علي مبروك: تطبيق الشريعة من الإرهاصات الأولى إلى تحدّيات الأزمة


فئة :  حوارات

علي مبروك: تطبيق الشريعة من الإرهاصات الأولى إلى تحدّيات الأزمة

 تطبيق الشريعة من الإرهاصات الأولى إلى تحدّيات الأزمة([1])

حوار مع الدكتور علي مبروك


يوسف هريمة: كلّ متتبع لخطاب الحركة الإسلامية المعاصرة يجده متمركزاً حول قضية تطبيق الشريعة. بدايةً، ما مدلول هذه اللفظة المثيرة للجدل؟ وما المقصود بالتطبيق؟ أهو جانب الممارسة الدينية في شكلها العام أم هو خاص فحسب بجانب التشريع الجنائي الإسلامي؟

الدكتور علي مبروك: يرتبط بروز مفهوم تطبيق الشريعة بالتطوّرات، التي صاحبت تسرُّب الحداثة إلى المجتمعات الإسلامية، مع مطالع القرن التاسع عشر، وما لحق ذلك من ابتداء تبلور ما يُسمى الدولة الحديثة؛ حيث بدا لمن صاغوا هذا المفهوم واستخدموه أنّه لا سبيل إلى إلباس هذه الدولة عمامة الإسلام، إلا من خلال هذا الإجراء بالذات. وهنا، يلزم تأكيد أنّ المفهوم قد تبلور في سياق الصراع الإيديولوجي على الإمساك بالدولة؛ حيث إنّ قصد رافعي راية المفهوم لم يكن أبداً نقض التشكيل الذي جرى الاصطلاح على أنّه الدولة الحديثة، بقدر ما كان الإمساك برأس هذا التشكيل والسيطرة عليه. وهكذا، إنّ الأمر لا يتعلق أبداً بأيّ تأسيسٍ جديد للدولة الحديثة، بقدر ما يتعلّق بالقبول بها على حالها، و، فقط، مع إلباسها رداء الأسلمة. وتبعاً لذلك، فإنّ كلّ حاملي مفهوم «تطبيق الشريعة» لم يختلفوا عن غيرهم في القبول بهذه الدولة، بما هي مجرد أداة للفرض الإكراهي لضروبٍ من التحديث الإجرائي البراني على الجمهور؛ وبما جعلها ذات طبيعة تسلّطية كامنة. لقد جاؤوا بالشريعة، إذاً، بما هي الرأسمال الرمزي، الذي سوف تتجاوب معه الفيالق التقليدية، التي أهملتها الدولة الحديثة، بأكثر من تجاوبها مع مفردات الدستور، والقانون، والديمقراطية، وغيرها. وفي كلمة واحدة، يجوز القول إنّ القصد لم يكن استخدام الشريعة رافعةً للانتقال من دولة التسلط والقمع القائمة، بقدر ما كان الإبقاء عليها مع أسلمتها؛ وكأن الأمر، في حقيقته، لا يتجاوز مجرد السعي إلى أسلمة «التسلط والقمع». ولعلّ ذلك ما يؤكّده أنّ حضور المفهوم لم يجاوز أنّه مجرّد شعار إيديولوجي لحشد الفيالق المتضرّرة من الدولة الحديثة؛ وهو الحضور الذي كان مصحوباً بضمور الأفق المعرفي للمفهوم على نحو كامل. وللغرابة، إنّ هذا الضمور المعرفي للمفهوم، والعجز الكامل عن التعاطي المُبدع مع الشريعة، كان هو ما أدى إلى إخراجها من المجال العام بحسب ما يكشف عنه ما جرى في مصر؛ التي كانت مركز اللقاء الأول مع الحداثة في هذه اللحظة الفارقة؛ إذ يكشف ما جرى (بحسب رواية الأستاذ الإمام محمد عبده) أنّ القائمين على الشريعة كانوا، بتقليديتهم وجمودهم، السبب فيما جرى من تعليق العمل بالشريعة في ظلّ التطورات المُستجدة، التي كانت تشهدها البلاد آنذاك.

يقول الأستاذ الإمام: «حدثني علي باشا رفاعة (الطهطاوي) قال: إنّ (الخديوي) إسماعيل باشا لمّا ضاق بالمشايخ ذرعاً، استحضر والده رفاعة بك، وعهد إليه أن يجتهد في إقناع شيخ الأزهر وغيره من كبار الشيوخ بإجابة هذا الطلب (أي الكتابة في الشريعة بما يوافق حال العصر)، وقال له: إنّك منهم، ونشأت معهم، فأنت أقدر على إقناعهم، فأخبرهم أنّ أوربا تضطرّني - إذا هم لم يجيبوا - إلى الحكم بشريعة نابليون، فأجابه رفاعة: إنّي - يا مولاي - قد شِخت، ولم يطعن أحد في ديني، فلا تعرِّضني لتكفير مشايخ الأزهر إيّاي في آخر حياتي، فأقلني من هذا الأمر، فأقاله».

