهم لمسألة الثقافة.

فقد حلل أدورنو في «جدل التنوير» كل أشكال الثقافة الموجهة للطبقات المثقفة والموجهة للطبقات غير المثقفة.

كما دأب ماركوزه على التركيز على الطريقة التي تنتج بها صناعة الثقافة حاجات زائفة، وهذه الأخيرة تعكس النخبوية والاستعلاء التي تصبغ هذه المدرسة؛ لأنها تعني الشك في صحة تقدير الاحتياجات الشخصية للإنسان، والادعاء بأن هناك من هو مؤهل أكثر منه لتقدير احتياجاته. ولأن الثقافة الجماهيرية هي التي تجسد أيديولوجيا الرأسمالية الاستهلاكية والقيم الأمريكية البرجوازية، فإنه لا بد من ثقافة عالية تعمل على دمقرطة الثقافة ودمج الفرد بالمجتمع.

الليبراليون لم يمثلوا الموقف نفسه تجاه المجتمع الجماهيري، فهذا المجتمع تمثل ثقافته الاستهلاكية ولا ساميته وعداؤه للمهاجرين الوجه المظلم للديمقراطية الحديثة التي تفرخ المكارثية واليمين الراديكالي[9]. واللافت للنظر أن بعض الليبراليين مثل ادوارد شلز عدّوا المجتمع الجماهيري حاوياً لثقافة ديمقراطية متكاملة وثقافة استهلاكية، والثقافتان تتكاملان حيث إن الأخيرة تمثل محيطاً لمركز تمثله الأولى[10].

الحفاظ على هذا المركز هو هدف الليبراليين عن طريق إصلاح تدريجي لا ثوري، على الرغم من أن الانتصارات الليبرالية المبدئية والعديد من آثارها اللاحقة كانت ثورية ونتيجة لثورة[11].

أما الشكل الثاني للنخبوية، فهو نخبوية المعرفة: وهي تجد ظلالها في إصرار مل على أن الخبراء في مجتمع العلم والاقتصاد السياسي يمكن أن يعطوا أصواتاً أكثر وسلطة أكثر من أي شخص آخر. ظهور الاحترافية في العلوم السلوكية والاجتماعية وظهور التايلورية ترافق مع بروز هذا الشكل من النخبوية. وما يلزم عن هذه الرؤية أن السياسات تصبح حكراً على نخبة المعرفة وما تنطوي عليه هذه النخبوية هو عدّ الديمقراطية وظيفية، إجراءً تنظيمياً لصيانة المساواة، وقد توجت وظيفية بارسونز هذا التطور لهذه النظرة[12].

يمكن تصوير تاريخ أمريكا في القرن العشرين على أنه تاريخ تقويض هذه الأشكال من النخبوية للديمقراطية التشاركية لصالح ديمقراطية نحيفة وسياسات ضبط فقط؛ فظهور الفروع الأكاديمية وخصوصاً في العلوم السلوكية والاجتماعية منحت النخب القديمة دوراً أكبر؛ مما ساهم في غرس روح الطاعة لسلطة الخبراء وساعد على تقويض الأفعال التشاركية[13]. وقد ساعدت الحرب العالمية في تقديم فرصة للعلماء من خلال مساعدتهم في مجهود الحرب ليكسبوا قوة وهيبة أكبر إلى درجة أن الحكومة الفدرالية لم تعد تمول الأبحاث غير القابلة للتطبيق.

عملت هذه التطورات على زيادة انخراط العلماء والمهندسين في مؤسسات أندرو كارينغي وجون روكفلر التي نظرت إلى العلماء كمالكي أدوات لجعل الشركات أكثر تنافسية في السوق الدولي، وهو ما قلل من نقد رأسمالية الشركات ودفع بالعلماء بعيداً عن التطلعات الديمقراطية[14].

