ضد "العيش المشترك" وأخلاق العبيد (1) من وحي الثورتين العراقية واللبنانية


فئة :  مقالات

ضد "العيش المشترك" وأخلاق العبيد (1) من وحي الثورتين العراقية واللبنانية

العبد هو من ضعُف روحه، وقلت حيلته، فأتبع نفسه لغيره.

أرسطو

تنطلق هذه المقاربة من واقع التأخر التاريخي[1]، الذي يكتنف المجتمعات والدول الواقعة "بين المحيط والسُّد"، بتعبير عبد الله العروي؛ أي بين الفاصل المائي عن الغرب، والفاصل البشري (إيران) عن الشرق، على ما بين الفاصلين من اختلاف نوعي، وهو تأخر نسبي، قابل للقياس الكمي والنوعي. فلا تكفي مقارنة هذه المجتمعات بالمجتمعات المتقدمة، أو مقارنتها بما كانت عليه، للوقوف على حقيقة تأخّرها، ولا يكفي وصف الواقع، كما هو، بقدر الإمكان، بل لا بد من تفسير واقع التأخر، من أجل العمل على تغييره. وقد اتفق معظم الباحثين على أن التأخر التاريخي يتجلى، في أشكال شتى، أبرزها التابعية أو التبعية، بالمعنى الشامل للكلمة.

لذلك، تفترض هذه المقاربة أن السبب الرئيس لتأخر المجتمعات المعنية يكمن في توقفها عن المشاركة في الثقافة الإنسانية الحديثة، وعجزها عن مواكبة الثورات المعرفية والعلمية والتكنولوجية المتتالية، منذ بزوغ الثورة الصناعية، التي نهضت عليها الثورة الديمقراطية، في "الغرب"، إلا بصفتها مجتمعات تابعة ومستهلكة، من جهة، وانعدام فرص المشاركة في الحياة العامة، أو الحياة النوعية، في كل مجتمع من هذه المجتمعات، على حدة، من الجهة المقابلة.

التعاون يقتضي ثقة متبادلة بين المتشاركَيْن أو المتشاركِين، ومساحة أخلاقية للحوار والنقاش، تمكن من إنتاج فهم مشترك وقيم مشتركة

ومن المؤكد أن المشارك في الحياة العامة في المجتمع المعني، وفي حياة الدولة، هي شرط إمكان المشاركة في الثقافة الإنسانية الحديثة، وفي الحياة المدنية الحديثة، بل هي شرط إمكان المشاركة في إنتاج العالم وإعادة إنتاجه، وصناعة تاريخه، وشرط إمكان المشاركة في إنتاج النظام العالمي وإعادة إنتاجه.

القائلون بأن ثمة تبعية متبادلة بين البلدان المتأخرة والبلدان المتقدمة، كـ "تبعية" ألمانيا الاتحادية أو فرنسا أو بريطانيا للمملكة العربية السعودية أو العراق نفطياً، على سبيل المثال؛ لا يتنبهون إلى أن هذا النوع من التبعية يشبه تبعية السيد للعبد؛ لذلك نقول: أجل، ثمة تبعية متبادلة، ولكنها محكومة بالتفاوت التاريخي ما بين الحضارة والمدنية، ما بين حضارة "الشرق" ومدنية "الغرب"، ناهيكم عن البداوة، وهو تفاوت في نمو الروح الإنساني. ومحكومة، من ثم، باختلال شديد في وتائر النمو، في شتى المجالات، واختلال شديد في شروط التبادل، واختلال شديد في نسبة القوى. هذه الاختلالات وغيرها هي مما يجعل التبعية أقرب ما تكون إلى تبعية العبد للسيد، تتحول، على طول الألفة والاعتياد، وقد تحولت بالفعل، إلى نوع من تبعية ذاتية[2]، جذرها "قصور ذاتي، وتبعية عمياء للأوصياء و"أولي الأمر"، وعجز مزمن عن "الاستعمال العمومي للعقل"، بتعبير إيمانويل كانط، وهشاشة أخلاقية مفرطة"[3].

