فلسفة الدين في الفلسفة الإسلامية المعاصرة : محمد إقبال أنموذجاً


فئة :  قراءات في كتب

فلسفة الدين في الفلسفة الإسلامية المعاصرة : محمد إقبال أنموذجاً

 فلسفة الدين في الفلسفة الإسلامية المعاصرة[1]:

محمد إقبال أنموذجاً


إنّ التفكير الجدّي في الوضعية الكونية للإسلام، في الشروط المعاصرة، يقتضي تناول مسألة أساسية، وهي إمكانية بناء خطاب فلسفي إسلامي تنويري راهني، يقدم منظوراً للإصلاح الديني من جهة، وبناء حداثة دينية تعطي للإسلام مقوماته الفكرية والعقلانية والروحية (القيمة) من جهة أخرى. ولكن كلّ هذا لا ينفصل عن التساؤل عن علاقة الفكر الإسلامي المعاصر، ليس فقط بالتراث الفلسفي الإسلامي (الكلامي والصوفي والبرهاني)، بل بمجال أساسي معاصر ثور العلاقة مع الدين وهو مجال فلسفة الدين. وهو ما يعني التساؤل حول مظاهرها وإمكاناتها وحضورها، في الاجتهادات الفكرية الإسلامية في أفق تلمس الأسئلة والقضايا الكبرى التي تندرج ضمن سياق تجديد العقل الديني الإسلامي. من هنا تحضرنا مساهمة المفكر والفيلسوف الهندي محمد إقبال (1877-1938) وأطروحته الأساسية: تجديد الفكر الديني في الإسلام، والتي يهمنا منها إبراز منطلقاتها ومضامينها من زاوية فلسفية، في ارتباط بالإشكال المركزي: ما طبيعة فلسفة الدين في خطاب هذا المفكر اللامع، ومحاولته اليتيمة "تجديد الفكر الديني في الإسلام" في الارتباط بتراث الشرق الفلسفي والديني والفلسفة الغربية على حد سواء؟

يتحدد الكتاب في ستة فصول، وهي:

أولاً: المعرفة والرياضة الحديثة.

ثانياً: البرهان العقلي على ظهور التجربة الدينية.

ثالثاً: الألوهية ومعنى الصلاة.

رابعاً: روح الثقافة في بناء الإسلام (أو روح الثقافة الإسلامية).

خامساً: مبدأ الحركة في بناء الإسلام.

سادساً: هل الدين ممكن؟

إنّ الحوار الممكن مع هذا المفكر أو هذا الكتاب العميق، سيركز على فهم مشروع إقبال الفلسفي الديني من خلال قراءته للقرآن والتراث الإسلامي وفق روح الفلسفة العربية وعلومها، من هنا ضرورة إثارة قضايا تهمّ الدين والعقل، أو الفلسفة والدين، والعلم والدين، والحرية الإنسانية بين القضاء والقدر، وعلاقة الإسلام بالتاريخ. وأكثر من هذا التفكير في ماهيّة حضور الفلسفة الغربية في خطابه التجديدي حول الإسلام، لما يخدم: تساؤلات فلسفة الدين بالدرجة الأولى. ونحن ننطلق سلفاً بأنّه كتاب في فلسفة الدين، يتعلق ببناء داخلي عميق فلسفي من الداخل لجوهر وتساؤلات وقضايا القرآن أو الإسلام، وفق منظور مستقبلي، ولا ننسى ظرفية ولحظة تأليف الكتاب وسياقه التاريخي وما أثاره من إشكالات وسجالات الشرق والغرب على حد سواء، ولعل حواره الفلسفي ـ الديني مع فلاسفة كبار قد طبعوا فكره مثل: نيتشه وبرغسون، دون نسيان كانط وديكارت، فيما يتعلق ببعض القضايا الأنطولوجية والأخلاقية. إنها فلسفة دينية مركّبة ومثقلة بمفاهيمها وحيّة، تهمّ سؤال التنوير الديني الغربي أكثر من الشرق، مع العلم أنّه ترك مدرسة فلسفية ـ دينية رغم محدودية تأثيرها نظراً لظروف حضارية واجتماعية وسياسية وفكرية.

1-      الفلسفة والدين (إشكالية العلاقة):

ينطلق إقبال من مسألة أساسية تهمّ مشروعية الفلسفة في تناول مسألة الدين. من هنا يقول:

"إنّ روح الفلسفة هي روح البحث الحر، يضع محل سند موضع الشك. ووظيفتها أن تتقصى فروض الفكر الإنساني التي لم يمحصها النقد إلى أغوارها، وقد تنتهي من بحثها إلى الإنكار أو إلى الإقرار في صراحة بعجز التفكير العقلي البحت في اكتناه الحقيقة القصوى"[2]. إنّ الدين يقتضي البحث العقلاني مع الحفاظ على روح الدين، في أفق تجديد النظرة إليه.

"أمّا جوهر الدين فهو الإيمان، والإيمان كالطائر يعرف طريقه الخالي من المعالم غير مسترشد بالعقل، وإذا كانت غاية الدين وهدفه الأسمى تكيف الإسلام وهدايته، في تدبيره لنفسه، وفي صلاته بغيره، فقد أصبح من الجلي أنّ الحقائق التي يشتمل عليها ينبغي ألا تبقى غير مقررة، فما من أحد من الناس يقامر بالإقدام على عمل ما على أساس مبدأ خلقي مشكوك في قيمته"[3]. من الضروري الحذر، حسب إقبال، بخصوص طبيعة التعامل الفلسفي مع الدين وقضاياه، وخصوصاً ما يتعلق بالإيمان. "على أنّ النظر العقلي في الإيمان ليس معناه التسليم بتعالي الفلسفة على الدين. فالفلسفة من غير شك حق الحكم على الدين ولكن طبيعة ما يراد الحكم عليه، لن نذعن لحكم الفلسفة إلا إذا كان هذا الحكم قائماً على أساس ما يصنعه من شرائط، وعندما تتهيأ الفلسفة للحكم على الدين، لا تستطيع أن تفرد له جزئياً، ليس فكراً مجرداً فحسب ولا شعوراً مجرداً، بل هو تعبير عن الإنسان كله، ولهذا يجب على الفلسفة، عند تقديرها للدين أن تعترف بوضعه الأساسي، ولا مناص لها من التسليم بأنّ له شأناً جوهرياً في التأليف بين ذلك كله تأليفاً يقوم على التفكير"[4]. يعود إقبال إلى مسألة العلاقة بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية مبيناً عظمة هذه الفلسفة اليونانية، وأثرها على الإسلام، "ولكنّ التدقيق في درس القرآن الكريم وتمحيص مقالات المتكلمين على اختلاف مدارسهم التي نشأت ملهمة بالفكر اليوناني، يكشفان عن حقيقة بارزة هي: أنّ الفلسفة اليونانية، ومع أنها وسّعت أفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام، فقد غشت على أبصارهم في فهم القرآن". [5] من هنا يرى إقبال أنّ روح القرآن تتعارض في جوهرها مع تعاليم الفلسفة القديمة، فالغزالي اتجه إلى إقامة الدين على دعائم من الشك الفلسفي، وهي دعائم غير مأمونة العواقب على الدين تماماً ولا تستوعبها روح القرآن. من هنا صعوبة تبرير التصورات الفلسفية من داخل حجج دينية. وهي قضية إشكالية في تراثنا الفلسفي الإسلامي.

يقول محمد إقبال: "حاولت بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديداً، آخذاً بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة، واللحظة الراهنة مناسبة كل المناسبة لعمل كهذا"[6]. إنّ الفلسفة ضرورة منهجية وفكرية ومعرفية.

على أنّه ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أنّ التفكير الفلسفي ليس له حد يقف عنده، فكلما تقدمت المعرفة وفتحت مسالك جديدة للفكر أمكن الوصول إلى آراء أخرى. ممّا يتطلب الترقب واليقظة وعناية بتقدم الفكر الإنساني، وأن نقف منه موقف النقد والتمحيص"[7]؛ فالنقد شرط أساسي للتعامل مع الموروث الفلسفي، يراعي في ذلك منطق التفكير وخصوصيات الدين، والعلاقة بالعلم والكون.

يتساءل إقبال وبمنطق الفيلسوف: ما طبيعة الكون الذي نعيش فيه وما بناؤه العام؟ أهناك عنصر ثابت في تركيب الكون؟ وكيف نكون بالنسبة إليه؟ وأي مكان نشغله منه؟ فهل من الممكن أن نستخدم في مباحث المنهج العقلي البحت للفلسفة؟"[8]. لقد حاول إقبال نقد الفلسفة العربية الإسلامية بحجة اتباعها الأعمى لأرسطو، وهو إذن يتبع تقليداً داخل الخطاب الفلسفي والديني الإسلامي مازال ينظر بحذر للفلسفة الإسلامية في تبعيتها لليونان. من هنا نقده المباشر للأرسطية الإسلامية، وابن رشد (ويوجه إليه إقبال نقداً كثيراً)، فهو من المنافحين عن الفلسفة اليونانية وقد تأثر بأرسطو فاصطنع المذهب القائل بخلود العقل الفعال. فغابت عن ابن رشد فكرة إسلامية مثمرة عظيمة وساعد عن غير قصد على نمو فلسفة للحياة تورث الضعف، وتغشى على بصر الإنسان عند نظره إلى نفسه، وإلى ربه وإلى دنياه"[9]. من الواضح أنّ إقبال يركز على الجانب الروحي والديني في نظرته لابن رشد. وهو ما جعله يدافع بشكل واضح عن علم الكلام في شقه النقلي. وكما يقول:

لقد جسّد الاشاعرة، عكس ذلك، نزوعاً نحو الصواب، وقد سبقوا الفلسفة المثالية إلى أحدث أرائها، ويناقش أمثال تصوراتها في الزمان والجوهر والحركة. وقد أسهب في إبراز فلسفة الأشاعرة. لكنه ينتقد المعتزلة كثيراً، فهم قد قصروا إدراكهم للدين على أنه مجموعة من العقائد، متجاهلين أنه حقيقة حيوية، فلم يحفلوا بأساليب إدراك الحقيقة إذا كانت لا تقبل التصور، وأرجعوا الدين إلى نسق المعاني المنطقية، انتهى إلى موقف سلبي بحت، وغاب عنهم أنه في ميدان المعرفة - علمية كانت أو دينية ـ لا يمكن للفكر أن يستقل تمام الاستقلال عن المواقع المتحققة في عالم التجربة".[10]

سيشيد إقبال بالدعوة التي قام بها الغزالي مثلما قام بها كانط، الدين في جانب منه لا يمكن البرهنة عليه حتماً، فكان الطريق الوحيد إذن أن تمحى العقيدة من سجل المقدسات، وقد جاء مع محو العقيدة مذهب المنفعة في فلسفة الأخلاق، وبذلك مكن المذهب العقلي من سيادة الإلحاد، إنها قضية إشكالية يثيرها إقبال، وستشكل ثابتاً في أغلب[11] تصورات الفكر الفلسفي والديني تجاه الغرب دون نسيان طبيعة المقارنة بين الغزالي وكانط، ومع اختلاف جذري بين المشروعين.