هذا ما يرويه الأستاذ الإمام محمد عبده، كاشفاً عن السياقات التي اضطرّت، ضمنها، القوانين المنسوبة إلى شريعة الإسلام إلى ترك مكانها لمنظومة قانونية مغايرة تتفق ونوع العمران الحديث، الذي كان يتبلور في مصر آنذاك؛ أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. واللافت هنا هو ما يظهر من أنّ الأستاذ الإمام لا يدين ما فعله الخديوي اسماعيل، من إحلال ما قيل إنّها «شريعة نابليون» محلّ القوانين المنسوبة إلى شريعة الإسلام؛ بل إنّه يوجّه الإدانة إلى ما يرى أنّها «جناية شيوخ الأزهر على الشريعة». وهو يعني بهذه الجناية «قعودهم عن إجابة طلب إسماعيل باشا الخديوي تأليف كتاب في الحقوق والعقوبات موافق لحال العصر، سهل العبارة مُرتب المسائل، على نحو ترتيب كتب القوانين الأوربية، وكان رفضهم هذا الطلب السبب في إنشاء المحاكم الأهلية، واعتماد الحكومة على قوانين فرنسا، وإلزام الحكام بترك شريعتهم وحرمانهم من فوائدها». وهنا، يقدم الأستاذ الإمام الدليل العملي على ما لاحظه خير الدين التونسي، من قبل، من أن ترك الحكام (بل حتى العوام) للشريعة هو نتاج تقاعس العلماء والشيوخ عن النظر فيها، بما يجعلها موافقة لحال العصر، ومُستجيبة لأسئلة الواقع. وللغرابة، إنّ هؤلاء الشيوخ قد برّروا تقاعسهم «بأنهم يحافظون بذلك على الشرع، وطريقة سلفهم الأزهري في التأليف، (حيث رأوا) أنّ تأليف كتاب أو كتب (في الشريعة) يُقتَصر فيها على القول الصحيح، ويُجعَل بعبارة سهلة، مُقسماً إلى مسائل تُسرد بالعدد على كيفية كتب القوانين (الأوربية)، من البدع الهادمة لتلك السُنَّة، التي جرى عليها الميتون من عدة قرون». وإذا كان قد جرى اعتبار الخروج على سنن الموتى من قبيل «البدعة»، التي تؤول بصاحبها إلى الضلالة، فإنّ المرء يتفهم اعتذار الطهطاوي، حين طالبه الخديوي إسماعيل بإقناع شيوخ الأزهر بأن يتركوا سنن الموتى، ويكتبوا في الشريعة على الطريقة الحديثة، مخافة أن يطعنوا في دينه.

وهكذا، إنّ إخراج الشريعة من المجال العام في مصر قد تحقق بإرادة أصحاب الشأن من القائمين على حراستها من شيوخ الأزهر، ولم يكن قراراً من جانب سلطة غاشمة على نحو ما يجري الترويج له. وبحسب ذلك، يكون مفهوماً أن تتبدى الأزمة - طبقاً للأستاذ الإمام - في العقل، وليس في السياسة. ومن هنا، إنّ الجهد عند الإمام قد انصرف إلى ضرورة تجديد التفكير في الشريعة وغيرها، ولم يبدّد طاقته في مجرد التعريض بسلطة الدولة القائمة. فإنّه لا محلّ لتوجيه النقد للحكومة؛ لأنّ «الشيوخ (هم) العقبة في طريق كلّ إصلاح، وحجتهم الوهمية هي المحافظة على الدين، الذي لا يعرفه سواهم، و(مصدر) قوتهم (هو) غرور العامة بهم، وتصديق دعاويهم، والحكومات تحترم، دائماً، عقائد العامة، وعاداتها، وتقاليدها، حقاً كانت أو باطلة، لئلا تهيِّج عليها الرأي العام، ولذلك كان صلاح حال العامة بالتربية الصحيحة، والتعليم النافع، مفضياً إلى صلاح حال الحكومة بطبيعة الحال، لأنّ رأي الأمة يكون، حينئذٍ، صحيحاً، وقوة الأمة لا تُقاوم؛ لأنّ يد الله مع الجماعة». ما يلفت النظر، هنا، هو تعليق الأستاذ الإمام لبؤس الحكومة على الحال البائسة، التي يكون عليها العامة؛ بما يرتبه على ذلك من أنّ صلاح الحكومة موقوفٌ على صلاح العامة. وهو يردُّ بؤس العامة إلى تصديقهم دعاوى الشيوخ؛ ولابد من أن يترتّب على ذلك أنّ إصلاح «الدين» هو التوطئة الضرورية لإصلاح «السياسة». وبطبيعة الحال، إنه الدين، لا بما هو «عبادة»؛ بل بما هو محور ثقافة منتجةٍ لعقل. وإذ تكون الأزمة (والحال كذلك) ذات طابع عقلي، لا سياسي، فإنّ ذلك يؤكد قناعة الإمام بأنّه سيكون من السذاجة تعليق الأزمة في رقبة السياسة وحدها؛ ما راح ينعكس على إدراكه أنّ تجاوزها يستلزم، أولاً، إصلاح العقل، بما هو الشرط الضروري لإصلاح الحكم.

وبسبب جمودها، كان خروج الشريعة من المجال العام ضرورياً، بعد أن ضاقت عن الاتساع للوقائع المستجدة في حياة الناس؛ وبما أدّى بها إلى الصمت أمام ما يُعرَض عليها من المسائل، وعلى النحو الذي اضطرّ معه أهلها «إلى أن يتناولوا غيرها، وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقي إليها»؛ بل إنه قد «ظهر للناس بالاختبار أنّ المحاكم، التي يُحكَم فيها بقانون فرنسا، أضمن للحقوق، وأقرب إلى الإنصاف من المحاكم التي تُسند شريعتها إلى الوحي السماوي»؛ بما يعنيه ذلك من أن شريعة الإسلام لم تعد (مقارنة بشريعة نابليون) أضمن للحقوق، أو أقرب للتناصف. ومن هنا، ليس من الغريب أن يكون شيوخ الأزهر أنفسهم من الذين «يتحاكمون إليها (أي إلى المحاكم التي تحكم بشريعة نابليون)، فالشيخ العباسي رفع إليها بعض القضايا، وكان شيخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية، وكذلك شيخ الأزهر السابق، الشيخ سليم البشري، تحاكَم إليها في قضية تتعلق بأوقاف الأزهر، وكان له مندوحة عن ذلك، فكانت جنايتهم على الشريعة أنّهم أضاعوا القسم الأكبر منها، وكلّ ذلك بحجة حماية الدين، وحفظ الشريعة، الذي هو فخرهم، ولو بالباطل، ينالون به الزلفى في نفوس عامة المسلمين المقلدين لهم، الذين لا يعلمون بماذا يقلدون». وهكذا، إن ما قيل إنّه «حفظ الشريعة» لم يكن، في حقيقته، إلا ضرباً من المحافظة (بلغة الأستاذ الإمام) على «التقليد الأعمى للميتين والجمود على العادات الموروثة»؛ وهي المحافظة التي لم تذهب فحسب بروح الدين والشريعة؛ بل إنّها ذهبت برسومهما أيضاً. فإن «الناس تحدث لهم، باختلاف الزمان، أمورٌ ووقائع لم يُنَصّ عليها في هذه الكتب (الموروثة)، فهل نوقف سير العالم لأجل كتبهم؟ هذا لا يُستطاع، ولذلك اضطر العوام والحكام إلى ترك الأحكام الشرعية ولجؤوا إلى غيرها».

