علم الأصول وإشكاليّة الاتّباع والإبداع


فئة :  مقالات

علم الأصول وإشكاليّة الاتّباع والإبداع

علم الأصول وإشكاليّة الاتّباع والإبداع([1])


لعلّ أهميّة علم أصول الفقه، بالنسبة إلى الفقه، هي أحد الجوانب الّتي تفسّر لماذا ظلّ البحث حوله محاطاً بنوع من التّوجس، والتّردد، على الرغم من كثرة المؤلفات الأصوليّة في المراحل التّاريخيّة السابقة، إلّا أنّها تكاد تنحو منحى واحداً في تقرير مسائله، ودراسة مباحثه، وهي مؤلّفات يغلب عليها السعي نحو صياغة قوالب فكرية ودينيّة جامدة، حيث تتأطّر داخلها مختلف الآراء، والأحكام، والاجتهادات الفقهيّة.

فهو، إذن، يمثّل بالنّسبة إلى الفقه مرجعيّته المعرفيّة، ومنطقه الإبستمولوجي؛ لذلك كان لابدّ من تحرير البحث فيه، قبل الانتقال إلى أيّ موضوع آخر؛ لأنّه يفسّر لنا المسار التّاريخي لتشكّل العقل الفقهي.

قبل أن نفصّل الحديث في إشكاليّة الاتباع والإبداع، في علم أصول الفقه، لا بأس في أن نختصر الحديث عن تاريخ هذا العلم، وعن مباحثه، وطرق التأليف فيه، والمؤلفات الأصوليّة، الّتي كتبت فيه؛ لأنّ الإطناب في ذلك سيفضي بنا -لا محالة- إلى أمور خارجة عن مقصود هذا البحث، بالإضافة إلى كونها معلومة وموجودة في كتب تاريخ الفقه الإسلامي وأصوله؛ لذلك لن نقف عندها طويلاً إلّا في بعض المحطّات.

مفهوم علم أصول الفقه وموضوعه:

علم الأصول: هو الأسس العامة للفقه؛ التي تحدّد المناهج والقواعد الواجب مراعاتها من لدن الفقيه، في عمليّة استنباط الأحكام الشرعيّة العمليّة من أدلّتها التّفصيليّة. أمّا موضوعه، فهو بيان مناهج الاستنباط وقواعده، وذلك من خلال بيان مراتب الأدلّة الشرعيّة، ومدى حجيّتها، الّتي هي: القرآن، والسنّة، والإجماع، والقياس، وبيان الأدلّة؛ التي اختلفوا فيها كالمصالح المرسلة، والاستحسان، والاستصحاب، والعرف، وبيان الظّني منها من القطعيّ، ورسم الطرق المتبعة عند تعارض ظواهر النصوص، ووضع القواعد اللّغويّة والأصوليّة الكليّة؛ الّتي ترشد الفقيه أثناء الاستنباط، والّتي يصل إليها الأصوليّ عن طريق استقراء نصوص الشريعة، وأساليب اللّغة العربية، مثل الأمر للوجوب، والنّهي للتحريم، والعام قطعي الدّلالة على أفراده حتّى يقوم دليل التخصيص، وغيرها من القواعد التي يقرّرها علماء الأصول.

أهميّة علم أصول الفقه:

يُعدُّ علم أصول الفقه من أعظم العلوم؛ التي امتاز بها المسلمون من غيرهم، فهو يشكّل «الأساس الإبستمولوجي للمعرفة الدينيّة الإسلاميّة قديماً»[2]. وإنّ أهميّته عند الأصوليين لا تتجلّى، فحسب، في معرفة حكم الله في أفعال المكلّفين، وإنّما تتجاوز ذلك إلى كونه يُعدّ من العلوم الضرورية لكلّ مجتهد يسعى لاستنباط الأحكام، لأنّه لا يتصوّر أن يقدم مجتهد على عمليّة الاجتهاد، دون أن يكون عالماً بأصول الفقه.

كما أنّ معرفة علم أصول الفقه ترشد إلى فهم الأسس، التي بنيت عليها تلك الثّروة الفقهيّة؛ التي خلفها أجيال من العلماء والمجتهدين على مرّ العصور؛ ممّا يساعد على فهم حقيقة الاختلاف الفقهي بين الأئمة المجتهدين، ولا شكّ في أهميّة ذلك في عملية التقريب بين المذاهب الفقهية، وفي عمليّة الموازنة بينها، لاسيما فيما أصبح يعرف بعلم أصول الفقه المقارن.

