العقل المُعزَّز: دراسة في تحولات الإبستمولوجيا والإبداع في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي
فئة : أبحاث محكمة
العقل المُعزَّز:
دراسة في تحولات الإبستمولوجيا والإبداع في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي
ملخص:
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل التحولات العميقة التي يُحدثها الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) في بنيتي المعرفة (Epistemology) والإبداع (Creativity). تتجاوز الدراسة الطرح الإعلامي السائد الذي يصور الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة، لتطرحه كـ"فاعل إبستمولوجي" (Epistemic Agent) جديد، يعيد تشكيل ممارسات البحث العلمي، والكتابة الأدبية، وعمليات التفكير الإنساني. من خلال منهج نقدي تكاملي يجمع بين فلسفة التقنية، ودراسات الإعلام، والتحليل الثقافي، تستكشف الدراسة ثلاثة محاور رئيسة: أولاً، كيف تغير أدوات مثل Elicit وConnected Papers عملية المراجعة المنهجية من "استقراء" بطيء إلى "حوار" معرفي فوري، مما يطرح أسئلة جديدة حول مفهوم "الأصالة البحثية". ثانياً، كيف تتحدى أدوات مثل Sudowrite وLaika المفاهيم الرومانسية للإبداع كـ"إلهام" داخلي، وتقدم نموذج "الإبداع التشاركي" (Co-Creation) بين الإنسان والآلة. ثالثاً، كيف يؤسس مفهوم "العقل الثاني" (Second Brain)، المدعوم بالذكاء الاصطناعي، لذاكرة فكرية خارجية تعيد تعريف العلاقة بين الذاكرة والتفكير. تختتم الدراسة بطرح إطار أخلاقي معياري تحت مسمى "الائتمان الرقمي" (Digital Trusteeship)، مستلهم من فلسفة طه عبد الرحمن، كآلية للتعامل النقدي والرشيد مع هذه التقنيات، بهدف بناء "إنسانية رقمية" لا تفقد سيادتها الفكرية في خضم هذا التحالف الجديد بين العقل البشري والاصطناعي.
مقدمة: من "أداة الحداثة" إلى "فاعل ما بعد الإنسان"
لقد شكلت العلاقة بين الإنسان وأدواته على الدوام حجر الزاوية في تطور الفكر والحضارة؛ من اختراع الكتابة التي حررت الذاكرة من قيود الشفاهية (Ong, 1982)، إلى المطبعة التي دمقرطت المعرفة وأطلقت شرارة عصر التنوير (Eisenstein, 1979)، كانت كل قفزة تقنية كبرى تعيد تعريف ليس فقط ما "نفعل"، بل ما "نكون". اليوم، نقف على أعتاب تحول قد يكون الأكثر جذرية في تاريخ هذه العلاقة: بزوغ الذكاء الاصطناعي التوليدي.
إن الخطاب السائد، سواء في الأوساط الشعبية أو حتى في بعض الدوائر الأكاديمية، يميل إلى تأطير هذه التقنيات ضمن مفاهيم مألوفة؛ فهي "أداة" (tool) أكثر كفاءة، أو "مساعد" (assistant) أكثر ذكاءً. هذا التأطير، على الرغم من كونه مريحاً، إلا أنه مضلل بشكل خطير. إنه يفشل في إدراك القطيعة الإبستمولوجية التي يمثلها الذكاء الاصطناعي. نحن لا نتعامل مع نسخة متطورة من الآلة الحاسبة أو معالج النصوص؛ نحن نشهد ولادة "فاعل إبستمولوجي" غير بشري، شريك معرفي يمتلك القدرة على معالجة اللغة وتوليدها بطرق كانت حتى الأمس القريب حكراً على العقل البشري وحده.
تطرح هذه الدراسة فرضية مركزية: إن الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس مجرد امتداد لأدوات الحداثة التي سعت للسيطرة على الطبيعة وحوسبتها (Heidegger, 1977)، بل هو يمثل عتبة نحو "ما بعد الإنسان" (Posthumanism)، حيث تبدأ الحدود بين العقل البشري والذكاء غير البشري، بين المؤلف الأصلي والنص المولّد، وبين الذاكرة البيولوجية والذاكرة السيليكونية، في الذوبان والتشابك (Hayles, 1999).
للتحقق من هذه الفرضية، ستنطلق هذه الدراسة في رحلة تحليلية نقدية عبر محاور متكاملة. سنبدأ (في المحورالأول) بتفكيك البنية التقنية والفلسفية لهذه النماذج اللغوية الكبرى، متجاوزين التشبيهات التبسيطية لنكشف عن كونها "آلات إحصائية" عملاقة تعيد إنتاج التحيزات الكامنة في بياناتها (Bender et al., 2021). ثم ننتقل (في المحور الثاني) إلى ميدان البحث العلمي، لنحلل كيف تعيد أدوات مثل Elicit وConnected Papers تعريف ممارسات "المراجعة المنهجية"، وتطرح تحديات جذرية لمفهوم "الأصالة" البحثية. بعد ذلك (في المحور الثالث)، سندخل عالم الإبداع الأدبي، لنرى كيف تتحدى أدوات مثل Sudowrite المفاهيم الكلاسيكية للإلهام، وتؤسس لنموذج "الإبداع التشاركي" الذي يطمس الحدود بين المؤلف والآلة. وسنستكشف (في المحور الرابع) كيف أن بناء "عقل ثانٍ" مدعوم بالذكاء الاصطناعي ليس مجرد حل لمشكلة تنظيمية، بل هو إعادة هيكلة جذرية للعلاقة بين الذاكرة والتفكير النقدي.
وأخيراً، في مواجهة هذه التحولات العميقة، ستقترح الدراسة (في المحور الخامس) إطاراً أخلاقيًّا تحت مسمى "الائتمان الرقمي"، مستمدًّا من "فلسفة الائتمان" عند المفكر المغربي طه عبد الرحمن (2000). هذا الإطار لا يدعو إلى رفض التقنية أو قبولها السلبي، بل يدعو إلى ممارسة "روحانية تقنية" جديدة، علاقة واعية ومسؤولة مع هذه الأدوات، تضمن أن يظل "العقل المُعزَّز" عقلاً إنسانيًّا في سيادته، حرًّا في إبداعه، ومؤتمناً على أمانة المعرفة. إنها محاولة لرسم معالم "إنسانية رقمية" تليق بتعقيدات القرن الحادي والعشرين.