يرى إقبال أنّ كانط بيّن قصور العقل الإنساني فهدم بذلك ما بناه المذهب العقلي[12]. لكن تبقى خصوصية الدين حسب إقبال أقوى من احتوائها بالمنطق أو الفلسفة البرهانية وأسسها المنهجية.

"إن قصور الفهم المنطقي الذي يواجه كثرة من الجزئيات المتنافرة فيما بينها والتي لا أمل في ردها جميعاً إلى وحدة واحدة، هذا القصور هو الذي يجعلنا نشك في إمكان توصل العقل إلى إدراك قاطع، وفي الحق أنّ الفهم المنطقي يعجز عن تصور هذه الكثرة من الجزئيات عالماً واحداً ومتماسكاً"[13] "حركة الفكر لا تصبح ممكنة إلا بسبب حضور اللامتناهي حضوراً ضمنياً في ذاته المتناهية"[14] "إنّ الهدف الرئيسي للقرآن هو أن يوقظ في نفس الإنسان شعوراً أسمى بماهية ما بين الخالق وبين الكون من علاقة متعددة"[15]. وسيحاول أن يربط بين الإنسان والقرآن في هذا المجال.

"لقد قدر على الإنسان أن يشارك في أعمق رغبات العالم الذي يحيط به، وأن يحدد مصير نفسه ومصير العالم كذلك، تارة بتهيئة نفسه لقوى الكون وتارة أخرى ببذل ما في وسعه لتفسير هذه القوى لأغراضه ومراميه.

وفي هذا المنهج من التغيير التقدمي، لا يكون الله في كون المرء إلا على شريطة أن يبدأ هو بتغيير ما في نفسه"[16]. إنّ فلسفة إقبال العملية تكمن في إعادته الاعتبار للإنسان كقضية فكرية في المنظومة الدينية عامة والقرآنية خاصة، يتطلب فهمها وتحليلها وإدراكها بعمق. "فإذا لم ينهض الإنسان إلى العمل، ولم يبعث ما في أعماق كيانه من غنى وكفّ عن الشعور بباعث من نفسه، إلى حياة أرض أصبحت روحه جامدة جمود الحجر وهوى إلى حضيض المادة الميتة. على أنّ وجود الإنسان وتقدمه الروحي يتوقفان على إحكام العلاقة بينه وبين الحقيقة التي تواجهها، وهذه العلاقات تنشئها المعرفة، وهي الإدراك الحسي الحي يكمله الإدراك العقلي"[17]. من هنا إمكانية تناول الفكر الفلسفي الإسلامي لمسألة الإنسان في علاقته بالفلسفة أو المعرفة. إنّ قضية الإنسان مرتبطة هنا بدوره في الكون، وإرادته وعلاقته بالقوى والله. وبالتالي، يحاول إقبال إعادة الاعتبار لسؤال الإنسان، في حوار مع الدين والفلسفة الإسلامية والغربية والعلم الحديث.

"إنّ الإنسان موهوب بالملكة التي تجعل له القدرة على وضع أسماء للأشياء؛ أي أن تكون له تصورات، وتكوّن هذه التصورات معناه إدراكها وفهمها" (ومنها علاقته باللغة)."[18]

2-      إقبال والبرهان الفلسفي على التجربة الدينية (من نقد ديكارت إلى استلهام برغسون):

يركز الفيلسوف على أهم قضية تهم الفلسفة عامة وفلسفة الدين خاصة، وهي مسألة مركزية ومثيرة للسجال في تاريخ العلاقة بين الفلسفة والدين. يحدد إقبال في البداية الأدلة الثلاثة على وجود الله، وهي الدليل الكوني، ودليل العلة الغائيّة، والدليل الوجودي. يرى إقبال أنها تنطوي على حركة حقيقية للفكرة في بحثها وراء المطلق. "ولكن نخشى إذا نظرنا إليها بوصفها أدلة منطقية أن نجدها قابلة للنقد الجدي، فضلاً عن أنها تنمّ عن تفسير حي للتجربة ظاهري بعض الشيء"[19].

إنّ الدليل الكوني ينظر إلى الكون على اعتبار أنّه معلول متناهٍ، لكنّ الوقوف بهذه السلسلة عند حد معين والارتفاع بواحد من هذه العلل إلى مقام علة أولى لا علة لها إهدار لقانون العلية نفسه الذي يصدر عنه دليل بجملته، وهذا الدليل الكوني يعتمد علة إثبات اللامتناهي على نقطة المتناهي. ولكن غير المتناهي الذي نصل إليه بنقض المتناهي هو لا متناهٍ باطل، لا يفسر نفسه، ولا يفسر المتناهي الذي يقيمه مقابلاً لغير المتناهي. وعلى هذا نقول: إنّ الانتقال من المتناهي إلى غير المتناهي ـ كما يتضمن الدليل الكوني ـ ظاهر البطلان في نظر المنطق. وبهذا يتهافت الدليل بجملته،[20] فما هو البديل الذي يقدمه محمد إقبال؟ أمّا بالنسبة لدليل الغائيّة (الدليل الغائي) فهو يتقصى المعلول للوصول إلى نوع علته، ويستنتج منه آثار البصيرة، ومن القصد ومن التوافق مع الطبيعة، وجود موجود عالم بنفسه لا نهاية لعقله وقدرته، وهذا الدليل في أحسن صورة يزودنا بوجود مخترع خارج عن الكون، خير يبدع الصنع مع مادة موات، صعبة القياد، سابقة الوجود، ليس لعناصرها من حيث طبيعتها القدرة على التركيب والتأليف المنظم، ويوصلنا إلى وجود مخترع لا إلى وجود خالق، وحتى إذا فرضنا أنّه خالق أيضاً للمادة فليس ممّا يعني بشأن حكمته أن خلق لذاته المتاعب بأن خلق المادة المعاندة أولاً ثم تغلب على ما نعتها باستعمال أساليب دخيلة على طبيعتها الأصلية. والصانع إذا اعتبر خارجاً عن مادة صنعه وجب أن يبقى دائماً محدوداً بها، فيصبح بهذا صانعاً متناهياً تضطره وسائله المحدودة إلى أن يتغلب على ما يلاقيه من صعاب، على غرار ما يفعله الصانع من البشر[21]. فهناك تمييز بين الصانع والخالق حسب المنظور الديني. وقد أثيرت سجالات أساسية بخصوص هذه المسألة في الفلسفة الإسلامية.

ولعل التأويل الحرفي للنص الديني هو أصل هذا السجال حول علاقة الله بالوجود والإنسان من منظور إسلامي.

أما الدليل الوجودي ووجوب الوجود: فداخل في ماهية الله أو في مفهومه، وعلى هذا يمكن أن تؤكد صفة الوجود الواجب لله، أو أنّ الله موجود، حسب ديكارت، ثم فكرة الكائن الكامل لا يمكن أن تكون الطبيعة قد أتت من الطبيعة، لأنّ الطبيعة لا ترينا سوى التغير، فهي لا تستطيع أن تخلق فينا فكرة الكائن الكامل. فلا بدّ من وجود شيء خارجي مقابل للفكرة الموجودة في عقولنا، يكون هو السبب في وجود فكرة الكائن الكامل في عقولنا، لكن يضيف إقبال، فمن الواضح أنّ الوجود المتصور في العقل ليس دليلاً على وجود المتحقق في الخارج[22]. يراهن إقبال على كانط في إثارة نقده للدليل الوجودي لدى ديكارت، فكلّ ما يعنيه هذا الدليل أنّ فكرة الكائن الكامل تتضمن فكرة وجوده، وبين فكرة الكائن الكامل الموجودة في عقلي والموجود المتحقق في الخارج لهذا الكائن هاوية لا يمكن عبورها بمجرد تفكير نظري بعيد عن الوجود الواقعي، والدليل على النحو الذي سبق مصادرة على المطلوب لأنه يسلم بالمطلوب نفسه، وذلك بالانتقال من الوجود المنطقي إلى الوجود الخارجي، لقد بينت لكم في وضوح أنّ الدليل الوجودي ودليل الغائية لا يؤديان إلى شيء، وسبب إخفاقهما هو أنهما (لا) يعتبران الفكر عاملاً مفارقاً يعمل في الأشياء من الخارج. وهذه النظرة إلى الفكر تعطينا في إحدى الحالتين صانعاً لا غير، وفي حالة أخرى تخلق هاوية لا تعتبر بين الموجود في الذهن والموجود في الخارج[23]. سيراهن كانط على إثبات طوطولوجيا البرهان الأنطولوجي على وجود الله، وبالتالي سقوط الدليل في نقيضه (الله موجود لا تختلف منطقياً عن الله غير موجود) عن كلمة الله تتضمن وجود. فأي دليل ممكن على إثبات الله؟ ولا ننسى أنّ الفلاسفة المسلمين اعتمدوا دليل العناية من منطلق أساسي وهو أنّ مخلوقات الوجود ومن ضمنها الإنسان تدل على الوجود الإلهي وعنايته. وهذا لا ينفصل عن مفهوم الخلق والاختراع.

إنّ الوجود كله بعد العدم يدل على قوة الله أي الخالق، على اختلاف الدليل الغائي الذي يبين أنّ كل ما في الطبيعة يعود إلى محرك أول. (المدرسة اليونانية). يقول إقبال إنّ القيمة الحقيقية للدليل الوجودي ودليل العلة الغائيّة لا تتضح إلا إذا استطعنا أن نبين أنّ الوضع الإنساني ليس وضعاً نهائياً، وأنّهما في النهاية أمر واحد. ولا يشير لنا هذا إلا إذا فحصنا التجربة فحصاً دقيقاً وفسّرناها على أنها هي القرآن، الذي يعد التجربة الباطنة والظاهرة آية على حقيقة يصفها بأنها "الأول والآخر الظاهر والباطن"، وهذا هو الذي اعتزم بيانه".[24] يقول إقبال بحسٍ فلسفي دقيق: "إنّ التجربة تتكشف في الزمان وتتمثل في ثلاثة مستويات كبرى، وهي: مستوى المادة ومستوى الحياة ومستوى العقل والشعور. وهي على التوالي موضوعات علم الطبيعة، وعلم الأحياء، وعلم النفس،"[25] (تأويل برغسوني للمسألة واعتماد منظوره الحيوي للوجود والدين والله).

