عقيدة الخلاص لدى الجماعات الجهادية: الواقع والرِهانات المستقبلية


فئة :  مقالات

عقيدة الخلاص لدى الجماعات الجهادية: الواقع والرِهانات المستقبلية

شكّل الربيع العربي نقطة تحوّل جوهرية في بنية الإنسان العربي، على المستويين الذهني والسلوكي، إلى حدّ اعتبار هذا الربيع حدّاً فاصلاً بين ثلاث لحظات فارقة، أمكنني اختصارها على النحو التالي:

1- لحظة ما كان، أو طوبى الماضي.

2- لحظة ما هو كائن، أو التطهّر بالدم.

3- لحظة ما يجب أن يكون، أو الرهانات المستقبلية.

لحظة (ما كان)، أو طوبى الماضي:

في اللحظة الأولى كان الإنسان العربي قد تموقع ذهنيّاً، بما فرض عليه - طوعاً أو كرهاً - أن يُنمّط سلوكياته وفقاً لهذا التموقع الذهني، وبما أنّ الغالب على التكوين العقلي العربي هو تكوين ديني في العموم، لا سيما في بُعده الإسلامي، فقد كان الحضور الأكبر - ذهنيّاً وسلوكيّاً - هو للثقافة الدينية ومساهماتها الفاعلة في انبناءات معمار لحظة (ما كان). ولكي تكتمل الصورة، لا بُدّ من الإشارة إلى محورين هَهُنا: أولهما مُتعالق تعالقاً تواصليّاً مع الثقافة الدينية، وهو تعالق تمثّلته الغالبية العظمى من الشعب العربي، إلى درجة التأكّد فيه ليس على المستوى الإبيستمولوجي فحسب، بل والأنطولوجي، بصفته تجسيداً كبيراً لقيمة الإنسان العربي في هذا العالم، والمانح له ميزته الكبرى فرقاً ومفارقة عن الآخر. وثانيهما مُتمثّل لهذه اللحظة تمثّلاً انفصاليّاً إلى حدّ ما، سواء بالرفض الجزئي الذي يقتضى مُراجعة شاملة لهذه الثقافة، ومنحها مفاهيمية جديدة، تُفضي إلى سياقات معرفية جديدة من شأنها منح الإنسان العربي مكانة أفضل وأمتن في هذا العالم. أو بالرفض الكلي الذي يرى ضرورة إحداث قطيعة معرفية مع الثقافة الدينية، على اعتبار مساهمتها الفاعلة في سَلْب الإنسان العربي حقّه في تقرير مصيره الوجودي([1]). وهذا السياق الرفضي (جزئيّاً كان أم كليّاً) هو سياق الأقلية في العالَم العربي، أو سياق شريحة من (العقل العالِم)، مقابل سياق الأكثرية، أو سياق (العقل الشعبي).

وعليه، استناداً على البُعد الشعبي في الثقافة الدينية، وتوغّل هذه البنى المعرفية في أذهان الأكثرية، وعدم انتشار الثقافة العالِمة إلا في أوساطٍ ثقافية محدودة، وعدم انتقالها إلى الواقع المعيش، فقد تجلّت لحظة (ما كان) تجلّيها الأكبر في الانحياز للثقافة الدينية، كما يتبّناها العقل الشعبي، بصفتها المُعبّر الأكبر عن روح الأمة، وتطلّعاتها الوجودية. وهذا ما برز إلى العيان يوم انفجرت السياقات العربية المختلفة، وبدأت مارثونها الدموي، فقد شرعت الحالة الدينية تأخذ حيزاً توسعيّاً في الاجتماع الإنساني العربي، وبالتقادم بدأت تطفو على السطح جماعات دينية عنيفة، كانت إرهاصاتها قد انبنت في وقت سابق، لا سيما من تلك اللحظة التي انهارت فيها منظومة الخلافة الإسلامية([2]) مُمثلّة بالدولة العثمانية، وانبثاق حركة الإخوان المسلمين بدايةً، ومن ثمّ حزب التحرير، وتنظيرات سيد قطب حول فكرة الحاكمية، وتبنّي هذه الفكرة من قبل بعض الجماعات الجهادية في تسعينيات القرن الماضي، لا سيما تلك التي تبنّت خيار العنف، ومحاولة استرجاع الزمن الإسلامي الطوباوي، وموقعته هُنا والآن.

