فلسفة الموسيقى عند ابن باجة بين الإبداع والاتباع


فئة :  مقالات

فلسفة الموسيقى عند ابن باجة بين الإبداع والاتباع

فلسفة الموسيقى عند ابن باجة

بين الإبداع والاتباع

الملخص:

تشكل فلسفة الموسيقى جانبا مهما من الجوانب التي حظيت باهتمام الفلاسفة المسلمين خلال الفترة الوسيطة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، سواء في المشرق أو الغرب الإسلامي. فعلى الرغم من تحريم الفقهاء الاشتغال بالموسيقى، إلا أن الفلاسفة المسلمين تمردوا على هذا الحكم الفقهي، ودعوا في مقابل ذلك إلى تعلم الصنعة الموسيقية ونبهوا إلى أهميتها في التربية وفي العلاج من مجموعة من الأمراض، بل وتجاوزا ذلك إلى بناء فلسفة للموسيقى.

ومن بين هؤلاء الفلاسفة، نجد أبا بكر ابن باجة، الذي يعدّ أحد أبرز الفلاسفة الذين تشهد لهم المصادر التاريخية بإتقان الصنعة الموسيقية في الغرب الإسلامي.

في هذه الورقة البحثية حاولنا استقصاء بعض الجوانب من فلسفته الموسيقية معتمدين على مقالته "في الألحان"، والتي تعد النص الوحيد الذي وصلنا من بين كتاباته المتعددة حول الصنعة الموسيقية، حيث عملنا على الانطلاق من تحديد منزلة الموسيقى في سلم ترتيب العلوم عند ابن باجة، ثم انتقلنا إلى إبراز طبيعة علاقة الموسيقى بالنفس الإنسانية، وأخيرا وقفنا عند موقف ابن باجة من مسألة تعليم الصنعة الموسيقية داخل المدينة الإسلامية، باحثين طوال هذا المسار عن عناصر الإبداع والإتباع في فلسفته.

تقديم:

تتناول هذه المقالة بعض جوانب "فلسفة الموسيقى عند ابن باجة"، وقد اعتمدت في استقصاء هذه الجوانب على مقالة "الألحان" التي تعد المقالة الوحيدة التي وصلتنا من بين كتابات الرجل حول علم الموسيقى[1]. ولهذا، فنحن نقر منذ البداية أننا لا ندعي تقديم عرض لنظرية كاملة في فلسفة الموسيقى عند ابن باجة.

ولعرض هذه الجوانب، انطلقنا من تحديد المرتبة التي يحتلها علم الموسيقى في سلم العلوم عند ابن باجة؛ ذلك أن الحديث عن أي علم من العلوم عند القدماء لا يمكن أن يستقيم دون النظر إلى منزلة هذا العلم في سلم تصنيف العلوم لديهم، وكذا طبيعة العلاقة التي تربطه بالعلوم الأخرى الأدنى منه أو التي تعلوه في المرتبة. على هذا الأساس، انطلقنا في بناء ورقتنا البحثية هذه من تحديد المجال العلمي الذي يصنف ضمنه ابن باجة الصنعة الموسيقية، ومنزلتها وعلاقتها بالصناعات المشكلة لهذا العلم وبالعلوم الأخرى، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى النظر في موقف ابن باجة من مسألة تعليم الصنعة الموسيقية.

تظهر مقالة "الألحان" في البداية ابن باجة واحدا من أتباع الفلاسفة اليونان، سواء على مستوى تصنيف الصنعة الموسيقية ضمن سلم العلوم أو على مستوى التأثير الذي تخلفه اللحون الموسيقية على النفس الإنسانية، فهو لم يخرج عن النسق الفلسفي الذي رسمه الفلاسفة السابقون له، حيث يبدو في نصه السالف الذكر مجرد ناقل لما ورد في نصوص القدماء، فعلى الرغم من أن النص يشي في مواضع كثيرة بعدم اقتناع ابن باجة بعدد من التصورات الفلسفية السابقة له، إلا أنه لم يستطع تجاوزها، ولم يتملك الجرأة الكافية لتوجيه سهام النقد لها، لكن عند الحديث عن مسألة تعليم الموسيقى يظهر ابن باجة بصورة مغايرة في مقالة "الألحان"؛ ذلك أنه لم يتوان في إخراج سهام النقد من جبته وتوجيهها لكل الفلسفات السابقة له، حيث بدا هنا بوجه المتمرد الذي يأبى الانصياع أو الخضوع لأي قوة خارجية، بل الأكثر من ذلك استطاع تجاوز موقف الفلسفات السابقة، وبناء تصور جديد يتجاوز نظرية الوسط العدل التي دعا إليها أرسطو، ويؤسس لتصور جديد يدعو فيه إلى ضرورة إتقان تعلم الصنعة الموسيقية.

بناء على ذلك نتساءل: ما هي مظاهر حضور التصورات الفلسفية السابقة في فلسفة الموسيقى عند ابن باجة؟ وبالمقابل، أين تتجلى مظاهر النقد والتجاوز لديه؟ والأهم من ذلك كله، هل يمكن القول إن ابن باجة في فلسفته الموسيقية كان مجرد تابع للفلسفات السابقة له، على الرغم من مظاهر التجاوز والنقد الواردة في نصه أم إن هذه الأخيرة استطاعت أن تجعل منه مؤسسا لفلسفة موسيقية أصيلة داخل الحضارة العربية الإسلامية؟.

1- في دلالة الصلة بين الموسيقى وعلم الهيئة

في تصنيفه للصنعة الموسيقية، لم يخرج ابن باجة عن السائد لدى الفلاسفة السابقين له، حيث رأى أن الموسيقى علم ينتمي إلى مجموعة العلوم المشكلة للعلم الرياضي. فقد كانت "الموسيقى، بمعنى علم الموسيقى، أحد العلوم الرياضية الأربعة في العصور الوسطى عند المسلمين والمسيحيين، فيما عرف في اللاتينية بالحكمة الرباعية: الأرثيماطيقي (الحساب)، والجيوماطريقا (الهندسة)، والموسيقى (علم التأليف)، وأخيرا الأسطرولوميا أو الفلك (علم الهيئة). وهذا التقسيم مأخوذ على أي حال عن الإغريق"[2]، كما لم يتجاوز أيضا السابقين له في تحديد منزلة الصنعة الموسيقية بين هذه العلوم. فمن بين التوجهين الفلسفيين الذين عرفهما تاريخ الفلسفة بخصوص ترتيب العلوم الرياضية، اختار ابن باجة التوجه الذي يجعل من الصنعة الموسيقية مقدمة لعلم الهيئة، على حساب التوجه الآخر الذي جعل من علم الهيئة مقدمة لعلم الموسيقى.

