في الحوار


فئة :  مقالات

في الحوار

خاصيتان اثنتان يسلم بهما بادئ الرأي في تحديده للحوار، ووصف آلياته، وتعيين وظائفه:

الخاصية الأولى، هي أن الحوار لا يبدأ فعلا إلا بعد أن تهدأ الطبول وتسكت المدافع. الحوار هو الطريق السّلمي الذي لا مفر من اللجوء إليه بعد أن تقتنع الأطراف بلا جدوى الحروب التي لا تعمل في النهاية إلا على تأجيج الفرقة وتعميق سوء التفاهم . أما الحوار، فهو يعتمد المحاججة ومقارعة الآراء وتحكيم منطق العقل. مقابل اللامعقول الذي يطبع الحروب ويؤجج الخلافات، فإن الحوار من شأنه أن يقرّب بين الأطراف، ويكفي من أجل ذلك أن يصدر عن حسن نية، وأن يتحلى المتحاورون بالصدق والنزاهة، وأن يصدق كل طرف ما عاهد الآخر عليه، كي يرفع سوء التفاهم، ويتوصل الطرفان المتحاربان إلى الهدنة والوفاق.

الخاصية الثانية، هي أن الحوار، كما يقبله بادئ الرأي، ليس مُوَلدا لأسئلة. مهمته لا تكمن في الحفر والتشكك والتردد وخلق المسافات، لا تكمن في إثارة مزيد من الخلافات، وإنما في البحث عما يجمع ويؤلف ويؤالف. إنه سبيل ينهجه طرفان يسعى كل منهما لأن يقرب الآخر مما يعتقده حقيقة، افتراضا أن الحقيقة قائمة قبل الحوار، وأن الأسئلة والأجوبة تتقدمه، حيث لا يعود هو سوى « مسْرحة» لغوية تُمكّن الأطراف المتحاورة من أن يجرّ كل منها الآخر نحوه، كي ينجروا جميعهم نحو الحقيقة، وهكذا يتقاربون فيما بينهم باقترابهم من هذه «الحقيقة».

مجمل القول إذن، أن بادئ الرأي يفترض أن الحوار لا يُولّد أسئلة ولاحقائق، وإنما يؤدي إلى حقيقة، بل يهدي إلى «الحقيقة»، وهو لا يُبعد ولا يباعد، وإنما يقرّب ويقارب، ثم هو طريق المهادنة والسّلم والوفاق، وهو أخيرا تفاعل بين ذوات متكلمة؛ أي أفراد يتخذون الكلام تعبيراً عن أفكارهم.

بيد أن الرجة التي عرفتها الإبستيمولوجيا المعاصرة، والتي كان من نتائجها إعادة الاعتبار لمفهومات الخطأ وسوء التفاهم واللاشعور، دفعت إلى فضح البنية الميتافيزيقية للحوار التي يسلم بها بادئ الرأي، والنظر إليه لا على أنه خال من علائق القوة، ولا على أنه طريق محفوف باليقينيات والتوافقات، ولا على أنه طريق التقارب والإجماع، وإنما من حيث هو أساسا طريق التساؤلات والأخطاء والاختلافات وسوء التفاهم، طريق التعثرات والتأزم.

فحتى المقابلة ذاتها التي توضع عادة بين لغة الحوار ولغة المدافع من حيث إن الأولى لا تسودها علائق القوة التي تطبع الحروب، حتى هذه المقابلة تتناسى أن اللغة، التي هي أداة كل حوار، هي مرتع تناحر القوى ومجال مفعولات السلطات، إنها عشّ الاختلاف وميدان علائق القوة بامتياز. فأن تطلق الأسماء هو أن تمارس سلطة، أن تطلق الأسماء «هو أن تكون سيّدا» على حدّ تعبير نيتشه. استراتيجية التسمية هي استراتيجية هيمنة وتسلط. وتاريخ الأشياء هو تاريخ أسماء، وتاريخ الأسماء هو تتابع القوى المستحوذة التي تعطي المعاني وتحدد القيم. اسم الشيء هو القوة التي تستحوذ عليه وتتملكه. وما الكلمات سوى « كميات من القوة في علاقة توتر»، ولا يمكن للحوار الذي يوظفها ويستثمرها إلا أن يجسد علائق القوة هذه ومرامي التسلط والهيمنة.