يتساءل إقبال في البداية: ما المادة؟ إنّ الطبيعيات تبحث في الأشياء الواقعة تحت التجارب. فالعالم الطبيعي يبدأ وينتهي في الأشياء الواقعة تحت التجارب، العالم الطبيعي يبدأ وينتهي بالظواهر الحسية. فالطبيعيات تدرس العالم المادي، لكن في فهم هذه المادة ما يرتبط بها من الحركة والزمان وتطورهما، هل يستطيع العالم أن يبني أحكامه على الناحية الموضوعية، باعتبار أنّ العلم مطلق غير نسبي؟ وهذا ما يفرض على علوم الأحياء أن تعيد النظر في المبدأ العلمي[26].

يعتمد إقبال على الفيلسوف والعالم، يعتمد (Whitehead) في طرحه مفهوم الحياة، بقوله: إنّ العالم ليس شيئا قارّاً، بل هو بناء من حوادث، كأنه متصل خلاف، وهذه الصفة لسير الطبيعة في موكب الزمان ربما كانت أبرز وجوه التجربة التي اتخذها القرآن على وجه خاص، وبالتالي يراهن إقبال على هذا القول من أجل إدراك الطبيعة أو الحياة بوضعها قوة روحانية، وهو ما يهيئ إدراك ماهية الحقيقة.[27] وتحليل إقبال يبدأ في إثارة الآيات القرآنية الدالة على وجود الله وقدرته على الخلق والبعد الإلهي (الروحي) لمسار وتكوّن الكون، هناك أبعاد خفية من وجود الشعور مجهولة لنا ولكنها بعيدة الغور في دلالتها، وهو ما جعل إقبال يعود إلى برغسون (Bergson) ويمجّده بخصوص دراسته ظاهرة الديمومة في الزمان دراسة عميقة، ويرى أنّ المعضلة الأساسية هي: كيف نحدد طبيعة الوجود النهائية؟ ومن هنا إذا كان الكون يلبث في الزمان وهو ما يقبل الشك فالأساس هو: إدراكي للأشياء التي تواجهني، هو رضا إدراك ظاهري ومن الخارج، ومن ثمة فإنّ المعرفة الشعورية هي هذه الحالة الوجودية الممتازة التي تكون فيها على اتصال بالحقيقة، وتحليل هذه الحالة الممتازة قد يجعلنا على نور من المعنى الحقيقي للوجود.[28] إنّ تحولاً مثيراً حدث في مسار فلسفة إقبال حول الوجود والتجربة الحسية. يتساءل إقبال بحس برغسوني: فما الذي أجده حين أنعم النظر في التجربة الشعورية، إنّي على قول برغسون، انتقل من حالة نفسية إلى حالة نفسية أخرى... أشعر بالحزن أو الفرح... أعمل أو لا أعمل شيئاً. أنظر ثم اعتبرها منفكة بعضها عن بعض لأعراض تتعرض بالعمل، والكون الذي يبدو لنا في صورة من مجموعة من الموجودات ليست مادة صلبة تشغل فراغاً، إنّه ليس شيئاً، إنما هو فعل وطبيعة الفكر المتجدد على ما يرى برغسون، وعلى هذا فعملية الفكر المشتغل بالتصورات الساكنة هي التي تضفي على ما هو بطبيعته متحرك صورة سلسلة من أمور ما نسيمه بالمكان والزمان[29]. يحاول إقبال تقديم فهم وتصور خصوصي جديد لبرغسون وفلسفته الحيوية. "إذن فالحقيقة على ما يرى برغسون ـ هي دفعة من صبغة الإرادة، حيوية حرة خالقة لا يمكن التنبؤ بها- حرة خالقة، والفكر هو الذي يربطها والحيز وينظر إليها على أساس أنها تعداد لأشياء. إنّ التيار الحيوي الذي ينادي به برغسون ينتهي إلى ثنائية من الإرادة والفكر لا يمكن التغلب عليها.. لكنّ حركة الفكر ليست آليّة، بل هي حركة أعمق، والفكر يبلغ في أصالته مبلغ الحياة (بعيداً عن التجزيء وحركة الحياة، هي نمو عضوي تتضمن تركيباً تدريجياً لمراحلنا المختلفة، وبغير هذا التركيب تكفّ عن أن تكون نمواً عضوياً. وهي ذات غايات تقتضيها. وتحقّق الغايات معناه أنّ العقل قد سرى فيها. وكذلك لا يكون فعل العقل ممكناً إلا بتحقيق هذه الغايات، وفي الحالات الشعورية تسري الحياة في الفكر ويسري الفكر في الحياة، وهما يؤلفان معاً وحدة، فالفكر في حقيقته، إذن، هو الحياة عينها[30].

وفي إطار هذا الاستلهام لفلسفة برغسون الحيوية بفهم للحياة باعتبارها اندفاعاً ونمواً متواصلاً، يقول محمد إقبال: "والرأي عندي أنه ليس أكثر بعداً عن نظم القرآن، من القول إنّ العالم تنفيذ في سياق الزمان لحظة تسبق وضعها. فالعالم في نظر القرآن، كما بينت من قبل، قابل للزيادة، هو عالم ينمو، وليس صنعاً مكتملاً خرج من يد صانعه منذ حقب بعيدة، وهو الآن ممتد في الفضاء أشبه ما يكون بكتلة ميتة من المادة لا يفعل فيها الزمن شيئاً، فهي من أجل ذلك ليست شيئاً"[31].

"فالطبيعة بالنسبة للذات الإلهية كالصفة بالنسبة للذات الإنسانية"، "فالطبيعة إذن يجب أن تفهم على أنها مركب حي دائم النمو، ونموه ليس له حدود نهائية خارجية، بل حده الوحيد حد داخلي: هو الذات الأزلية، التي تبعث الحياة في الوحدة الكليّة وتبقيها حية"[32]. إنها عملية تدفق الحياة، لكن في علاقة بالذات الإلهية، مما يتطلب فهم هاته الذات وإدراكها موضوعا وفكراً. وأساس ذلك العلم.

فالعلم بالطبيعة هو العلم بسنّة الله. ونحن في ملاحظتنا للطبيعة إنما نسعى في الحقيقة وراء نوع من الاتصال الوثيق بالذات المطلقة، وما هي إلا صورة أخرى من صور العبادة"[33].

يرى برغسون أنّ اندفاع الباعث الحيوي قدماً في حريته الخالقة لا يضيئه قبس من غاية قريبة أو بعيدة، فهو لا يستهدف نتيجة، بل هو تحكم مطلق لا يهديه شيء ولا يربطه نظام ولا يمكن التنبؤ بسلوكه... فهو ينظر إلى الحياة الشعورية باعتبار أنها الماضي يعيش رغماً في الحاضر ويؤثر فيه."[34]. إنّ الديمومة تسكن الوجود والكائنات والحياة عامة. ولا تدرك إلا كتجربة شعورية تطورية. والتصوف الخالص هو أقصى درجات تجسد الاندفاع الحيوي في علاقته بالله والدين.

إنّ فكرة الغاية لا يمكن أن تفهم إلا بالقياس إلى المستقبل. لأنّ الماضي يبقى من غير شك في الحاضر ويؤثر فيه"[35]. وسينتقد برغسون الغائيّة والآليّة لأنهما تقلصان من العمق الحيوي لتطور الحياة وحرية الإنسان. وهو سجال برغسوني عميق خاضه بشكل كثيف مع تاريخ الفلسفة والعلوم.

على أنّ برغسون ينكر غائية الحقيقة، على أساس أنّ الغائية تجعل الزمان باطلاً. وهو يرى أنّ أبواب المستقبل يجب أن تظل مفتوحة أمام الحقيقة، وإلا فإنها لن تكون حرة وخالقة (...)، إذ هي لا تريد أن ترد العالم إلى إعادة إخراج في سياق الزمان، أو بناء أزلي سبق وجوده"[36].

نهاية الغائيّة هي نوع من (الآلية) المادية المقنعة يصل فيها القضاء أو التقدير محل الجبر الصارم ولا تدع مجالاً لحرية الإنسان أو للحرية الإلهية ذاتها "[37]. من هنا رفض الغائيّة. لقد انتقد برغسون العلموية (SCIENTISME) التي تحاول عقلنة وتعليل الحياة. أمّا الأساس فهو فهم النشاط المحرك (ACTIVITE MOTRICE). أو ما يسميه برغسون بالدافع الحيوي (L’elant vital).

وهو يخرق كل المنظومات والإنسان حتى الدينية أو الاعتقادية. إنّ الدافع الحيوي هو سيرورة خلاقة تخترق الجسد والفكر. إنّه قوة توجّه المادة بعيداً عن الآلية والغائية الموجهة. ولصالح حرية حيوية أساسها العفوية الإبداعية. إنّ الدافع الحيوي يفسر الكائن الحي وتطور الوجود وبالتالي يتجاوز حتى الدين الستاتيكي (RELIGION STATIQUE). إنّ الدين الدينامي هو جوهر الاعتقاد الحر، التصوف والمطلق. إنّه الدين الحقيقي الذي يعبّر عن الحيوية والطلاقة والاندفاع. سيرى برغسون أنّ الدين الستاتيكي الاعتقادي يتناقض مع الواقع الحيوي. واستلهم إقبال هذا التصور، ضمّ نزوع صوتي/ روحي (حيوي) في علاقة بالقدر والخلود وتطور الإنسان في اتجاه عبادة الله. يحضر برغسون بلغة أخرى في خطاب إقبال ضمن نزعة روحية تطورية. من هنا فالدين والثقافة هما أولاً إبداع، باعتبارهما ظواهر حية. وبالتالي ضرورة قراءة جديدة شعورية وحيوية (حيّة) للقرآن. فالكون منفتح ويبدع باستمرار، لا ينظر إلى الوراء. ويعرف الحركة المتواصلة وينتج المزيد من الظواهر. سيحاول برغسون (1859-1941)، فيلسوف الحيوية وملهم محمد إقبال، تقديم تصور عن الدين الجوهري أو التصوف العميق ضمن التطور الخلاق للحياة. وكما يقول في بداية طرحه لماهيّة ودلالة الدين الحركي: "والوعي هنا يتخذ في نفاذه إلى المادة شكل العقل الصانع، كما لو صب في قالبه. والابتكار الذي يحمل في ذاته التفكير ينفتح بحرية"[38]. إنّها قضية الإرادة الإنسانية. هنا يربط برغسون التصوف الحق بما يسميه الوثبة الحيوية، إنّه التيار الروحي الساري في المادة"[39].

