في صناعة الحكي


فئة :  مقالات

في صناعة الحكي

في صناعة الحكي

توطئة:

ارتبط مصطلح الصناعة الثقافية بثيودور دبليو أدورنو وماكس هوركهايمر في فصل من عملهما الشهير، "ديالكتيك العقل"، وأخذ المصطلح طابعاً نقدياً واستفزازياً: لربط كلمة واحدة "Kulturindustrie" "الثقافة" - "الصناعة"، حيث ترتبط "الصناعة" بالاقتصاد، والترشيد، والتخطيط، والحساب، والمصلحة الاستراتيجية، والهدف الأداتي، وما إلى ذلك، بينما يستحضر مصطلح "الثقافة" أفكار الخلق، والأصالة، ونكران الذات، والتدريب، والتحسين، والاستقلالية والحرية. وبالتالي، فإن مفهوم الصناعة الثقافية هو تناقض لفظي ينتمي إلى الخطاب المفرد لديالكتيك العقل الذي تمتلئ كتاباته بصيغ استفزازية مماثلة من خلال اتحاد الأكوان الدلالية المتناقضة التي تهدف إلى "إظهار" ما لم نعد نراه؛ أي تدهور الثقافة في المجتمع الرأسمالي الحديث؛ غير أن ما شهده العالم من تحولات في منجزاته العلمية والتكنولوجية، تغيرت المفاهيم، وأصبحت الثقافة شغلاً شاغلا، حث المهتمين بها على مسايرة هذه التحولات، ليتم استثمارها كرافعة من رافعات الاقتصاد، بوصفها تحتوي على ثروة متنوعة قد تتحول إلى سلعة يتم ترويجها تحت مسمّى صناعة ثقافية متنوّعة؛ ذلك أنّ مفهوم "الصناعات الثقافية" يشمل الأنشطة القائمة على إنتاج سلع ثقافية، وهو كل الأنشطة المرتبطة بتكنولوجيات المعلومات والإعلام السمعي والمرئي، والسينما والموسيقى، بل إن صناعة الثقافة تتجلّى في السياحة والخدمات وما إلى ذلك.

لقد حرص مختصو الصناعة الثقافية على الجمع بين ابتكار المضامين وإنتاجها والمتاجرة بها، وفق ركح ثلاثي تتجلى عناصره في:

- المنتج لعناصر الثقافة (راوي - رسام - ممثل - كاتب..).

- المنتوج: (شعر - فن شعبي - فكر - موسيقى - مهرجانات - سينما - رياضة...)

- المستهلك: المتلقي كيفما كان انتماؤه الاجتماعي والفكري والعمري.

وقد شهدت الصناعة الثقافية اليوم طفرة في النمو، وأصبحت موردًا إنمائياً مهمًّا يعتمد على الإبداع البشري، ومن تم أصبحت تمدّ القطاعات الأخرى وتفيدها بما في ذلك قطاع التربية والتعليم، وقطاع السياحة والثقافة وغيرها من القطاعات الأخرى.

وقد يتساءل متسائل كيف للثقافة أن تكون موردًا اقتصادياً؟ وهل يمكن للثقافة الشعبية أن تتحالف مع منطق السوق؟

1- في الثقافة الشعبية:

تختزن ثقافتنا الشعبية عددًا كبيرًا من نصوص الأدب الشعبي، فإلى جانب السيرة ثمة أغانٍ شعبية وأمثال وأحاجي وحكايات، وهي نصوص لصيقة بطبقات الشعب بوصفها الوسيلة التعبيرية التي تتخذ منها الحكمة والعبرة في توجيه سلوكها اليومي، بل هي الثقافة التي تقوم وتهذب حياة الناس وتطهر نفوسهم من كل عنصر خارج عن الذات. إنها ثقافة الفطرة التي نحن في أمسّ الحاجة إليها، وهي ثقافة الفطرة؛ لأنها تنبع من الذات وتتجه نحو الذات لتقويمها وتهذيبها.

ولأن الشعب تربطه علاقات حسية شعورية، فإنه غالبًا ما يتلمس مثل هذه الأشياء في ثقافته الشعبية التي تنقله بنصوصها المختلفة من عالم التوتر والتناقض إلى عالم الهدوء والشمولية، ولعلّه في انتقاله هذا يغذي نفسه بتطهير داخلي مادته القيم النبيلة التي لم تعد حاضرة، بل هي في اختفاء مستمر أمام زحف الماديات الذي غطى القيم الإنسانية، وبدل أن يكلّف الإنسان نفسه جهدًا في سبيل الحفاظ على قيمه التي تحتفظ بهويته انجرف وراء الماديات التي فرضتها المدنية الحديثة، وبدل أن يحافظ على ثقافته الفطرية التي تمنحه كيانه في البيئة التي ينتمي إليها، وتجعل منه فردًا فاعلاً في تقويم العقل وتهذيبه أولاً وتنميته ثانيًا، توجه إلى الاهتمام بصنوف حديثة من أشكال الإلقاء والحركة التي فرضتها فضائيات ما بعد الحداثة.

إنّ الحكي الشّعبي ينطلق من الذات وينبع منها، ينبع من الوعي المشترك بين أفراد الشعب من اللاشعور الجمعي الذي تصدر عنه الأفعال والتعبيرات الواعية التي لا يمكن إدراك مغزاها إلا إذا بحثنا عن جذورها الباطنية، فأشكال التعبير من سيرة ومثل وحكاية ولغز وشعر شعبي وما إلى ذلك، كلها أنواع أدبية تمتح من حقل شعبي، غير أن بعضها يختلف عن البعض الآخر، وإن كانت صفة الشعبية تجمع بينها، والسبب هو أن كل شكل تعبيري ينبع من مجال محدد..[1]، ولا يمكن لهذه الأشكال التعبيرية أن تتكامل وتؤدي دورها، إلا إذا تم استثمارها بشكل يفيد الشعب الذي أصبح في عصرنا الحالي يجهل الكثير من هذه الأشكال الشعبية، وهذا لا يتحقق إلا بنهج استراتيجية، ليس لإحياء الأدب الشعبي فحسب، بل العمل على تطويره استجابة لشروط المرحلة التي أصبحت تستدعي التحدي.