نشأة علم أصول الفقه:

لقد نشأ علم أصول الفقه في القرن الثاني الهجري، وكان أوّل من دوّن قواعده، وجمع بحوثه في كتاب مستقل، الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ)، فقد ألّف كتابه (الرّسالة)، واضعاً فيه قواعد الاستنباط وضوابطه، وهذا هو نظر جمهور الفقهاء في تقريرهم الأسبقيّة للشافعي في تدوين علم أصول الفقه. «إذا كان الشافعي هو أوّل من وجّه الدراسات الفقهيّة إلى ناحية علميّة، فهو، أيضاً، أول من وضع مصنفاً في العلوم الدينيّة الإسلاميّة على منهج علميّ بتصنيفه في أصول الفقه»[3].

لكنّ ذلك لا يعني أنّ الشافعي هو من أنشأ هذا العلم؛ لأنّ هذا العلم نشأ مع نشأة الفقه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن معنى ذلك أنّه أوّل من قام بضبط قواعد الاستنباط، وجمع أشتاتها، ودوّنها في علم منظّم الأجزاء، محكم الأبحاث.

ولن نعرض للخلاف حول أسبقيّة التّأليف في علم الأصول، ذلك أنّ «المتكلّمين في الأصول قبل التّدوين كثيرون، في عهد الصحابة والتّابعين، ظهرت في نماذج تطبيقيّة في أحكام الخلفاء الراشدين، وغيرهم من القضاة، والحكام، ونماذج نظريّة، من أبرزها خطاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، والمقالة المرويّة عن واصل بن عطاء، أو المكاتبة بين مالك بن أنس والليث بن سعد، وغير هذا كثير»[4]، وهذا يعني أنّ المنهج «الأصولي نفسه كان قد تكوّن إلى حد كبير، وكان أغلب ما أضافه إليه الشافعي عناصر بيانيّة ونقليّة خاصّة بطرق الإسناد، أو عدالة الناقلين، أو على العموم مباحث خاصّة بالكتاب والسنّة، وبجانب هذا كانت هناك طرق عقليّة، أو مدارك للعقول يلجأ إليها نظار المسلمين وفقهاؤهم؛ بل حتّى هذه الطّرق لم يلجأ إليها الشافعيّ في رسالته»[5].

لقد كان الهدف العام من وراء نشأة وتدوين علم الأصول وضعَ الإطار النّظريّ لمختلف العلوم الدينيّة، ومحاولة تقنينها في صورة تحدّ من حريّة الاختلاف، وتضع السياج الذي ينبغي أن تقع ضمن دائرته كلّ محاولة اجتهاديّة، أو تجديديّة. فهو-وإن كان في بداية وضعه محكوماً بهاجس الحفاظ على الدّين- لم يستمر كذلك؛ لأنّه انحرف عن مسيرته في اتّجاه آخر، جعله يتحوّل إلى قواعد وضوابط جامدة وقامعة، تعبأ للقيام بوظيفة إيديولوجيّة من أجل الحفاظ على السّلطة السياسيّة.

إشكاليّة الإبداع والتجديد في أصول الفقه:

لعلّ الدواعي والمسوّغات، المعرفية والمنهجيّة والواقعيّة؛ الّتي تتعلّق بالتّجديد في علم أصول الفقه، كثيرة ومتعدّدة، ويمكن حصرها في المسائل الآتية[6]:

- فرض مقصدي: ومفاده أنّ واقع الأمّة، بما يكتنفه من تراجع وثبات حضاري على مستويات متعدّدة، يتطلّب إعادة النّظر في الأسس المنهجيّة المستند عليها في إنتاج المعرفة القانونيّة والاجتماعيّة السلوكيّة، حتّى تستعيد نهضتها، وفعلها الحضاري.

- فرض موضوعي: ويتأسّس على الاعتبار التّجديدي في موضوع لم يعهد فيه ذلك المطلب، بمعنى أنّ علماء الأمّة لم يتداولوا موضوعاً اسمه التّجديد الأصولي.

- فرض علمي: إنّ النّشأة الإبستمولوجيّة لعلم أصول الفقه، والقضايا المعرفيّة؛ الّتي بحثها علماء الأصول، كان مبدأ بعدها العلمي يرسو عند نشدان القطع في الأدلّة والأصول مع الشافعي، وتوقّفت عند الاستدلالات المنهجيّة على القطع مع الشاطبي، فهل لا يزال استصحاب النظر في الأصول بهذا الاعتبار وارداً؟

- فرض منهجي: ويتلخّص في مسألة المبتدأ والمنتهى في عمليّة التّجديد الأصولي.