إنّ الدافع الحيوي هو عمق أنطولوجيا الوجود العام ومسار الإنسان والمجتمعات. وهو ما سيجعل برغسون يقدّم فهماً للدين في علاقته بفلسفته الحيوية، ضداً على التيارات المشككة في المعتقد. "إنّها الوثبة الحيوية لدى جماعات التصوف وأشخاصها الموهوبين الذين وهبوا أنفسهم، وكانت وثبة الحب التي تحملهم على سمو الإنسانية إلى الله، وعلى إتمام الخلق الإلهي، ولا يمكن أن تؤدي أكلها في رأيهم بغير عون الله الذي كانوا أدوات بين يديه، فصبوا جهودهم على القيام بعمل محمود، ولو كان كبيراً وشاقاً"[40]. هكذا وضع برغسون التصوف المتحرر في صلب الدين الحي. لقد جسّد التصوف روح الحياة والوجود والتجسيد الحيوي للدين بعيداً عن الطقوس الجامدة. من هنا اهتمام إقبال وفلاسفة المشرق ببرغسون وعالمه الوجداني.

وقد كان برغسون يقول: "قررنا (بلا شك) وجود التيار الحيوي الذي ينفذ في المادة، والذي هو بلا شك علة وجودها. إنّ (قوة) القوة المبدعة هي حب، هنا قوة صوفية... الصوفيون ينتصرون على الماديّة، فيدركون الله، وأولئك مع الصوفية. لقد شقوا طريقاً يستطيع آخرون أن يسيروا فيه، وإنّهم بذلك يدلون الفيلسوف من أين تأتي الحياة وإلى أين تذهب"[41]. إنّ الصوفية هي الدين الدينامي الذي يلائم الروح الحيوية في المعرفة والتاريخ والمعتقد، في ارتباط بجوهر الإنسان.

"إنّ الصوفية الكاملة عمل وخلق وحب"[42]. ويرى برغسون في كتبه الطاقة الروحية: وتستمر الحياة من دون عقبات أمام حركة الحياة. التيار الذي يبدع بدون حدود. إنّ الإنسان هذا هو النجاح الأكبر في الحياة. ولكنه خلق مبدع هذا الذي يستطيع بحمله الزاخم بذاته أن يكثف أيضاً عمل الآخرين. (الطاقة الروحية. ترجمة علي مقلد. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. ط 2سنة 1991 ص25)...إنّ تاريخ تطور الحياة وإن كان ما يزال ناقصاً إلا أنّه يبين لنا كيف يكون العقل بتقدمه المستمر على طريق صاعد يمرّ بسلسلة من الحيوانات الفقرية حتى يصل إلى الإنسان. ويبين لنا أيضا أنّ ملكة الفهم تابعة لملكة العمل، وأنّ التكيف بين شعور الكائنات الحية وشروط وجود غير مهيئة لها هو تكيف متزايد الدقة والتعقيد والمرونة. (كتاب التطور المبدع. ترجمة جميل صليبا. مجموعة الروائع الإنسانية. اليونسكو. ط1981 ص1). يرى برغسون (الكون إذن ديمومة، وكلما تعمقنا في طبيعة الزمان أدركنا أنّ معنى الديمومة هو الاختراع وإبداع الصور وإعداد الجديد المطلق إعداداً متصلاً. إنّ الديمومة كامنة في مجموع الكون (كتاب التطور المبدع ص15). هكذا ندرك قيمة ارتباط المفكر محمد إقبال بالفيلسوف الذي عاصره وهو برغسون. وبالتالي تتعمق إشكالية العلاقة بين الفيلسوفين بخصوص فلسفة الدين أو الحكمة المشرقية. إنّ تساؤل إقبال عن الدين من خلال مفهوم مركزي وهو: التجربة الدينية وإمكانية الاستدلال عليها، هو سبق في فلسفة الدين داخل مسار الفكر الفلسفي الإسلامي. ولنتأمل كيف أنّه ربطها بالمطلق، والجوهر، والحيوية والشعور، والروحي. إنّ الدين روح تسكن التاريخ، حسب تغير هيجل الظاهراتي (تطور الروح). يقول الفيلسوف وعالم اللاهوت الألماني (شلايرماخر): لم يستقطب اشتراك فهم الدين في العصور القديمة اهتمام جميع الناس، ولم يدرك صدق التجربة الدينية سوى نزر يسير منهم، "فيما تشاغل الأعم الأغلب منهم بمتاهة ما تبدى من قشوره وتهافتوا عن طيب خاطر في سراج إرث من المعتقدات على اختلاف سياقاتها وتعدد مناحيها التي قد تنطوي على جاذبية لا تنكر".[43]

"لقد نجحتم في جعل الحياة الدنيوية متعالية عابرة للحظة تاريخية غنية جداً ومتنوعة إلى درجة الخلود، فوضت لديكم الحاجة إلى الانخراط في محايثة الخلود، وما أن تمكنتم من خلق الكون الخاص بكم والسياق المعياري العامل لتجليات ثقافة عصركم حتى تكبرتم، ولم يعد يشغلكم التفكير بالقوة الروحية، ومركزيتها الحيوية وبالخالق الذي خلقكم"[44]. لقد أحدث هذا الفيلسوف الألماني ثورة غير مسبوقة في تناول المسألة الدينية في أصولها. من هنا إمكانية تطوير الهيرمينوطيقا بخصوص نظرية إقبال حول روح القرآن.

3-      مسألة الخلود بين الدين والفلسفة (إقبال بين كانط ونيتشه):

لقد تناول محمد إقبال أعمق إشكالية فلسفية ودينية تمسّ فلسفة الدين في الصميم، وهي قضية الخلود. إنّها مسألة شكلت أساس السجال بين الدين والفلسفة. وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالإنسان. "إنّ الفلسفة ببحثها عن معنى العلة من حيث هي مستندة إلى الذات الإلهية وباعتبارها الزمان أساس الصلة بين العلة والمعلول، لم يكن لها مفر من الوصول إلى فكرة عن إله سامٍ فوق التكون سابق في الوجود عليه، ويؤثر فيه من خارج، وبهذا تصورت الذات الإلهية آخر حلقة في سلسلة العلية، ومن ثم فهي الخالق الحقيقي لكلّ ما يحدث في الكون".[45] ينتقد إقبال ابن رشد فيما يخصّ الخلود. في تاريخ الفكر الإسلامي تناول ابن رشد موضوع الخلود من ناحية ميتافيزيقية بحتة، وإني لأجرأ على القول إنّه لم يصل إلى نتيجة ما.