وإذا كان إخراج الشريعة من المجال العام قد ارتبط - والحال كذلك - بالعجز عن جعلها موافقة لروح العصر، فإنّ أيّ نظرة على التواليف المتواضعة، التي أخرجها دعاة تطبيق الشريعة، إنما تؤول إلى أنّ الشرط الذي أدى إلى إخراج الشريعة من المجال العام لا يزال قائماً على حاله؛ وذلك من حيث ما تنكشف عنه تلك التواليف من استمرار الضمور المعرفي للمفهوم. وهنا، يلزم التنويه إلى أنّ الأمر لا يتعلق فحسب بمجرّد حصول حوادث لا نصَّ عليها في الكتب الموروثة؛ بل يتعلق - وهو الأهم - بانبثاق رؤى مغايرة للعالم تستلزم نوعاً من المراجعة الكلية للمفهوم، الذي يقوم عليه بناء الشريعة المُراد تطبيقه. فإنّ هذا البناء يقوم على مبدأ «التمييز»، الذي ينتمي إلى رؤية مغايرة للعالم تنتسب إلى عالم العصور الوسطى. فإذا كان بناء عالم العصور الوسطى يقوم على تراتبية تُمايز المسلم عن غير المسلم، والرجل عن المرأة، والحر عن العبد، فإنّ مبدأ التراتبية التمييزية قد انسرب إلى بناء منظومة الشريعة المتوارثة، على النحو الذي يجعل تطبيقها مستحيلاً خارج أفق العصور الوسطى. ويرتبط ذلك بحقيقة أنّ بزوغ عصر الحداثة قد أسقط تراتبية العصور الوسطى على نحوٍ كامل؛ حيث لم يعد يمكن لمن يفكر بهذه التراتبية أن يدَّعي الانتساب إلى العصر الحديث. وهكذا، إن استمرار تبنّي خطابٍ ينبني على مبدأ التمييز والتراتبية، سيظل عائقاً أمام الانتساب الحقيقي إلى العصر الحديث، الذي يتيح لكلّ الأفراد أن يحضروا في المجال العام، بما هم سواسية لا تمييز بينهم على أساس الدين، أو النوع، أو العِرق، أو المكانة الاجتماعية؛ وبما يعنيه ذلك من أنّ تطبيق الشريعة في العصر الحديث يستلزم إعادة بنائها ابتداءً من رؤية للعالم مختلفة على نحوٍ كلي. فإنّ ذلك يستلزم بناء خطابٍ جديدٍ عن الشريعة ينبني على مبدأ اللاتمييز، الذي يتوافق مع بناء العصر الحديث. ولكن ذلك لن يكون ممكناً حقاً إلا عبر تحرير القرآن من إطارات الفهم المتوارثة بدورها من عالم العصور الوسطى، ومن الضغوط التي يمارسها عليه الخطاب التمييزي للشريعة. ولعلّ ذلك يدفع إلى ضرورة إعادة النظر في العلاقة بين الفقه والقرآن؛ التي يبدو فيها أنّ القرآن ليس هو ما يوجه الفقه؛ بل إنّ الفقه هو (يا للغرابة) ما يوجه القرآن، ويفرض عليه سطوته. يعني ذلك أنّ القرآن ينطق بما يريد له خطاب الفقه أن ينطق به؛ الأمر الذي يتحقق من خلال ما يجري فرضه عليه من الآليات والمفاهيم، التي يُقال باستحالة مقاربته إلا من خلالها؛ كالنسخ، والإجماع، والجمهور، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وغيرها من القواعد، التي توجِّه القرآن للنطق في اتجاهٍ بعينه.

ولأنّ شيئاً من ذلك لم يقدمه الرافعون شعار تطبيق الشريعة، فإنّ ذلك يؤكد أنّ ثرثرتهم بالشعار لا تجاوز حدود السعي إلى تشغيل المفهوم كقناعٍ إيديولوجي بقصد السيطرة به على المجال العام. وإذاً، إنّ رافعي شعار «تطبيق الشريعة» لا يملكون ما يقدمونه إلا الكثير من «صخب الإيديولوجيا» المصحوب بالكثير، أيضاً، من «فقر المعرفة».

يوسف هريمة: لتطبيق الشريعة جهاز مفاهيمي نشأ - كما سبق أن أشرتم في أحد الحوارات معكم - في سياق تاريخي بدءاً بنظرية الكسب الأشعرية، وصولاً إلى تشكلاتها المعاصرة مع سيد قطب والمودودي. لا بأس في إعادة السؤال من جديد. كيف وصلنا إلى هذا الفهم في تطبيق ما يسمى الشريعة؟