يمثل الفريق الأول كلّا من أفلاطون وأرسطو؛ فقد عمل أفلاطون على الربط بين الإيقاعات الموسيقية والأجرام السماوية، معتبرا أن الأنغام الموسيقية ينبغي أن تكون محاكية للتناغم الذي يوجد عليه الكون، فهي وحدها القادرة على خلق توافق بين نفس الإنسان المتناهية ونفسه اللامتناهية[3]، تبعه في ذلك تلميذه أرسطو الذي "اقتبس جزءا كبيرا من فلسفته في الموسيقى من أفلاطون، فاتفق مع أستاذه على أن الموسيقى فن مقلد صيغ على نموذج الانسجام الكوني"[4]. في حين يمثل الفريق الثاني فيتاغورس وتلامذته وأبا بكر بن باجة، فقد انتصر هذا الأخير للتصور الفيتاغوري على حساب التصور الأفلاطوني، دليلنا في ذلك ما ورد في رسالته إلى أبي جعفر يوسف بن حسداي، حيث يقول: "وأما صناعة الموسيقى، فإني زاولتها حتى بلغت فيها مبلغا رضيته لنفسي، ثم بعد ذلك صناعة الهيئة، فإني أكملت النظر فيها الكمال الذي يقتضيه ما وجدته من مبادئها [...] ثم تجردت للنظر الطبيعي وأنا فيه لا أقدم عليه عملا"[5]. يمثل هذا القول شاهدا على أن ابن باجة، في ترتيبه للصنائع الرياضية، يجعل من الصناعة الموسيقية مقدمة على علم الهيئة من جهة، وأيضا شاهدا على أنه يعدها علما من العلوم الرياضية من جهة ثانية، هذا فضلا عن أنه قول يكشف لنا عن المسار الفكري لابن باجة الذي انتقل فيه من العلم الرياضي إلى العلم الطبيعي من جهة ثالثة.

إن تقديم ابن باجة للصناعة الموسيقية على الصناعة الفلكية داخل نسق العلم الرياضي، إن دل على شيء إنما يدل على أن العلم الأول مدخل للثاني، وهذا ما يؤكده ابن باجة نفسه عندما يقول: "وهذه صناعة [يقصد علم الهيئة] شغلت بها نفسي منذ تركت صناعة الموسيقى"[6]، وكأنه بهذا يعتبر أن تعلم الصنعة الموسيقية شرط ضروري لتعلم صناعة الهيئة. ولما كان الفلاسفة القدماء يجمعون على أن العلم الأدنى إنما يستمد مبادئه لزوما من العلم الأعلى، فإن هذا يعد دليلا أن ابن باجة يعتبر أن في الصنعة الموسيقية مبادئ لصناعة الهيئة التي تعد أدنى منها مرتبة في سلم الترتيب داخل نسق العلوم الرياضية. وعلى هذا لا يسعنا إلا أن نقر بأن للصناعة الموسيقية عند ابن باجة مكانة مهمة ضمن سلم العلم الرياضي، فهي على هذا النحو تمثل مدخلا لعلم الهيئة من جهة، وأيضا حلقة وصل بينه وبين علمي الحساب والهندسة من جهة ثانية. لكن ما الذي يجعل من تعلم علم الموسيقى مقدمة ضرورية لتعلم علم الهيئة؟.

تعود أصول هذا التقليد، كما بينا سابقا، إلى المرحلة اليونانية القديمة مع فيتاغورس وتلامذته، يتبعهم في ذلك بعض الفلاسفة المسيحيون والمسلمون. وعليه، فنحن نقر أن ابن باجة لم يكن السباق إلى جعل الصنعة الموسيقية مقدمة لتعلم الصنعة الفلكية، فقد كان الفلاسفة قبله، خلال المرحلة القديمة والوسيطية، يعتبرون "أن الموسيقى نقطة انطلاق لفهم الكون وتمهيدا لدراسة الفلسفة"[7]. لدى الكندي مثلا نعثر على هذا التقليد الفيتاغوري حاضرا، في المشاكلة التي أقامها بين السلم الموسيقي والأفلاك السماوية؛ إذ "وجد الكندي بسهولة نسبة مشاكلة بين السلم الموسيقي، وبين الأفلاك. فقد كانت الأفلاك السيارة المعروفة في عصره سبعة كنغمات السلم الموسيقي، زحل والمشتري والمريخ والشمس، والزهرة وعطارد والقمر، بهذا الترتيب. كأن كل نغمة تعبر عن مدار معين"[8]. والحق أن تصور الكندي لم يكن أصيلا كل الأصالة؛ ذلك أن الفضل في ذلك يعود في الحقيقة إلى فيتاغورس الذي "قعد القواعد للموسيقى، واستعمل اكتشافاته بها في التأصيل لنظريته عن حركة الأجرام السماوية، حيث أن جميع الأجسام في الفضاء تصدر عنها أصوات، وتعود درجة ارتفاع كل منها إلى حجم الجسم وسرعته، ومن هذه الأصوات أو النغمات تتكون (موسيقى الأفلاك) التي لا يستطيع الإنسان سماعها؛ لأنه لكي يسمعها لا بد من أن يسبقها أو يتبعها سكون، في حين أن النغم الكوني نغم دائم لا ينقطع"[9]. وبالتالي، لا يمكن للباحث في علم الهيئة أن يفهم حركات الأجرام السماوية ويبرع في تفسيرها، دون أن يكون ملما بقواعد الصنعة الموسيقية وعارفا بنغمها وتآليفها. داخل هذا النسق الفكري الذي انطلق من الحضارة اليونانية مع فيتاغورس، تشكل تصور ابن باجة الذي اعتبر هو الآخر في رسالته "في الألحان"، "أن النغم التأليفية هي نسب اختلاط الأفلاك ودورانها ونغم الطبيعة العاملة بالمجاري الصحيحة"[10]. حاصل القول إذن أن ابن باجة كان فيتاغوريا حينما أقام علاقة مشاكلة بين الموسيقى وعلم الهيئة، جاعلا من الصنعة الموسيقية مقدمة لصناعة الهيئة، وبذلك يكون الحضور اليوناني في فلسفة الموسيقي عند بن باجة واضحا لا مجال لنكرانه؛ واضح على مستوى جعل علم الموسيقى علما رياضيا أولا، وواضح أيضا على مستوى النظر إلى علم الموسيقى كمقدمة لعلم الهيئة من جهة ثانية.