المشاركة في العربية على وزن مفاعلة، هي مصدر لفعل لا يتحقق إلا بنشاط شخصين أو أكثر، فريقين أو أكثر، مجموعتين أو أكثر، حزبين أو أكثر ... إلخ، يتعاونان أو يتعاونون، لإنجاز عمل معين، أو القيام بمهمة محددة، أو إنشاء مؤسسات مشتركة، كالشركات الإنتاجية والخدمية والجمعيات والنوادي ... إلخ، ويتبادلون في سبيل ذلك، ما لديهم من معارف وخبرات موروثة ومكتسبة. والتعاون، كما هو معروف، يقتضي ثقة متبادلة بين المتشاركَيْن أو المتشاركِين، ومساحة أخلاقية للحوار والنقاش، تمكن من إنتاج فهم مشترك وقيم مشتركة وحقائق مشتركة.

هكذا، تأخذنا الدلالة اللغوية إلى دلالات مفهومية مترابطة، تعيِّن بترابطها حقلاً معرفياً وأخلاقياً هو حقل الإنتاج الاجتماعي، نعني إنتاج المجتمع لنفسه: إنتاج رأس المال الاجتماعي، ورأس المال الثقافي والرمزي، ورأس المال المعرفي، ورأس المال المادي، بالتلازم الضروري بين هذه الحقول، التي تتضمنها عملية الإنتاج الاجتماعي، التي لا تتوقف ولا تكتمل، وإنتاج المؤسسات الخاصة والعامة، التي تؤطر هذه الحقول، وعلى رأسها الدولة.

قبل أن نغادر حقل الدلالة اللغوية، علينا أن نتوقف عند الفروق الدلالية بين المشاركة، مصدر الفعل شارك، وبين الاشتراك، مصدر الفعل اشترك، إذ الأولى تعني المشاركة في عمل يحتاج إلى إنجاز أو إلى إنشاء، كإنشاء شركة أو مؤسسة أو منظمة... إلخ؛ والثاني (الاشتراك) يعني المشاركة في عمل مُنجَز أو مؤسسة قائمة ... إلخ. الأولى (المشاركة) تدل على حالة ديناميكية، حيوية (تفاعلية، متحركة ومتغيرة)، والثاني (الاشتراك) يدل على حالة استاتيكية، ساكنة؛ الأولى تنطوي على معاني الابتكار والخلق أو الإبداع، والثاني ينطوي على معنى الدوام والثبات والتكرار. حتى في البلدان المتقدمة، حيث تحمل المشاركة معنى المواطنة المتساوية، يمكن التفريق بين مواطنة نشطة، قوامها المشاركة، تتعانق فيها الحرية والمسؤولية، ومواطنة هامدة، تعطي للهروب من المسؤولية معنى الهروب من الحرية، على نحو ما صوره إيريك فروم.

على الصعيد المعياري، المعياران الرئيسان للمشاركة هما الإتقان، والإنجاز. أما المعيار الرئيس للاشتراك، فهو الطاعة، وإن تكن الطاعة، في البلدان المتقدمة والنظم الديمقراطية، طاعة للقانون، لا طاعة لشخص متسلط، كما هي الحال عندنا.

أشرنا إلى هذه الفروق، لكي نفكك مفهوم "العيش المشترك"، الذي يستعمل لتعريف الوطنية، أو تعيين مدلولها، بدلاً من مفهوم المواطنة، في ضوء الحيثيات الآتية: 1- الاشتراك في العيش واقعة طبيعية، بديهية، من معطيات الإدراك الحسي (جميع الكائنات الحية تتعايش، أو تشترك في العيش. العيش المشترك هو رابطة طبيعية في ما بينها جميعاً)، المواطنة ليست بدهية، وليست رابطة طبيعية، بل رابطة مدنية، وليست من معطيات الإدراك الحسي، وكذلك الوطنية. 2- إذن، العيش المشترك يحيل على الحالة الطبيعية. أما المواطنة، فتحيل على الحالة المدنية. 3- العيش المشترك يحيل على واقع ثابت، استاتيكي. أما المواطنة، فتحيل على واقع ديناميكي، هو ابتكار الوطن وإنتاج الوطنية وكسبها كل يوم. 4- ابتكار الوطن هو المغزى الأعمق لمفهوم المواطنة (على وزن مشاركة)، المواطنة مشاركة حرة ومبدعة في إنتاج الوطن وإنتاج الوطنية، وليست مجرد تعايش، قد يكون على مضض. 5- العيش المشترك ممكن مع الحواجز والمتاريس، المواطنة غير ممكنة مع الحواجز والمتاريس. 6- التعايش ممكن في ظل الأنظمة ما قبل المدنية وما قبل الوطنية، كالعشائرية والعائلية والإثنية والسلطات المستبدة. المواطنة المتساوية غير ممكنة في مثل هذه الشروط.