الدكتور علي مبروك: لعله تلزم الإشارة، هنا، إلى واحدٍ من أكثر المفاهيم مركزية في خطاب دعاة تطبيق الشريعة؛ وهو مفهوم «شمول الإسلام». فإن الإسلام، على قول أحد هؤلاء الدعاة (وهو حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين) «معنى شامل ينتظم شؤون الحياة جميعاً، ويفتي في كلّ شيء منها، ويضع له نظاماً محكماً دقيقاً، ولا يقف مكتوفاً أمام المشكلات الحيوية والنظم التي لابدّ منها لإصلاح الناس. وقد فهم بعض الناس، خطأً، أنّ الإسلام مقصورٌ على ضروبٍ من العبادات، أو أوضاعٍ من الروحانية، وحصروا أنفسهم وأفهامهم في هذه الدوائر الضيقة من الفهم المحصور. ولكنّا نفهم الإسلام، على غير هذا الوجه، فهماً فسيحاً واسعاً ينتظم شؤون الدنيا والآخرة». ولعلّ هذا المفهوم يجعل الأمر يتجاوز مجرّد تطبيق الشريعة نظاماً قانونياً إلى ما يمكن القول إنّها حاكمية الإسلام على الحياة بأسرها (أي ظاهراً وباطناً). وهنا يلزم تأكيد أن اكتناه معنى هذا المفهوم ودلالته، داخل فضاء الفكر الإسلامي، إنّما ينكشف عن توسيعه لدائرة الدين؛ إلى حد أنه يُدخِل فيه ما ليس منه. فإنّ الإصرار على إلصاق صفة «الإسلامي» بكلّ ممارسة إنسانية إنما ينطوي على ضرورة أن يكون ما ينبغي النظر إليه على أنّه من قبيل «المُباح» موضوعاً لحكم ديني (وجوباً أو حظراً). وإذ يكون المُباح موضوعاً لحكم بالوجوب، أو الحظر، فإنّ ذلك إذا كان سيؤدي إلى إدخال بعض المصالح ضمن دائرة الدين، سيؤدي، في الآن نفسه، إلى إمكان النظر إلى الكثير من المصالح المُعتبرة المُباحة، التي يهتدي إليها العقل، على أنّها انحرافٌ عن الدين، وخروجٌ منه، لأنّها تتعارض، فحسب، مع تصوّر من يملك سلطة تقرير أنّ هذا من الدين، وذاك ليس منه. فإذا كان صاحب هذه السلطة سيطلق على ممارسة بعينها وصف «إسلامية»، فإنّه سيكون مُضطراً - لا محالة - إلى إطلاق وصف اللا-إسلامية على الممارسة التي تخالفها؛ وذلك من حيث أنّ كون الأولى موضوعاً لحكم بالوجوب (الشرعي) لابد من أن يؤدي إلى أن تكون الثانية، في المقابل، موضوعاً للحكم بالحظر (الشرعي). وإذ ينتهي الأمر، على هذا النحو، إلى تحويل المُباح إلى موضوع لأحكام الحظر والوجوب (الشرعيين)؛ فإنه لابد من الوعي بما يعنيه ذلك من تقليص دائرة المُباح الواسعة، في الإسلام، لحساب دائرة الإلزام الضيقة. ولقد كان ذلك ما راح يحذر منه ابن حزم بوصفه إدخالاً في الدين لما ليس منه.

لكن الأخطر من ذلك هو ما يجري من عَدِّ كلِّ ما لا يُوصف بالإسلامية خروجاً من الدين، وانحرافاً عنه؛ حيث سيكون ذلك هو الأداة التي ستشتغل بها الإقصائية، عند دُعاة تطبيق الشريعة، بكلّ ما تؤول إليه من عنفٍ ودموية. وتتأتّى دموية هذه الإقصائية من القدرة على إخفاء ما يقوم عليه بناء هذه الفكرة من حضورٍ تأويليٍ كثيف. فإذا كانت فكرة شمول الإسلام هي الأصل فيما يجري من الإدخال فيه والإخراج منه، فإنّه يلزم تأكيد أنّ هذه الفكرة تستبطن حضوراً تأويلياً كثيفاً؛ حيث إنّه لا مجال لإدخال شيء في الإسلام، وإخراج آخر منه، إلا عبر فعل تأويلي. وعلى الرغم من ذلك، ينكر من يشتغلون بهذه الفكرة، على نحوٍ كامل، أن يكون ما يقومون به من الإدخال والإخراج تأويلاً من فعلهم، ويصرون على النظر إليه على أنّه من تقريرات الإسلام ذاته. لابد، إذاً، من فضح الحضور التأويلي الكثيف الذي تستبطنه فكرة شمول الإسلام، التي تؤسس، بدورها، لفكرة تطبيق الشريعة، التي لا تعني إلا اتساع الإسلام لكلّ ما يُراد إدراجه فيه مما سيُقال إنه شريعة يلزم تطبيقها.

يوسف هريمة: لنقد خطاب الحاكمية يلزم تفكيك مكوناته، والإشارة إلى بعض ما يختزنه من مغالطات. كيف تقرؤون هذا النمط في التفكير؟ أَهو حالة نفسيّة وفكريّة فرضتها ظروف معيّنة خاصّة؛ الأوضاع الهنديّة الباكستانية مع المودودي، وأيضاً، الحالة المصرية الناصرية مع قطب، أم الأمر له ما يسوّغه دينيّاً وشرعيّاً؟

الدكتور علي مبروك: أقام المودودي بناء مفهوم الحاكمية (الذي هو المفهوم الأكثر مركزية في خطابه على الإطلاق) على بعضٍ من الأفكار، التي استعارها من منظِّر السلفية الأكبر ابن تيمية؛ وهي الأفكار التي يبدو أنّها قد وصلته عبر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي كانت أفكاره قد وفدت إلى شبه القارة الهندية منذ القرن التاسع عشر. وتكاد فكرة ابن تيمية، التي ميَّز فيها بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، تكون الأساس الذي أقام عليه مفهوم الحاكمية. ويترتّب ذلك على حمولة المعنى التي أعطاها ابن تيمية لكلّ واحدٍ من نوعي التوحيد؛ إذ فيما توحيد الربوبية عنده أنّ الله هو الحاكم وحده لعالم الكون، فإنّ المعنى الذي يعطيه لتوحيد الألوهية يشير إلى أنّ الله هو وحده الحاكم المسيطر في عالم الإنسان. ولعلّه يمكن القول إنّ ابن تيمية قد استهدف، من وراء هذا التمييز بين ضربين من التوحيد، استيعاب الآثار، التي نجمت عن غزوات الصليبين والتتار للمشرق الإسلامي. فقد خلقت هذه الحروب أوضاعاً تلاقت فيها أقوامٌ من الغرب (الفرنجة) ومن الشرق (التتار) مع المسلمين؛ ما أدى إلى جعل المشرق الإسلامي ساحة انصهرت فيها العادات، والعبادات، والعقائد، والأعراف المتباينة، التي تحملها كلّ هذه الأقوام المتنافرة. ومن هنا، تحديداً، ما بدا لابن تيمية من أنّ الإسلام قد داخلته بدعٌ شركية لابد من تطهيره منها؛ على النحو الذي جعله يبلور التمييز بين ضربين من التوحيد. فقد أمكنه هذا التمييز بين ضربي التوحيد من الإمساك بالأداة، التي يقدر بها على إنتاج ما يبتغي من ضروب المفاصلة والإقصاء داخل سياق اجتماعي يتشكّل فيه الإسلام على نحوٍ بات فيه مطلوباً منه أن يتّسع لممارسات وأعراف هؤلاء الوافدين الجدد. وحين يدرك المرء أنّ هؤلاء الوافدين الجدد كانوا، على الرغم ممّا يُخالط إسلامهم المُحدث من ممارسات غريبة، يتميزون بمكانة في التراتبية الاجتماعية تعلو بهم فوق علماء الدين، فإنّ له أن يتصور صراعاً يسعى فيه هؤلاء العلماء ليس إلى الإعلاء من سلطتهم فحسب؛ بل تنزيل هؤلاء الوافدين إلى مقام ناقصي الإسلام. وبطبيعة الحال، إنّ التمييز بين ضربي التوحيد قد تبلور ضمن هذا السياق الصراعي الذي بدا لعلماء الدين (وابن تيمية أحدهم) أنه لا يمكن حسمه لصالحهم على نحوٍ نهائي إلا بالطعن في معتقد هؤلاء الوافدين في التوحيد. ومن هنا، راح يتبلور التمييز بين ضربين من التوحيد، ليتسع أحدهم، وهو «توحيد الربوبية»، لهؤلاء الوافدين، الذين وضعهم ذوو السلطان في مكانة أعلى من العلماء، بينما سيكون «توحيد الألوهية» الأداة التي سيجري تنزيلهم بها إلى مقام ناقصي الإسلام، لكي يصبح تنزيلهم في الرتبة الاجتماعية واجباً.