فقد ساد افتراض من وحي هذه التطورات هو أن الناس يجب أن يعدلوا منذ الولادة؛ لكي يصبحوا أكثر كفاية وإنتاجية في نظام الشركات[15]. كما ازدهر علم النفس الصناعي والفروع التطبيقية المتنوعة لعلم النفس التي نظر إليها كإنجازات تؤكد تقليد الداروينية الاجتماعية، حيث إنها استخدمت في الصناعة لاختبار العمال ومساعدتهم على التكيف[16]. أما نمو الاحترافية في العلوم الاجتماعية، فقد تمثل في البدء بتأسيس مجلس البحث للعلوم الاجتماعية عام 1923 الذي بذل الجهود لجعل علم الاجتماع وعلم السياسة أكثر موضوعية[17].

عزز بعض أنصار دوركايم الرؤية الدوركايمية للديمقراطية كإطار تنظيمي متحكم به من طرف طبقة خبراء نخبة مع حد أدنى من سلطة شعبية[18]. وقد نتج عن هذه التطورات في الاحترافية في العلوم السلوكية وغيرها من الفروع الأكاديمية هيمنة مزاج عام يعدّ التخطيط القومي من طرف نخبة إدارية متحكم به من طرف قائد قوي تطوراً طبيعياً باتجاه ديمقراطية أكبر[19].

إن الخبراء كائنات بشرية أفضل أخلاقياً من غيرهم، وهي رؤية مدعومة من أخلاقيات دوركايم ومن نظرة فيبرية للمدرسي والسياسي على أنهما الأفضل أخلاقياً، ومدعومة من رؤية فيبر للمعرفة والقيم على أنهما ميدانان منفصلان، وأن الأولى هي المهمة، أما الثانية فهي ليست موضوعية كالمعرفة العلمية التي تزود العلماء والقادة ومستشاري السياسة بالقدرة على ضبط المجتمع والتحكم به.

من هنا، فإن الناس الأقل انسجاماً سيكونون أقل أخلاقية، ولا يمكن جعلهم أسوياء ومقبولين إلا بتعليمهم كيف يتكيفون مع النظام الذي يكون لخير الجميع إذا ما تكيفوا معه بالشكل المناسب، وهو الشكل الذي يعرفه الخبراء ويدربون الآخرين عليه[20].

الخلاصة لهذه التوجهات هو ما قاله هنتنغتون: إن بلدنا سيكون أفضل بدون الكثير من الديمقراطية.

ويمكن لما سبق من هيمنة الذهنية النخبوية الإدارية التكنوقراطية الأنتي ديمقراطية أن يلخص تاريخ أمريكا منذ عام 1920[21].

إن الخلل المسبب لتقويض الديمقراطية بتحالفها مع هذا الشكل من الليبرالية النخبوية هو تأسيس الديمقراطية على أرضية تجريبية أو معيار إجرائي وعدها غير حاوية لقيم، وتعريف الليبرالية بمصطلحات ميثودولوجية، فالتصور الدوركايمي للديمقراطية على أسس تجريبية، بمعنى عدها أداة لإنجاز مثاليات ليبرالية معينة مثل الحرية الفردية ضمن القفص الحديدي الفيبري يجعل الديمقراطية والليبرالية ضعيفتين[22].

كان التجسيد الأبرز للديمقراطية التجريبية كنسخة للتحالف الليبرالي النخبوي مع الديمقراطية هو نقاش صموئيل هنتنغتون عن أزمة الديمقراطية الذي يفترض أن الديمقراطية تؤدي وظائفها بطريقة أفضل عندما يوجد حد أدنى من المشاركة الديمقراطية من طرف المواطنين.

يقول هنتنغتون إن مشاكل الديمقراطية في الولايات المتحدة لا تتأتى من تهديدات خارجة، ولا من تخريب داخلي بشكل أساسي، وإنما تنبع من الديناميات الداخلية للديمقراطية نفسها في مجتمع ذي مشاركة عالية وثقافة عالية، وهذا ما يدفعها إلى الانتحار «إنها تفقد، وتستنزف، وتدمر نفسها، لم توجد ديمقراطية حتى الآن لم تقدم على الانتحار» كما عبر جون آدامز[23].