أولا: تفكيك الصندوق الأسود: البنية الفلسفية والتقنية للنماذج اللغوية الكبرى
1.1 مدخل: من المنطق الرمزي إلى الإحصاء الاحتمالي
لفهم القفزة النوعية التي أحدثتها النماذج اللغوية الكبرى (LLMs)، من الضروري العودة إلى الانقسام التاريخي في مسار الذكاء الاصطناعي. طوال معظم القرن العشرين، هيمن ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي الرمزي (Symbolic AI) أو "النهج الكلاسيكي" (GOFAI - Good Old-Fashioned AI). استند هذا النهج، المتجذر في أعمال فلاسفة مثل لايبنتز وعلماء منطق مثل جورج بول، إلى فرضية أن التفكير البشري يمكن اختزاله إلى مجموعة من القواعد المنطقية والرموز (Newell & Simon, 1976). كان الهدف هو بناء "محركات استدلال" (Inference Engines) قادرة على التلاعب بالرموز وفقاً لقواعد محددة مسبقاً، تماماً كما يلعب لاعب الشطرنج بقطع الشطرنج. على الرغم من نجاحه في مهام محددة ومغلقة (مثل ألعاب اللوح)، إلا أن هذا النهج واجه "مشكلة الهشاشة" (Brittleness Problem)؛ فقد كان ينهار عند مواجهة غموض وتعقيد العالم الحقيقي، وخاصة اللغة الطبيعية التي لا تتبع دائماً قواعد المنطق الصارمة.
التحول الجذري جاء مع صعود "التعلم الآلي" (Machine Learning)، وتحديداً "التعلم العميق" (Deep Learning)، الذي يمثل نهجاً مختلفاً تماماً. بدلاً من محاولة تعليم الآلة القواعد بشكل صريح، يقوم هذا النهج على تزويدها بكميات هائلة من البيانات وتركها "تتعلم" الأنماط الكامنة فيها بنفسها. النماذج اللغوية الكبرى هي التتويج الحالي لهذا المسار "الترابطي" (Connectionist). إنها لا تعمل بمنطق "إذا كان س، فإن ص"، بل بمنطق "بناءً على مليارات الأمثلة التي رأيتها، فإن الكلمة التي تلي هذه السلسلة من الكلمات هي على الأرجح...". هذا الانتقال من اليقين المنطقي إلى الاحتمال الإحصائي ليس مجرد تغيير تقني، بل هو تحول فلسفي في تعريف "الفهم" الاصطناعي (Manning, 2022).
1.2 بنية المحولات (Transformers): لغة الانتباه
إن الإنجاز التقني الذي أطلق العنان للقدرات الحالية للنماذج اللغوية الكبرى هو بنية الشبكة العصبية المعروفة باسم "المحول" (Transformer)، والتي تم تقديمها في ورقة بحثية ثورية من Google بعنوان "Attention Is All You Need" (Vaswani et al., 2017). قبل هذه البنية، كانت النماذج تكافح من أجل تذكر السياقات الطويلة في النصوص. أما بنية "المحول"، فقدمت آلية عبقرية تسمى "الانتباه" (Attention).
آلية "الانتباه" تسمح للنموذج، عند معالجة كلمة معينة في جملة، بأن "ينتبه" بشكل انتقائي إلى كل الكلمات الأخرى في الجملة (أو حتى في النص بأكمله)، ويعطي وزناً وأهمية مختلفة لكل كلمة حسب صلتها بالكلمة الحالية. على سبيل المثال، في جملة "ملك فرنسا أصلع"، عندما يعالج النموذج كلمة "ملك"، فإنه يتعلم أن يولي "انتباهاً" كبيراً لكلمة "فرنسا" لتحديد سياق الملك، و"أصلع" لتحديد حالته. هذا يسمح للنموذج بفهم العلاقات النحوية والدلالية المعقدة والطويلة المدى، وهو ما كان يمثل تحدياً كبيراً للنماذج السابقة. إنها، بمعنى ما، محاكاة رياضية لقدرة العقل البشري على التركيز على الأجزاء الأكثر صلة من المعلومات لتكوين فهم شامل.
1.3 الببغاوات العشوائية: نقد الأبعاد الأخلاقية والبيئية
على الرغم من قدراتها المذهلة، فإن هذه النماذج تواجه انتقادات جوهرية تم تلخيصها ببراعة في مصطلح "الببغاوات العشوائية" (Stochastic Parrots) الذي صاغته بندر وزملاؤها (Bender et al., 2021). يجادل هذا النقد بأن هذه النماذج، في جوهرها، لا "تفهم" اللغة، بل هي بارعة بشكل خارق في "تقليد" الأنماط اللغوية التي تدربت عليها. هذا التقليد الأعمى، وإن كان مفيداً، يحمل في طياته مخاطر جسيمة:
- تضخيم التحيزات (Bias Amplification): بما أن هذه النماذج تتدرب على نصوص من الإنترنت، فإنها تتعلم وتعيد إنتاج كل التحيزات والقوالب النمطية الموجودة في هذه البيانات. وقد أظهرت الدراسات أن هذه النماذج قد تربط مهناً معينة بأجناس معينة، أو تنتج نصوصاً سلبية عند الإشارة إلى أقليات عرقية (Vig, 2020).
- خطر المعلومات المضللة (Misinformation Risk): قدرة النماذج على توليد نصوص متماسكة وذات مظهر موثوق تجعلها أداة مثالية لإنتاج الأخبار الكاذبة والدعاية المضللة على نطاق واسع، مما يهدد البيئة المعلوماتية.
- التكلفة البيئية الباهظة (Environmental Cost): تتطلب عملية تدريب هذه النماذج العملاقة طاقة حاسوبية هائلة، مما يؤدي إلى بصمة كربونية كبيرة. تشير التقديرات إلى أن تدريب نموذج واحد كبير يمكن أن يبعث كمية من الكربون تعادل ما تنتجه عدة سيارات طوال عمرها التشغيلي (Strubell, Ganesh, & McCallum, 2019).
1.4 خلاصة الفصل: من الفهم إلى الأداء
إن تفكيك الصندوق الأسود للنماذج اللغوية الكبرى يكشف عن مفارقة أساسية: نحن أمام تقنية قادرة على "أداء" (Perform) الفهم اللغوي بمستوى يقارب أو يتجاوز البشر في بعض المهام، لكنها تفتقر إلى "التجربة" (Experience) أو "القصدية" (Intentionality) التي تشكل جوهر الفهم البشري (Searle, 1980). إنها آلات تلاعب بالرموز على مستوى احتمالي، وليست عقولاً واعية. هذا التمييز ليس مجرد حذلقة فلسفية، بل هو أساس حيوي للتعامل النقدي مع هذه الأدوات. فإدراكنا أنها "ببغاوات إحصائية" فائقة الذكاء يجعلنا أكثر حذراً من تحيزاتها، وأكثر تشكيكاً في "حقائقها"، وأكثر وعياً بحدودها. هذا الفهم هو نقطة الانطلاق الضرورية لتقييم تأثيرها على البحث العلمي والإبداع الأدبي في الفصول التالية.