ولعله قد فرّق بين الحس والعقل، لأنّ القرآن استعمل لفظي "النفس" و"الروح"، وهذان اللفظان اللذان يوحيان في الظاهر أنّ هناك صراعاً بين مبدأين في الإنسان متضادين. وهذا قد ضلل الكثيرين من مفكري الإسلام."[46] يبحث إقبال عن وحدة الوجود الإنساني في محاولة لفهم جديد لماهية النفس الإنسانية والعقل والجسد بعيداً عن التحديد الأرسطي الذي أثر على فلاسفة الإسلام. "وإذا كانت أثينية ابن رشد قامت على أساس من القرآن فإني أزعم بأنه قد أخطأ. لأنّ كلمة "نفس" لم تستعمل في القرآن في أي معنى اصطلاحي من المعاني التي تخيلها علماء الكلام في الإسلام. والعقل في رأي ابن رشد ليس له صورة للجسد، بل له نوع من الوجود مختلف يسمو على وجود الفرد"[47]. من إثارة إشكالية الخلود الإنساني في ارتباط بغاية الإنسان من الوجود والاعتقاد يتحول سؤال الخلود إلى قضية ميتافيزيقية في صلب الاعتقاد الديني حسب إقبال، بل هو مرتبط بنمط البرهنة على الذات الإلهية. من هنا نقده ابن رشد القائل وبوضوح بقدم العالم. ثم ينتقد إقبال كانط "والجدل في موضوع خلود الشخص في الأزمنة الحديثة أخلاقي في جملته، ولكن الحجج الأخلاقية التي أوردها كانط وما أدخلته عليها المراجعات الحديثة لمذهبه يتوقف على نوع من الإيمان في تحقق مقتضيات العدالة، أو بما للإنسان من عمل فريد لا يمكن الاستغناء عنه،... بوصفه باحثاً فردياً عن مثل عليا غير متناهية"[48]. إنّ إشكال الخلود لا ينفصل عن فهم علاقة الإنسان بالقيم الأخلاقية والمشروطة حسب إقبال بالمنظومة الدينية، وما يثيره ذلك من أسئلة فلسفية. "فكانط يرى أنّ الخلود أمر يعجز العقل النظري عن البرهنة عليه، وهو من مسلمات العقل العملي، ومبدأ من مبادئ الوعي الخلقي. فالإنسان ينشد الخير الأعلى ويسعى إليه، ذلك الخير الأعلى يشمل كلاً من الفضيلة والسعادة، ولكنّ الفضيلة والسعادة والواجب والميل هي في رأي كانط أفكار غير متجانسة، لا يمكن تحقيق وحدتها في حياة الفرد القصيرة في هذا العالم المحسوس"[49]. إنّ كانط بقي ملازماً لنزعة إنسانية حررت التفكير في الخلود من التصور الميتافيزيقي، وصهرت المنظور المسيحي للخلود، في عمق عقلنة التجربة الأخلاقية الإنسانية الدنيوية. لقد أصبح الخلود عند كانط مشروطاً بإرادة في التقدم، وبالتالي فإدراك كانط لنهائية الإنسان (finitude de l’homme) هو توجيه الإنسان نحو قدراته في الوصول إلى غاية أخلاقية، وهي البحث عن الكمال الأخلاقي وحق الحرية. إنّ نهاية الإنسان هي جوهر البحث عن الخلود داخل الذات والمصادرة هي: الارتقاء من الأسوأ نحو الأفضل أخلاقياً، وأن يكتسب استمرارية متواصلة مهما طالت مدة وجوده، وحتى إلى ما وراء هذه الحياة في اتجاه وجوده المستقبلي، واستناداً إلى إرادته.[50] لقد قدّم كانط عمقاً فلسفياً للجواب عن مسألة الخلود وهي مؤرقة بكثير للعقل الفلسفي والديني على حد سواء، وتنفصل عن غايات الدين ومصير الإنسان وأشكال السعادة، ومن هنا حاول كانط عقلنة ودنيوة قضية الخلود في الفكر الديني عامة، ليعطيها بعداً أخلاقياً إنسانياً لا ينفصل عن الإرادة في التقدم، من هنا من الممكن قراءة مشروع فلسفة الدين عند إقبال وهو يحيل لفلسفة كانط الأخلاقية، إنّ القرآن كله معضلة العلاقة بين الدين والإنسان. لقد أراد الإنسان أن يخلد نفسه بالعمل بالقيمة وهنا منطق الديمومة، وعنصر أساسي من عناصر اكتسابها في لعالم الأرضي. سيحاول كانط أن يقدّم حلاً لمسألة الخلود (خلود النفس) في إطار حله لإحدى مصادرات العقل العملي عجز عن حلها العقل النظري الخالص بتأملاته. إنّ الخلود هو إشكال دنيوي / عملي. يرى كانط: أنّ التوق الضروري إلى الخير الأسمى الآتي عن احترام القانون الأخلاقي قاد إلى مفهوم الخلود، في علاقة بالديمومة ليكمل الإنسان نفسه، باعتباره فاعلاً مستنداً إلى الحرية وإلى وعي الذات، وهو ما يقيمه العقل العملي بواسطة مصادرة ديمومة ضرورية للتوافق مع القانون الأخلاقي في الخير الأسمى على أنها كلّ هدف العقل العلمي،[51] وبالتالي البحث عن الكمال، سعياً وراء الخير الأسمى ومن ورائه صانع حكيم للعالم[52]. فالكمال هو غاية ومحفز على الفعل والكد. يقول كانط جواباً عن خلود النفس، بصفته مصادرة العقل المحض العملي: "إنّ تحقيق الخير الأسمى في العالم هو الموضوع الضروري لإرادة قابلة للتعيين بالقانون الأخلاقي، لكنّ توافق النيات التام مع المبدأ الأخلاقي في هذه [الإرادة] هو الشرط الأعلى للخير الأسمى،... إلا أنّ توافق الإرادة التام مع القانون الأخلاقي هو قداسة كمال، ليس لأي كائن عاقل في العالم الحسي القدرة على أن يكون كفؤاً لها. بيد أنّها لمّا كانت مع ذلك مطلوبة بصفتها ضرورية عملياً، فمن هنا لا يمكن أن تتلاقى. يحضر كانط (Kant) من خلال إشارات أساسية وجوهرية في المشروع الفلسفي ـ الديني لإقبال، سواء للبراهين الفلسفية لوجود الله أو وجود العقل في البرهنة على القضايا الاعتقادية أو مسألة الخلود. وربما هي أساس فلسفة الدين والأخلاق عند كانط في ارتباط بمفاهيم أخرى مثل: الحرية والواجب والسعادة والإرادة الخيرة. ومن الضروري، بحسب مبادئ العقل المحض العملي أن يتم القبول بتقدم عملي كهذا موضوعاً حقيقياً لإرادتنا"[53]. من هنا لا قيمة للإنسان خارج بناء الذات أخلاقياً في ارتباط بالمستقبل الإنساني وشروطه المرتبطة أساساً بالاستعداد للتقدم. وتلك هي الفكرة الكانطية الأساسية. "إلا أنّ هذا التقدم الذي لا نهاية له غير ممكن إلا بافتراض وجود مستمر إلى ما لا نهاية و(وجود) شخصية لنفس الكائن العاقل نفسه (الذي يُسمّى خلود النفس). لذلك لا يكون الخير الأسمى ممكناً (إلا بافتراض خلود النفس، فيما يكون هذا (خلود النفس) باعتباره مرتبطاً ارتباطاً لا ينفصم بالقانون الأخلاقي مصادره خاصة بالعقل العملي.."[54]. إنّ المستقبل الدنيوي هو غاية الإنسان، لكن وفق أسس أخلاقية عقلانية لا تتعارض مع الفهم العميق لجوهر الدين. من هنا دنيوة كانط لمفهوم الخلود، بدل الارتباط بمرجعية دينية وعقائدية، كما حصل في اللاهوت المسيحي والإسلامي. "إنّ قضية التعيين الأخلاقي في أننا لا نستطيع أن نصل إلى توافق تام مع القانون الأخلاقي إلا بتقدم (مستمر) نحو اللانهاية، هي (قضية) ذات منفعة كبرى، ليس فقط حرصاً على استكمال لنقص راهن للعقل التأملي"[55]. إنّها قضية البحث عن الكمال الأخلاقي. هنا يشيد إقبال بفلسفة نيتشه في تناول سؤال الخلود. "على أنّ تاريخ الفكر الحديث يشتمل على رأي إيجابي في الخلود، وذلك في المذهب الذي دعا إليه نيتشه وسمّاه "العود الأبدي"، وهو مذهب خليق بشيء من الحرص، ليس فقط لأنّ صاحبه قد تشبث به حماسة النبي الملهم، ولكن كذلك لأنّه يكشف عن اتجاه حقيقي في العقل الحديث، في ارتباط بفكرة العود الأبدي"[56]، وهو مفهوم لا ينفصل عند نيتشه عن تصوره للوجود والصيرورة والإرادة. يورد إقبال نظرية نيتشه من خلال افتراض أنّ كمية النشاط في الكون ثابتة ومحددة. وأنها نتيجة لذلك متناهية. والمكان ليس إلا صورة ذاتية ولا معنى للقول إنّ العالم في مكان ما أنه قائم في فراغ شاغر مطلق، فالزمان ليس صورة ذاتية (كما يرى كانط)، بل هو حركة حقيقية لا نهائية لا يمكن تصورها إلا في شكل دوران. وهذا النشاط الدائم للحركة ليس بدءاً ولا نهاية، فنظام الحوادث ثابت غير قابل للتغير. ولفظ العود يتضمن التحديث الثابت وما يحدث يعود دائماً، وإلا فلا ضمان حتى لعودة الإنسان الأعلى السوبرمان"[57]. لقد أصبح نيتشه نبراساً لفلسفة إقبال الوجودية. لكن ينتقد مضمون نظريته حول العود الأبدي قائلاً: إنّ مذهب نيتشه في العود الأبدي هو نوع من الآلية أكثر جموداً لا يقوم على حقيقة وإنما على فروض العلم لا غير. هذا إلى أنّ نيتشه لم يتناول البحث في الزمان بحثاً جدياً. فهو ينظر إليه على أنّه مجرد سلسلة غير متناهية من أحداث تعود مرّة بعد أخرى. واعتبار الزمان حركة دائرة مستمرة "يجعل الخلود أمراً لا يحتمل مطلقاً. وقد أحسّ نيتشه نفسه بهذا فوصف مذهبه ليس على أنه رأي في الخلود، ولكن على أنه عنده هو عود إلى مراكز ذلك النشاط. هذا العود الأبدي عامل ضروري لميلاد ذلك التركيب المثالي الذي يسمّيه الإنسان الأعلى (السوبرمان)"[58]. إنّ نيتشه حسب إقبال يعطي إمكانية قويّة للإنسان الحر في الصيرورة المرتبطة بالبعد الذاتي للإنسان. لا يوجد في رأي نيتشه مما يعد أن يكون نوعاً أكبر من الذي تنطوي عليه كلمة قسمة، وهو مذهب يذهب إلى القضاء على ميلاد الإنسان إلى العمل، ويؤدي إلى تراخي ما في الروح من تحفز"[59]. لكن في تأويل صوفي لجوهر أطروحة نيتشه (نيتشه المتصوف) الحاضر في فكر إقبال يقول: ولننتقل الآن إلى القرآن: رأي القرآن في مصير الإنسان بعضه أخلاقي وبعضه بيولوجي (بيولوجي مرتبط بطبيعة الحياة، ثم الحشر، والروح".[60] إنّ الإنسان في نظر القرآن متاح له أن ينتسب إلى معنى الكون وأن يصير خالداً"[61]. لقد كان نيتشه يرى في الإنسان أنّه لن يفوته شيء أبداً، فحماسته لمستقبل الإنسان عند مذهبه القائل "بالعود الأبدي"، وربما كان هذا المذهب لسوء رأي في موضوع الخلود. إذ "العود الأبدي" ليس صيرورة أبدية وإنما هو فكرة "قدم الوجود نفسها مقنعة وراء حجاب الصيرورة".[62] وهكذا فالإنسان العصري، وقد أعشاه نشاطه العقلي، بحث عن توجيه روحه إلى الحياة الروحانية الكاملة"[63]. وبنقد جارف للغرب، في سياق تصوره لنيتشه والفكر الغربي المادي والعقلاني يقول إقبال: "وهكذا فالإنسان العصري، وقد أعشاه نشاطه العقلي، كفّ عن توجيه روحه إلى الحياة الروحانية الكاملة"[64]. "هكذا هي حياة الغرب أمام حياة الشرق في الصوفية. فقد أصبح في حكمه الفاشل ولم يعلم الإنسان المشاركة في موكب التاريخ، بدل الزهد الزائف، وجعله يقنع بجهله قناعة تامة"[65] (نقد المادية الغرب وللصوفية المنغلقة). ويقول: لقد باء نيتشه بالفشل من خلال تأثره بداروين ويونغ وشوبنهاور في أعماله عن فهم المعنى الحقيقي لرؤياه، بعيداً عن قاعدة روحية تكتمل من الناحية الإلهية التي في النفس. إنّ حياته الروحية كان يعوزها هداية خارجية خيّرة"[66]. لقد أصبح المعتقد هو معيار قراءة إقبال لنيتشه وفلسفته. ما كان ينقص نيتشه حسب إقبال هو الدين. "والواقع أنّ الدين أشد حرصاً من العالم على الوصول إلى ما هو في النهاية حق"[67]. سيحاول إقبال إعادة الاعتبار للإنسان في بعده الروحي والشرقي، في إطار حواره مع الفكر الفلسفي والعلمي عامة. وقد يبدو من المفارقات لدى البعض الربط بين إقبال ونيتشه. لكن كانت مقاربة إقبال لنيتشه جريئة وعميقة في فهم نوعي غير مسبوق لنيتشه في عالم الإسلام.