2- الموسيقى والنفس الإنسانية

تمثل علاقة الاتصال (المشاكلة) هذه التي أقامها بابن باجة بين علم الموسيقى وعلم الهيئة، مقدمة لفهم طبيعة العلاقة بين الصنعة الموسيقية والنفس البشرية؛ ذلك أن التآليف الموسيقية التي أبدعها الفنانون عبر العصور، إنما ابتدعوها للتعبير عن مختلف الطباع التي تتميز بها النفوس البشرية. على هذا الأساس، سننتقل من تبيان طبيعة المشاكلة بين النغم الموسيقية والأفلاك السماوية، إلى تبيان نوع آخر من المشاكلة، يتعلق الأمر في هذه المرحلة بالمشاكلة بين النغم الموسيقية والنفس الإنسانية؛ ذلك المشاكلة من النوع الأول يمكن اعتبارها بمثابة مقدمة للنوع الثاني الذي يعد نتيجة لها. لقد أقر ابن باجة في مقالته "في الألحان" بأن إدراك طبيعة المشاكلة بين الموسيقى والنفس الإنسانية لا يمكن أن يتأتى إلا عبر إدراك طبيعة المشاكلة بين الموسيقى وعلم الهيئة، حيث يقول: "ولما راموا [يقصد الفلاسفة السابقون له] تلك الحكاية [أي أن الموسيقى هي نتاج اختلاط نسب الأفلاك ودورانها]، وشبهوا تلك النسب الوهمية، وحملوها على الطبائع الإنسانية، وجب لكل إنسان أن يميل إلى الطبائع المركبة فيه. فإذا وقع التشاكل وتوافقت الطباع تاقت النفس [و] وفعلت وامتدت روحانيتها وانبسطت وجرى فيها من المادة الروحانية ما يبعثها على الأنسة"[11].

نستطيع من هذا المقتطف أن نتبين ملاحظتين؛ الأولى مفادها أن ابن باجة يقر بأن التكامل أو المشاكلة التي تبناها بين الموسيقى وعلم الهيئة من جهة، وبينها وبين النفس من جهة ثانية، إنما استوحاها من الفلاسفة السابقون له؛ فعبارة "لما راموا" ليس لها من دلالة في هذا السياق غير أنه يحيل على الفلاسفة الذين ألفوا في مجال الموسيقى قبله. والحق أننا نجد في النصوص الفلسفية اليونانية هذا النوع من المشاكلة لدى العديد من الفلاسفة كفيتاغورس وتلامذته وأفلاطون وأرسطو، هذا فضلا عن النصوص الفلسفية العربية التي تبنى فلاسفتها أيضا نفس التصور اليوناني، ونخص بالذكر هنا الكندي وإخوان الصفا. ويندرج هذا النوع من المشاكلات التي انطلقت مع البدايات الأولى للفلسفة ببلاد اليونان في سياق تصور فلسفي يسعى لخلق نوع من التناغم بين العلوم الإنسانية المختلفة، على غرار التناغم (الكوسموس) الموجود في الكون.

لقد اعتبر فيتاغورس وتلامذته أن الكواكب "تتحدث مع بعضها وتعزف ألحانا جميلة كاملة ملتفتين لأنغام الكون محاولين فهم جوهر الموسيقى وأصله؛ لأنه من يستطيع سماع لغة الكون يستطيع سماع النفس البشرية وفهمها وتكون له القدرة على تفسير جميع الظواهر"[12]، فالموسيقي وحده من يمتلك القدرة على فهم لغة الكون، وهو أيضا الوحيد القادر على فك شفرات لغة النفوس البشرية. فيما بعد لن يخرج أفلاطون عن هذا التصور الفيتاغوري، حيث تحدث في كتاب "الجمهورية" عن قيمة الموسيقى، معتبرا أن التأثير النفسي الذي تخلقه الموسيقى في نفوس البشر، يعد أحد أهم المبادئ التي ينبغي الاعتماد عليها عند تقييم وتصنيف قيمة الموسيقى؛ وذلك لما تلعبه الموسيقى في تشكيل شخصية المواطن، وكذا في توجيه انفعالاته بما يتناسب والطبقة التي ينتمي إليها داخل المدينة الفاضلة. من هذا المنطلق "انبثق اهتمام أفلاطون وحرصه الشديدان على أهمية تسخير الموسيقى لمصلحة الفرد وتقويم سلوكه الأخلاقي"[13].

أما أرسطو، فلم يحد هو الآخر عن تصور أستاذه، غير أنه اختار طريقا مغايرا للبرهنة على التأثير النفسي للموسيقى؛ ذلك أنه انطلق من التجارب الخاصة للأفراد التي مكنته من اكتشاف أن للإيقاعات الموسيقية والألحان قدرة على إخراج النفس الإنسانية من طباع وحملها على الدخول في طباع آخر، كأن تخرجها من حالة الحزن إلى حالة الفرح أو العكس، هذا فضلا عن أن للإيقاعات والألحان الموسيقية قدرة على زرع بعض الطباع غير المتأصلة في نفوس بعض الناس كالشجاعة والغضب والحب والحلم وغيرها، يقول أرسطو: "هذا وإننا لنجد في الإيقاع والغناء، للغضب والوداعة والشجاعة والعفة، وكل نقائض هذه [الحالات النفسية]، وكل الصفات الأخلاقية الأخرى، محاكاة تداني الطبيعة أقرب مداناة. والوقائع توضح لنا هذه الحقيقة: فنحن نشعر بتبدل يطرأ على حلاتنا النفسية عندما نسمع غناء أو إيقاعا"[14] بنفس القدر الذي يحدثه فينا الواقع بأحداثه ومشاهده. فعلى الرغم من أن الإيقاعات والألحان الموسيقية عناصر مجردة أو لنقل متعالية عن الواقع، إلا أنها مع ذلك تؤثر في نفوس المستمعين كما يؤثر فيهم الواقع الذي يشاهدون أحداثه ووقائعه، فتحدث في نفوسهم شعورا تختلف طبيعته باختلاف الوقائع والأحداث، يقول أرسطو: "إن تعود الحزن والفرح في ما يحاكيهما، لقريب من تكيف المرء بهاتين العاطفتين أمام الحقيقة. فإذا ابتهجت بصورة شخص لمجرد جمالها لا لسبب آخر، فلا بد من أن تكون عندك طلعة ذلك الشخص الذي رأيت صورته، بهية مستحبة"[15]. أيضا تبنى فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية نفس التصور اليوناني، نخص بالذكر هنا أبا إسحاق الكندي الذي اعتبر أن "الموسيقى تؤلف النفس الإنسانية مع عناصر العالم"[16].

وترتبط بالملاحظة الأولى ملاحظة ثانية، يظهر فيها أن ابن باجة - وإن أقر بوجود مشاكلة بين الموسيقى وعلم الهيئة من جهة، وبينها وبين النفس البشرية من جهة ثانية- غير مقتنع تماما بهذه المشاكلة التي أقامها الفلاسفة السابقون له، إذ يبدو أن إقراره بها لم يكن عن اقتناع تام، والدليل على ذلك أنه شبه هذه المشاكلة بالحكاية ونعتها بالوهمية في قوله: "ولما راموا تلك الحكاية، وشبهوا تلك النسب الوهمية، وحملوها على الطبائع الإنسانية"، لكن على الرغم من هذا التحفظ الذي أبداه ابن باجة عن هذه المشاكلة، إلا أنه جعل منها منطلقا للحديث عن التأثير الذي تحدثه الأنغام والألحان[17] الموسيقية في النفوس البشرية، مما يدل على أنه كان مرغما على الإقرار بها. لكن ما عساه يكون الدافع الذي حذا بابن باجة إلى الإقرار بهذا التكامل على الرغم من عدم اقتناعه به؟.