لا يتحدد الحوار إذن بآليات منطقية ودوافع أخلاقية، وهو لا يتوقف على صدق المتحاورين ونزاهتهم وحسن نيتهم؛ فهو حرب على مستوى اللغة، إنه صراع مقنّع عن طريقه يفرض نفسه ذاك الذي سيحدد المعاني وسيطرح الإشكالات وسيعرّف المفهومات وسيعين الحقائق.

ليس الحوار إذن، هو الوسيلة التي أجرّ عن طريقها الآخر نحوي لكي ننجر معا نحو الحقيقة، وهو ليس أداة للوصل والاتصال، و إنما طريق انفصال وحفر وإثارة مزيد من الأسئلة، وطرح فائض من الإشكالات، إنه طريق لا يخلو من عثرات وأزمات، بله صراعات ومقارعات.

إلا أن المفارقة هنا هي أن هذا التباعد وذاك الانفصال، هما أكثر الوسائل ضمانة نحو التقارب والوصال. إن الحوار هو مابه يصبح سوء التفاهم هو الطريق الأضمن نحو كل تفاهم.

ذلك أن النقاط التي يتبلور عندها التعثر و«يتوقف» الحوار، أو على الأقل يتأزم، لا تفرق بين المتحاورين، وإنما بين الفكر وبداهاته، بين الفكر ومسبقاته، أو لنقل بين الفكر وبين نفسه، وهو يسعى للانفصال عنها. إنها النقاط التي تسوي جهل الجاهلين بمعرفة العارفين. فكأن المسافة بين المتحاورين تزداد قربا كلما ازداد بعدهم، لا عن بعضهم البعض، بل عن ذواتهم. كل متحاور يزداد قربا منالآخركلماازداد بعدا عن نفسه، وأعاد النظر في مسبقاته. كأن الالتقاء بين أطراف الحوار لا يتم إلا عند نقاط افتراق، وكأن الاتصال بينها لا يتم إلا عند نقاط انفصال: نقاط التأزم والتأزيم التي يتحرر عندها الفكر من يقينياته ويتخفف من «حقائقه». إنها النقاط التي يغدو عندها أطراف الحوار«في الهمّ سواء»، وليس أي همّ، بل الهمّ الفكري الذي قال عنه هايدغر: «انه الهمّ الذي تتحول فيه الأشياء التي تبدو معروفة إلى أشياء تكون أهلا للمساءلة».

بهذا المعنى، فليس الحوار بالضرورة تحاورا. إنه لا يدور دوما بين أطراف، بين داخل وخارج؛ فقد يعتمل في الموقع ذاته. كل ما يمكن أن نؤكده والحالة هذه أن هناك حوارا ، وأن «حوارا يجري»ça dialogue ليس بالضرورة بين أطراف، ولا في مواجهة مع الآخر، وإنما أساسا في مواجهة مع الذات، فيغدو توترا تسعى الذات عن طريقه لأن تنفصل عن نفسها.

بناء على ذلك، فإن كان ولا بد من الحديث عن الوفاق والالتئام والتراضي كمرمى للحوار، فإنه التراضي حول شق السبل وفتح الآفاق، التراضي، لا حول ما يُطَمْئِنُ ويُرضي، بل التراضي حول ما لا يُطمْئِن وما لا يُرضي، وبهذا فلن يغدو الحوار هرولة نحو حقيقة قائمة، وإنما جدلا بين شك ويقين، بين حقائق وأخطاء، بين أسئلة وأجوبة، بين متحققات فعلية وآفاق ممكنة مفتوحة على المستقبل .