ثانيا- الباحث المُعزَّز: إعادة تشكيل ممارسات البحث في العلوم الإنسانية
2.1 مدخل: أزمة الفيض المعلوماتي وبطء الاستقراء
لطالما واجه الباحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية تحدياً مزدوجاً: من ناحية، هناك ضرورة "الاستقراء الشامل" للأدبيات السابقة كشرط للأصالة العلمية (the imperative of comprehensive literature review)، ومن ناحية أخرى، هناك "الفيض المعلوماتي" (information overload) المتزايد الذي يجعل هذا الاستقراء مهمة شبه مستحيلة. فمع تضاعف عدد الأوراق البحثية المنشورة كل بضع سنوات (Bornmann & Mutz, 2015)، أصبح الباحث يقضي وقتاً أطول في "البحث عن المعرفة" بدلاً من "إنتاج المعرفة". لقد أدت هذه الأزمة إلى تفتيت المجالات البحثية، حيث يضطر الباحثون إلى التخصص في نطاقات ضيقة للغاية، مما يفقدهم القدرة على رؤية الصورة الكلية وربط الأفكار عبر التخصصات.
في هذا السياق، لا تظهر أدوات الذكاء الاصطناعي البحثية كأدوات للرفاهية، بل كاستجابة ضرورية لهذه الأزمة الإبستمولوجية. إنها تقدم نموذجاً جديداً يتجاوز البحث القائم على الكلمات المفتاحية (keyword-based search)، والذي غالباً ما ينتج "ضجيجاً" معلوماتيًّا هائلاً، إلى نموذج قائم على "الحوار الدلالي" (semantic dialogue) مع أساسات ضخمة من النصوص الأكاديمية. هذا الفصل يحلل كيف تقوم ثلاث فئات من هذه الأدوات بإعادة تشكيل ثلاث ممارسات بحثية أساسية: استكشاف المجال، والمراجعة المنهجية، وتوليد الفرضيات.
2.2 استكشاف التضاريس المعرفية: من القائمة الخطية إلى الخريطة البصرية
إن الخطوة الأولى في أي مشروع بحثي هي فهم "تضاريس" المجال (the intellectual landscape). تقليدياً، كانت هذه العملية تتم بشكل خطي ومضنٍ عبر تتبع الاستشهادات يدوياً. أدوات مثل Connected Papers و ResearchRabbit تقدم بديلاً بصريًّا وشبكيًّا. هذه الأدوات تطبق تحليلات "الببليومتريكس" (Bibliometrics) و"تحليل الشبكات" (Network Analysis) لتوليد خرائط بصرية تفاعلية.
- دراسة حالة تطبيقية: باحث يدرس مفهوم "ما بعد الحداثة" (Postmodernism). عند إدخال ورقة تأسيسية لـ "جان فرانسوا ليوتار" (Lyotard, 1984) في أداة Connected Papers، لا يحصل على قائمة من المراجع، بل على "مجرة" من الأوراق البحثية. يمكنه أن يرى بصريًّا الأعمال التي استلهمت مباشرة من ليوتار (الأوراق "السلف" - Ancestors)، والأعمال الحديثة التي بنت عليها (الأوراق "الخلف" - Descendants). الأهم من ذلك، يمكنه تحديد "عناقيد" (clusters) من الأوراق التي تمثل مدارس فكرية مختلفة داخل النقاش: عنقود يركز على الجانب الفلسفي، وآخر على تطبيقات المفهوم في النقد الأدبي، وثالث على نقده من منظور مدرسة فرانكفورت. هذه القدرة على "رؤية الحوار" (visualizing the conversation) تسرّع بشكل هائل من فهم الباحث لديناميكيات المجال وتحديد موقعه فيه (Cobo, 2021).
2.3 حوار مع الأدبيات: أتمتة المراجعة المنهجية
تعدّ المراجعة المنهجية (Systematic Literature Review) حجر الزاوية في البحث العلمي الرصين، لكنها عملية تستهلك وقتاً هائلاً. أدوات مثل Elicit.org و Semantic Scholar تستخدم تقنيات "معالجة اللغة الطبيعية" (NLP) و"الإجابة عن الأسئلة" (Question Answering) لتحويل هذه العملية من استقراء يدوي إلى حوار فعال.
- دراسة حالة تطبيقية: باحثة في علم النفس الاجتماعي تريد الإجابة على سؤال: "ما هي العلاقة بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومستويات القلق لدى المراهقين؟". بدلاً من البحث عن مئات الأوراق وقراءتها، تطرح هذا السؤال مباشرة في Elicit. تقوم الأداة بمسح آلاف الأبحاث واستخلاص ليس فقط الأوراق ذات الصلة، بل "الملخصات المركزة" (targeted summaries) التي تجيب مباشرة على السؤال من كل ورقة. تعرض النتائج في جدول مقارن، مما يسمح للباحثة بتحديد الاتجاهات العامة (على سبيل المثال، معظم الدراسات تجد علاقة إيجابية)، وتحديد الفروق الدقيقة (بعض الدراسات تجد أن التأثير يعتمد على نوع المنصة أو جنس المستخدم)، وتحديد الثغرات البحثية (قلة الدراسات التي تستخدم تصميمات طولية - longitudinal studies). هذا يحول الباحثة من "قارئة" للأدبيات إلى "محللة" و"ناقدة" لها منذ اللحظة الأولى (Tingley, 2024).
2.4 من التركيب إلى التوليد: الذكاء الاصطناعي كمصدر للفرضيات
إن الدور الأكثر جذرية للذكاء الاصطناعي لا يكمن فقط في تلخيص المعرفة الموجودة، بل في المساعدة على توليد معرفة جديدة. من خلال تحليل كميات هائلة من البيانات غير المترابطة ظاهرياً، يمكن للنماذج اللغوية الكبرى أن تكشف عن "ارتباطات غير متوقعة" (unexpected correlations) قد تلهم فرضيات جديدة.
