علاقة التّصوف بالسّياسة: "كتاب فرحات عثمان "الفتوحات التّونسيّة ما بعد الحداثة الإسلامية" نموذجًا"


فئة :  قراءات في كتب

علاقة التّصوف بالسّياسة: "كتاب فرحات عثمان "الفتوحات التّونسيّة ما بعد الحداثة الإسلامية" نموذجًا"

علاقة التّصوف بالسّياسة: "كتاب فرحات عثمان "الفتوحات التّونسيّة ما بعد الحداثة الإسلامية" نموذجًا"

حافظ قويعة[1]

تمهيد:

صاحب هذا الكتاب، فرحات عثمان، مفكّر تونسي أصيل جزيرة قرقنة، تميّز بإتقانه اللّغة الفرنسيّة، وهو خرّيج كليّة الحقوق بتونس، اشتغل بالسّلك الدّبلوماسي مدّة، إلاّ أنّ النّظام السّابق، لم يكُن مطمئِنّا إلى توجّهاته الإصلاحية، فعمد إلى شطبه من الإدارة. لكنّ هذا لم يفتّ من عزمه على المُضيّ قُدمًا، فطفق يكتب وينشر في مجالات مختلفة. وقبل عرض ما جاء في ثنايا هذا الكتاب عن علاقة التّصّوف بالسّياسة والإسلام السياسي تحديدا، لابد من وضعه في سياقه:

يتنزّل كتاب الفتوحات التّونسيّة في مسار سلسلة من المؤلّفات العربيّة والفرنسيّة لفرحات عثمان، أوّلها عن "الاتّفاقيات الثّنائيّة بين فرنسا والعرب" (2002 بالفرنسيّة)[2] وآخرها ثلاثيّة بالفرنسيّة أيضًا، تحت عنوان كبير: الاستثناء التّونسيّ[3]. وقد يكون حدث "الانقلاب الشّعبي" (العبارة له)، في تونس سنة 2011، استحثّه على الكتابة في مسائل جوهريّة، يمكن إدراجها ضمن أربع دوائر متداخلة ومتصادية هي: تونس والدّين والسّياسة وما بعد الحداثة، أو لنقل ضمن عنوان كبير "الدّين والسّياسة في تونس في سياق ما بعد الحداثة"[4]. ويكفي أن تلقي نظرة سريعة على قائمة منشوراته في هذا الكتاب (ص 416)، حتى تدرك حقيقة ذلك. وقد تناول فرحات في كُتبه هذه مواضيع مُحرقة (الرّدّة، المِثليّة الجنسيّة، الخمرة، العُري الحجاب...) واستأنف النّظر فيها جذريا، مخالفا بذلك مسلّمات الخطاب الفقهي السّائد منذ عدّة قرون، وهو الخطاب الذي يسعى الإسلام السّياسي (حركة النّهضة في تونس وسائر التّيارات الإسلامويّة في العالم العربي الإسلامي) إلى مزيد دعمه وترسيخه في أذهان النّاس، خدمة لأغراض سياسيّة أضحت مكشوفة. وقد وضع الكاتب هذه المواضيع تحت عناوين لافتة للانتباه، إن لم نقل صادمة للمسلم العادي بقطع النّظر عن مستواه التّعليمي.

ويبدو عنوان الكتاب خارجًا عن المألوف، أو لنقُل صراحة استفزازيّا بعض الشيء، فعبارة "الفتوحات التّونسيّة" تُحيل بداهة على مرجعيّة صوفيّة (ابن عربي: الفتوحات المكّيّة) بقدر ما تعبّر عن نوع من التّباهي المفرط بتونس.