وهكذا، إنّ التمييز بين ضربي التوحيد قد نشأ عن السعي إلى إنتاج ضربٍ من المفاصلة بين من سيجري اختصاصهم بأنّهم أصحاب الإسلام الصحيح، وبين من سيجري وصمهم بأنّ الشرك يخالط إسلامهم لما يصدر عنهم من ممارسات شركية تتبدى في عدم إفرادهم الله وحده بالعبادة. إنّ ذلك يعني أنّ التمييز بين نوعي التوحيد قد نشأ كجزءٍ من استراتيجية للإقصاء والعزل داخل سياق اجتماعي يشتعل فيه الصراع من أجل المكانة، بكلّ ما يؤشر إليه ذلك من دلالة سياسية لافتة. ولعل ما يؤكد حضور المكون الاجتماعي/السياسي في هذا التمييز هو ما جرى، فعلاً، من استخدام الشيخ محمد بن عبد الوهاب له كسلاحٍ للدمج والتوحيد السياسي للجزيرة العربية في القرن الثامن عشر.

ولعلّ ذلك ما يؤكّده، من جهة أخرى، ما جرى من استخدام المودودي لهذا التمييز ذاته بين ضربي التوحيد في بناء مفهوم «الحاكمية»، الذي يستحيل فهمه، على أيّ نحو، خارج مجال الاجتماع السياسي. والمُلاحظ أنّ السياسة تدخل كمكوِّن مركزي في بناء المفاهيم كافةً التي يشتغل بها المودودي؛ وحتى الأكثر مفارقة وتعالياً كالألوهية مثلاً. فإن «أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة... وإن كلاً من الألوهية والسلطة تستلزم الأخرى، وإنّه لا فرق بينهما من حيث المعنى والروح، فالذي لا سلطة له لا يمكن أن يكون إلهاً، ولذلك لا معنى لألوهية من لا سلطة له». كما أنّ «كلمة الدين تُستعمل في كلام العرب بمعنى القهر، والسلطة، والحكم، والأمر، والإكراه على الطاعة...، ووردت في القرآن بمعنى السلطة العليا، ثم الإذعان لتلك السلطة العليا، وقبول إطاعتها، وعبديتها، والمراد بإخلاص الدين لله ألا يسلمّ المرء لأحدٍ من دون الله بالحاكمية والحكم والأمر»؛ بل إنّه يبلغ حدّ «أنّ كلمة الدين لم ترد، في روايات القرآن عن بني إسرائيل، بمعنى النِحلة أو الديانة، بل أريدَ بها الدولة ونظام المدنية». وهكذا، إنّ السياسة تخترق مفهومي الألوهية والدين من خلال اختزالهما، على نحوٍ كامل، في «السلطة»، التي هي، أيضاً، قلب «الحاكمية» ومعناها؛ لأنّ من لا سلطة له لا يمكن أن يكون في موقع «الحاكمية». وجديرٌ بالاعتبار أنّه ليس من معنى لذلك إلا أنّ «الحاكمية» هي جوهر الألوهية والدين معاً. وبما هي كذلك، إنّ إيمان المرء بالألوهية والدين لا يمكن أن يتم إلا بالإيمان بالحاكمية؛ وبما سيترتّب على ذلك من أنّ إنكارها سوف يكون إنكاراً لهما وكفراً بهما.

وإذ السلطة/الحاكمية هي جوهر الألوهية، فإنّه كان لابدّ من تصوّرها بما يليق بجلال الألوهية، وتعاليها المطلق. ومن هنا تصوّرها المودودي مطلقة وشاملة لا يفلت شيء (أيّ شيء على الإطلاق) من الخضوع لها؛ وبكيفية بدا معها كأنه الانتقال من «شمول الإسلام» عند البنا إلى «شمول السلطة/الحاكمية» عند المودودي. والحق أنّ المودودي لم يفعل إلا أن بلغ بالبنّا إلى نهاياته، التي كان لابدّ من أن يبلغها على أيّ حال. فإنّه إذا كانت فكرة «شمول الإسلام» هي أداة البنا - كما سبق القول - في جعل السياسة ركناً من أركان الإسلام، فإن فكرة «شمول السلطة/الحاكمية» كانت هي أداة المودودي في إدخال السياسة في تركيب الألوهية نفسها. والجدير بالاعتبار، هنا، هو ما يبدو من أنّ النزعة الشمولية (Totalitarianism) هي المآل الذي ينتهي إليه خطاب تسييس الإسلام، عند كلا الرجلين. وإذ تعني الشمولية أن يغيب الذاتي المتعيّن ليحضر الكلياني الصوري فحسب، فإنّ ذلك يعني أنه لا حضور للإسلام، ضمن هذه النزعة الشمولية، إلا بما هو محض إطارٍ كليِّ مجرد لا مجال فيه لأيّ حياة أو تطوّر؛ وبما يرتبط بذلك من التنزيل القهري له على الواقع.