المشاركة المعنية في هذه المقاربة هي: أولاً المشاركة الحرة، وهذه أكثر من "المشاركة الطوعية"، لأنها تنبثق من الاستقلال الكياني، للفرد (الرجل والمرأة) أو استقلال الشخصية، واستقلال الوجدان وحرية الضمير (يمكن أن يشارك الشخص أفراد عائلته أو عشيرته أو طائفته طوعاً، في أمور مختلفة، وفي وسعه ألا يشارك؛ ثانياً هي المشاركة الخلاقة أو المبدعة؛ ثالثاً هي المشاركة القائمة على تكافؤ المتشاركين والمتشاركات، وتساويهم في الحقوق؛ رابعاً هي المشاركة القائمة على تكافؤ الشروط، وتكافؤ الفرص. وتقتضي سيادة القانون واستقلال القضاء.

البطانة الأخلاقية للمشاركة هي ما نسميه "أخلاقيات اللعب"، في مقابل أخلاقيات السلطة، وأخلاقيات الهيمنة، وأخلاقيات الرابطة، وأخلاقيات المبادئ. اللعب، في اعتقادنا، من أبرز الفعاليات الإنسانية؛ ثمة لعب على الدوام، وثمة أخلاقيات للعب على الدوام؛ اللعب هو أساس الفن ومحك المعرفة والذوق.

في مجال اللعب، وهو مجال المشاركة الحرة، يتأسس حس العدالة، بما هي تأليف بين الحرية والمساواة، من موقع الاختيار والاستقلال الذاتي (افتراضاً)، إذ لا يُجبَر الفرد أو تُجيَر على لعبة بعينها، وإذ تختار أو يخار اللعبة اختياراً، إنما تقبل ويقبل قواعدها وشروطها، وتعمل ويعمل بمقتضاها، وتتوقع من الأخريات والآخرين، مثلما ويتوقع من الأخريات والآخرين القبول ذاته والاحترام ذاته، على أساس الندية والتشارك الحر، بما في ذلك المراهنة والمقامرة.

اللعب، وفق هذه الحيثيات، نموذج مناسب لما ينبغي أن تكون عليه المؤسسات المدنية، أو تنظيمات المجتمع المدني، نعني الإجماع على المبادئ الناظمة، وهذه المبادئ هي بالضبط مبادئ العدالة، التي يعاب على الأفراد مخالفتها أو الخروج عليها، وتسوَّغ معاقبتهم على ذلك، وفق نظام من العقوبات يوافق عليه الجميع. علاوة على أن اللعب يحقق للاعبات واللاعبين متعه وسعادة تتقلص فيها المنفعة (المادية) إلى الحدود القصوى، باستثناء المراهنة والمقامرة.

فاللعب يكشف عن بعد روحي للذة والسعادة، قوامه فضيلة العدالة، وقد غدت ممارسة عملية. لذلك، نميل إلى تمثيل العدالة بلعبة جماعية، أكثر من تمثيلها بمحكمة، إذ للعبة الجماعية محكمتها وأحكامها أيضاً، ولا نرى في تعبير "اللعبة الديمقراطية" ما يغض من شأن الديمقراطية، فماذا تعني الديمقراطية أكثر من تشارك حر، وفق مبادئ واضحة مقبولة ومحترمة من الجميع بالتساوي، ولا ينتفع منها أي طرف على حساب طرف آخر أو أية جماعة على حساب جماعة أخرى، وأي فرد على حساب أفراد آخرين؟ ثمة تفاوت في المنفعة، في النظم الديمقراطية، لكن منفعة فئة يفترض ألا تكون على حساب غيرها من الفئات، ومنفعة شخص لا تكون على حساب غيره من الأشخاص، وذلك ما يوجب نقد الديمقراطية المتحققة بالفعل. علاوة على أن مفهوم المنفعة، يحيل على المنفعة العامة، التي لا تتحقق منفعة خاصة معترف بها إلى في نطاقها.