يعسُر تقديم كتاب بهذا الحجم في بضع صفحات. ولهذا، ارتأيت تقديم بسطة عامّة عن بنيته العامّة مشفوعة بالإشارة إلى بعض المسائل الجوهريّة والحارقة المثيرة للانتباه، إن لم نقُل المستفزّة بالمعنى الإيجابي للعبارة، مع التوقّف خاصة على موضوع التصوّف وموقعه اليوم وصلته بالإسلام السياسي، وهو من المواضيع التي يوحي بها العنوان فضلا عن كثافة حضور الإشارات إليه في المتن، ولا سيّما وقد خصّص له المؤلّف حيّزا في الفصل الرابع من الجزء الأوّل تحت عنوان "التّصوّف، إسلام تونس الشّعبي" (ص ص 73-86)، وكذلك فعل في الجزء الثاني تحديدا الشذرة الثالثة (ص ص 343-354) التي جاء فيها قسم بعنوان "صُورمن الواقع المعيش التّونسي أو إسلام التّصوّف".

وتقسيم الكتاب إلى فصول وشذرات اختيار طريف من المؤلّف، إذ اشتمل فضلاً عن النصّ الموازي (Le paratexte) على جزأين: جزء أوّل تحت عنوان "خواطر" (ص ص 27-311)، وجزء ثان تحت عنوان "شذرات" (ص ص 313-405)، تليه قائمة المصادر والمراجع والفهرس (ص ص 407-418). وقد وزّع الكاتب القسم الأوّل مِن مؤلّفه هذا على خمسة أبواب، وهي بدَورها موزّعة على مجموعة من الفصول: الباب الأوّل تحت عنوان "خواطر في الهويّة"، والثّاني تحت عنوان "خواطر في الأخلاقيّات"، والثّالث بعنوان "خواطر في السّياسة والحريّات"، والرّابع بعنوان "خواطر في الاجتماعيّات"، والخامِس "خواطر في الدّيانة". أمّا القسم الثّاني مِن الكتاب، فقد وزّعه الكاتب على خمس شذرات، جميعها باستثناء الأولى، في امتداح ما أسماه "إسلام ما بعد الحداثة".

I- السّياق الفكري للكتاب

يبدو أنّ مفهوم ما بعد الحداثة ظهر أوّل الأمر في سياق نظريّة بلورها جماعة من المهندسين الأمريكيين أشهرهم المهندس فانتيري (Venturi) الذي أحدث قطيعة مع الهندسة الوظيفية لصالح هندسة أخرى قائمة على جمالية تعطي الأولويّة للمتنافر، والعادي، الرّمزي، بل حتّى إلى ما يُعتبر في عداد القبيح. لكنّ هذا التّصّور لم يلبث أن اكتسح العديد من مجالات المعرفة. وقد استلهم المفكّر الفرنسي جان فرانسوا ليوتار هذا التّصوّر فنشر سنة 1979 كتابه الشّهير "La condition Postmoderne" مساهمًا بذلك في تَرسيخ مبادئ ما بعد الحداثة. ويعتبر جاك دريدا فضلا عن جيل دلوز وميشال فوكو من أشهر الفلاسفة المتبنّين لهذه المبادئ، ولو بطرائق وأساليب مختلفة. ويمكن القول بشيء من الاختزال، إنّ تيّار ما بعد الحداثة قائم على الأفكار التّالية:

- تهافت فكرة التّقدم التي طالما انبرى لتمجيدها، كلّ منظّري الحداثة بدءا من القرن السّادس عشر إلى اليوم، والتّشكيك في القدرات الكبرى للعلم وفي صلاحيّة السّرديّات الكبرى: الماركسيّة، الفرويديّة، الفنومينولجيا إلخ.. بعد أن أثبتت فشلها في مساعدة البشر على تأمين الحد الأدنى من العيش الكريم ومن العدالة والحريّة، وفشلها بصفة أخص في مساعدتهم على إضفاء معنى لوجودهم، وهو ما كانت تؤمنه، ولو عن طريق الوهم بأشكال مختلفة، الأساطير والدّيانات والملاحم إلخ..