وتأكيداً لهذا الشمول، مضى المودودي إلى أنّ «هذه السلطة غير قابلة للتجزئة، فلا يمكن، أبداً، أن السلطة في أمر الخلق بيدٍ، وفي أمر الرزق بيدٍ أخرى...، كما لا يمكن أن يكون الإنشاء في يدٍ، والمرض والشفاء في يدٍ أخرى، والموت والحياة بيدٍ ثالثة». وهو يؤسس هذا الشمول على أنّه «لو كان الأمر (على غير هذا الشمول) لما أمكن لنظام هذا الكون أن تقوم له قائمة، فممّا لابد منه أن تكون السلطات والصلاحيات بيد حاكم واحد يرجع إليه كلّ ما في السموات والأرض». وهكذا، إنّ شمول السلطة/ الحاكمية ينبني على أنّ تجزئتها سيؤدي إلى الإخلال بنظام الكون كلّه. وإذا كان المودودي قد اتّخذ الأمثلة، التي يؤكّد بها شمول السلطة من مجال الظواهر الكونية الكبرى (كالخلق، والرزق، والحياة، والموت، وغيرها)، فإنّ ذلك ما لا يمكن للمرء أن يرفض القول بشمول السلطة بخصوصه. لكنّ المشكلة تأتي من أنّ المودودي لا يقف بشمول السلطة عند حدّ هذه الظواهر الكونية؛ بل يتجاوزها إلى غيرها من ظواهر الاجتماع والسياسة. فإنّ «ممّا يقتضيه توحيد السلطة العليا أن يكون جميع ضروب الحكم والأمر راجعة إلى مسيطر قاهر واحد، وألّا ينتقل جزء من الحكم إلى غيره، فإنّه إذا لم يكن الخلق إلا له، ولم يكن له شريكٌ فيه، وإذا كان هو الذي يرزق الناس، ولم تكن لأحدٍ من دونه يدٌ في الأمر، وإذا كان هو القائم بتدبير نظام الكون وتسيير شؤونه، ولم يكن له في الأمر شريك، فما يتطلبه العقل ألا يكون الحكم والتشريع إلا بيده كذلك، ولا مبرّر لأن يكون أحدُ شريكاً له في هذه الناحية أيضاً». وإذاً، إنه الانتقال من تدبير «نظام الكون» إلى تدبير «نظام الاجتماع والسياسة»، ومع إسقاط أيّ تمايزات بين المجالين اللذين لا يمكن التسوية بينهما أبداً. وهنا، إذا كان كبار فقهاء السياسة، من أهل السنّة كأبي بكر الطرطوشي وغيره، قد انتقلوا من تدبير الكون إلى تدبير الاجتماع، فإنّما ليضعوا للحاكم سلطة في مجال الاجتماع تماثل السلطة التي لله في المجال الكوني. فإنّه «كما لا يستقيم سلطانان في بلدٍ واحد لا يستقيم إلهان للعالم، والعالم بأسره في سلطان الله تعالى، كالبلد الواحد في يد سلطان الأرض». ولكنّ تمثيل سلطة الحاكم في مجال الاجتماع بسلطة الله في المجال الكوني لا يلغي تمايز الواحدة منهما عن الأخرى؛ بمعنى أنّ أحداً من فقهاء السياسة الكلاسيكيين لم يقل بوحدة السلطة في مجالي الكون والاجتماع معاً؛ بل ظلوا يمايزون بينهما، وإن قاسوا إحداهما على الأخرى. ولعلّ المودودي أوّل من انتقل من القول بالتماثل بين السلطة في مجال الاجتماع والسياسة، وبين السلطة في مجال الطبيعة والكون، إلى توحيد السلطة في المجالين معاً. وإذا كان الطرطوشي قد احتفظ، في ظل ما أقامه من التماثل، بالفارق بين (الله) صاحب السلطة في الكون والطبيعة، وبين (سلطان الأرض) صاحب السلطة في الاجتماع والسياسة، فإنّ منطق توحيد السلطة، الذي تبناه المودودي سوف يلغي أيّ فارق بين صاحب السلطة في المجالين (الكوني) و(الاجتماعي/السياسي). وهنا يكمن المأزق، الذي سيجعل المودودي يرتفع بغير الإلهي (وهو سلطان الأرض) إلى مقام الإلهي؛ وعلى النحو الذي يدخل به (يا للغرابة) إلى دائرة الممارسات الشركية، التي بلور خطابه كلّه من أجل دحضها وإدانتها. وينشأ ذلك عن استحالة أن يكون أحد من غير بني البشر صاحبَ السلطة في مجال الاجتماع والسياسة؛ بما يترتب على ذلك من القول إنّ جعلَ الله صاحب السلطة في هذا المجال ليس إلا نوعاً من السعي إلى إضفاء قداسة الإلهي وتعاليه على صاحب السلطة من بني البشر. وإذ لا معنى لذلك إلا الشرك، فإنّ ذلك يكشف عن انتقام الدين من كلّ من يقومون بتسييسه؛ وذلك من حيث ما يبدو من إلقائه بهم خارج حدوده.