لقد قدّم نيتشه مرافعة عن نيتشه الفيلسوف والشاعر من خلال العود الأبدي والإيمان والقيم وضرورة بنائها والعلاقة الحرة مع الله، أي بحث نيتشه عن الحرية داخل الذات واعتماد القلب بدل العقل والجدل والاستدلال. فالأساس حسب إقبال هو البحث الحر عن الله من خلال الذات. إنّ وجود الإنسان الحر اسمي، والخالق هو حاجة للمخلوق. إنه نيتشه المؤمن بالإنسان والإله الحقيقي. والخلق هو ضرورة الألوهية. من هنا اعتبار إقبال نيتشه تحولاً في الفكر الغربي ضد الجدل الصارم. إنّ نيتشه هو أقرب إلى التصوف (أقرب إلى جلال الدين الرومي). هكذا ينوّه إقبال بإعلان نيتشه الإثبات بدل السلب. إنّ الإسلام يدعم الإثبات بدل السلب. ففكر نيتشه مطابق لروح الإسلام. وقوة نيتشه كذلك تمثلت في قلب القيم لصالح الإنسان الأعلى، وهو الإنسان الكامل بلغة الصوفية الإنسان صانع نفسه. إنسان الله حسب الإسلام. ويقف إقبال ضد القدرية المطلقة لصالح ما يسميه التقدير الإلهي. إنها قراءة صوفية لنيتشه تجعل منه مهدوياً (رسالة هكذا تكلم زرادشت) باحثاً عن القوة والحرية والمحبة والنبل ضد التقليد. (يمكن الاستفادة من مقال: Jeam Rémy ;Nietzsche et l’islam selon Iqbal). من هنا يعمق إقبال تصوره لنيتشه الصوفي صاحب النزعة الإنسانية الباحث عن الإنسان الكامل (مشروع الصوفية)، إنّه صاحب رسالة دين إنساني متحرر.

لقد ألهم نيتشه إقبال، على الرغم من الاختلاف بينهما. وبالتالي حاول إقبال إعادة قراءة مفهوم العود الأبدي عند نيتشه، باعتبارها عمق نظرية نيتشه في الإنسان والوجود. يقول إقبال: لقد كان تصور نيتشه للإنسان بأنه لن يفوته شيء أبداً، فحماسته لمستقبل الإنسان تنتهي عند مذهبه القائل بالعود الأبدي، "وربما كان هذا المذهب أسوء رأي في موضوع الخلود، أو العود الأبدي"، ليس ضرورة أبدية إنما هو "فكرة قدم الوجود مقنعة وراء حجاب الصيرورة".[68] إنّ العود الأبدي يعني الصيرورة واللاتكرار وإرادة القوة والتغير، وبالتالي التسامي عن الذات (إرادة القوة) المتعاطفة مع الحياة (ديونيسوس)".[69] فالعود الأبدي ينتشل الإنسان من العجز والعذاب واللعنة".[70] ضد الفكر اللاهوتي، أي العود الأبدي هو مطرقة في يد الإنسان الأعلى".[71] إنّ العود الأبدي عند نيتشه هو رفض قبول إرادة خالصة أقلية ومسؤولة عن الصيرورة. وهو كشف بطلان مفهوم القوة اللامتناهية (غارنييه)71. وبحس صوفي سيؤول إقبال نيتشه جاعلاً منه فيلسوفاً متصوفاً مؤمناً بالخير والذات والإنسانية والإرادة الخيرة. لقد انتقد نيتشه استبداد التصورات المفارقة والمغالطة مثل الخطأ والخطيئة وعدم العصمة والهلاك الأبدي وعذاب النار. كان الهدف من ذلك هو جعل المرضى مسالمين قدر الإمكان ودفع المصابين بالأمراض المزمنة إلى إبادة أنفسهم (جنيالوجيا الأخلاق ترجمة محمد الناجي دار إفريقيا الشرق ط 2006 ص 114)

4-      محمد إقبال بين التصوّف والعلم:

يحاول إقبال إثارة التجربة الصوفية بقوة، ناقداً إياها ومستلهمها روحانياً في الوقت نفسه. فهو يبررها دينياً ومن خلال آيات قرآنية. والشعور الصوفي ككل شعور فيه عنصر من الفكر. والتجربة الصوفية لا تختلف عن المعرفة الصوفية"،[72] وبالتالي إثارة إقبال أهمية الشعور في التجربة الدينية، وهو وعي ذاتي وموضوعي، فمجال التجربة الصوفية إذن من حيث هو سبيل إلى المعرفة مجال حقيقي لا يقل عن ذلك أي مجال أخر من مجال التجربة الإنسانية، ولا يمكن تجاهله لمجرد كونه لا يرجع في شأنه إلى الإدراك الحسي"[73]. إنّ المنظور الصوفي يشكل أساس فلسفة الدين عند إقبال، حتى فيما يخص تأويله لنيتشه ولبرغسون، وقوتهما تكمن في عمقهما الصوفي حسب فلسفة إقبال.

"فالعقائد والآراء الدينية لها من غير شك دلالة ميتافيزيقية، ولكن من الواضح كذلك أنها ليست تفسيرات لأسس التجربة التي هي موضوع العلوم التي تشتغل بالطبيعة. فالدين ليس علم الطبيعة أو علم الكيمياء التي تفسر ميداناً من ميادين التجارب الإنسانية، هو ميدان الرياضة الدينية التي تختلف عن ميادين العلوم السابقة كل الاختلاف، والذي لا يمكن رد أسسه إلى أساس أي علم أخر".[74] من هنا يحاول إقبال التمييز بين العلم والدين من دون العدول عن أهمية استيعاب العلم في ما يخص تناول الدين والقرآن. والدين والفلسفة والعلم تختلف في فهم التجربة الدينية حسب المقاصد.

إنّ الرياضة الدينية هي في جوها حالة من حالات الشعور، ولها ناحية فكرية لا يمكن كشفها وكشف محتوياتها للغير في صورة حكم. والبرهان العملي يستعمله النبي النتائج والثمرات، والبرهان العقلي المجرد يستعمله الفيلسوف"[75]. ويحاول إقبال الربط بين الدين والطبيعة وعلم التجريب مشدداً على الرؤية التجريبية القرآنية. "ولا شك في أنّ أول ما يستهدفه القرآن من هذه الملاحظة التأملية للطبيعة هو أنها تبعث في نفس الإنسان الشعور بمن تعد هذه الطبيعة آية عليه. ولكن ما ينبغي الالتفات إليه هو الاتجاه التجريبي العام للقرآن، مما جعل من أتباعه يقومون بتقدير الواقع وجعل منهم آخر الأمر واقعياً أساس العلم الحديث".[76] (يشيد بالفلاسفة والعلماء المسلمين بأنهم وضعوا أسس العلم الحديث). ويعيد إقبال الاعتبار للفكر التجريبي الإسلامي، فيما يخصّ علاقته بالعلم. وهي مسألة أساسية وجوهرية. ولا ننسى السجال الفكري الخاص بإشكالية المنهج التجريبي في الإسلام وعلاقته بالفكر النظري. "وإنّه لأمر عظيم حقاً أن يوقظ القرآن تلك الروح التجريبية في عصر كان يرفض عالم المرئيات بوصفه قليل الغناء في بحث الإنسان وراء الخالق"[77]. لقد حاول إقبال أن يدافع عن الروح التجريبية في الدين الإسلامي وبعض تياراته الكلامية مقابل الفكر النظري العقلاني أو المحض. "وليس من شك في أنّ البحث في الرياضة الدينية بوصفها مصدراً للعلم الإلهي أسبق في التاريخ من تناول غيرها من ضروب التجربة الإنسانية للغاية نفسها. وبما أنّ القرآن لم يسلم بأنّ الاتجاه التجريبي مرحلة لا غنى عنها في حياة التجربة الإنسانية باعتبارها مؤدية إلى العلم بالحقيقة النهائية التي تكشف عن الآيات الحالة عليها في نفس الإنسان وفي خارج النفس على حد سواء".[78] ولكن سيحاول إقبال التوفيق بين المنهج العقلي والمنهج الشعوري، أو روح التصوف عامة من أجل الغوص في القضايا الدينية الكبرى التي تتطلب منهجاً عميقاً لفهمها وسبرها. إنّ إشكال الألوهية (كوجود وذات) يشكل قضية محورية في فلسفة الدين لدى محمد إقبال. يقول إقبال: "إنّ الحكم القائم على التجربة الدينية يطمئن إلى المقاييس العقلية كل الاطمئنان. وإنّ ميادين التجربة ذات الشأن الأكبر تكشف عن إرادة مبدعة ذات نظام معقول هي الأساس في كل تجربة. وقد وجدنا ما يبرر تسمية هذه الذات ذاتاً، فإنه يطلق عليها اسم علم هو "الله" وأساسه الفردية. كما يقول برغسون في كتابه "التطور المبدع". إنها الذات الإلهية المتفردة"[79]. فالتجربة الدينية هي أساس باطني لإدراك الذات الإلهية وفهمها. ولا ينفصل ذلك عن الإبداع الذاتي- الحر. وبالتالي الفهم العميق للذات الإلهية، في ارتباط بالخلق والإبداع والقدرة في ارتباط بالكون.

"ولا نهائية الذات الأولى تتألف بما فيها من إمكانات غير متناهية في القدرة والخلق والكون ليس إلا تعبيراً جزئياً عن هذه القدرة".[80] (إشكالية الخلق في الفلسفة الدينية عامة)، وبالتالي قدرة الذات الإلهية الخالقة الحرة. من هنا يناقش إقبال فلسفة الأشاعرة في تصور خلق الله للكون"[81]. فالخلود لا نناله بصفته حقاً لنا، وإنما نبلغه بما نبذله من جهد شخصي، وأكبر ما وقعت فيه المادية من خطأ هو القول إنّ الشعور المتناهي يستنفد موضوعه. "إنّ الحرية هي محور الوجود الفردي في علاقة بذاته وبالله ضد كل قدرية مطلقة تلغي الإنسان. وهذا ما سيجعل إقبال مرتبطاً ببرغسون ونيتشه والمتصوفة معاً. إنها الحرية المرتبطة أساساً بالحياة والقدرة والعمل. فالحياة تهيئ مجال العمل للنفس، والموت هو أول ابتلاء لنشاطها المركّب"[82].

والحياة واحدة ومبجلة، والإنسان يسير قدماً في تلقيه على الدوام نوعاً جيداً من الحق غير المتناهي، وكل فعل لنفس حرة يخلق موقعاً جديداً، وبذلك تتيح فرصاً جديدة تتجلى فيها قدرته على الإيجاد"[83]. ولكنّ الحياة تخضع للتطور والصيرورة.