- التّأكيد على نسبيّة القِيَم وعلى ضرورة التّخلي عن مقالة علويّة الحضارة الأوروبيّة والتّدني الأبدي للثقافات الأخرى (العربيّة/الصّينيّة/الهنديّة/ الإفريقيّة..)

- الاحتفاء بالحاضر والهُنا، وتحويل مركز ثقل الفاعليّة مِن الفرد إلى الجماعة (الجماعات المحليّة، الفئات المتجاورة أو المتعاطفة، الجمعيات المهنيّة، (القبيلة عند مافيزولي))؛ وذلك مقاومة لسياسة الحداثة القائمة على المشاريع والمخطّطات المستقبليّة الكبرى التي تهدف إلى تسييج سلوك البشر ومراقبتهم أينما كانوا بعقلانيّة جافّة وتقنيات حديثة قادرة على تحويل الكائن البشري إلى مجرد آلة يُمكن التّحكّم فيها عن بعد.

- إعادة الاعتبار إلى المخيّلة والحدس والعواطف والحواس والغرائز والأحلام واليوتبويات والتّديّن الشعبّي والأساطير وكل ما يبدو سطحيًّا وتافها، لكنّه في الحقيقة حيوي ومنغرس في الطّبيعة البشريّة.

فرحات عثمان منحاز بقوّة إلى هذه المقولات الما بعد حداثيّة مع تونستها وأسلمتها على طريقته بأسلوب فيه من الإبداع والحماسة الشيء الكثير، كما فيه من النّقد اللّاذع للإسلام السّياسي والتّقليدي وللرأسماليّة الهوجاء مالا يُحصى من الأقاويل. وفي هذا الإطار بالذّات، يمكن تنزيل العلاقة بين التّصوّف والسّياسة وتحديدا الإسلام السّياسي.

ففي هذا الكتاب كما أسلفنا، فصل بعنوان "التّصوّف إسلام تونس الشّعبي"، يمسح الصّفحات (73- 86)

وتحتَه عناوين صغرى، هي على التّوالي:

* في الإسلام الرّسمي

* في الإسلام الشّعبي

* إسلام التّصوّف للقضاء على دعدشة الإسلام

* إحياء إسلام التّصوّف بتونس

* التّصوّف هو الإسلام الأصيل

* الصّوفيّة إسلام زمن الثّورة

ويرى فرحات عثمان أنّ هناك اليوم في العالم الإسلامي وفي تونس بصفة أخصّ، إسلاميْن:

أ- إسلام خاطئ

هو الإسلام الرّسمي السّنّي الذي تحتكره السّلطة السياسيّة القائمة، وتسهر عليه دون سواه باسم الوسطيّة. وقد ازداد هذا الإسلام تزمّتًا بعد أن "تمكّنت منه" حركة النّهضة و"دعدشته" (ص 77). هو إسلام مخادع، يأخذ بالمظاهر، فيوظّف مُكبرات الصّوت في المحلّات التّجاريّة وفي المآذن، حتّى أصبحت الصّلاة على قارعة الطّريق عادة "كأنّ قداسة الصّلاة تدنّت إلى مستوى الزّبالة التي انتشرت في شوارعنا"' (ص 344). ولمزيد إقناع القارئ بقِصر همّة المتزعمين لهذا الإسلام وفي مقدّمتهم راشد الغنّوشي، (ص 332)، يقدّم الكاتب صورة حيّة عن محيط الجوامع والمساجد، فيقول ".. أحاطت بها الأوساخ من كلّ جانب ولا أحد من روّاده انتبه إلى ضرورة تنظيف محيطه بينما النّظافة من الإيمان! هل تصدق الصّلاة في محيط ملوّث؟ كم مصلّ يأتي بسيّارته فيصفّها حذو أو أمام باب المسجد غير مكترث بالغير وبسير الحياة في الحيّ [..] أيّ إيمان هذا، وقد انعدمت فيه مكارم الأخلاق التي هي أساس في احترام الآداب العامّة والخاصّة وتقمّصها في كلّ التّصرّفات اليوميّة أيّا كانت بساطتها وابتذالها، فلا ابتذال في الأخلاق؟ لن أُعيد هنا الكلام في الوسخ الذّهني..[5]. يقول الكاتب: "الإسلام الرّسمي، أكان المتوسّط كما ينعته بعضهم أم ما تزمّت عند بعضهم الآخر [..] هذا الإسلام المحنّط، نجده عند كثير من الفقهاء وهو مطيّة ساسة وذبّان بلاطات[6] لتحقيق مصالحهم الذّاتيّة [..] الإسلام الرّسمي بتونس يأخذ بالحرف في الدّين وينسى الرّوح الإلهيّة". وبعد التّأكيد على سماحة الإسلام يضيف: "لكنّ الحكّام في البلاد الإسلاميّة لا همّ لهم سوى توظيف الدّين لأغراضهم، فيصرفون آياته وأحكامه على هواهم، وهم بذلك يستحوذون على عقول البعض، ويدعمون تسلّطهم على الشّعب باسم دين هو منهم براء" (ص 54). خلاصة القول هو إسلام التّشبث بحَرفية النّص القرآني لا بروحه (إلزاميّة قطع يد السّارق مثلاً)، عوض الإعلاء من مقاصده الكبرى والعمل على تعميقها كي تكون مواكبة للعصر، فهو إسلام لا شعبي؛ أي هو خلافا لما يُدّعي زورا أو جهلا، لا يخدم مصالح الشّعب بقدر ما يخدم عمليّا مصالح دعاته ومصالح السّلطة الحاكمة، فضلا عن مصالح الرّأسمالية الحداثويّة الهوجاء. هو بعبارة موجزة والكلام له "إسلام الفسق[7] من حيث إنّه الخروج من الدّين الصّحيح إلى مجرّد المظاهر" (ص 343).

ب- إسلام صحيح

هو الإسلام الشّعبي. لكن ما هو بالتّحديد الإسلام الشّعبي؟ يقول الكاتب في فاتحة حديثه عن الإسلام الرّسمي "الإسلام الصّحيح التّونسي هو الإسلام الشّعبي، وهو في العمق إسلام التّصّوف، إسلام كما يقول "تقوى القلوب" الذي كان يمثّله كبار المتصوّفة، مثل ابن عربي والحلّاج والسّهروردي والبسطامي والغزالي (ص 326). هو إسلام يأخذ بروح الشّريعة ومقاصدها، لا بحرفيّة نصوصها. وعلى هذا الأساس، يتعيّن فَهم أغلب فصول الكتاب الأخرى التي دعا فيها الكاتب بجرأة نادرة إلى التّخليّ عن بعض العبادات في صورة تعارضِها مع المصلحة، كصيام رمضان (ص 155-4 16)، والحجّ والعمرة (ص 193- 819). ودعا كذلك بطريقة لا تقلّ جرأة إلى إباحة الخمرة، باعتبار أنّ الإسلام "لا يحرّم الخمر بل السّكر" (ص 231)، وانّ التّحريم نتاج اجتهاد الفقهاء على عكس المتصوفة الذين أحلّوها (ص 234-238). وفي السّياق نفسه، ذهب الكاتب إلى اعتبار تحريم اللّواط متأتّيا مِن الإسرائيليات (ص 263). ولم يتردّد في الإفصاح عن ضرورة إسقاط عقوبة الإعدام (ص 273 - 278) والتّخلي عن مفهوم الردّة (ص 253) احترامًا لحريّة العقيدة، فضلاً عن ضرورة المساواة بين المرأة والرّجل في الإرث، تناغمًا مع مقاصد الشّريعة (ص 225- 227). ولئن كان إسقاط هذه المحرّمات يندرج حسب عثمان فرحات في باب الاجتهاد الواجب والمشروع، فإنّ الإبقاء عليها اليوم كما ينادي بذلك السّلفيّون بمختلف مشاربهم، يندرج بالمقابل في باب ما أسماه الإرهاب الذّهني الذي هو في رأيه أخطر من الإرهاب المادّي.