لقد سبقت الإشارة إلى أنّ الشافعيّ كان أوّل من دوّن هذا العلم، ما يحتّم ضرورة فحص المنطلقات التأسيسيّة؛ التي أملت عليه ما ذكره في كتابه (الرسّالة)، «لقد كانت منظومة الشافعي الأصوليّة صالحة ما كانت الظروف التّاريخية مشابهة لظروفه، إلّا أنّ تغيّر هذه الظروف تغيّراً جذريّاً، تحت وطأة الثورات الصناعيّة والتقنيّة والإعلاميّة، وما يشهده العالم من تحوّلات في أنماط المعيشة، وفي القيم المجتمعيّة، وفي الوسائل المعرفيّة، كلّ ذلك يحتّم إعادة النظر في تلك المنظومة ونقدها»[7].

رسم علم أصول الفقه حدود التّنظير والاجتهاد بشكل عام، وسيّج العقل الفقهيّ بجملة من الضوابط والقواعد استقرّت، وترسّخت في تاريخ الفقه بصفتها مسلّمات لا يمكن أن يخرج عن دائرتها أيّ نوع من التفكير الفقهي؛ لأنّ الشافعي واضع علم أصول الفقه كان «مشغولاً، من حيث المبدأ، بتحقيق وحدة التّفكير الفقهي»[8]؛ لذلك فإنّ الأصول وضعت لتحدّ من الاختلاف والتّعارض، وتوحد منطلقات المعرفة الدينيّة، وليست مشكلة الأصول تقف عند هذا الحدّ، بل إنّ المسألة تتّخذ أبعاداً أكثر خطورة، إذا ما علمنا أنّ العقل الفقهيّ تعدّى مجاله التّخصصي، ليعيد تشكيل وصياغة العقل الإسلامي عموماً، عبر آلياتٍ ومنطلقات مرجعيّة ومنهجيّةٍ أصبح مجرّد إعادة التفكير فيها يُعدُّ خروجاً عن دائرة الإسلام.

لأجل ذلك، كان من الواجب أن نعيد التفكير في هذه القدسيّة المدّعاة لهذا العلم، الذي كان، في حقيقته، تعبيراً عن نشأة تاريخيّة لاحقة عن زمن النبوّة، لا من حيث التكوّن، ولكن من حيث التّقعيد، والتّنظير، والتّركيب، فكان كلّ واحد من أئمّة الفقه يضع من القواعد ما يتوافق مع ما قاده إليه اجتهاده. وليس أدل على ذلك اختلاف كلّ مذهب، أو مدرسة فقهيّة، عن غيرها من المذاهب الأخرى، وهو اختلاف يؤشّر إلى حقيقة التعدّد في القراءات، والتفسيرات، والتّأويلات؛ التي شهدها تاريخ التّشريع الإسلامي والفقه، ولا يمكن أن نفهم ذلك إلّا في إطار حالة الصراع الاجتماعي، والسياسي، والمذهبي؛ الذي ساد في فترات عديدة من أطوار الفقه الإسلامي.

وهذا يعني أنّه لا يمكن أن تتمّ عمليّة التجديد إلّا بإعادة الربط بين التداخلات الجدليّة؛ التي حصلت بين المعرفة والسّلطة، وبين المعرفي والإيديولوجي، حتّى يحصل هنالك تمييز بين هذه المستويات، وإعادة ترتيب لها وفق ما تمّ في سياقات التّاريخ؛ إذْ «كيف يمكن إنجاز تقويم للعلم في الإسلام، سواء من حيث النّشأة، والأهداف، والمقاصد، أم التّطور، دون أن نضع في الاعتبار أهمية السّلطة السياسيّة ومؤسّساتها المختلفة، كإطار اجتماعي، ومعطى واقعي، حيث لا تكفّ تلك السّلطة عن ترك بصماتها على كلّ من يمرّ في طريقها»[9].