- دراسة حالة تطبيقية: باحث في تاريخ العلوم يدرس أعمال "ابن الهيثم". يمكنه استخدام نموذج لغوي متقدم لتحليل النص الكامل لأعمال ابن الهيثم، وفي نفس الوقت تحليل نصوص معاصريه في الأندلس وبيزنطة. قد يكشف النموذج عن استخدام غير متوقع لمصطلح بصري معين في نص فقهي من نفس الفترة، وهو رابط لم يلاحظه المؤرخون من قبل. هذا لا "يثبت" وجود تأثير، ولكنه يقدم "فرضية" جديدة ومثيرة للبحث: هل كانت هناك مفاهيم بصرية مشتركة يتم تداولها بين مجالات العلم والفقه في تلك الفترة؟ هنا، لا يعمل الذكاء الاصطناعي كـ"مسترجع للمعلومات"، بل كـ"محفز للاكتشاف" (Discovery Engine)، مما يفتح آفاقاً بحثية لم تكن ممكنة (Gleason, 2023).
2.5 - نحو مفهوم جديد للأصالة البحثية
إن صعود "الباحث المُعزَّز" يفرض علينا إعادة التفكير في مفهوم "الأصالة البحثية". إذا كان جزء كبير من عملية تجميع وتلخيص الأدبيات يمكن أتمتته، فإن الأصالة لم تعد تكمن في "مجهود" البحث، بل في "جودة" الأسئلة المطروحة، وفي القدرة على تركيب الأفكار من مصادر متباعدة، وفي العمق النقدي لتحليل النتائج التي تقدمها الآلة. إن الباحث المُعزَّز لا يتم استبداله بالآلة، بل يتم تحريره من المهام المعرفية الدنيا (lower-order cognitive tasks) ليركز على المهام العليا: التفكير النقدي، والتركيب الإبداعي، والحدس النظري. ومع ذلك، فإن هذا التحول يحمل في طياته خطر "التفكير السطحي" إذا اعتمد الباحث على ملخصات الآلة دون العودة إلى النصوص الأصلية. إن التحدي يكمن في استخدام هذه الأدوات كـ"نقاط انطلاق" للحفر أعمق، وليس كـ"نقاط نهاية" للاكتفاء بالسطح.
ثالثا- الأديب المُعزَّز: جدلية الإلهام والخوارزمية في الإبداع الأدبي
3.1 مدخل: تفكيك أسطورة "الإلهام المنعزل"
لقد هيمنت على المخيال الغربي، منذ العصر الرومانسي، صورة "العبقري المنعزل" (the solitary genius)، المبدع الذي يستمد إلهامه من أعماق ذاته الفريدة أو من قوة ميتافيزيقية غامضة (Abrams, 1953). في هذه الرؤية، يُعدّ الإبداع فعلاً فردياً خالصاً، وتُعد الأصالة هي القيمة العليا. إن ظهور أدوات الكتابة الإبداعية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مثل Sudowrite و Laika، لا يمثل مجرد تحدٍّ تقني، بل هو هجوم مباشر على هذه الأسطورة الرومانسية. هذه الأدوات تطرح نموذجاً بديلاً: الإبداع ليس فعلاً فرديًّا منعزلاً، بل هو "عملية تشاركية" (a collaborative process) وحوار مستمر، ليس فقط مع التراث الأدبي، بل الآن مع "شريك خوارزمي".
هذا الفصل يجادل بأن الذكاء الاصطناعي لا "يستبدل" المؤلف، بل يعيده إلى وضعه التاريخي ما قبل الرومانسي كـ"حرفي" (artisan) ماهر ينسج عمله من خيوط متعددة، مع فارق أن أحد هذه الخيوط أصبح الآن من إنتاج كيان غير بشري. سنحلل كيف تتدخل هذه الأدوات في ثلاث مراحل حاسمة من العملية الإبداعية: توليد الأفكار، وتطوير النص، وبناء العالم الروائي.
3.2 محاكاة السرد: الذكاء الاصطناعي كشريك في العصف الذهني
إن واحدة من أكبر العقبات أمام الكاتب هي "صفحة البداية الفارغة" أو "قُفلة الكاتب" (Writer's Block). تعمل أدوات الكتابة الإبداعية كـ"محركات احتمالات" (possibility engines) قادرة على كسر هذه الجمود. هي لا تقدم "الحل" الصحيح، بل تقدم "مجموعة من الاحتمالات" التي تحفز خيال الكاتب.
- دراسة حالة تطبيقية: روائية تعمل على مشهد بوليسي. المحقق وصل إلى مسرح الجريمة، لكن الكاتبة تجد صعوبة في كتابة وصف مبتكر. باستخدام أداة Sudowrite، تطلب من الأداة وصف المكان من منظور "حاسة الشم". تقترح الأداة: "رائحة مطهرة حادة تحاول يائسة أن تغطي على الرائحة المعدنية الخافتة للدم، ممزوجة برائحة الورق القديم المنبعثة من مكتبة الضحية". ثم تطلب الكاتبة من الأداة اقتراح "خمسة أدلة غير متوقعة" يمكن للمحقق أن يجدها. تقترح الأداة: "1. كتاب مفتوح على صفحة عشوائية. 2. قطة هادئة بشكل غريب تجلس في زاوية الغرفة. 3. كوب شاي لا يزال دافئاً. 4. تذكرة قطار إلى وجهة غير متوقعة. 5. نقص أحد الكتب من سلسلة مرتبة على الرف". هنا، لم تكتب الأداة المشهد، بل قدمت للكاتبة "مواد خام" حسية وسردية، محفزة إياها على اختيار أحد المسارات أو دمجها بطريقة أصيلة (Kirschenbaum, 2023).
3.3 الأسلوب كخوارزمية: تدريب الذكاء الاصطناعي على الصوت الأدبي
إن أحد أكبر مخاوف الكتاب هو أن الذكاء الاصطناعي سيفرض أسلوباً لغوياً موحداً ومسطحاً، مما يقضي على "الصوت" (Voice) الفريد لكل كاتب. استجابة لهذا القلق، ظهرت أدوات مثل Laika التي تسمح للكاتب بتدريب نموذج ذكاء اصطناعي خاص به على أعماله السابقة. يقوم الكاتب "بتغذية" الأداة برواياته ومقالاته، فتتعلم الأداة خصائصه الأسلوبية: مفرداته المفضلة، طول جمله، إيقاعه النثري، ونبرته العامة.