5-      فلسفة الدين وسؤال التاريخ:

إنها قضية محورية في كل تناول فلسفي ممكن للفكر الديني عامة. وبقدر ما يطرح الدين أسئلة تاريخية، بقدر ما يحتاج لفلسفة تاريخية محددة تسائل الزمان. من هنا محولة إقبال تناول المنظور التاريخي للقرآن. وهي مسألة جوهرية لأنها تمسّ القدرة على تشكيل فهم تاريخي للدين. من الأهمية فهم كيف تناول إقبال المسألة في علاقتها بالتطور والتقدم وهو الملهم بالقرآن من جهة وحيوية برغسون صيرورة نيتشه من جهة أخرى. فسؤال التاريخ هو المدخل لفهم الدين بشكل متجدد. وبالتالي تطرح إشكالية الزمان باعتبارها من مقومات فكر الحداثة (بداية مع هيغل). إنّ التاريخ برأي القرآن أيام الله، هو ثالث مصدر للمعرفة الإنسانية بناء على ما جاء في القرآن، ويدعو القرآن دراسة الجماعات البشرية دراسة علمية باعتبارها كائنات عضوية. وعلى هذا فمن يزعم أنّ القرآن يخلو من بذور المذهب التاريخي يكون على ضلال مبين"[84]، وهي قضية إشكالية. الإشكال هو كيف يمكن تحويل النص الديني الإسلامي إلى موضوع فعلي لعلم تاريخ عقلاني ونقدي؟ بدل إعادة كتابة النصوص الدينية على حاشية الأحداث وإغفال التفسير السببي أمام الذهول وأمام تطور الأحوال حسب لغة ابن خلدون؟ وهل يمكن إرجاع إبداع ابن خلدون لعلم التاريخ أو علم العمران إلى الدين أم إلى نمط إدراكه العقلاني لمرحلته التاريخية واستيعابه للسببية الأرسطية؟

والحقيقة أنّ ابن خلدون في المقدمة يدين في الجانب الأكبر منها من روحها إلى ما استوحاه من القرآن. بل هو مدين للقرآن إلى حد كبير في أحكامه على الأخلاق والطبائع"[85]. إنّ محاولة إرجاع القرآن إلى الفهم التاريخي هي مسألة لا تنفصل عن السجال حول تجديد الرؤية للدين أو القرآن. هنا

عناية القرآن بالتاريخ أكبر من مجرد إشارات إلى تعليمات تاريخية. فقد وضع لنا قاعدة من أعمق مبادئ النقد التاريخي"[86]. فالمنظومة القرآنية حسب إقبال تستجيب لمعطيات الفكر التاريخي. أي إدراك الزمان إدراكاً دقيقاً وتصوّر الوجود حركة مستمرة في الزمان والحياة حركة تطورية"[87] ويحيل إقبال هنا إلى الفيلسوف الألماني شبنجلر"[88]. وهو فيلسوف حيوي في نظرته للحضارة الإنسانية. إنّ الطريقة الحيوية، عكس الطريقة العقلية (قبول فهم الكون باعتباره نظاماً جامداً من علة ومعلول) هي القبول المطلق لضرورة الحياة ضرورة لا مفرّ منها بوصفها كلّ ما يخلق الزمان المتجدد بإظهاره الماضي لما فيه من خصب وغنى"[89] وجميع خطوط التفكير الإسلامي تتجه إلى تصور الكون متحركاً متغيراً، ولهذا التصوّر دعامة في نظرية ابن مسكويه عن الحياة بوصفها حركة تطورية، وفي رأي بن خلدون حول التاريخ"[90]. إنّها قضية تهمّ حركة التاريخ حسب الدين.

يرى إقبال أنّ الحقيقة القصوى في نظر الإسلام أو القرآن روحية، ووجودها يتحقق في نشاطها الدنيوي، إذ هو دنيوي ظاهر، وديني في جذور وجوده"[91]. ويبقى العامل الروحي أساسي جداً.

إنّ طموح الإنسان هو الاتصال المباشر بالحقيقة القصوى، وهنا يصبح الدين مسألة تمثل شخصي للحياة والقدرة، ويكتسب الفرد شخصية حرّة لا بالتحليل من قيود العقيدة، ولكن بالكشف عن أصلها البعيد في أعماق شعوره هو"[92]. ويبقى الدين مدخلاً جوهرياً لتناول الإنسان أو التاريخ أو الحقيقة.

"أمّا الدين، وهو في جوهره حال من أحوال الواقعة، فهو الطريقة الجدية الوحيدة للبحث عن الحقيقة، والدين بوصفه نوعاً من رياضة عالية رفيعة يصحّح أفكارنا في فلسفته الإلهيات"[93]. إنّ الدين هو عمق يمثل مركز الحياة، وهو ما يفرض ـ حسب إقبال- تناول المعرفة في الإسلام من منظور مغاير يستجيب للبعد الروحي في الإنسان والتاريخ والحياة.

"في الدين (مقابل العلم) صيرورة الذات هي بدؤها إلى نهايتها. من حيث هي مركز شخصي لتمثل الحياة "[94]. إنّ الدين هو تجربة. بل في جوهره تجربة وسعي صادق لتوضيح الشعور الإنساني. هنا يحيل إقبال لكانط بخصوص صعوبة البرهنة على الدين بالعقل".[95]

حاول إقبال الإحالة لشبنجلر، وهو من كتّاب الفلاسفة الألمان، فيما يخصّ نظرة جديدة للحضارات والتاريخ البشري، ثم الثقافة. وأكبر من هذا اهتمامه الواسع والمنصف بالثقافات والمنظومات الاعتقادية غير الأوروبية. سيرى شبنجلر حيوية في التاريخ البشري وكما يقول ـ جعيط ـ يرفض هذا الفيلسوف كلّ رؤية لفكر مستقبلي ثابت لا يتحرك. بربط مختلف بنى الحضارة بعضها ببعض ضمن مشروع مشترك. وللإسلام ظاهرة مركزية لتاريخ شرقي. منظور إليه من زاوية مختلفة. ويبتعد عن مركزية الذات الأوروبية. إنّ حدس شبنجلر، وكما لاحظ ذلك إقبال، يمكن الانقطاع وعدم الاتصال بين مختلف الثقافات."[96] وهو ينفي كل تقدم دراماتيكي للتاريخ، وينفي كلّ تبادل تضامن وتبادل بين الحضارات، وإلى فقدان كل إحساس عالمي، وكل إحساس في التعبير، وبالتالي عن الأصالة قاده إلى التشبث بالماضي".[97] إنّ ما يهمّ هو علاقة كل هذا المنظور الإسلامي بالتاريخ. إنّ الدين الإسلامي في حاجة لفلسفة حول التاريخ تعيد النظر في مسار الحضارات وتعقب الأزمنة وتناول إشكالية التقدم والتأخر في علاقته بالدين، بعيداً عن شعار تأصيل التاريخ في الإسلام أو ما يصطلح عليه بأسلمة التاريخ. إنّ إشكالية الإسلام إلى حد الآن هي قضية تاريخية. ولعل إثارة إقبال سؤال التاريخ هو غاية في الأهمية.

على سبيل الختم:

لقد حاول إقبال بناء منظور فلسفي للدين، حضر فيه بقوة السجال حول وجود الله وصفاته، من خلال التأمل من جديد في هذا الإشكال الذي شكّل أساس الفلسفة الغربية منذ العصر الوسيط.

إنّ البرهان على وجود الله هو من صميم التلاقح بين الفلسفة والدين. وربما كما توضح من كتاب إقبال أنّ ديكارت كان حاضراً بقوة في مقاربة التجربة الدينية إلى جانب فلاسفة آخرين. لقد تكلم ديكارت عن الكمال. لدينا فكرة عن كائن عامل في كل الصفات ومختلف تماماً عن أي شيء آخر فهو جوهر محدّد، قائم بذاته، كلّي المعرفة والقدرة، وربما أنّ الوجود من مقومات الكمال، فلا بدّ للكائن الكامل من أن يكون موجوداً في الواقع (...)، لأنّ الإنسان المحدد لا يستطيع أن يولد فكرة اللامحدود ما لم يكن اللامحدود نفسه وضع هذه الفكرة فيه".[98] لكنّ كانط رأى أنّ الوجود من مقوّمات الفكرة عن الكائن الكامل. إنّ تعثر الفلسفة الإسلامية، وكذلك علم الكلام الإسلامي، ساهم في تأجيل تطوير التصور العقلاني والإنساني لمفهوم الله كما بدأه المعتزلة وحتى الأشاعرة. إنّ الحوار بين الفلسفة والدين في هذا المجال يُعدّ أساسياً مثلما حصل في الفلسفة الغربية. لقد كان هيجل يقول: "إذن يشترك الدين والفلسفة في موضوع ما هو بذاته ولذاته، والله من حيث هو وجود لذاته وبذاته، والإنسان في علاقته به"[99]. لقد تحاور إقبال مع أغلب الفلاسفة وبروح منفتحة وعميقة، لكن كيف نفسّر الموقف السلبي العقائدي لمحمد إقبال من ابن رشد، مقارنة بالأشاعرة؟ في لحظة نجد مثقفاً ومفكراً نهضوياً كبيراً عاصر إقبال، وهو فرح أنطوان (187-1922) قدّم دراسة عميقة ومتنورة وغير مسبوقة حول ابن رشد. وأثار من خلالها سجالات في عصره، والآن مع السلفية والاستشراق. فبعد الإشادة بابن رشد وبمذهبه الفلسفي تمييزاً عن مذهب الكلاميين، يقول المفكر فرح أنطوان، بخصوص موقف ابن رشد من حريّة الإنسان: أمّا حرية الإنسان فهو يذهب فيها مذهباً معتدلاً. فإنّه يقول إنّ الإنسان غير مطلق الحرية تماماً ولا مقيدها تماماً. وذلك إذا نظر إليها من جهة نفسه وباطنه فهو حر مطلق، لأنّ نفسه مطلقة الحريّة في جسمه، ولكن إذا نظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية كان مقيداً بها، لما لها من التأثير على أعماله. (كتاب فلسفة ابن رشد)99. أمّا فلسفة المتكلمين فهي مؤسسة على قاعدتين، وهما: الأولى تنزيه الخالق من كل قيد، والثانية حفظ الدين من حدوث خرق فيه بواسطة التأويل وتطبيقه على العلم. (فرح أنطوان فلسفة ابن رشد).100 وتبقى إشكالية التأويل قضية أساسية في فكر ابن رشد تناولها أنطوان وأهملها إقبال، في لحظة تمثل مسألة التأويل قضية راهنية فيما يخصّ مقاربة الدين وبناء ممكن لفلسفة التأويل في الإسلام...يرى أنطوان وبجرأة نادرة أهمية تسامح ابن رشد مع الأديان، عندما يقول إنّ الحكيم لا يتعرض للشرائع، مثبتاً أو مبطلاً في مبادئها العامة. ولا يجوز التأويل المغرض. وإنّ الشرائع كلها نبهت لما يجب تنبيه الخاصة والعامة إليه لأنها كلها حق10(فرح أنطوان ص31). وهي قضية تنويرية في الصميم. ويضيف أنطوان عن ابن رشد: من يطعن في دين لصالح آخر كمن يطعن جميع المبادئ الدينية العامة المشتركة بين جميع الملل ص 32). ولا ننسى أنّ أنطوان سيقدّم مقاربة ماديّة لابن رشد بخصوص قدم المادة، أي أزليتها، وكذلك مسألة القول ووحدتها.(كتاب فرح أنطوان). من هنا أهمية المقارنة بين أنطوان وإقبال، دون نسيان نقد محمد عبده (وهو محاور أنطوان) لابن رشد، بشكل سلفي.