وقد كان لهذه الإرهاصات أن تنبني كمعمار مُتكامل في الذهن الجمعي، لحظة انبثاق الربيع العربي إلى حيز الوجود، والتداعيات المُتسارعة التي عصفت بكثير من الأنظمة والمفاهيم والأشخاص والدول، وهذا ما سأتحدث عنه آناً.

لحظة (ما هو كائن)، أو التطهّر بالدم:

إذاً، لم تنبن لحظة (ما هو كائن) على جدران ورقية، بل تأسّست على أرض صلبة وقوية. وإذا كان لحادثة إحراق "محمد البوعزيزي" أن تنبثق فجأة إلى السياق العربي، وتفرض نفسها سياقًا صادمًا للوعي الجمعي؛ فإنّ بانوراما الربيع العربي ككل شكلّت نقطة ارتكاز لحمولات ذهنية سابقة، آن لها أن تنفجر تِباعاً في الاجتماع العربي. ففي العموم كان الظهور الأبرز في هذا الربيع للجماعات الدينية، سواء أكانت جماعات سلمية أم عنيفة([3]). بما أكّد النزعة الحلولية بين الإنسان العربي وتكويناته الدينية، إلى درجة النظر إلى كل حادثة من حادثات هذا الكون انطلاقاً من النص الديني.

وهذا ما ستنطلق منه الجماعات الجهادية في رؤيتها للعالَم الذي نعيش فيه، فهو بالضرورة عالَم فانٍ، والإنسان محض خطّاء في هذا العالَم، لذا هو بحاجةٍ إلى تطهّر دائم، لكي يبقى على المحجّة البيضاء.

لا شكّ بوجود أسباب كثيرة دفعت هكذا جماعات إلى الانبثاق إلى حيز الواقع العياني، منها ما هو متعلق بالجهل المعرفي أو بالفقر المادي أو الظلم السياسي أو الجرح النرجسي الذي أصاب المسلمين على أيدي أنظمة ادعّت أنّها علمانية، لا سيما في فترة ما بعد الاستعمار، ومساس هذه الأنظمة بالعاطفة الجيّاشة للمسلمين تجاه دينهم، ومُكوّناتهم الروحية. إلا أنّ أدبيات مثل هذه الجماعات، لا تتضمن في مدوناتها قراءة براغماتية للأسباب التي جعلتها تنبثق إلى الوجود، لكن يمكن، بعد تفكيك البنى المعرفية لأدبياتها، الحديث عن إسهامات معرفية دينية تتبّناها، لكي تحلّ في الخلاص الأخروي، عن طريق خُلاصات قتالية تُشَرْعَن وفقاً لأحكام دينية جاهزة وناجزة سلفاً. وهذا ما سيتجلّى تجلّيه الأكبر والأشرس في حركة (داعش) [الدولة الإسلامية في العراق والشام]، فالمُسمّى - ابتداءً - يُحيل إلى بُعد ديني غائر في أعماق الذهن الجمعي، وها هو يتدفق لحظة التكوين الظاهري. فإسباغ هالة دينية إسلامية على الدولة المنشودة، هو بحدّ ذاته تأسيس واقعي لما هو مُتجذّر في الذهن الجمعي، وإن تمت موضعته عبر جماعة بعينها([4]). ففي الأدبيات الجهادية لهذه الحركة، ومن قبلها كثير من الحركات، لم يكن الردّ على الظلم أو الفقر أو تجاوزات أجهزة المخابرات العربية والأجهزة الأمنية وسياسة البطش والتنكيل التي اتبعتها هذه الأنظمة بحقّ المخالفين لها، هو الغاية المنشودة من تأسيس مثل هذه الجماعات، بما يُنهي عملها على أرض الواقع بمجرد انتهاء هذه السياسات العنيفة، بل دأبت عمليّاً على حشد إمكاناتها للتأشير على اتبّاع نهج تكفيري - يستند في مرجعياته إلى النص الديني، وتبنّي خيار الفرقة الناجية مقابل الفرق الهالكة - بحقّ كل المخالفين. فعن جماعة التوحيد والجهاد، التي أسسها "أبو مصعب الزرقاوي" [الأب الروحي للجماعات الجهادية في العراق] جاء في كتاب (تنظيم الدولة الإسلامية: الأزمة السُّنية والصراع على الجهادية العالمية):