فعل الانتحار ناتج عن الإفراط؛ فالقيمة التي تكون جيدة من حيث ماهيتها لا تكون كذلك بالضرورة إذا ضخمت، فثمة حدود مرغوبة للنمو الاقتصادي وحدود مرغوبة للمشاركة السياسية[24].

ويعتقد هنتنغتون أن الديمقراطية ستدوم إذا امتلكت وجوداً متوازناً، ولكن كيف يكون ذلك؟

يجيب بالقول:

إن الطريقة الناجعة تتمثل في إقامة توازن بين الشغف العقائدي الذي تعبر عنه الأيديولوجيا واللامبالاة العقائدية. (وهذا يضع عبئاً على النظام الديمقراطي السياسي يتمثل في اعتماد قياس للامبالاة وعدم الانخراط لدى بعض الأفراد والجماعات). يجب -بنظر هنتنغتون- تهميش بعض الجماعات، وهو يقر أن هذا الإجراء غير ديمقراطي، ولكنه يرى أنه إجراء ضروري وقد اعتمدته بعض الديمقراطيات في الماضي التي كانت فيها السياسة ميداناً يشارك فيه شريحة معينة من السكان بحجم كبير أو صغير، وهذا ما مكن تلك الديمقراطيات من أداء وظائفها بفعالية. إن مشاركة المجموعات الاجتماعية الهامشية كالسود مشاركة كاملة في النظام السياسي يحمل خطر زيادة العبء على النظام السياسي بتوسيع وظائفه والتهديد بتقويض سلطته[25].

إن قلق هنتنغتون من ديمقراطية تفسح المجال للمهمشين يردد صدى مخاوف نيتشه الذي اعتقد أن إحدى الطرائق التي تقوض بها الأنظمة السياسية نفسها هي خلق توقعات لجزء من الجماهير غير قابلة للتلبية؛ فنقاش هنتنغتون يحمل الافتراض الذي تنطوي عليه الليبرالية النخبوية، والذي يعد المهمشين كالنساء والشواذ والسحاقيات، وأعضاء ما يدعى بالطبقة الدنيا قوى دفع للنظام خارج حدود التوازن وأنهم يتسببون بأذى للكل[26].

ما يبرر تحالف النخبوية الليبرالية مع الشكل الأخير من الديمقراطية هو عدم الثقة بالشخص المتوسط، وعدم الثقة هذا متجذر في الليبرالية وقيمها التي لها الأولوية على الديمقراطية، بتعبير آخر ليست الديمقراطية سوى وسيلة لتطوير الليبرالية. وهذا التفضيل لليبرالية على الديمقراطية يجد تبريره في أن الليبراليين مثل روسل يعدون الليبرالية تجسيداً للمنهج العلمي، وهي لذلك تتطلب لكي تسقط على الواقع نخبة حاكمة، وهذا ما تهدده الديمقراطية التشاركية[27].

ربط الليبرالية مع التجريبية نجد تعبيراً واضحاً له في محاولة روسل الذي يعدّ:

جوهر الليبرالية حداثياً تغيب فيه الفانتازيا في البرامج السياسية، هذه الفانتازيا التي عدّها العائق الذي منع الثورة الفرنسية من أن تكون ليبرالية، وهي التي تجعل المؤسسات الديمقراطية مستحيلة كما حصل في انجلترا تحت حكم كرومويل وفرنسا تحت حكم روبسبيير[28].

الليبرالي الحقيقي لا يقول هذا حقيقي وإنما يقول: أنا أميل للاعتقاد في ظل الظروف الحالية إلى أن هذا الرأي هو الأفضل، ففي نظر روسل ليست الليبرالية عقدية بل مفتوحة الأفق.