وعلى أيّ حال، إنّ ما يتبنّاه المودودي من توحيد السلطة إنّما يقوم على تسويته (التي لا تستقيم أبداً) بين مجال الكونيّات ومجال السياسات. فإنّ ممارسة السلطة في كلّ واحدٍ من المجالين لا تتحقق على الشاكلة نفسها أبداً. فإنّه إذا كان الله يمارس سلطته في مجال الكون والطبيعة، من خلال القوانين والسنن الكونية، فإنّ هذه القوانين والسنن ذات وجودٍ أنطولوجي موضوعي؛ وعلى النحو الذي تكون فيه مستقلةً على نحوٍ كامل عن الوعي، وكلّ عمليات الفهم. وبعبارة أخرى، إنّ ما تتميز به من الوجود الأنطولوجي الموضوعي يجعلها تشتغل دوماً، وعلى النحو نفسه، سواء كانت موضوعاً لفهم البشر أم لم تكن. وإذا كان المودودي يتصوّر أن الله يمارس سلطته في مجال الاجتماع والسياسة، من خلال القوانين التي أنزلها في كتب الوحي، فإنّه يلزم تأكيد أنّ هذه القوانين لا تتميّز بالوجود الموضوعي الأنطولوجي نفسه الذي تتميّز به القوانين الكونية والطبيعية؛ لأنّها تتبدَّل بحسب أوضاع المُخَاطَبين بالوحي. ولهذا، إنّ القوانين الموحاة في الكتب المقدسة لا توجد أبداً في استقلال عن الوعي؛ بل تتأثر بعمليات الفهم البشري لها؛ التي هي عمليات متحوّلة بطبيعتها. ومن هنا، قوانين الاجتماع والسياسة، حتى التي نطق بها الوحي، تظلّ قابلة للتبدُّل والتغيير عكس القوانين الكونية، التي لا تقبل التغيير والتبدُّل أبداً. وإذا كان وقوع قوانين الاجتماع والسياسة في قبضة عمليات الفهم المفتوحة، أبداً، هو الأصل في قبولها التغيير والتبدُّل الذي يستمر أبداً، فإنّ ذلك يؤول إلى استحالة الإمساك بها في حضورها الإلهي السابق على دخول الفهم الإنساني في تركيبها. ومن حسن الحظ أنّ ذلك ما يمكن الانتهاء إليه من ملاحظة للمودودي نفسه قطع فيها بأنّ «النبي قد أوضح للناس أنّ الله - سبحانه وتعالى - لا يؤتي قانونه للناس مباشرة، وإنّما يؤتيه لهم بواسطة أنبيائه ورسله». وبطبيعة الحال، إن وساطة النبي لا تقف فحسب عند مجرد التبليغ والنقل؛ بل تتجاوز إلى البيان، والتفسير، والشرح، والتطبيق؛ وهين جميعاً، نوافذ يتسرب من خلالها الشرط الإنساني (التاريخي والمعرفي) إلى بناء هذه القوانين. وغنيٌّ عن البيان أن دخول الفهم البشري في تركيب هذه القوانين إنما يؤول إلى أنّ سلطة الحكم بها، في مجال الاجتماع والسياسة، لابد من أن تكون إنسانية في جوهرها. وإذ هو الدخول اللازم (والحال كذلك) للشرط الإنساني في تركيب السلطة في مجال الاجتماع والسياسة، فإنه ليس من معنى للقول بإلهيتها إلا محض السعي إلى إسباغ قداسة الإلهي على ما لا يمكن إلا أن يكون إنسانياً بطبيعته. ويبقى، بطبيعة الحال، أنّ كلّ تعالٍ بالسلطة إلى مقام الإلهي إنما يقصد تحصينها ضد الرقابة والمحاسبة. وإذا كانت مساواة المودودي الفاسدة بين السلطة في مجال الكون، والسلطة في مجال الاجتماع، تنتهي إلى التعالي بالحاكم في مجال الاجتماع والسياسة (الذي يلزم أن يكون بشرياً) إلى مقام الإلهي، فإنّه ينتهي، من جهة أخرى، إلى التنزُّل بالمحكومين إلى مقام الجمادات، أو الأحياء غير العاقلة. فإنّ اعتبار القوانين الفاعلة في مجال الكون مساوية للقوانين الفاعلة في مجال الاجتماع والسياسة يؤدي إلى تنزيل الكائنات المحكومة بقوانين الاجتماع والسياسة (وهم من البشر) إلى رتبة الجمادات والأحياء غير العاقلة نفسها التي تحكمها القوانين الطبيعية والكونية. وهكذا يتبدى، على أجلى ما يكون، الدور الوظيفي التي تؤدّيه فكرة الحاكمية في المجال السياسي. والغريب، حقاً، هو ما يبدو من أنّ المودودي كان، في كلّ ذلك، يستأنف تقاليد أسلافه الكبار من الأشاعرة في إقامة بناء عالم الاجتماع والسياسة على الأساس نفسه الذي يقوم عليه عالم الكون والطبيعة؛ بما رتبوه على ذلك من التعالي بالحاكم (عبر ما أقاموه من المماثلة بين الله والسلطان) من جهة، في مقابل تنزيل المحكومين والتدنِّي بهم (عبر تمثيلهم بالجمادات والحيوانات) من جهة أخرى.

وإذا كان المودودي هو الذي أشاع مفهوم «الحاكمية»، واستخدمه صراحةً في الحقل السياسي الإسلامي المعاصر، فإنّه يبقى أنه لم يفعل إلا أن وصل بالمقدمات الأولى الراقدة في نصوص الأشاعرة والحنابلة إلى نهاياتها القصوى. وإذ راح المفهوم يرتحل، في اللاحق، إلى العالم العربي مع الموجة الثانية من موجات ارتحال الإسلام السياسي من شبه القارة الهندية إلى العالم العربي، فإنّه يمكن للمودودي أن يحتجّ بأنه لم يفعل في الحقيقة إلا أن ردَّ إلى العرب بضاعتهم، بعد أن تخمَّرت في البيئة الهندية أواسط القرن العشرين. فقد كان المسلمون الهنود يعملون، آنذاك، من أجل الانفصال عن المحيط الهندوسي الهائل، والاستقلال بدينهم في دولة يحكمها الإسلام، بعد أن تعلموا من الأفغاني أنه لا سبيل إلى إقامة «دين» الإسلام إلا عبر إقامة «حكم» الإسلام. وهكذا، إنّ المفهوم قد تبلور في إطار هوياتي يسوده السعي إلى الخروج من هوية إلى أخرى. وإذ كانت الهوية، التي ينسلخ المسلمون الهنود منها، ذات طابع قومي، فإنّه لم يكن أمام الهوية البديلة إلا أن تكون ذات طابعٍ ديني محض. ويعني ذلك أنّ مفهوم الحاكمية قد تبلور في إطار تحوّل الدين إلى هوية؛ وهي تجربة فريدة عاشها المسلمون الهنود، ولم يكن لها ما يماثلها في العالم العربي، الذي ارتحل إليه المفهوم. وبطبيعة الحال، حين تقرّر جماعة ما أن يكون الدين بمثابة الهوية التي تميز بها نفسها، فإنّ انشغال هذه الجماعة سوف ينصرف إلى استبعاد كلّ ما يهدّد النقاء الخالص لهذه الهوية؛ بما يفسّر أنّ «الإقصائية» سوف تكون هي محور تفكيرها كلّه.