"في البدايات أحاط الزرقاوي نفسه بمجموعة من أشد المخلصين له، فكان لا يثق بأحد بسهولة، أما من النواحي الأيديولوجية والفكرية والفتاوى الفقهية فقد اعتمد على مرجعية شيخه أبي عبد الله المهاجر، الذي كان له الأثر المباشر في بناء عقيدته القتالية ونهجه الفقهي، وخصوصاً ما يتعلّق بمسألة أولوية قتال "العدو القريب" (المتمثل بالمرتدين من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة)، ومسألة تكفير الشيعة عموماً، ومعظم خيارات الزرقاوي الفقهية المتشددة الخاصة بالعمليات الانتحارية ومسألة التترس، وعمليات الاختطاف والاغتيال، وقطع الرؤوس، وتكتيكات العنف والرعب. من المهم، هنا [يضيف مؤلفا الكتاب] تتبع خيط تأثر الزرقاوي بالمهاجر بخاصة كتابه المعروف "فقه الدماء"، لأنها أثّرت على مسار التنظيم نفسه ورؤيته للشيعة والقوى الأخرى".([5])

ولربما حدث توافق كبير حول الأسباب التي أدّت إلى انبثاق الجماعات الجهادية في العالم العربي، لكن لا أحد يستطيع إنكار الدور الديني الذي اعتمدته هكذا جماعات أثناء نشرها لرسالتها، والذي عُمِّدَ في كثير من الأحيان بالدمّ.([6]) فوسط معمعة من الاشتباكات والتشابكات بين الإنسان العربي المسلم من جهة، والعالَم الذي يعيش فيه من جهة ثانية، وحالة الهوان التي تمسّ هذا الإنسان بعد أن كان سيد العالَم بلا منافس، وانبناء تلك السيادة على الدين الإسلامي، تمّ النكوص إلى ذلك الزمن الماضوي العتيد، واستدعاء الأساس التكويني الذي انبنت عليه إحداثيات ذلك الزمان، لغاية شرعنة أحداث الزمن الآني التي تجترحها هذه الجماعات، وإسباغ هالة من القُدسية عليها. الأمر الذي أدّى إلى نقل مثل هذه الأحداث من إطارها الدنيوي إلى إطارها الديني، بما منحها حضوراً هائلاً في الذهن الجمعي، على اعتبار التكوين الديني الأصيل لدى الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية. فلحظة (ما كان) وإرثها الغائر في أعماق الذهنية العربية، ستشقشق لحظة (ما هو كائن)، ثم ستبدأ بالسطوع كلّما تقدّمنا خطوة ناحية الأمام في الربيع العربي، إلى حدّ الانفجار الكبير الذي أحدثته هكذا جماعات في سوريا على نحو مخصوص، إذ صار تأصيل عمليات الذبح والقتل دينيّاً، حدثاً بارزاً في أدبيات هذه الجماعات.

ولربما طُرح سؤال هنا: هل الدين هو المسؤول عن هكذا عمليات ذبح وقتل بالنسبة إلى الجماعات الجهادية، لا سيما مرحلة الربيع العربي؟ أم إنّ الأمر يحتمل مقاربات أخرى، من شأنها التأشير على جملة من الإشكالات التي تحيق بظاهرة العنف في العالم العربي؟.