من المعلوم أن هاجس النسقية أو التناغم (الكوسموس) كان يهيمن على الفلسفات القديمة، حيث كان حضور النسقية في كتاباتهم الفلسفية، بمثابة المعيار الذي يمنحها الوثاقة والمصداقية أكثر من أي شيء آخر. وعليه، فمرد هذه المشاكلات التي طبعت الفلسفات القديمة يعزى إذن بالدرجة الأولى إلى محاولة الفلاسفة القدماء، بما في ذلك فلاسفة العصر الوسيط، بناء نسق مترابط لمختلف المعارف الإنسانية، من شأنه أن يمنح إنتاجاتهم الفلسفية المصداقية والوثاقة التي كان يشكك فيها على الدوام خصوم الفلسفة. ولهذا يجب أن لا نستغرب من وجود كثير من المشاكلات غير المبررة في النصوص الفلسفية القديمة؛ ذلك أن أصحابها لم يكن همهم في أحيان كثيرة الاستدلال على مصداقية التكامل بين العلوم، بقدر ما كان اهتمامهم ينصب فقط على إحداث تكامل/ مشاكلة تحافظ على رباط النسقية بين العلوم ولو بصورة يغيب فيها أي تبرير منطقي. هكذا إذن يكون إقرار ابن باجة بهذه المشاكلة، إقرار نابع فقط من رغبته في الحفاظ على ذلك التناغم والتناسق/ التكامل والمشاكلة التي اعتاد عليها الرجل في نصوص الفلاسفة السابقين له، فعلى الرغم من إقراره بعدم اقتناعه بهذا النوع من المشاكلة، إلا أنه لم يمتلك الجرأة الكافية لتجاوز هذا التقليد الفلسفي.

تأسيسا على ما سبق، نخلص إلى أن فلسفة الموسيقى عند ابن باجة هي امتداد للتصورات الفلسفية السابقة له؛ ذلك أنه لم يستطع، تجاوز النسق الفلسفي الذي رسمه فلاسفة اليونان. ولعل في تأكيده على قدرة الموسيقي التأثير في نفوس المستمعين عن طريق تغيير نمط الإيقاع على أوتار العود حجة دامغة، تنضاف لكل ما سبق، على أنه بقي حبيس التصور اليوناني. يقول ابن باجة: "وذلك أن ضارب العود إذا كان حاذقا فطنا، وأراد أن يحرك صاحب صفراء ويهيجه، ألح بالضرب على الزير [...]. وكذلك إذا أراد أن يحرك صاحب الدم ويهيج سروره ألح بالضرب على المثنى [...]. وإذا أراد أن يحرك صاحب البلغم إلى طبعه ألح بالضرب على البم [...] وكذلك إذا أراد أن يحرك صاحب سوداء ويميل به إلى طبعه ألح بالضرب على المثلث"[18]. قبل ابن باجة، أكد أرسطو في كتاب "السياسة" على التأثير الذي تخلفه المقامات الموسيقية على نفوس البشر؛ ذلك لأن "طبائع الأنغام [تختلف] اختلافا صريحا، يجعلنا نشعر بمجالات نفسية متباينة، تتنوع بتنوع كل من تلك الأنغام. فالبعض منها يثير في النفس الشجن ويحملها على الأسى والانقباض، كالنغم المدعو ليذيا ممتزجا. والبعض منها يهيب بالنفس إلى الرخاء، الأنغام المسترسلة. وغيره يولد فينا حالة متوسطة معتدلة، شأن النغم الذوري الذي ينشئ فينا وحده تلك الحالة، فيما يظهر. أما النغم الفريجي، فهو يهيج في النفس نشوة الطرب والحماسة"[19]. وبعد أرسطو، نجد في نصوص الكندي أيضا هذا التصور حاضرا، لكن مع فارق أن الكندي كان أكثر دقة حينما قصر القول في حديثه عن التأثيرات النفسية للألحان والأنغام الموسيقية لآلة العود، حيث اعتبر أن "الأفعال الفرحية والعزية والغلبية وقساوة القلب والجرأة وما أشبهها، وهو مناسب لطبع الماخوري وما شاكله [...] ومما يلزم المثلث من ذلك: الأفعال الحنينة والمراثي والحزن وأنواع البكاء وأشكال التضرع وما أشبه ذلك، وهو مناسب للثقيل الممتد [...] فمزاج الزير والمثلث كممازجة الشجاعة والجبن وهو الاعتدال، وكذلك يحصل بينهما ائتلاف مزاج الزير والمثلث كممازجة الشجاعة والجبن وهو الاعتدال، وكذلك يحصل بينهما ائتلاف. وممازجة المثنى والبم كممازجة السرور والحزن وهو الاعتدال، وكذلك يحصل بينهما ائتلاف"[20]. من ذلك، يبدو لنا أن حديث ابن باجة عن ما يخلفه العزف على آلة العود من أثر في النفس، يجد أصوله في نصوص الكندي، بل يمكن القول إن ابن باجة في هذا السياق كان مجرد ناقل لما قاله فيلسوف العرب أبو إسحاق الكندي.

نعود بعد كل ما سبق إلى التأكيد من جديد أن المشاكلة التي أقامها ابن باجة بين علم الموسيقى وعلم الهيئة والنفس البشرية، وإن كان الرجل قد أبدى تحفظه عليها، تجد أسسها في الفلسفة اليونانية وكذا في الفلسفات التي لحقتها. فالتأثير اليوناني واضح في النص الباجي إن على مستوى التأكيد على تأثير الألحان والنغم الموسيقية في النفس، أو على مستوى الطرق والأساليب الإيقاعية واللحون التي ينبغي أن يتقنها ضارب الآلة الموسيقية لإحداث التأثير المرغوب في نفوس المستمعين له، دون أن ننسى الحرص الذي أبداه ابن باجة للحفاظ على ذلك التناغم/ التناسق بين العلوم الذي ألفه في نصوص الفلاسفة السابقين له، فعلى الرغم من عدم اقتناعه بتلك المشاكلات التي أقامها القدماء بين الموسيقى والهيئة والنفس، إلا أنه حافظ عليها احتراما لمبدأ التناسق الذي سنه أساتذته من فلاسفة اليونان والمسلمين.