- دراسة حالة تطبيقية: كاتب خيال علمي، مثل "محمد أحمد الصغير" في رواياته، يريد أن يكتب جزءاً جديداً من سلسلة "حراس النور الأزلي". يقوم بتدريب نموذج Laika على الأجزاء السابقة من السلسلة. عندما يبدأ في كتابة فصل جديد، يمكنه أن يطلب من الأداة إكمال فقرة أو وصف شخصية "بنفس أسلوب السلسلة". هذا لا يضمن فقط الاتساق الأسلوبي عبر عمل طويل، بل يمكن أن يساعد الكاتب على "استعادة" صوته الأدبي عندما يشعر بالابتعاد عنه. إنها عملية تحول "الأسلوب" من شيء حدسي غامض إلى مجموعة من الأنماط القابلة للتحليل والمحاكاة، مما يطرح أسئلة فلسفية عميقة حول طبيعة التفرد الأدبي (Elkins, 2023).
3.4 أتمتة بناء العالم: من الملاحظات المتناثرة إلى الموسوعة الديناميكية
في أنواع أدبية مثل الفانتازيا والخيال العلمي، يعتبر "بناء العالم" (World-building) مهمة ضخمة تتطلب خلق تواريخ، وجغرافيات، وثقافات، ولغات متماسكة. أدوات مثل Notion AI و World Anvil تدمج الذكاء الاصطناعي للمساعدة في هذه العملية.
- دراسة حالة تطبيقية: مؤلف يعمل على رواية فانتازيا ملحمية. يستخدم Notion AI لإنشاء "ويكي" لعالمه. يكتب فكرة أساسية: "حضارة تعيش في مدن مبنية على ظهور وحوش طائرة عملاقة". ثم يطلب من الذكاء الاصطناعي: "بناءً على هذه الفكرة، اقترح نظاماً اجتماعيًّا وسياسيًّا". قد تقترح الأداة مجتمعاً طبقيًّا يعتمد على موقع السكن على الوحش (النخبة في الأعلى، والعمال في الأسفل). ثم يسأل: "اقترح صراعاً مركزيًّا لهذه الحضارة". قد تقترح الأداة: "مرض غامض يبدأ في إصابة الوحوش، مما يهدد بانهيار الحضارة بأكملها". بهذه الطريقة، يعمل الذكاء الاصطناعي كشريك في بناء الهيكل العظمي للعالم، مما يحرر المؤلف للتركيز على نسج القصص البشرية والشخصية داخل هذا الهيكل (Daly, 2023).
3.5 نحو جماليات "ما بعد الإنسان"
إن "الأديب المُعزَّز" ليس كاتباً أقل إبداعاً، بل هو مبدع من نوع مختلف، "مايسترو" أو "منسق" (Curator) يجمع بين إلهامه الشخصي والاحتمالات التي تولدها الخوارزمية. إن العلاقة بين الكاتب والذكاء الاصطناعي تشبه، إلى حد كبير، العلاقة بين المصور الفوتوغرافي والكاميرا. في البداية، كان يُنظر إلى التصوير الفوتوغرافي على أنه "غش" آلي يفتقر إلى روح الفن (Sontag, 1977). لكن مع مرور الوقت، أدركنا أن الإبداع لا يكمن في الأداة، بل في عين المصور: في اختياره للزاوية، وتوقيت اللقطة، وتأطير المشهد. بالمثل، فإن الإبداع في عصر الذكاء الاصطناعي سيكمن بشكل متزايد في قدرة المؤلف على طرح الأسئلة الذكية على الآلة، وفي حكمته في اختيار ودمج وتعديل اقتراحاتها، وفي بصمته الإنسانية التي يضيفها في النهاية. نحن نشهد ولادة "جماليات ما بعد الإنسان" (Posthuman Aesthetics)، حيث لم يعد العمل الفني نتاج ذات فردية منعزلة، بل نتاج شبكة معقدة من التفاعلات بين العقل البشري، والتراث الثقافي، والذكاء غير البشري.
رابعا- العقل الثاني: الإدراك الخارجي ومستقبل الفكر
4.1 مدخل: قيود العقل الأول في عصر الفيض الرقمي
إن العقل البشري، نتاج ملايين السنين من التطور، هو أداة استثنائية لتوليد الأفكار، والتعرف على الأنماط، والتفكير النقدي. ولكنه، بحكم تصميمه، ليس أداة مثالية لتخزين كميات هائلة من المعلومات بشكل دقيق ومنظم. في عصر ما قبل الرقمي، كانت هذه المحدودية تُعالج عبر أنظمة خارجية بسيطة: المكتبات الشخصية، دفاتر الملاحظات، وفهارس البطاقات. أما اليوم، في خضم "الفيض الرقمي" (Digital Deluge) الذي نتعرض له يومياً من الأبحاث والمقالات والبيانات، فقد وصلت ذاكرتنا البيولوجية إلى نقطة الإشباع. هذه الأزمة لا تتجلى فقط في "نسيان" المعلومات، بل في "فشل الربط" بينها، مما يؤدي إلى تشتت الفكر وإعاقة الإبداع العميق (Carr, 2010).
من هذا المنطلق، يظهر مفهوم "العقل الثاني" (Second Brain)، الذي روّج له "تياغو فورتي" (Forte, 2022)، ليس كترف تنظيمي، بل كضرورة إبستمولوجية. يقوم المفهوم على فكرة إنشاء نظام رقمي خارجي موثوق به، لا يعمل كمستودع سلبي للمعلومات، بل كشريك فعال في عملية التفكير. هذه الدراسة تتجاوز الطرح العملي البحت لفورتي، لتجادل بأن "العقل الثاني"، عند تعزيزه بالذكاء الاصطناعي، يمثل تطبيقاً عملياً لنظريات "العقل الممتد" (Extended Mind) و"الإدراك الخارجي" (Externalized Cognition)، مما يعيد تعريف حدود الذات المفكرة.
4.2 نظرية العقل الممتد: الأساس الفلسفي للعقل الثاني
في ورقتهما البحثية المؤثرة، جادل الفيلسوفان "آندي كلارك" و"ديفيد تشالمرز" (Clark & Chalmers, 1998) بأن العمليات المعرفية لا تقتصر على ما يحدث داخل الجمجمة. لقد طرحا "فرضية العقل الممتد"، التي تقترح أنه عندما يستخدم فردٌ ما أداة خارجية (مثل دفتر ملاحظات) بطريقة متسقة وموثوقة، ويمكن الوصول إليها بسهولة، فإن هذه الأداة تصبح جزءاً لا يتجزأ من عمليته المعرفية. المثال الكلاسيكي الذي طرحاه هو شخصية "أوتو" المصاب بالزهايمر، الذي يعتمد على دفتر ملاحظاته لتذكر العناوين. يجادل كلارك وتشالمرز بأن دفتر ملاحظات أوتو يلعب نفس الدور الوظيفي الذي تلعبه الذاكرة البيولوجية لدى شخص سليم، وبالتالي يجب اعتباره جزءاً من "عقل" أوتو.