كما أسلفلت، ثمة أسباب عديدة للخيارات الدموية التي تتبّناها الجماعات الجهادية في العالم العربي، لكن البُعد الديني هو الأبرز حضوراً أثناء تبنّي خيارات الذبح والقتل، خصوصاً إذا ما عرفنا أنّ جميع عمليات القتل - على الأغلب - تتمّ من المسلم ضدّ المسلم. فهو إذ يُريق دم شريكه في المُعتقَد ويستبيح وجوده الجسماني، فإنّه يُؤبّد هذا الدم (قداسة/ دناسة) وفقاً للمرجعيات اللاهوتية([7]) التي يستند عليها الذابح لحظة إراقة دم ذبيحته الإنسانية. فالذابح إذ يضع رأس المذبوح على حَجَرٍ أو يجعله في مرمى بندقيته أو حزامه الناسف و1- يُبَسْمِل عليه قبل أن يحزّ عنقه أو يُفتّت جسده، و2- يُيمّم شمالاً ويتفل ثلاثاً عليه وعلى دمه النجس؛ فإنّه يمنح بسملته قداسةً خالصة، لأنّه يُقارف عملاً بطوليّاً - لحظة الذبح العظيم - يتجاوز حدود العالَم الفاني إلى العالَم الميتافيزيقي، سينال عليه رضى العلي القدير ويدخل بموجبه جنّة عدن، ويمنح تفله واستعاذته من الشيطان - بموازاة قداسة البسملة - دناسةً لأنّ الدم الذي يُريقه دم نجس بالضرورة، استوجب طهارةً وختناً في الحياة الدنيا، وناراً عظيمة في الآخرة. فهو إذ يذبح فإنّه يُؤصِّل هذا الذبح لاهوتيّاً، ويُشرعن سياقاته العنيفة وفقاً لمقتضيات النصّ الديني، كما قرّت في ذهنه، لناحية أنّه المُتجسّد في مقولة (الفرقة الناجية)، وما عداه خطأة - أيّاً كانت تجسيداتهم، سواء أكانوا فرقاء له في السياسة أو الطائفة - لا ضير من قتلهم وإراحة العالَم الطاهر، كما يتجسّد في مخيلته، من هذا الحِمل الدنيوي الزائد!.

وهكذا تأسّست لحظة (ما هو كائن) على دعائم لحظة (ما كان)، بصفتها لحظةً تكوينية في الذهن العربي الجمعي، تجلّت تجلّيها الأكبر - في الآونة الأخيرة - في جماعات جهادية تبنّت خيار العنف والدم، وأَصْلّت له دينيّاً، لكي تُشرعن ما هي عليه، وتمنحه أفقاً يتجاوز المواضعات الزمكانية الفانية، ويندمج في عالَم الحبور الأبدي.

إلا أنّ البقاء على هذا الخيار، سيفتح المجال أمام:

لحظة (ما يجب أن يكون) والتي يمكن مقاربتها من زاويتين:

الأولى: الانغلاق على الذات، والنكوص القهري ناحية زمن ماضوي، تحت تهديد السلاح، تحديداً في حال نجاح الجماعات الجهادية في الوصول إلى سدّة الحكم، وفرضها أطراً دينية صارمة على مقتضيات الحياة المدنية، وإجبار الناس على التقيّد بتلك الأُطر، وتحويل الناس إلى كائنات مُترهبنة لا همَّ لها إلا إرضاء هذه الجماعات، والامتثال لأوامرها.

الثانية: الانفتاح على العالَم من خلال الذات الكونية، التي ستنفصل عن لحظتي (ما كان) و(ما هو كائن)، ليس لغاية التنكّر للإرث العربي المشترك بما في ذلك الإرث الديني، بل تجاوز الأُطر اللاهوتية فيما يتعلّق بوجود الإنسان العربي هنا والآن، والقدرة على فتح هذه الآنية وهذه المكانية على خيار كوني، يُؤسّس لإنسان يتجاوز عقلية الخلاص الدينية، ويتموضع في خُلاصات دنيوية شتّى، من شأنها الإسهام في بلورة سياقاته الحضارية، والأدوار المنوطة به في الإعمار الكوني.

ولربما شكلّت الحلول السياسية، مَخْرَجاً طيباً في هذه الحال، لكن الرهان الأكبر هو على الفئتين اللتين كنت قد أشرتُ إليهما آنفاً:

1- فئة الأكثرية التي تتمثّل الديِّن نوعًا من الخلاص الوجودي، وذلك بالانتقال من طور تمثّل الدين نوعًا من الخلاص الجمعي، وتفهّمه شعورًا فرديًّا، لا علاقة للآخرين به، بما يستلزم فكّ الارتهان لكثير من المؤسسات الدينية، التي تعمل على نشر الدين بصفته حركة جمعية واجتماعية، لا حركة فردية وسيكولوجية بالدرجة الأولى. بما يضع كثيرًا من هذه الحركات - سواء كانت سلمية أم عنيفة - في مأزق كبير ساعة تتحدّث باسم المسلمين جماعةً لاهوتية واحدة، فكلّ واحد يتحدّث باسمه دينيّاً، ولا وصاية لأحدٍ عليه، تحت أيّ ظرفٍ كان. 2- فئة الأقلية، سواء أنظرت إلى الدين:

أ- نظرة تواصلية مع ما يقتضيه هذا التواصل من إعادة قراءة الدين قراءة شاملة في مرحلةٍ أولى، والعمل على إشاعة مثل هذه القراءات - في مرحلةٍ ثانية -، بحيث تحلّ في الثقافة الشعبية، وتفعل فعلها في الذهن الجمعي، ولا تبقى حِكراً على العقل الفردي، بما يُؤهّل لحقبة جديدة في تعامل الإنسان العربي مع النص الديني. أم نظرت إليه

ب- نظرة انقطاعية مع ما يقتضيه هذا الانقطاع من مواضعات جديدة لبدائل معرفية وجمالية وأخلاقية تُشكّل بديلاً - في الأذهان والأعيان الجمعية - عن الدين الماكن في عقول الناس وقلوبهم، فمن الحماقة بمكان إحداث فراغات كبيرة في المُكوّن الروحي لدى الإنسان العربي، والإبقاء على هذه الفراغات دونما امتلاءات، من شأنها ردم الهوّة وبناء معمار معرفي/ جمالي/ أخلاقي، جديد.

إنّ ما نحتاجه اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، هو إعادة النظر - بشكل جوهري وشامل - في كُلّ اليقينيات التي أوصلتنا إليها أنماط التفكير الديني، والتي كان عنف الجماعات الجهادية الحالية جزءًا من تجلياتها المعرفية. وبموجب هذه المراجعات أمكننا الحديث عن لحظة (ما يجب أن يكون) بنوعٍ من الأمل التفاؤل، أما إذا بقينا على ما نحن عليه، تحت شعار الحفاظ على إرثنا الهوياتي، فيقيناً سنبقى في طور الهدر الوجودي، مع ما يحتمله هذا الهدر من سفك للدماء وإراقة لحيوات الناس، التي يمكن أن يستفاد منها - في حال أُعيدَ النظر بلحظتي: ما كان وما هو كائن - في بناء المشروع الحضاري الإنساني العربي.


[1] من الأمثلة التي نادت بضرورة مراجعة النص الديني، وتمثّلاته في الاجتماع العربي، في حين أنّها لم تُحدث قطيعة كاملة معه، بما يفقد الأمة جزءاً هاماً من ميراثها الروحي: المثال الذي تبنّاه علي عبد الرزاق في كتابه الإسلام وأصول الحكم، والرسالة الثانية للإسلام التي دعا إليها محمود محمد طه، والعالمية الإسلامية الثانية لمحمد أبو القاسم حاج حمد، ونقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري، ونقد نقد العقل العربي لجورج طرابيشي، ومن العقيدة إلى الثورة لحسن حنفي، وشروط النهضة لمالك بن نبي، والكتاب والقرآن لمحمد شحرور، وكثير من المحاولات لعدد من المفكرين العرب.

ومن الأمثلة التي دعت إلى إحداث قطيعة - بشكلٍ كبير - مع النص الديني، تعقيبات إسماعيل أدهم على النص الديني بشكل عام، كما اختزلها في كُتيبه: لماذا أنا ملحد. وكتاب (الشخصية المحمدية) لمعروف الرصافي، وكتاب نقد الفكر الديني لصادق جلال العظم، وكتاب من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ لعفيف الأخضر...الخ.

[2] على الرغم من حجم المذابح والفظاعات التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحقّ أبناء الأمة العربية الإسلامية، وحملات التجهيل التي جعلت من المنطقة العربية على مدار أربعة قرون كاملة منطقة شبه معزولة عن أي تطوّرات معرفية تجري في العالم الخارجي، إلا أنّ حنيناً رومنسيّاً بقي من جهة العرب ناحية الأتراك، على اعتبار أنّها دولة الخلافة الإسلامية، التي عبّرت علناً عمّا هو راسخ في أعماق الوعي العربي الإسلامي. وقد رأينا مؤخراً انعكاس هذه الرومانسية تجاه شخصية رجب طيب أردوغان الإسلامية، فعندما رأى العرب بطولات هذا الصقر الإسلامي، أصابتهم نوستولوجيا تجاه الخليفة والخلافة.