3- ابن باجة وتعليم الصنعة الموسيقية

إن التأثير الذي تخلفه الموسيقى في النفس البشرية، لا يمكن أن يتم إلا إذا كان الموسيقي عارفا بطرائق الإيقاع ملما بأنواع الألحان؛ أي إنه بلغ من الإلمام بالصنعة الموسيقية ما يمكنه من معرفة أي الإيقاعات تحرك نفوس المستمعين له، وأي الألحان تناسب طبائعهم. ولهذا نجد ابن باجة يعرض في مقالة "الألحان" للمهارات والقواعد التي ينبغي على عازف العود أن يتقنها إذا ما هو أراد إحداث تأثير في نفوس المستمعين له وتوجيه طبائعهم وانفعالاتهم، حيث أشار إلى أن ضارب العود ينبغي له أن يكون عارفا بأصول قواعد العزف، وممتلكا للمهارات التي تخول له إبداع الألحان والنغم الموسيقية[21]؛ فتعليم الصنعة الموسيقية لدى الموسيقيين ينبغي أن يكون على قدر عال من الرصانة والدقة يفوق بكثير ما يكون عليه الهواة من الموسيقيين، ولعل في التفصيل والدقة التي توخاها ابن باجة في عرض تلك القواعد والمهارات التي على عازف العود إتقانها، تكشف عن موقفه من مسألة تعليم الموسيقى. إن تعليم الصنعة الموسيقية، في نظر ابن باجة، لا يجب أن يتوقف عند الأمور البسيطة، بل ينبغي أن يتجاوز ذلك إلى تعليم دقائق الأمور التي تجعل ضارب الآلة الموسيقية يبدع في تجديد النغم وإبداع الألحان ومعرفة المناسب منها لنفوس الناس. هكذا عرض ابن باجة في مقالته لأسماء أوتار العود والوزن الموسيقي لكل واحد منها، فضلا عن التأثير الذي يخلفه الضرب على كل واحد منها على نفوس المستمعين، ناهيك عن أنه حدد أسماء الأصابع التي ينبغي استعمالها للضرب على كل وتر من أوتار العود.

ينضاف إلى ذلك، تلك التنبيهات المتكررة التي يدعوا من خلالها ابن باجة ضارب العود إلى تجنب بعض الأخطاء، التي قد تكون سببا في فساد الايقاع والنغم الموسيقية، وبالتالي إلى عدم بلوغ غاية التأثير في النفوس البشرية، وهي تنبيهات يمكن أن نجملها في تنبيهين اثنين:

التنبيه الأول يقيم فيه ابن باجة مشاكلة بين أوتار العود والمخارج الأربعة، ومضمونه أن ضارب العود عليه "أن يلتفت إلى المخارج الأربعة، وهي الصدر والحلق والجبهة والرأس، فيجعل بإزاء الصدر البم للمناسبة التي بينهما والصوت، ويجعل بإزاء الحلق المثلث، ويجعل بإزاء الجبهة المثنى، ويجعل بإزاء قحف الرأس الزير"[22]؛ وذلك حتى يتمكن من أن يفي النغم الموسيقية حقها، وأن يصل بكل نفس من نفوس المستمعين له إلى الغاية التي تصبو إليها، "فترى [كل] صاحب طبع يتحرك حينئذ في مذهبه على قدر طبعه"[23]. والحق أن ما يقوله ابن باجة في هذا النص، يجد ما يسنده في الواقع التجريبي؛ إذ نلاحظ أنه كلما كان ضارب الآلة الموسيقية متقنا لقواعد ومهارات العزف، كلما أثنى المستمعون عليه وكثر جمهوره ومحبوه، وبالمقابل كلما ضعف ضبط الموسيقى لقواعد العزف وغابت عنه مهارة إبداع اللحون والنغم الموسيقية، وجهت له الانتقادات وقل جمهوره ومحبوه. ولنا في ما تحكيه المصادر التاريخية عن طرد الملوك والأمراء لعدد من الموسيقيين بسبب عدم إتقانهم للصنعة الموسيقية، خير حجة على أن نفس الإنسان تميل إلى اللحن الذي يوافق طباعها والنغم الذي يرتقي بها إلى الغاية التي تتوق إليها، ومن ثمة فالأذن الموسيقية لا ترتقي بقدر الموسيقي أو تنزل به إلا بناء على معيار التأثير الذي تخلفه موسيقاه في النفوس.

أما التنبيه الثاني، فيذهب فيه ابن باجة إلى أن ضارب العود عليه أن يحذر من تركيب "بعض الأوتار بعضها في المجرى، فيولد ذلك ضررا في الأوتار وفسادا في أصولها متى مسها المضراب أو حثها الضارب"[24]. وفي هذا تأكيد على صريح من ابن باجة على أن ضارب العود، والأمر هنا يشمل بقية الآلات الموسيقية الأخرى، عليه أن يكون عارفا بالأجزاء التي تتشكل منها آلته وبمكان وضع كل جزء من أجزائها وبطريقة وضعها، وكذا بوظيفة كل واحدة منها، لأن عدم درايته بها من شأنه أن يخلف ضررا بأجزاء الآلة الموسيقية، وبالتالي فسادا باللحون والنغم الموسيقية. يستفاد من هذا أن ابن باجة يوجه دعوة للموسيقيين بضرورة تكوين معرفة بأجزاء الآلات الموسيقية التي يعزفون عليها، على غرار اهتمامهم بجودة النغم واللحون، فجودة النغم الموسيقية من جودة الآلة، وفسادها من فساد أجزاء الآلة. إن هذا الاهتمام يشي بالمكانة التي كانت تحظى بها الآلة الموسيقية عند ابن باجة، وكذا بالعلاقة الوطيدة التي كانت تربطه بها، كما يعد أيضا بمثابة دعوة من ابن باجة لموسيقيي عصره بضرورة خلق علاقة ألفة بآلاتهم الموسيقية، من شأنها أن تتحول مع مرور الوقت إلى علاقة روحية بين الموسيقي وآلته. وإذا وصل الموسيقي إلى هذه المرتبة أصبح واثقا من جودة آلته ومن جودة النغم الصادرة عنها؛ لأنه عارف بأجزائها متمكن من طريقة صيانتها، وبالتالي كان هذا دافعه إلى إبداع اللحون والنغم الموزونة التي من شأنها تحريك النفوس وحملها على متابعة العزف إلى نهايته.

بناء على ما سبق، يتبن لنا أن مقالة "في الألحان"، على قصرها، تعد تعبيرا من ابن باجة عن علو مكانة الصنعة الموسيقية بالنسبة إليه، وبالتالي هي في نفس الوقت دعوة إلى ضرورة إتقان هذ الصنعة أشد الإتقان؛ لأن في إتقان قواعدها ومهاراتها سبيلا سيمكن المشتغلين بها من بلوغ نفوس الناس، والتحكم في انفعالاتهم وطباعهم بالقدر الذي يريدونه وفي الاتجاه الذي يرغبونه. وإذن على ضارب الآلة الموسيقية "إذا أراد أن يوفي النغم حقها ويبلغ الأنفاس غايتها"[25]، أن يبلغ مبلغا لا يستهان به من الإتقان للصنعة الموسيقية. على هذا الأساس، يخلص ابن باجة في نهاية مقالته إلى أن "هذه هي الأصول التي إذا راعها الضارب مشت أحواله ونغماته على السنن المستقيم والطريق القويم، وفاق أبناء جنسه، وكان يومه خيرا من أمسه"[26]، وحق له شرف الانتماء إلى علم النغم واللحون.