الأشخاص الأحرار والمتساوون، من وجهة نظر العدالة هم المواطنون المنخرطون في تعاون اجتماعي، وقادرون على ذلك مدى الحياة

الرابطة الوطنية، التي تنشأ بين المواطنين والمواطنات، لا تقوم على علاقات زمالة أو معرفة أو صداقة كالتي تقوم بين الأفراد الطبيعيين أولاً، بل تقوم على قبول مبادئ العدالة العامة، إذ بينما كل مواطن هو صديق لبعض المواطنين والمواطنات، لا يوجد مواطن صديق للجميع أو مواطِنة صديقة للجميع. لكن الولاء المشترك للعدالة يزودهم الجميع بمنظور موحد؛ من خلاله يمكنهم الحكم على اختلافاتهم. ثانياً، يؤدي حس العدالة إلى استعداد للعمل من أجل بناء مؤسسات عادلة، ومن أجل إصلاح المؤسسات الموجودة حين تتطلب العدالة هذا أو على الأقل عدم مناهضته. نحن نميل عادة إلى التصرف على أساس واجب طبيعي لتعزيز ترتيبات عادلة (كما في اللعب)؛ هذا الميل يتجاوز دعم لتلك المخططات المعينة التي تؤكد خيرنا. إنه يسعى إلى التوسع في التصور الذي تجسده تلك المخططات إلى أوضاع إضافية من أجل خير المجتمع الأوسع.[4]

أن نكون محكومين بهذه المبادئ، يعني أننا نريد أن نعيش مع الآخرين وفق شروط، سوف يدرك كل شخص أنها منصفة، من منظور يقبله الجميع على أنه معقول. إن مثال الأشخاص الذين يتشاركون على هذا الأساس يمارس جذباً طبيعياً على عواطفنا.

الأشخاص الأحرار والمتساوون، من وجهة نظر العدالة إنصافاً هم المواطنون المنخرطون في تعاون اجتماعي، وقادرون على ذلك مدى الحياة، ويتمتع كل منهم بالقوتين الأخلاقيتين: قوة الحس بالعدالة، وهي القدرة على الفهم والتطبيق والعمل انطلاقاً من مبادئ العدالة السياسية التي تعين الشروط المنصفة للتعاون الاجتماعي. أما القوة الأخلاقية الأخرى، فهي القدرة على تحصيل مفهوم للخير العام ومراجعته ومتابعته العقلانية، وهذا المفهوم هو مجموعة منظمة من الغايات النهائية والمقاصد التي تعين مفهوم الشخص لما هو قيِّم في الحياة الإنسانية، أو لما يعتبر حياة ذات قيمة كاملة[5].

[1]- يعود الفضل في اشتقاق مفهوم "التأخر التاريخي" لعبد الله العروي، كما يعود فضل تعميمه في المشرق العربي لياسين الحافظ. وقد جعله أداة أساسية لتحليل الأوضاع العربية وأسباب الهزائم والإخفاقات المتتالية، وتمتد جذوره إلى تحليل كارل ماركس لتأخر ألمانيا.

[2]- ربما يمكن القول إن العبودية الخفية، التي تنطوي عليها الرأسمالية، في مراكز النظام العالمي، تظهر سافرة في الأطراف والهوامش.

[3]- في قاع الحضارة، أية حضارة، ثلاثة عناصر ذهنية – نفسية - أخلاقية متراكبة: ذهنية الصائد وذهنية الملتقط، وذهنية الزارع، (العبد – السيد). وجود هذه العناصر في مجتمعاتنا، سبب من الأسباب التي تجعلنا نفرق بين الحضارة وبين المدنية، خلافاً لمن يجعلون للمفهومين المختلفين، الحضارة والمدنية، دلالة واحدة.

[4]- جون رولز، نظرية في العدالة، ترجمة ليلى الطويل، الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2011، ، ص 567

[5]- جون رولز، العدالة كإنصاف، إعادة صياغة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، ص 112