إن أنظمة "العقل الثاني" الرقمية، مثل Obsidian و Notion، هي التجسيد المعاصر لهذه الفرضية. إنها دفاتر ملاحظات فائقة، لا تقوم فقط بالتخزين، بل تسمح بالربط الشبكي (non-linear linking) والبحث الدلالي، محولة مجموعة من الملاحظات المتفرقة إلى "شبكة معرفية شخصية" (Personal Knowledge Graph).
4.3 بنية العقل الثاني المعزز بالذكاء الاصطناعي: من التجميع إلى التوليد
يمكن تفكيك بنية "العقل الثاني" الفعال إلى أربع مراحل متكاملة، وهي عملية أطلق عليها فورتي اسم "CODE" (Capture, Organize, Distill, Express). سنقوم هنا بتكييفها وتعزيزها بالذكاء الاصطناعي:
- التجميع (Capture): المرحلة الأولى هي التقاط كل فكرة أو معلومة ذات قيمة. أدوات مثل إضافة Zotero Connector للمتصفح تسمح للباحث بالتقاط البيانات الوصفية لأي ورقة بحثية بضغطة زر. أدوات تحويل الصوت إلى نص (Speech-to-text) المدعومة بالذكاء الاصطناعي تسمح بتسجيل الأفكار العابرة أثناء المشي وتحويلها إلى ملاحظات مكتوبة. الهدف هو تقليل الاحتكاك (friction) بين الفكرة وتسجيلها إلى أدنى حد ممكن.
- التنظيم (Organize): بدلاً من التنظيم الهرمي التقليدي في مجلدات، تعتمد أنظمة العقل الثاني الحديثة على التنظيم الشبكي باستخدام "الوسوم" (Tags) و"الروابط الداخلية" (Internal Links). هنا يتدخل الذكاء الاصطناعي بشكل فعال. يمكن لنموذج لغوي مدمج في Obsidian أو Notion أن يقرأ ملاحظة جديدة ويقترح تلقائياً وسوماً ذات صلة (e.g., #philosophy, #AI_ethics) أو يقترح روابط لملاحظات أخرى قد تكون مرتبطة بها، كاشفاً عن صلات لم يكن الكاتب ليفكر بها (Zhang, 2023).
- التقطير (Distill): هذه هي المرحلة الأكثر أهمية. لا يكفي تجميع المعلومات، بل يجب "تقطيرها" للوصول إلى جوهرها. تقنية "التلخيص التدريجي" (Progressive Summarization) التي اقترحها فورتي، والتي تتضمن تلخيص الملاحظة على عدة طبقات، يمكن تعزيزها بشكل كبير بالذكاء الاصطناعي. يمكن للكاتب أن يطلب من مساعد الذكاء الاصطناعي: "لخص لي هذه الملاحظة في ثلاث نقاط رئيسة"، ثم "لخص هذه النقاط الثلاث في جملة واحدة". هذه العملية تجبر الكاتب على التفاعل النقدي مع المادة وتحديد جوهرها الحقيقي.
- التعبير (Express): إن الهدف النهائي من بناء "العقل الثاني" ليس الأرشفة، بل الإبداع. عندما يبدأ الكاتب مشروعاً جديداً (مقالة، فصل في كتاب)، يصبح "عقله الثاني" هو نقطة الانطلاق. يمكنه أن يبحث عن وسم معين (e.g., #posthumanism) ليجمع كل الملاحظات والأفكار التي دونها حول هذا الموضوع عبر سنوات. والأكثر قوة، يمكنه أن يطرح سؤالاً على "عقله الثاني" باستخدام الذكاء الاصطناعي: "ما هي الروابط الأكثر إثارة للاهتمام بين ملاحظاتي حول 'طه عبد الرحمن' وملاحظاتي حول 'أخلاقيات الذكاء الاصطناعي'؟". قد يقوم النموذج بتحليل الشبكة وتقديم فرضية تركيبية، محولاً النظام من مستودع للمعرفة إلى شريك في توليدها.
4.4-إعادة تعريف الذات المفكرة
إن بناء "عقل ثانٍ" معزز بالذكاء الاصطناعي هو أكثر من مجرد تبنٍّ لعادة إنتاجية جديدة. إنه عملية إعادة تعريف لحدود "الذات المفكرة". العقل لم يعد مقتصراً على الكيان البيولوجي داخل الجمجمة، بل أصبح شبكة هجينة (hybrid network) تمتد لتشمل أجهزتنا الرقمية والذكاء الاصطناعي الذي يسكنها. هذا التحول يحمل وعداً بتحرير العقل الأول من عبء التخزين ليتفرغ لمهامه الأسمى (التفكير النقدي، الإبداع، الحدس)، ولكنه يحمل أيضاً خطر الاعتماد المفرط الذي قد يؤدي إلى ضمور الذاكرة البيولوجية ومهارات البحث التقليدية. إن إدارة هذه العلاقة الجديدة بين "العقل الأول" و"العقل الثاني" هي التحدي الإبستمولوجي والتربوي الأكبر الذي يواجه المفكر في القرن الحادي والعشرين، وهو ما سنتناوله في الفصل الأخير.
خامسا- نحو ائتمان رقمي: أخلاقيات العقل المُعزَّز في ضوء فلسفة طه عبد الرحمن
5.1 مدخل: أزمة الأخلاق في عصر التسريع التقني
إن التسارع المذهل في قدرات الذكاء الاصطناعي قد تجاوز بشكل كبير قدرتنا على تطوير أطر أخلاقية وفلسفية مواكبة. غالباً ما يتأرجح النقاش الأخلاقي السائد بين قطبين: "الأخلاقيات النفعية" (Utilitarian Ethics) التي تركز على تعظيم الفوائد وتقليل الأضرار، و"الأخلاقيات الواجبة" (Deontological Ethics) التي تسعى لوضع قواعد صارمة (مثل الشفافية والعدالة). على الرغم من أهمية هذين النهجين، إلا أنهما غالباً ما يظلان في مستوى "تنظيم" الأداة من الخارج، دون أن يلامسا جوهر العلاقة بين الإنسان والتقنية، أي "روح" المستخدم نفسه (Vallor, 2016).