يقارن روسل الليبرالية في السياسات مع الطريقة العلمية على أساس أن جوهر الليبرالية لا يكمن في السؤال:

ما الآراء المشكلة؟ ولكن في سؤال: كيف تتشكل؟

ولأن الليبرالية ليست عقدية، فهي تتشكل بطريقة مؤقتة، وعليه فإن أدلة جديدة يمكن أن تقود إلى هجرها. ولأن هذه هي الطريقة عينها التي تتشكل بها الآراء في العلم، فإن المنظور الليبرالي هو النظير الفكري للمنظور العلمي في الفضاء العملي.

الليبرالية إذن -إذا تبنينا أفكار روسل- لا تقترن بأي عقيدة سياسية خاصة؛ لأن ما يتبناه العلم هو ما يجب تبنيه من لدن الليبراليين حتى لو كان ذلك هجراً للأفكار الليبرالية التقليدية التي تتضمن الديمقراطية[29].

حاول أعضاء مدرسة شيكاغو التي ضمت هربرت ميد وديوي، أن يدخلوا أفكاراً مختلفة عما يعنيه الضبط والتعديل والتكيف؛ وذلك على أساس مقاربات أولية أكثر هرمينوطيقية وأقل وضعية للعلم الاجتماعي والتفاعل الإنساني؛ فقد رفض كل من ديوي وميد العلموية وفضلا التفاعل الإنساني والحوار كأدوات للفعل الثقافي والسياسي والاجتماعي.

كان العلاج الأفضل -في نظر ديوي- لأخطاء الديمقراطية هو ديمقراطية أكثر، وقد ترافق ذلك من طرفه مع جهود للإصلاح ومع نقد للرأسمالية تجسدت في الدعوة إلى تنظيف فساد الحكومة والسياسيين، وتأسيس خدمة مدنية احترافية، وجعل القانون أكثر استجابة للحاجات الاجتماعية[30]. وهي نظرة لم تكن قابلة للحياة بنظر التطوريين وأتباعهم في العلوم السلوكية والاجتماعية[31].

فبالنسبة إلى هذه الرؤية النخبوية ينظر بارتياب إلى الجماهير ويخشى من لا عقلانيتها، وتعتقد لذلك أن الديمقراطية عملية تعمل بصورة أفضل إذا بقي الجهل بعيداً (نتيجة رددها شومبيتر مستخدماً مصطلح لا عقلاني)[32].

وقد كان لهذه النظرة افتراضاتها التي تأخذها كمسلمات، فيمكن عدّ هذه النظرة تنويعاً على الليبرالية الفيبرية يأخذ شكل التعددية التي تشدد على أنموذج الصراع لتبرر فكرة أن التوافق الديمقراطي ما هو إلا صفقة بين مجموعات نخبة؛ فالتنافس إنما يكون بين النخب وهي الاستراتيجية البولياركية [33] التي تختارها الجماهير، ومن ثم تتحكم هذه النخب بالفضاء السياسي[34].

ربما كانت رؤية ديوي المشار إليها آنفاً، والتي لم تلق صدى لدى التطوريين ذات شأن في التقريب بين الليبرالية والديمقراطية، فهو يقول:

«لا يوجد تناقض من حيث المبدأ بين الليبرالية كفلسفة اجتماعية والراديكالية في الفعل إذا ما عني بالراديكالية تبني سياسات تحدث تغيرات عميقة بدلاً من تغيرات اجتماعية تدرجية. هذه التغيرات كانت هائلة في القرن الأخير، ففي الأربعين سنة الأخيرة بدا كما لو أن مناهج الراديكالية ضرورية، لكن ذلك يتطلب الاعتراف بحقيقة أنه لا يوجد شيء في طبيعة الليبرالية يجعلها عقيدة ملتزمة بالتسوية والإصلاحات الصغرى»[35].