[3] لقد تضاربت الآراء حول انبثاق حركة داعش إلى حيز الوجود، فبعضهم اعتبرها بمثابة ردٍّ سُنِّي على الفظاعات التي ارتكبها الشيعة في العراق بحقِّ أهل السُنّة، وبعضهم اعتبر أنّها من تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركية، للإبقاء على المنطقة العربية في حالة فوضى، وبعضهم اعتبرها -إضافة إلى كثير من الحركات الجهادية الإسلامية الفاعلة في سوريا، مثل جبهة النصرة - تعبيراً حداثويّاً عن حُلمٍ إسلامي كبير، مُتمثّل بإعادة الاعتبار إلى الإسلام، وذلك بإقامة دولة الخلافة الإسلامية.

وفي هذا السياق - سياق الحلم الإسلامي بدولة الخلافة - ربما فُهم أنّ كثيراً من الشباب الأردني قد انضمَّ إلى كل من جبهة النصرة وحركة داعش. ففي ورقة (تقدير موقف) لمركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية نشرها مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2014 إشارة إلى أنّ حوالي 1400 أردني يقاتلون إلى جانب جبهة النصرة وحركة داعش في سوريا والعراق. [أمكن العودة إلى الرابط التالي للاطلاع على ورقة تقدير الموقف والتقديرات الأردنية للحالة الأمنية في كل من سوريا والعراق: http://www.alghad.com/articles/829000

الدراسات الاستراتيجية: دخول الأردن بالتحالف ضد داعش لحماية مصالحه.]

وأظن أنّ الرقم ازداد منذ العام 2014 وحتى يومنا هذا.

[4] للاطلاع على كثير من الحركات والأحزاب الإسلامية، أمكن الرجوع إلى كتاب (الحركات والأحزاب الإسلامية وفهم الآخر) لـ "صالح زهر الدين"، الصادر عن دار الساقي في بيروت، 2011

أيضاً، أمكن الرجوع إلى كتاب تنظيم الدولة الإسلامية: الأزمة السُّنية والصراع على الجهادية العالمية لـ "حسن أبو هنية" و"محمد أبو رمان"، الصادر عن مؤسسة فريدرش إيبرت (مكب عمان)، العام 2015

ففي حين يتتبّع الكتاب الأول كثيرًا من الحركات والأحزاب السلمية إلى حدّ ما، فإنّ الكتاب الثاني تخصّص في الحركات الجهادية العنيفة، التي تُوجّت أخيراً بحركة داعش.

[5] حسن أبو هنية، محمد أبو رمان، تنظيم الدولة الإسلامية: الأزمة السُّنية والصراع على الجهادية العالمية، مؤسسة فريدرش إيبرت، مكتب عمان، ط1، 2015، ص ص 31- 32

[6] بالمثل تعتمد الأنظمة الديكتاتورية، والتي روجّت لفترة طويلة على أنّها أنظمة علمانية، على النص الديني لتبرير عمليات القتل والذبح، نظراً لما يتمتّع به رجال الدين ومرجعياتهم، من سمعة حسنة لدى الغالبية العظمى من الشعوب العربية. وقد رأينا أثناء فترات الربيع العربي، أنّ أكثر هذه الأنظمة ابتعاداً عن الدين في أوقات الرخاء، هو الأكثر تعلّقاً برجال الدين والفتاوى التي تصدر عنهم في أوقات الشدّة.

[7] لقد صدرت فتاوى عديدة، اعتبرت حركة داعش حركة متطرفة لا تمثّل الإسلام الصحيح! لكن المفارقة الكبيرة هَهُنا أنّ داعش إذ تقتل أو تذبح فإنّها تقتل باسم الله، وانطلاقاً من النص القرآني، فهي إذ تُؤسّس لمنظومتها الذبحية، فهي لا تُؤسّس لها من العدَم، بل تنطلق من إرث ديني، سواء حَضَرَ عن طريق النص القرآني أم المُدونة الحديثية أم الأحكام الفقهية، تماماً كما تنطلق تلك الفتاوى من الإرث الديني نفسه. بما يضع الأنساق الدينية (المُتضادّة ظاهراً/ المنسجمة باطناً) في إشكال منهجي ابتداءً، لناحية الإجابة على سؤال مهم في عموم الثقافة الإسلامية ألا وهو: مَنْ يُمثّل الإسلام الصح؟!.