هذه الدراسة تجادل بأننا بحاجة إلى "أخلاقيات فضيلة" (Virtue Ethics) للتعامل مع الذكاء الاصطناعي، أخلاقيات لا تسأل فقط "ما هي القواعد التي يجب أن نتبعها؟"، بل تسأل "أي نوع من المفكرين والمبدعين نريد أن نكون في هذا العصر الجديد؟". في هذا السياق، يقدم مشروع الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، وتحديداً مفهومه عن "الأخلاق الائتمانية"، إطاراً نظريًّا ثريًّا وأصيلاً يمكن تكييفه لبناء ما سنطلق عليه "الائتمان الرقمي" (Digital Trusteeship).
5.2 مفهوم "الأخلاق الائتمانية" عند طه عبد الرحمن
في كتابه "سؤال الأخلاق" (2000)، يميز طه عبد الرحمن بين "الأخلاق المجردة" للحداثة الغربية، التي تقوم على العقلانية الأداتية والانفصال بين القول والعمل، و"الأخلاق الائتمانية" المتجذرة في التجربة الإسلامية، والتي تقوم على مفهوم "الأمانة" كعلاقة تكليف ومسؤولية بين الإنسان وخالقه. الأخلاق الائتمانية، في جوهرها، هي أخلاق "التكامل" بين البعد الروحي (النية والقصد)، والبعد العقلي (التفكير والنقد)، والبعد العملي (الفعل والسلوك). إنها لا تكتفي بـ"صحة" الفعل، بل تهتم بـ"صلاح" الفاعل. هذا التركيز على "تخلق" الذات الفاعلة هو ما يجعل هذا الإطار مناسباً بشكل فريد لمواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي، التي هي في جوهرها تحديات لفضائلنا الفكرية والإبداعية.
5.3 مبادئ الائتمان الرقمي: تطبيق عملي لأخلاق طه عبد الرحمن
بناءً على المفهوم الائتماني، يمكننا اشتقاق أربعة مبادئ عملية لتوجيه علاقتنا كباحثين ومبدعين مع الذكاء الاصطناعي:
أمانة القصد (The Trusteeship of Intention):
- التحدي: الاستخدام الكسول للذكاء الاصطناعي بهدف "إنهاء المهمة" بأسرع وقت، بدلاً من هدف "تعميق الفهم" أو "تحقيق الأصالة".
- المبدأ الائتماني: قبل استخدام أي أداة ذكاء اصطناعي، يجب على المستخدم أن يسأل نفسه: "ما هي نيتي من هذا الاستخدام؟ هل أسعى لتوسيع فكري، أم لتقليص مجهودي؟". هذا المبدأ يدعو إلى "يقظة نية" تحول استخدام الأداة من فعل تقني محض إلى ممارسة روحانية تهدف إلى الارتقاء بالذات المفكرة. إنه الفرق بين من يستخدم الأداة كـ"عون" على الإبداع ومن يستخدمها كـ"عكاز" للكسل.
أمانة النقد (The Trusteeship of Critique):
- التحدي: الثقة العمياء في مخرجات النموذج اللغوي، وقبولها كـ"حقيقة" نهائية دون تمحيص، مما يؤدي إلى ترديد التحيزات والأخطاء الكامنة في بيانات التدريب.
- المبدأ الائتماني: يجب على المستخدم أن يتبنى موقف "الشك المنهجي" تجاه كل ما تنتجه الآلة. هذا لا يعني الرفض، بل يعني ممارسة فضيلة "التمحيص" (Verification) و"التثبت" (Validation). يجب أن يرى المستخدم نفسه كـ"المحقق" أو "الناقد" النهائي الذي تقع عليه مسؤولية التحقق من دقة المعلومات، وتقييم عدالة التمثيل، وتحدي الافتراضات الخفية في النص المولّد. هذا المبدأ يرسخ دور الإنسان كـ"سيد" على الأداة، لا كـ"عبد" لها.
أمانة السياق (The Trusteeship of Context):
- التحدي: نزعة الذكاء الاصطناعي إلى "تسوية" المعرفة (flattening of knowledge)، حيث يتم تقديم المعلومات مقتطعة من سياقها التاريخي والثقافي، مما يؤدي إلى فهم سطحي ومشوه.
- المبدأ الائتماني: تقع على عاتق الباحث المُعزَّز مسؤولية إعادة "تأصيل" و"تسويق" المعرفة التي تقدمها له الآلة. عليه دائماً أن يسأل: "من أين أتت هذه المعلومة؟"، "ما هو السياق الفكري الذي نشأت فيه؟"، "كيف يمكن أن يتغير معناها في سياقنا الثقافي؟". هذا المبدأ يدعو إلى مقاومة "اللازمانية" و"اللامكانية" للبيانات الرقمية، والإصرار على ربط المعرفة بجذورها الإنسانية.
أمانة الإسناد (The Trusteeship of Attribution):
- التحدي: إغراء تقديم العمل المولّد بالذكاء الاصطناعي على أنه إبداع شخصي خالص، مما يمثل خيانة للأمانة العلمية والإبداعية.
- المبدأ الائتماني: يدعو هذا المبدأ إلى "شفافية" و"صدق" في الإقرار بدور المساعد الخوارزمي. هذا لا يعني فقط تجنب الانتحال، بل يمتد إلى ممارسة فكرية جديدة تتمثل في توثيق "الحوار" مع الآلة. قد تتضمن الممارسات المستقبلية "هوامش منهجية" (methodological footnotes) توضح كيف ومتى تم استخدام الذكاء الاصطناعي، وما هي الأسئلة (prompts) التي تم طرحها. هذا يحول استخدام الأداة من سرّ مخجل إلى جزء شفاف وموثق من المنهجية البحثية أو الإبداعية.
5.4 - نحو إنسانية رقمية متخلقة
إن "الائتمان الرقمي"، المستلهم من أخلاق طه عبد الرحمن، يقدم بديلاً للأخلاقيات الأداتية التي تهيمن على نقاشات الذكاء الاصطناعي. إنه يعيد تركيز النقاش من "تنظيم الآلة" إلى "تخلق الإنسان". إنه لا يقدم قائمة من الممنوعات والمسموحات، بل يدعو إلى تبني مجموعة من الفضائل الفكرية: اليقظة، والنقد، والتمحيص، والشفافية. إن تبني هذا الإطار الأخلاقي هو الضمانة الأساسية لأن يؤدي "العقل المُعزَّز" إلى ازدهار إنساني حقيقي، بدلاً من أن يكون خطوة أخرى في اغتراب الإنسان عن فكره وإبداعه. إنه الطريق نحو "إنسانية رقمية" جديدة، إنسانية لا ترى في التقنية غاية في ذاتها، بل وسيلة للارتقاء في مراتب الأمانة والمسؤولية المعرفية والإبداعية.