إن دعوة ابن باجة المشتغلين بالصنعة الموسيقية، إلى ضرورة إتقان العزف على الآلات الموسيقية وخصوصا آلة العود منها، تعد في نظرنا موقفا أصيلا لابن باجة تجاوز به الموقف الأرسطي الذي هيمن على الفلسفات السابقة له. يعتبر أرسطو، على غرار أستاذه أفلاطون، أن الموسيقى فن ينبغي أن يكون حاضرا داخل المدينة اليونانية، لكن هذا الحضور ينبغي أن لا يصل إلى حد البراعة التي تجعل من موسيقيي المدينة على قدر عال من الإتقان للعزف والإبداع في اللحون والنغم. ولهذا ينبغي على الشباب الآثيني أن يتعلم قدرا يسيرا من الصنعة الموسيقية، لا يرتفع به إلى درجة البراعة والإتقان، ولا ينزل به إلى درجة الجهل، حيث ينبغي الالتزام في تعليمه بنظرية الوسط التي يعدها أرسطو السبيل الذي عن طريقه يستطيع الإنسان تحصيل العدالة في النفس والمدينة، وعدم الالتزام بها، يعد في نظره، طريقا للابتذال، وبالتالي سببا في فساد النفوس والمدن على حد سواء. لا ينبغي أن يفهم من هذا أن أرسطو يدعو إلى عدم تعليم الموسيقى، بل هي دعوة إلى تعليم الشباب الموسيقى بالقدر الذي لا يتجاوز الوسط العدل؛ أي إن تعليمهم لهذه الصنعة لا يجب أن يتجاوز الحد الذي يمكنهم فيه "التمتع بالأغاني الجميلة والإيقاعات الرائعة، دون أن يقنعوا بما شاع وعم من الموسيقى، نظير بعض الحيوانات الأخرى وجمهور الأرقاء والأطفال"[27]. وعلى أساس ذلك، وجه أرسطو انتقادا لما كان سائدا على أيامه في المجتمع الآثيني من إتقان الشباب للعزف على الآلات الموسيقية، معتبرا "أنه ينبغي أن لا يعوق تعلم الموسيقى الأعمال في المستقبل، وأن لا يجعل ذلك التعلم الجسم رخوا وغير صالح للتمارين الحربية والشؤون السياسية، ولا غير صالح في الزمن الحالي للرياضة البدنية، وفي المستقبل لاقتناء العلوم. وقد تتأتى الأماني في تعلم الموسيقى إذا امتنع الأحداث عن صرف جهدهم إلى تحصيل المعارف الموسيقية المقتضاة في المنافسات الفنية، وعدلوا عن تلك النوافل والألعاب المدهشة، التي تسربت في عصرنا إلى المباريات، وتطرقت منها إلى الثقافة الموسيقية"[28].

لقد رفض أرسطو تعليم الشباب العزف على آلات المحترفين والأسلوب الاحترافي السائد في المنافسات الفنية، ذلك أن العازف لا يستهدف من الأوزان والألحان الموسيقية في مثل هذه الحالة تحقيق فضيلة العلو بنفسه، بل خلق لذة في نفوس المستمعين له، يقول أرسطو: "إننا نرذل من آلات الطرب ومن تعاطي فن الموسيقي ما يرمي إلى الثقافة الفنية [...] التي هدفها المنافسات الموسيقية؛ لأن الذي يروم تحصيل تلك الثقافة لا يصرف همه وعناءه إلى فضيلته الشخصية، ولكن إلى متعة سامعيه، وهذه المتعة متعة سافلة مبتذلة؛ لذلك نحكم أن ذلك التعاطي لفن الموسيقى غير جدير بأحرار بل بأجراء. ولقد يحدث أن يمسي الأحرار من السوقة؛ لأن الهدف الذي يوجهون غايتهم إليه فاسد؛ إذ إن الحضور لكونهم غير مهذبين، قد اعتادوا أن يبدلوا نوع الموسيقى، وأن يجعلوا من ثم أربابها الذين يتزلفون إليهم، يتخلقون هم أيضا بأخلاق العامة، ويطبعون حركات أجسامهم بنفس الطابع"[29]. وبناء على ذلك، قسم أرسطو الآلات الموسيقية إلى آلات لا تتطلب قدرا كبيرا من الإتقان والمهارة للعزف عليها، وأخرى يقتصر العزف عليها على فئة قليلة بلغت من إتقان الصنعة الموسيقية قدرا عظيما؛ أي إنها تجاوزت في التعليم خط الوسط العدل، وقد حدد أرسطو الآلات التي لا ينبغي تعليم الشباب إياها أو تلك التي ينبغي استعمالها بالقدر الذي لا يتجاوز الوسط العدل، في صنف الآلات التي تتطلب مهارة في العزب عليها، كالناي والليرة والآلات الوترية، يقول أرسطو: "وهذه الاعتبارات تبين للملإ صنف آلات الطرب التي يترتب استخدامها [في التثقيف الموسيقي]. فيجب أن لا يعمد فيه إلى المزامير، ولا إلى آلة فنية أخرى كالقيثارة وما شاكلها، بل إلى آلات العزف التي تجعل سامعيها يجيدون الحكم في موسيقى التربية، أو في أي موسيقى أخرى. وعلاوة على ذلك، فالمزمار ليس بأخلاقي، ولكنه مثير للأهواء المنحرفة [...]. ولنضف إلى ما سبق أنه يقع للمزمار أمر يناقض التربية، وهو أن العزف به يحول دون استخدام الكلام، لذا أصاب الذين درجوا قبلنا إذ حرموا استخدامه على الأحداث والأحرار، مع كونهم قد استخدموه من قبل"[30].