ذلك أنّ البعد الجدليّ للمعرفة والسلطة حاضر بشكل كبير في تاريخ الإسلام، «ولعلّ ممّا عمّق حساسيّة العلاقة بين مالك السلطة السياسيّة في الإسلام، وبين العالم المشتغل بالمعرفة، أنّ كلا الرّجلين قد اقتنعا باستحالة التزام الحياد، كلّ منهما تجاه الآخر، الأمر الذي جعل المشاكل السياسيّة همّاً دائماً في الخطاب الكلامي والفقهي، ما جعل امتلاك المعرفة، وتأطيرها، وتوجيهها، همّاً دائماً لدى الخليفة، أو السّلطان. وإنّ في العلاقة الجدليّة بين الرّجلين، في تاريخ الإسلام، ما ينبئ بمدى حضور المشكل السّياسيّ كبعد من أبعاد تاريخ تشكّل المعرفة في الإسلام، وبمدى تأثّرها به، ما يعطي المشروعيّة لقراءة الإنتاج المعرفيّ -الفقهيّ والكلاميّ- من خلال مقاصد وأبعاد سياسيّة»[10].

ومجمل القول، في هذا المطلب، أنّ علم أصول الفقه، كغيره من العلوم، يبقى اجتهاداً بشريّاً استجاب لظروف المجتمع الإسلامي في تلك اللحظة من تاريخ التّشريع الإسلاميّ. «إن دراسة حجية الأصول، في ضوء التاريخ، تؤدي إلى استنتاج أنّها مجرّد اجتهادات بشرية نسبية تاريخية محكومة بضغوط الانتماء المذهبي والسياسي للأصوليين، وبحدود الثقافة السائدة، ومقتضيات الزمان والمكان الخاص بكلّ أصولي، وإذاً، فإنّ تغليفها بالمقدس ما هو إلا محاولة لتوظيفها في خدمة أهداف إيديولوجية ومذهبية، خفية أحياناً، وصريحة أحياناً أخرى»[11]، وتبقى الأسئلة المطروحة: إلى متى سيظلّ العقل الإسلاميّ مرتهناً لتعليلات أصولية يعدّها منظومات مكتملة وناجزة؟ وهل لا تزال تلك المنظومة الأصوليّة التقليديّة تملك مقوّمات الاستمرار والتّحيين في ظلّ عالم اليوم؟ وهل يمكن أن نخرج إلى الوجود نظرية أصوليّة جديدة ومعاصرة، تستطيع حلّ مشكلات الجمود السائدة في الفكر الإسلامي؟


[1]- جزء من بحث بعنوان "منهجيّة التجديد في أصول الفقه" للباحث ياسين الورزادي، نشر ضمن مشروع "تجديد الفكر الإسلامي مقاربة نقدية (1) محاولات تجديد الفكر الإسلامي مقاربة نقدية"، تقديم بسام الجمل، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، أكتوبر 2014.

[2]- الجمل، بسام، مطاعن النّظّام في الأخبار ورواتها، حوليات الجامعة التونسية، جامعة منّوبة، كلية الآداب، العدد 44، 2000م، ص 109

[3]- عبد الرازق، مصطفى، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة، مكتبة النهضة المصريّة، القاهرة، ط3، 1386هــــ/1966م، ص 232

[4]- أبو سليمان، عبد الوهّاب إبراهيم، الفكر الأصولي دراسة تحليليّة نقديّة، دار الشروق، جدة، ط1، 1403هــــ/1982م، ص 65

[5]- النشار، علي سامي، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، دار النهضة العربيّة، بيروت، ط3، 1404هــــ/1984م، ص 85

[6]- انظر: شهيد، د. الحسّان، نظرية التجديد الأصوليّ من الإشكال إلى التّحرير، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت- لبنان، دراسات شرعيّة (1)، ط1، 2013م، ص ص 39-40

[7]- الشرفي، عبد المجيد، لبنات، سلسلة معالم الحداثة، دار الجنوب للنشر، تونس، ص 143

[8]- كولسون، ن. ج.، في تاريخ التّشريع الإسلامي، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، مراجعة: د. محمد محمود عبد اللطيف الشافعي، المؤسسة الجامعيّة، بيروت، ط1، 1412هــــ/1992م، ص 86

[9]- الصغير، عبد المجيد، الفكر الأصوليّ وإشكاليّة السّلطة العلميّة في الإسلام، قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشّريعة، دار المنتخب العربي، بيروت، ط1، 1415هــــ/1994م، ص 79

[10]- المرجع نفسه، ص 150

[11]- ذويب، حمادي، جدل الأصول والواقع، دار المدار الإسلامي، ط1، 2009م، ص 315