يوسف هريمة: حينما نتكلّم على الحاكمية، أو تطبيق الشريعة، يطفو العنف في تجلياته القصوى. ما الروابط بين الخطابين؟ وهل، بالفعل، تطبيق الشريعة عنف، أو هو حدّ من حالة العنف التي قد يعرفها مجتمع ما؟

الدكتور علي مبروك: لعلّ ذلك يرتبط بأنّ مفهوم الحاكمية قد تبلور (حسب ما بدا آنفاً) ضمن سياق هوياتي إقصائي ومنغلق، كما تبينه تجربة المودودي. وهذا السياق بالذات هو ما يؤسس لخطورته الهائلة، التي تتبدى في حقيقة أنه لا يقدر أن يشتغل إلا على نحوٍ دمويٍ وقتالي. ويرتبط ذلك بأنّ المسكونين بهاجس الهوية النقية لا يتوقفون عن رؤية الآخر، الذي هو كلّ من لا يشاركهم هويتهم، كتهديدٍ لابد من القضاء عليه، والتخلص منه. ومن هنا، ما سيتبناه كلّ أصحاب هذا الهاجس الهوياتي المغلق من منطق المفاصلة والاستعلاء، الذي سيتطور عند سيد قطب بالذات؛ وإلى الحد الذي سيكون معه العالم بأسره عدواً لابدّ من إخضاعه ومحاربته من أجل أن ترتقي جماعته المسلمة إلى حيث ينعقد لها لواء الأستاذية عليه. وغنيٌّ عن البيان أنّ هذه هي الايديولوجيا، التي تصطف فيالق الجهاديين تحت بيارقها، وهم ينشرون الخراب والفوضى في سائر البقاع.

وفي إطار الاستعلاء والمفاصلة، فإنّه إذا كانت هذه الفيالق الجهادية تؤجّج حروبها تحت راية «الحاكمية»، فإنّها قد راحت تنحطُّ بخصومها إلى درك «الجاهلية»؛ وعلى النحو الذي كان لابدّ معه من أن يتم تجسيد مفهومي «الحاكمية والجاهلية» في كيانات اجتماعية وسياسية. ومن هنا، ما سيذهب إليه سيد قطب (الذي كان هو من تلقَّف الموجة الثانية لتسييس الإسلام القادمة أيضاً من الهند) من أنّ «الإسلام لا يعرف إلا نوعين من المجتمعات؛ مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي». وهكذا، إن الانقسام القديم بين «دار الإسلام» و«دار الكفر» قد عاد مرة أخرى، من خلال مفهومي الحاكمية والجاهلية؛ فأصبح هناك ما يمكن القول إنه «مجتمع الحاكمية» في مقابل نقيضه السادر في الجاهلية. لكنّه بدا أن تغييراً قد طرأ واتّسع بمقتضاه مجتمع الجاهلية حتى شمل «العالم (الذي) يعيش اليوم كله في جاهلية»، وأصبح يدخل فيه حتى المجتمع الذي «لا ينكر وجود الله تعالى، ولكن يجعل له ملكوت السماوات، ويعزله عن ملكوت الأرض، فلا يطبق شريعته في نظام الحياة، ولا يحكِّم قيمه التي جعلها هو قيماً ثابتة في حياة البشر، ويبيح للناس أن يعبدوا الله في البيَع، والكنائس، والمساجد، ولكنّه يحرِّم عليهم أن يطالبوا بتحكيم شريعة الله في حياتهم، وهو، بذلك، ينكر أو يعطل ألوهية الله في الأرض». وهكذا، إنّ مجتمع الجاهلية لم يعد ذلك المجتمع الذي لا يدين أهله بدين الإسلام؛ بل الذي لا تقوم فيه حكومة الإسلام ودولته. فقد يدين كلّ أعضاء المجتمع بالإسلام، ومع ذلك يظلّ مجتمعاً جاهلياً لأنّ أهله لا يرون في الحكومة ركناً من أركان الإسلام، التي لا يكتمل دينهم إلا بإقامتها بحسب دعاة الحاكمية. وفي المقابل، إنّ «المجتمع الإسلامي» قد تضاءل إلى حدّ أنه لم يعد يتّسع إلا لدُعاة الحاكمية والعاملين على إخضاع الناس لسلطانها؛ وهم «عصابة من أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم تسعى من منطلق واجبها الشرعي لإعادة الخلافة الإسلامية حامية هذا الدين، باذلة في ذلك أرواحها. فقامت جماعة حسن البنا في مصر، والدكتور مصطفى السباعي في سورية، والمودودي في باكستان، وفي إيران كان نواب صفوي، وغيرها من الحركات الإسلامية، التي كلّما بدأت تعمل أجهضتها القوى الكافرة لتقوم غيرها لتكمل المسيرة غير عابئة بما لحق بسابقتها. وهكذا، صراعٌ دائم من أجل إعادة الخلافة الإسلامية». وإذاً، إنّه التقابل بين «أهل الحاكمية»، الذين يجمعهم السعي (من الإسلاميين الحركيين) إلى إقامة حكومة الإسلام، وبين «أهل الجاهلية»، الذين لا ينحصرون في غير المسلمين فحسب، بل يدخل فيهم الغالبية العظمى من المسلمين الذين لا يعملون (حكّاماً ومحكومين) من أجل إقامة حكم الإسلام؛ وهو تقابلٌ صراعي عنيف.


[1]- نشر في إطار مشروع بحثي تحت عنوان "مفهوم تطبيق الشريعة في فكر دعاة الإسلام السياسي مقاربة نقديّة"، تقديم أنس الطريقي، مؤسسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.