هكذا يتبين لنا حجم التباين بين أرسطو وابن باجة بخصوص تعليم الصنعة الموسيقية، فإذا كان الأول قد دعا إلى عدم تعليم الشباب إلا القدر اليسير منها؛ أي القدر الذي لا يتجاوز حد الوسط العدل، فإن الثاني على خلاف ذلك دعا إلى العناية بتعليم الصنعة الموسيقية، وإلى تمكين المتعلمين من أصول قواعد العزف ومهاراته. هكذا، وعلى خلاف أرسطو، اتجه ابن باجة إلى تعليم مهارات وقواعد العزف على الآلات الموسيقية بما في ذلك تلك التي تتطلب مهارة فائقة في العزف، كالعود مثلا؛ فعلى طول رسالته "في الألحان" نلاحظ أنه يعرض للمهارات التي على عازف العود أن يتقنها والقواعد التي عليه احترامها والأخطاء التي عليه تجنبها. وبهذا يكون ابن باجة قد تجاوز التصور الأرسطي بخصوص مسألة تعليم الصنعة الموسيقية، مؤسسا بذلك لمرحلة جديدة داخل مسار تطور فن الموسيقى، مرحلة تقوم على إعادة الاعتبار للآلات الموسيقية على اختلافها من جهة، وكذا على تعليم أصول قواعد الموسيقى بالقدر الذي يجعل المتعلمين على مستوى عال من الإتقان للصنعة. نستنتج من ذلك أن ابن باجة لم يكن "هاويا أو متطفلا على الموسيقى، بل كانت صنعته متقنة، جمعت بين أكثر الأشكال الموسيقية انتشارا في بلاد الأندلس، مما أنتج رؤية موسيقية جديدة تبناها سكان تلك الجغرافيا، وتركوا ما سواها"[31]، وبذلك يكون ابن باجة قد حرر الفلاسفة اللاحقين له من موقف الوسط العدل الذي رسم معالمه أرسطو وهيمن على الفلسفات الموسيقية التي أتت من بعده.

خاتمة:

بالمحصلة نقول إن مقالة "الألحان" على قصرها استطاعت أن تظهر لنا ابن باجة بصورتين مختلفتين؛ أما الأولى فيظهر فيها ابن باجة مجرد ناقل لفلسفات الأمم السابقة، وأما الثانية فيظهر فيها ابن باجة صاحب فلسفة أصيلة. تمثل هاتان الصورتان في نظرنا وجهين متكاملين لا يمكن التقليل من قيمة أي واحد منهما عند الحديث عن فلسفة الموسيقى عند ابن باجة، ذلك أن مظاهر التجاوز والأصالة التي اتسمت بها بعض الجوانب فلسفته الموسيقية، ما كانت لتظهر لولا الاحتفاظ ببعض الجوانب التي ميزت الفلسفة الموسيقية السابقة له. فالأصالة لا تعني الانطلاق من العدم، بل إن الأصالة على الحقيقة هي النظر للقديم بعين تستطيع التمييز في مكونات النسق بين الجوانب التي ما زالت تصلح لاستمراريته وتلك التي ما عاد بالإمكان الاحتفاظ بها لوقت أطول، وبالتالي وجب تغييرها بما يتناسب والتطورات التي عرفها العقل البشري. وهكذا فالتربة الخصبة التي نبتت فيها جوانب الأصالة في فلسفة ابن باجة الموسيقية، كانت تربة مليئة بمخلفات الفلسفات السابقة له، والتي لم يتخلّ عنها ابن باجة، لكنه لم يكن مجرد ناقل لها في الوقت نفسه.

 

لائحة المصادر والمراجع:

1- المصادر:

-        أبو بكر بن باجة، "رسالة في الألحان"، ضمن رسائل فلسفية لأبي بكر بن باجة، نصوص فلسفية غير منشورة، تحقيق جمال الدين العلوي، دار الثقافة – بيروت، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، بدون طبعة، بدون تاريخ.

-        أرسطو طاليس، "السياسات"، ترجمة الأب أوغسطين بربارة البولسي، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية، المطبعة البولية في حريصا، بيروت-لبنان، بدون طبعة، تموز 1957

-        أبو يوسف يعقوب الكندي، "كتاب المصوتات الوترية من ذات الوتر الواحد إلى ذات العشرة الأوتار"، ضمن مؤلفات الكندي الموسيقية، تحقيق وتعليق زكريا يوسف، منشورات الجمل، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، سنة 2009م.

2- المراجع:

أ- المراجع باللغة العربية:

-        جوليوس بورتنوي، "الفيلسوف وفن الموسيقى"، ترجمة فؤاد زكريا، مؤسسة هنداوي للنشر والتوزيع، القاهرة- مصر، بدون طبعة، سنة 2023

-        كريم الصياد، "قراءة في رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى"، مجلة تعايش، العدد 9، أبو ظبي، سبتمبر 2020

-        كريم الصياد، "اتجاهات فلسفة الموسيقى العربية، الكندي- إخوان الصفا- الفارابي- ابن سينا"، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، السنة الثانية والثلاثون، العدد 32، القاهرة- مصر، 2022

-        ألاء عكور وفؤاد عويلة، "علم النجوم وعلاقته ببعض العلوم"، مجلة روافد للدراسات والأبحاث العلمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، الجزائر، العدد السادس، جوان 2022

-        خالد هلالي، "التأصيل لموسيقى الآلة المغربية"، مجلة الثقافة الشعبية – موسيقى وأداء حركي -، العدد 44، شتاء 2019

ب- المراجع باللغة الأجنبية:

-           Yassir bousselam, "La musique andalouse marocaine al-Ala, Approche anthropo-historique, transformations et identité culturelle", thèse présentée pour obtenir le grade de docteur (thèse du doctorat), université paris Nanterre, 2022

-           Ouassim Chahed, "La typologie du pentatonisme dans l’expression musicale tunisienne", thèse pour obtenir le grade de docteur, université Paul Valéry - Montpelier, paris, 202.

-           Mostafa Chebbak, "La musique arabo-andalouse", la revue nouvelle, no2, 2017.

3- المواقع الإلكترونية:

-           https://www.ida2at.com/philosophy-and-music-reason-power-over-feelings/.

-           https://www.alaraby.co.uk.

[1]- يقول مصطفى شباك موضحا السياق التاريخي الذي نشأ فيه ابن باجة وعن مكانته في تاريخ الموسيقى في الغرب الإسلامي:

"Après Ziryab, l’Andalousie ne puisse plus son inspiration en Orient. Elle se tourne vers son propre génie, ce qui engendre une transformation capitale des formes poético-musicales et la création du Muwashshah et du Zajal qui donnent une dynamique nouvelle à la composition musicale. Ces formes connaissent un grand essor avec des poètes comme Yahyâ Ibn Baqqî, Al-’A’mâ at-Tutayli, Ibn Hazmûn, Abu Bakr Al-Abyad. Dans le domaine musical proprement dit, Ibn Baja (Avempace des Latins, Saragosse 1070-Fès 1138) est sans conteste la personnalité la plus marquante. Il réussit à assimiler, puis à faire la symbiose entre les composantes musicales orientale, maghrébine et chrétienne qu’il découvre en Andalousie. Théoricien et praticien de grande qualité, sa renommée et sa production sont immenses. Selon le lexicographe tunisien du XIIIe, al-Tifashi, et l’historien Ibn khaldun, on lui doit la plupart des compositions musicales célèbres ; son œuvre dépasse et éclipse celle de Ziryab. Ibn Baja restructure la nouba en introduisant de nouvelles formes poétiques et en créant deux nouveaux mouvements al-Istihlal et al-Amal. Il développe la conception symbolique de la musique ainsi que son pouvoir expressif et thérapeutique. Après la chute de Saragosse en 1118, Ibn Bâja séjourne à Valence, Séville et Grenade avant de s’installer à Fès où il fi nit sa vie". Mostafa Chebbak, "La musique arabo-andalouse", la revue nouvelle, no2, 2017, p78.