خاتمة:
لقد سعت هذه الدراسة إلى تقديم تحليل متعدد الأبعاد للتحولات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي التوليدي على ممارسات إنتاج المعرفة والإبداع. انطلقنا من تفكيك البنية التقنية والفلسفية لهذه النماذج، مبرزين طبيعتها كـ"ببغاوات إحصائية" قادرة على أداء الفهم دون امتلاكه، ومحملة بالقيود البيئية والأخلاقية. ثم انتقلنا إلى تحليل تأثيرها الميداني، حيث رأينا كيف يتحول "الباحث المُعزَّز" من مستقرئ بطيء إلى محاور فعال لشبكة المعرفة، وكيف يتحول "الأديب المُعزَّز" من عبقري منعزل إلى منسق تشاركي للإبداع.
وقد أظهر التحليل أن هذه الأدوات لا تمثل مجرد زيادة كمية في كفاءة العمل، بل قفزة نوعية تعيد تشكيل مفاهيم أساسية مثل "الأصالة"، و"الإلهام"، و"الذاكرة". وقد قدمنا مفهوم "العقل الثاني" المعزز بالذكاء الاصطناعي كتجسيد عملي لنظرية "العقل الممتد"، وكحل منهجي لإدارة الفيض المعرفي في العصر الرقمي.
وفي مواجهة هذه التحولات الجذرية، خلصت الدراسة إلى أن الأطر الأخلاقية النفعية أو الواجبة تظل غير كافية. وبديلاً عنها، اقترحنا إطار "الائتمان الرقمي" المستلهم من فلسفة طه عبد الرحمن، والذي يركز على تنمية فضائل فكرية لدى المستخدم: أمانة القصد، وأمانة النقد، وأمانة السياق، وأمانة الإسناد.
إن النتيجة النهائية لهذه الدراسة ليست حكماً قاطعاً على الذكاء الاصطناعي بالخير أو بالشر، بل هي دعوة ملحة إلى "اليقظة الإبستمولوجية" و"المسؤولية الأخلاقية". إن "العقل المُعزَّز" ليس وجهة نصل إليها، بل هو طريق نسلكه، وتحدٍ نتخلق بأخلاقه. ومستقبل الفكر والإبداع لا يكمن في قدرات الآلة، بل في حكمة الإنسان الذي يستخدمها.
قائمة المراجع الموحدة (Consolidated Bibliography)
- Abrams, M. H. (1953). The Mirror and the Lamp: Romantic Theory and the Critical Tradition. Oxford University Press.
- Bender, E. M., Gebru, T., McMillan-Major, A., & Shmitchell, S. (2021). On the Dangers of Stochastic Parrots: Can Language Models Be Too Big? In Proceedings of the 2021 ACM Conference on Fairness, Accountability, and Transparency (FAccT '21).
- Bornmann, L., & Mutz, R. (2015). Growth rates of modern science: A bibliometric analysis of the number of publications and cited references. Journal of the Association for Information Science and Technology, 66(11), 2215-2222.
- Carr, N. (2010). The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains. W. W. Norton & Company.
- Clark, A., & Chalmers, D. (1998). The Extended Mind. Analysis, 58(1), 7-19.
- Cobo, M. J. (2021). Science mapping software tools: A review. In Springer Handbook of Science and Technology Indicators. Springer.
- Daly, A. (2023). The Role of AI in Creative Writing: A Study of World-building Tools. Journal of Creative Technologies, 14(2), 45-62.
- Eisenstein, E. L. (1979). The Printing Press as an Agent of Change. Cambridge University Press.
- Elkins, K. (2023). AI, Style, and the Voice of the Author. The Cambridge Quarterly, 52(1), 89-105.
- Forte, T. (2022). Building a Second Brain: A Proven Method to Organize Your Digital Life and Unlock Your Creative Potential. Atria Books.
- Gleason, N. W. (2023). The AI-Augmented University: A Blueprint for the Future of Higher Education. Routledge.
- Hayles, N. K. (1999). How We Became Posthuman: Virtual Bodies in Cybernetics, Literature, and Informatics. University of Chicago Press.
- Heidegger, M. (1977). The Question Concerning Technology, and Other Essays. (W. Lovitt, Trans.). Garland Publishing.
- Kirschenbaum, M. G. (2023). The Co-Writer: Creativity, AI, and the Future of the Novel. The Atlantic.
- Lyotard, J. F. (1984). The Postmodern Condition: A Report on Knowledge. (G. Bennington & B. Massumi, Trans.). University of Minnesota Press.
- Manning, C. D. (2022). Human language understanding & reasoning. Daedalus, 151(2), 127-138.
- Newell, A., & Simon, H. A. (1976). Computer Science as Empirical Inquiry: Symbols and Search. Communications of the ACM, 19(3), 113–126.
- Ong, W. J. (1982). Orality and Literacy: The Technologizing of the Word. Methuen.
- Searle, J. R. (1980). Minds, brains, and programs. Behavioral and Brain Sciences, 3(3), 417-424.
- Sontag, S. (1977). On Photography. Farrar, Straus and Giroux.
- Strubell, E., Ganesh, A., & McCallum, A. (2019). Energy and Policy Considerations for Deep Learning in NLP. In Proceedings of the 57th Annual Meeting of the Association for Computational Linguistics (ACL).
- Tingley, D. (2024). The Promise and Peril of Large Language Models for Social Scientists. Political Analysis, 1-14.
- Vallor, S. (2016). Technology and the Virtues: A Philosophical Guide to a Future Worth Wanting. Oxford University Press.
- Vaswani, A., Shazeer, N., Parmar, N., Uszkoreit, J., Jones, L., Gomez, A. N., ... & Polosukhin, I. (2017). Attention is all you need. In Advances in Neural Information Processing Systems 30 (NIPS 2017).
- Vig, J. (2020). Investigating Gender Bias in Language Models Using Causal Mediation Analysis. In Proceedings of the 2020 Conference on Neural Information Processing Systems (NeurIPS).
- Zhang, Y. (2023). AI-Powered Personal Knowledge Management: The Future of Learning and Creativity. Journal of Information Science, 49(3), 550-567.
- عبد الرحمن، طه. (2000). سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. المركز الثقافي العربي.