ويؤكد ديوي أن أي ليبرالية لا تصنع حرية ثقافية أسمى، ولا ترى العلاقة بينها وبين الحرية الحقيقية كطريقة حياة هي ليبرالية منحطة ووهمية[36]. انطلاقاً مما سبق، أراد ديوي أن يؤسس لديمقراطية حقيقية سماها (المجتمع الكبير) الذي يعترف بالعلم وأهميته الاجتماعية، ولكنه يسخره دائماً لحوار عام وتحت رعاية الاتصال الاجتماعي، هذا الولاء للديمقراطية يظهر بوضوح في قوله:

«طبقة الخبراء هي طبقة باهتمامات خاصة ومعرفة خاصة، وهي إذا كانت حكومة لا سبيل لدى الجمهور لإعلامها بحاجاته، فسوف تتحول إلى حكومة أوليغارشية تهتم فقط بمصالح القلة. مهمة هذه النخبة الأساسية تجاه الجماهير أن تملّكها طرقاً تجبر الإداريين على أخذ حاجاتها بالاعتبار فقد عانى العالم من القادة والسطات أكثر من الجماهير. الحاجة الأساسية... هي تحسين طرق وشروط المفاوضات، المناقشة والإقناع، وهذا التحسين يعتمد تتميم عمليات نشر استنتاجاتهم، لكن هؤلاء الخبراء لا دور لهم في صياغة وتنفيذ السياسات، هم مكلفون فقط باكتشاف الحقائق التي تعتمد عليها الأخيرة. هم خبراء وتقنيون يستثمرون خبرتهم ومعرفتهم ويضعونها بين أيدي من يملكون القدرة على الحكم على صلاحية هذه المعرفة للاهتمامات المشتركة»[37].

[1] - Ibid., pp. 78-79

[2] - Ibid.

[3] - Ibid.

[4] - Ibid.

[5] - سورين كيركغور (1813-1855)، فيلسوف دنماركي، ولاهوتي، وشاعر، وناقد اجتماعي، ومؤلف ديني، ويُعتبر على نطاق واسع أول فيلسوف وجودي.

[6] - كليفورد غيرتز، أحد أبرز علماء الأنثربولوجيا الأمريكيين في العقود الثلاثة الأخيرة.

[7] - هربرت سبنسر (1820-1903)، فيلسوف بريطاني، أعطى مفهوم الارتقاء بعداً اجتماعياً ولذلك عرف بمؤسس الداروينية الاجتماعية.

[8] - Ibid., p. 97

[9] - Ibid., p. 98

[10] - See Edward Shils, [The Theory of Mass Society,] in Shils, Center and Periphery: Essays in Macrosociology (Chicago: University of Chicago Press, 1975) , pp. 91-110

[11] - op. cit., p. 99

[12] - Ibid., p. 80

[13] - Ibid.

[14] - Ibid., p. 33

[15] - Ibid., p. 34

[16] - Ibid.

[17] - Ibid.

[18] - See Frank Fischer, Technocracy and the Politics of Expertise (Newbury Park, CA: Sage, 1990) , ch. 4

[19] - Ibid., p. 34

[20] - Ibid., p. 35

[21] - Ibid.

[22] - Ibid., pp. 49-50

[23] - جون آدامز، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، كان دبلوماسياً ومحامياً وكاتباً وشغل منصب الرئيس الثاني للولايات المتحدة.

[24] - Ibid. p. 51

[25]- Ibid., p. 114

[26]- Robert Hollinger, op., cit., p.51

[27]- Ibid., p. 8

[28] - Ibid.

[29]- Ibid., p. 9

[30]- Ibid., p. 34

[31]- Ibid., p. 34

[32]- Ibid., p. 49

[33] - مصطلح يعني حكم المراكز المتعددة.

[34] - Ibid.

[35] - Ibid., p. 37.

[36] - Ibid.

[37] - Ibid., p. 38.