إنّ تجربة فلسفة الدين، عند إقبال، كانت مساراً نوعياً، حرّر الدين من سلطة التقليد، ومن المنظور الفقهي المتزمت، رغم محاولات الفيلسوف إعطاء أهمية كبرى للتصوّف والأشاعرة على حساب المعتزلة وابن رشد، ثم محاولة السقوط في بعض المقارنات الإسقاطية والاختزالية بين الغزالي وديكارت وكانط، دون نسيان تعامله المبسّط مع فلسفة ابن رشد.

من الواضح أنّ استعمال إقبال لمفهوم التجربة الدينية له دلالة قوية في فلسفة الدين الحديثة والمعاصرة. وكما أنّه حاول ما أمكن أن يبتعد عن السجالات السياسية والإيديولوجية بخصوص الدين، رغم وقوفه عند قضيتين أساسيتين هما: الدولة الثيوقراطية، ونقده لعلمانية كمال أتاتورك.

ومن الواضح أنّ محاولة إقبال جديدة، وجديرة بأن تكون أولى المساهمات في فلسفة الدين، وبقيت يتيمة لحد الآن، ولم تجد أثراً لها في التيارات الدينية التي تواكبت على المسرح الاجتماعي والسياسي العربي والإسلامي حتى الآن. إنّ باب التفلسف في الدين هو أساس كلّ إصلاح ديني ممكن أن يعيد للفكر قوته في تجديد الدين. ويبقى مشروع إقبال الفلسفي مطبوعاً بالتعدد والتنوع في المصادر والمرجعيات والمناهج، ومن الصعب اختزاله في مذهب واحد أو رؤية واحدة. وبقدر ما كان إقبال يتساءل حول جوهر الإسلام أو القرآن، كان يحاول التسلح بقدر كبير من التاريخية. ولكن مع ذلك بقيت التاريخية عنصراً لا بُدّ من بنائه ومواصلته من خلال فهم إقبال للتاريخ ولجوهر الدين فيه. وفي الغالب كنا نحسّ تغليب سلطة الروحي على المادي في حركة التاريخ المادي الاجتماعي، دون نسيان لغة إقبال العميقة والمتميزة التي يتداخل فيها البعد الفلسفي والشاعري والصوفي، وهو المشيد بشعرية وجوانية نيتشه في نقده لتاريخ الفلسفة.

من هنا يبقى التساؤل قائماً حول النزعة التوفيقية التي طبعت فكر إقبال، مع العلم بمصير هذه النزعة بعده في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر. وغالباً ما أسّست هذه التوفيقية لارتدادات في الفكر والممارسة، وسقطت في ردّ الفعل تجاه الآخر وتضخيم الذات. وهي النزعة ذاتها التي تنكرت لإقبال إلى حدود اعتباره مفكراً أعطى للغرب وفلسفته قيمة كبرى في تصوراته ومشروعه. فهل كان في مقدور إقبال أن يحدّ من سلطة المقاربة الصوفية والأشعرية في مشروعه، لأجل عقلانية أكثر تاريخية ومستفيدة من العلم الحديث، في كتابه تجديد الفكر الديني في الإسلام"؟ هل كان بمقدوره أن يطوّر رؤية جديدة للتاريخ يحاول من خلالها تقديم فلسفة تاريخية فيما يخصّ الوضع الحضاري الذي عاشه، ويستشرف من خلال ذلك القضايا التي تهمّ وضعية الدين ومفهوم الزمان والإبداع الحضاري، بدل التمركز حول الدين واعتباره هو الجوهر والمحرّك للتاريخ.؟ مع العلم أنّ التاريخ المعني هو التاريخ الواقعي المطبوع بإشكالات كبرى، مثل: التقدّم والتخلف وصدام الحضارات. كما أنّ الفهم المبسّط الذي قدّمه عن التيارات الماديّة والماركسيّة لا يستقيم في الغالب موضوعياً، لأنّه محدّد سلفاً من خلال فهمه لمنطق الدين، وحكمه عليها من خلال موقفها من الدين؟ دون نسيان انفتاحه الواسع على تيارات فلسفية هامّة، بقيت مهمّشة في فكرنا الفلسفي المعاصر، مثل التيارات الحيوية (أساساً هنري برغسون).

مسرد المراجع والإحالات:

ـ محمد إقبال: تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، مراجعة المرحوم عبد العزيز المراغي ومهدي علام، دار الهداية للطباعة والنشر، مصر، ط2، سنة 2000

ـ هنري برغسون: منبعا الأخلاق والدين، ترجمة عبد الله عبد الدائم وسامي الدروبي، مكتبة الأسرة.

ـ هنري برغسون: التطور المبدع، ترجمة جميل صليبا، مجموعة الروائع، سنة 1981

ـ هنري برغسون: الطاقة الروحية، ترجمة علي مقلد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، سنة 1991

ـ إيمانويل كانط: نقد العقل العملي: ترجمة غانم هنا، مركز دراسات الوحدة العربية، المنجمة العربية للترجمة، ط1، سنة 2008

ـ أديب صعب: المقدمة في فلسفة الدين، دار النهار، بيروت، 1995

ـ فريدريك هيغل: محاضرات في تاريخ الفلسفة، ترجمة خليل احمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 2002

ـ هشام جعيط: أوروبا والإسلام (صدام الثقافة والحداثة)، دار الطليعة، بيروت، 2007

ـ فريدريك نيتشه: جنيالوجيا الأخلاق، ترجمة محمد الناجي، دار إفريقيا الشرق، ط 2006

ـ جان غرانييه: نيتشه، ترجمة علي ابو ملحم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ومؤسسة كلمة، أبو ظبي، 2008

ـ فرح أنطوان: فلسفة بن رشد: كلمات عربية للنشر والترجمة، القاهرة، بدون تاريخ.


[1]- قراءة كتاب "تجديد الفكر الديني في الإسلام" لمحمد إقبال. ترجمة محمود عباس. مراجعة عبد العزيز المراغي، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط2، سنة 2000

[2]- محمد إقبال: تجديد الفكر الديني في الإسلام. ترجمة محمود عباس. مراجعة عبد العزيز المراغي دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع. القاهرة، ط2، سنة 2000، ص 7

[3]- محمد إقبال: تجديد الفكر الديني في الإسلام، ص ص 7-8

[4]ـ محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 9

[5]ـ محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 11

[6]ـ محمد إقبال، المرجع نفسه ص 4

[7]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص ص 4ـ5

[8]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 7

[9]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 11

[10]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص ص 11ـ12

[11]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 12

[12]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 12

[13]- محمد إقبال، المرجع، ص ص 13-14

[14]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص ص 14-15

[15]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 17

16- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 21

[17]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 21

[18]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 22

[19]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 39

[20]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص ص 39-40

[21]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 40

[22]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص ص 41-42

23- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 42

[24]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 43

[25]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 43

[26]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 49

[27]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 59

[28]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 60

[29]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص ص 65-66

[30]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص ص 66-67

[31]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 69

[32]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 71

[33]- محمد إقبال، المرجع نفسه، 71

[34]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 67

[35]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 67

[36]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 68

[37]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 68

[38]- هنري برغسون: منبعا الأخلاق والدين، ترجمة سامي الدروبي وعبد الله عبد الدائم، الهيئة المصرية للكتاب، مكتبة الأسرة، دون تاريخ نشر، ص 181

[39]- برغسون، المرجع نفسه، ص 184

[40]- برغسون، المرجع نفسه، ص ص 201-202

[41]- هنري برغسون: منبعا الأخلاق والدين، ترجمة سامي البارودي وعبد الله عبد الدائم. الهيئة المصرية للكتاب، مكتبة الأسرة، ص ص 217-218

[42]- هنري برغسون، المرجع نفسه، ص 193

[43]- شلايرماخر: دفاعاً عن التجربة الدينية، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، عدد53/54، سنة 2013. مركز دراسات فلسفة الدين (بغداد) ص 222

[44]- شلايرماخر، المرجع نفسه، ص ص 222 -223

[45]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 131

[46]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 133

[47]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 133

[48]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 133

[49]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 134

[50]- كانط، نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت/ لبنان، ط1، سنة 2008، ص 217

[51]- إيمانويل كانط، نقد العقل العلمي، المرجع نفسه، ص 229

[52]- ايمانويل كانط، المرجع نفسه، ص 226

[53]- إيمانويل كانط، نقد العقل العملي، ص 215

[54]- إيمانويل كانط، المرجع نفسه، ص 215

[55]- ايمانويل كانط، المرجع نفسه، ص ص 215-216

[56]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 135

[57]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 136

[58]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 137

[59]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 137

[60]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص ص 139-138

[61]- محمد إقبال، نفسه، ص 141

[62]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 220

63ـ محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 220

[64]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 220

[65]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 221

[66]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص ص 229-228

[67]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 229

[68]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 220

[69]- جان غرانييه، نيتشه، أبو ملحم على كلمة /مجد: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، أبو ظبي – بيروت، 2008، ص 126

[70]- جان غرانييه، نيتشه، المرجع نفسه، ص 127

[71]- جان غرانييه، المرجع نفسه، ص 128

[72]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص ص 31-30

[73]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 33

[74]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 36

[75]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 37

[76]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 23

[77]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 23

[78]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 24

[79]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 78

[80]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 81

[81]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص ص 86-87

[82]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 141

[83]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 141

[84]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 146

[85]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 165

[86]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 166

[87]- محمد إقبال، المرجع، ص 167

[88]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 169

[89]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 130

[90]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 164

[91]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 183

[92]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 214

[93]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 217

[94]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 218

[95]- محمد إقبال، المرجع نفسه، ص 215

[96]ـ هشام جعيط، أوروبا والإسلام (صدام الثقافة والحداثة)، دار الطليعة، بيروت، 2007، ص 62

97- ص ص 63-64

[98]- أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، دار النهار بيروت، 1995، ص 121

[99]- فريدريك هيجل، محاضرات في تاريخ الفلسفة، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 2002، ص 147

99- فرح أنطوان: فلسفة ابن رشد، كلمات عربية للترجمة والنشر، بدون تاريخ، القاهرة، ص 12

100- فرح أنطوان، المرجع نفسه، ص 14