في ضوء هذه المعطيات وغيرها ممّا لم نذكر لضرورة الإيجاز، يتّضح أنّ عثمان فرحات يعتبر التّصوّف الأصيل تصوّرًا وسلوكًا، من صميم العمل السّياسي؛ لأنّه قادر على نسف مقوّمات السّلطة القائمة المتواطئة مع ممثلي الإسلام السّياسي ومع ممثّلي الحداثويّة أو "الماديّة الفجّة" (ص 349) الذين يختزلون الإنسان في بعده المادّي، ويزدرون كلّ ما له علاقة بالذّات الإنسانية في تشوّفها إلى "السّلام الرّوحي" (ص 79) أو "التّوازن الرّوحي" (ص 386). وتجدر الإشارة إلى أنّ التّصوّف الذي يدعو إليه الكاتب، هو خلافا للرّأي السّائد، تصوّف لا يعزف عن الملذات، بل يحتفي بالحياة في أبهى تجلّياتها إشباعًا للغرائز وتفاعلاً إيجابيا مع الحواس (ص 347) أو بالأحرى "العقل الحسّي" (ص 380)، دون التّعدّي على حقوق الآخرين. ولاشكّ أنّ هذا الإسلام المتصوّف الرّوحاني – المادّي يزعج الكثيرين من الخاصّة والعامّة. فالسّلفيّة كما السّلطة القائمة ستنسبه بداهة إلى الكفر والزّندقة مثلما حصل سابقا مع كبار المتصوّفة، كما أنّ دعاة الحداثة الكلاسيكيّة سينسبونه إلى معاداة العقل والعودة إلى ظلاميّة القرون الوسطى، والحال أنّه بالنّسبة إلى فرحات عثمان عين ما تنادي به فلسفة ما بعد الحداثة التي كان "للإسلام الصحيح" حسب صاحب الفتوحات المكّيّة شرف الكشف عن مقوّماتها منذ قرون.

هكذا يتصوّر عثمان فرحات العلاقة بين التّصّوف والسّياسة. أمّا عن منطلقات الكتاب النّظريّة والمفاهيم الإجرائيّة التي وظّفها وأبعاده الفكريّة والسّياسيّة، فمسألة تحتاج إلى محاورة رصينة. وإن كناّ نشاطره الرّأي في العديد من النّقاط لا نسلّم فيما أقرّه بسهولة، بل اعتبره من المسلّمات "الإسلام الصّحيح؟"، "ما صحّ من السّنّة"؟ الإسرائيليات؟، "ما بعد الحداثة الإسلاميّة"، "الاستثناء التوّنسي –المغاربي"، فضلا عن الانحياز شبه المطلق إلى مقولات ما بعد الحداثة وبصفة أخصّ في صيغتها المافيزوليّة نسبة إلى عالم الاجتماع الفرنسي مافيزولي. لكنّ ما يشفع لصاحب هذا الكتاب هو اجتهاداته الجميلة وتخريجاته المفاهيميّة، وسعة اطّلاعه على قديم التّراث الإسلامي وحديث الفكر الأوروبي، فضلاً عن جرأته وصدقه وشجاعته في التّعبير عن آرائه، بل فيه مِن الحرّية المنفلتة تمامًا مِن عقال العقل ومن قواعد الكتابة الأكاديميّة ما يستسهل التناقض الصّارخ والتقميش Bricolage والخلط المقصود. وفيه أيضا من الوثوقيّة ما يسمح بالادّعاء إلى امتلاك الحقيقة (تكرار عبارة الإسلام الصحيح) رغم تأكيد صاحبه أكثر من مرة على أنّ الحقائق نسبيّة، وأنّ ما نعتبره اليوم حقيقة، ليس حسب تخريجته الجميلة سوى توجّه نحوها (vers-ité). لكنّ ما يشفع لفرحات في كلّ هذه الانفلاتات الجميلة هو صدقه: صدق عبارته التي يعكسها الأسلوب والاجتهاد في قدّ المفاهيم (is- lam ver-ités.... ) واطّلاعه الواسع والمتنوّع الذي ساعده على التّأليف بين المرجعيّة العربيّة الإسلاميّة القديمة والمعاصرة من جهة، والمرجعيّة الغربيّة القديمة والمعاصرة من جهة أخرى.