[2]ـ كريم الصياد، "قراءة في رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى"، مجلة تعايش، العدد 9، أبو ظبي، سبتمبر 2020، ص97-101

[3]ـ جوليوس بورتنوي، "الفيلسوف وفن الموسيقى"، ترجمة فؤاد زكريا، مؤسسة هنداوي للنشر والتوزيع، القاهرة- مصر، بدون طبعة، سنة 2023، ص 34

[4]ـ المرجع السابق، ص39

[5]ـ أبو بكر بن باجة، "رسالة في الألحان"، ضمن رسائل فلسفية لأبي بكر بن باجة، نصوص فلسفية غير منشورة، تحقيق جمال الدين العلوي، دار الثقافة – بيروت، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، بدون طبعة، بدون تاريخ، ص ص 78- 79

[6]ـ المرجع السابق، ص78

[7]- شيماء يونس، "الموسيقى والفلسفة، سطوة العقل على المشاعر"، مقال منشور بالموقع الإلكتروني التالي:

https://www.ida2at.com/philosophy-and-music-reason-power-over-feelings.

[8]- كريم الصياد، "اتجاهات فلسفة الموسيقى العربية، الكندي- إخوان الصفا- الفارابي- ابن سينا"، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، السنة الثانية والثلاثون، العدد 32، القاهرة- مصر، 2022، ص ص54- 55

[9]- محمد السيد الطنطاوي، "الموسيقى في الفلسفة ... وإلا كانت الحياة مجرد غلطة"، مقال منشور بالموقع الإلكتروني التالي: https://www.alaraby.co.uk.

[10]ـ أبو بكر بن باجة، "رسالة في الألحان"، مرجع سبق ذكره، ص82

[11]ـ المرجع السابق، ص 82

[12]ـ ألاء عكور وفؤاد عويلة، "علم النجوم وعلاقته ببعض العلوم"، مجلة روافد للدراسات والأبحاث العلمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، الجزائر، العدد السادس، جوان 2022، ص252

[13]ـ شيماء يونس، "الموسيقى والفلسفة، سطوة العقل على المشاعر"، مرجع سبق ذكره.

[14]- أرسطو طاليس، "السياسات"، ترجمة الأب أوغسطين بربارة البولسي، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية، المطبعة البولية في حريصا، بيروت-لبنان، بدون طبعة، تموز 1957، ص 434

[15]- المرجع السابق، ص 434

[16]ـ كريم الصياد، "اتجاهات فلسفة الموسيقى العربية، الكندي، إخوان الصفا، الفارابي، ابن سينا"، مرجع سبق ذكره، ص57

[17]- يشير الكثير من الباحثين في مجال تاريخ الموسيقى الأندلسية إلى أن ألحان ابن باجة كانت تحضى بشهرة كبيرة في الأندلس والمغرب، في هذا السياق يقول ياسر بوسلام:

"Sous la Dynastie des Almoravides (1056-1146), la musique andalouse connaît une grande vogue au Maroc. L'histoire a conservé les noms d'un certain nombre de compositeurs andalous qui se sont établis au Maroc dès cette époque, tels Ibn Bâja, vizir du souverain Yahya Ibn Yûsuf ibn Tâchafîne “à qui sont dus les airs les plus réputés en Andalousie” 35 Parmi ces compositeurs figurent également Abû-l-Hûssayn ‘Alî Ibn al-Himâra al-Gharnâtî, disciple d'Ibn Bâja (vers 1080 – 1138) et Abû-l-‘Abbâs al-Mursî (vers 1219-1281)". Yassir bousselam, "La musique andalouse marocaine al-Ala, Approche anthropo-historique, transformations et identité culturelle", thèse présentée pour obtenir le grade de docteur (thèse du doctorat), université paris Nanterre, 2022, p55

[18]- أبو بكر بن باجة، "رسالة في الألحان"، مرجع سبق ذكره، ص ص 82/83

[19]- أرسطو طاليس، "السياسات"، مرجع سبق ذكره، ص 435                

[20]ـ أبو يوسف يعقوب الكندي، "كتاب المصوتات الوترية من ذات الوتر الواحد إلى ذات العشرة الأوتار"، ضمن مؤلفات الكندي الموسيقية، تحقيق وتعليق زكريا يوسف، منشورات الجمل، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، سنة 2009م، ص ص 106-107

[21]- يجب الإشارة هنا إلى أن آلة العود تلعب دورا أساسيا في الموسيقى الأندلسية، ويعد ابن باجة واحدا من أشهر الموسيقيين الذين اهتموا بهذه الآلة الموسيقية إلى جانب آخرين عاصروه أو سبقوه بفترة زمنية ليست بالطويلة، ولهذا نجده من بين أشهر المؤسسين للموسيقى الأندلسية. يقول وسيم شهيد:

" Retournons un peu dans l’histoire pour une présentation brève des répertoires et des plus importants musiciens savants de cette musique arabo-andalouse, terminologie habituelle, bien que nous préférions le terme musique andalou-maghrébine, puisque ce répertoire est spécifique des pays du Maghreb. En 711, fût la conquête de la péninsule Ibérique menée par Târiq Ibn Zyâd, et durant les huit siècles de domination arabe sur l’Andalousie, la musique a vu des hauts et des bas jusqu’à l’arrivée de Ziryâb à Cordoue en 822, qui apporta toute l’influence de l’orient dans sa musique. Puis vint Ibn Bâja (1070-1138) avec son style original qu’il inventa à l’école andalou-maghrébine dû au fait qu’il vécut une grande période sous le règne des Almoravides (1056-1146) et des Almohades (1129-1268), qui occupaient le Maghreb et l’Andalousie en même temps". Ouassim Chahed, "La typologie du pentatonisme dans l’expression musicale tunisienne", thèse pour obtenir le grade de docteur, université Paul Valéry - Montpelier, paris, 2021, p121.

[22]ـ أبو بكر بن باجة، "رسالة في الألحان"، مرجع سبق ذكره، ص 83

[23]ـ المرجع السابق، ص 83

[24]ـ المرجع السابق، ص 83

[25]ـ المرجع السابق، ص 83

[26]ـ المرجع السابق، ص 83

[27]ـ أرسطو طاليس، "السياسات"، مرجع سبق ذكره، ص 440

[28]- المرجع السابق، ص ص 439 – 440.

[29]- المرجع السابق، ص 440

[30]ـ المرجع السابق، ص 440

[31]ـ خالد هلالي، "التأصيل لموسيقى الآلة المغربية"، مجلة الثقافة الشعبية – موسيقى وأداء حركي -، العدد 44، شتاء 2019، ص 144