كلّ هذا يجعلني أدعو إلى قراءة هذا الكتاب قراءة فهيمة (العبارة له) لا لطرافته فحسب، بل لما فيه أيضًا من اجتهاد بالمعنى الأصيل للعبارة؛ أعني بذل أقصى الجهد في اتّجاه البحث عن الحقيقة. مع ضرورة الوقوف على مشكله والكشف عمّا في مسلّماته ونتائجه من تناقضات صارخة أحيانا، ليس من السّهل السّكوت عنها؛ لأنّ الطريق إلى جهنّم مفروشة بالنّوايا الحسنة (هو يؤكّد على حسن النّيّة)، ولأنّنا نمرّ بلحظة تاريخيّة حاسمة، اختلط فيها الحابل بالنابل، لحظة نحن فيها أحوج ما نكون إلى تأمين الحدّ الأدنى من النّظام أي من العقلنة والتفاهم والوضوح والانسجام والتّنوير مع الوعي في الوقت نفسه بالفوائض الإيديولوجية للحداثة وضرورة التّعامل النّقدي لكل منجزاتها كي لا نكرّر ما وقع فيه من أخطاء فادحة أولئك الذين حوّلوا مقاصدها وجعلوا من مبادئها مسلّمات أقرب إلى العقيدة الدّينيّة.

صحيح علينا أن نستفيد من مقولات ما بعد الحداثة الأكثر إجرائيّة، صحيح علينا استئناف النّظر في الشأن الدّيني، بعيدا عن مقولات الوضعانيّة الفجّة واسكتولوجيّات السّرديّات الحديثة كما يقول ريكور، لكن وضعنا نحن التّونسيين، والعرب المسلمين في سيرنا الواضح نحو الفوضى العارمة بمساندة مكشوفة، سواء من أنصار الإسلام السّياسي والحداثويّة المغرضة والجهل المقدّس والرأسمالية اللاّوطنية، أو من أنصار الرّأسماليّة الغربيّة الهوجاء وروّاد النّفاق الإعلامي الذي باسم الدّفاع عن حقوق الإنسان يهتك كرامة الإنسان ويستولي علنًا على خيرات الشعوب الضّعيفة بمعنويّات مرتفعة بل بوقاحة أصبحت اليوم معلنة على الملأ.

[1] باحث وأكاديمي تونسي، حاصل على دكتوراه الدولة في الآداب، أستاذ تعليم عال، متخصص في الحضارة العربية الإسلامية والدراسات القرآنيّة.

[2] Les accords franco-arabes. Des origines des relations bilatérales à nos jours. 2002

[3] L’Exeption Tunisie T 1 , Jeu du je: Imaginaire en jeu, méditerranéen enjeu,Tunis ,ARABESQUES. 2017

T 2 ,I-slam: Islam postmoderne vs tradition gudéo-chrétienne ,ARABESQUES. 2018

T 3 , postmodernité: De la démocratie à la démoncratie, ARABESQUES. 2018

[4] باستثناء ربّما كتاب التّعافي من الزهايمر. حول أسطورة شبه مرض. المغرب 2015

[5] الإبراز منّي. ويقدّم الكاتب في السياق نفسه أمثلة أخرى متفشّية في السّلوك اليومي بمباركة من الإسلام الرّسمي والنّهضوي ص345-351

[6] الإبراز منّي

[7] الإبراز منّي