ومع كل هذا تظل النصوص الشعبية نصوصاً ممتعة تختزن ماضينا وتحفظ هويتنا في قصص البطولة والحب والغرام والكرم، ما يشي بحفظ قيم عربية أصيلة أصبحت من تقاليدنا العربية، وقطعة من تاريخنا القومي، يقول عمر أبو النصر: "إنها جميعا قصص البطولة والحب والغرام والغزو والكرم، والحقد والحسد والمكايد والحرب في الصحراء العربية...قصص أصبحت من تقاليدنا العربية، وقطعة من تاريخنا القومي ورثناها عن آبائنا، والفناها منذ طفولتنا، فكم قرأناها صغارا، وكم استمتعنا بأخبارها وأحداثها شبابا وكهولا وشيوخا لا فرق في ذلك بين غني وفقير، وكبير وصغير... ومن المؤكد أن صغارنا سيقرؤونها، كما قرأناها، وأن شبابنا وكهولنا سيستمتعون بها في مقبلات الأيام، مادامت العربية لغة قائمة، وما ظلت هناك وفي صدر الوجود أمة عربية حية مستقلة ناهضة...".[2]

لقد أصبح موضوع الحكي الشعبي كجزء مهمّ من الثقافة الشعبية في الوقت الرّاهن مطلباً أساسياً في صناعة الثقافة وبناء المعرفة؛ وذلك بالانفتاح على العديد من المجالات الثقافية الأخرى والمعرفية، حتى وإن كانت الثقافة الشعبية رغم انفتاحها على حقول معرفية أخرى، مثل علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ، ما تزال في حاجة إلى "الرعاية التامة من لدن الباحثين والدارسين، ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا من خلال تبني حسّ نقدي قائم الذات يحفزها ويصنفها ضمن المشاريع ذات الأولوية للبحث".[3]

2- ثقافة الحكي: حكايات الليالي أنموذجا

تعدّ حكايات ألف ليلة وليلة وسيلة تعبيرية استثمرتها شهرزاد في حكاياتها بغية تطهير نفس شهريار الملك الذي كان يستشيط غيضاً وحبّاً في الانتقام من الخيانة وسفك الدماء، لكن العلاج الذي اختارته شهرزاد لعلاج ملكها كان هو الحكاية العجيبة التي استطاعت عبرها مداواته، وإخراجه من مأساته؛ فقد تكلمت له عن الخيانة والقتل والقهر كسلوكيات بشرية سائدة في عالم العجائب والغرائب، صحبتها مخلوقات غاية في العجب تثير الخوف والرعب في الخيال، لتصحح الواقعي بما هو غير واقعي. وعلى الرغم من أن الشخصيتين كانتا من صنع الراوي، فإنهما عكستا مشاعر إنسان العصر الوسيط الدفينة، والتي تختزن الشعور بالقهر والحرمان والظلم، وانتهاك حق المرأة عبر قهرها وإقصائها. لذلك، لم يكن التعبير المباشر الوسيلة الصحيحة للتعبير عن هذه المشاعر، ما حدا بالراوي إلى الارتماء بين أحضان الحكاية لرفض التفاوت الاجتماعي، وتحقيق المساواة في عالم قائم على الاحتمال والخيال، ليعكس واقع مجتمع مليء بالتناقضات، حيث التفاوت الجنسي بين المرأة والرجل، والتفاوت الاجتماعي الحاصل بين الغني والفقير؛ كما جاءت الحكاية لتحقق أحلام الإنسان العادي، وتطهر نفسه من الإحساس بالقهر والظلم؛ غير أن ذلك لا يمكن الكشف عنه في واقع محسوس، بل كانت الحكاية الوسيلة التعبيرية لتصحيح الواقع بما هو غير واقعي. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تصبح الحكاية منتوجا يسهم في النشاط الاقتصادي؟

لعلّ أول ما يثير انتباه القارئ لهذه الحكايات، سيكتشف أنها تنطوي على تيمات ترتبط بالإنتاج من خلال حقل معجمي يتضمن ألفاظاً من قبيل: التجارة – العمل – السفر – الكد، وترافقها في الوقت نفسه سلوكيات وقيم من قبيل: الاعتداء – الإساءة – المساعدة – التعاون. وبالتالي، فالجمع بين كل هذه التيمات مما هو مادّي وما هو قيمي، سيسهم في نقل المادة الحكائية إلى منتوج قد يستغلّه السينمائي في صناعة فيلم، أو فنّان تشكيلي في صناعة لوحة فنية على غرار فناني أوروبا خلال القرون الماضية، أو فيلم وثائقي يقدم أسماء الأماكن وأسماء الأعلام التي تناولتها الحكاية؛ وذلك لاستجلاء عناصر الهوية أولا، وعرض الجانب الإبداعي من تراثنا العربي وتجاوز ما تفشّى من تفاهات في ثقافتنا، والرقي بالذوق العام من خلال الاعتزاز بثقافتنا الشعبية التي ما تزال مفعمة بالقيم الأصيلة والحياة النقيّة. وإذا كانت الحكاية مادة ثقافية بوصفها منتوجاً يقدمها منتجاً ما، فإن الجمهور هو المستهلك لها، وعليه أن يحرص على انتقاء كلّ ما هو متميز ومفيد من ثقافته، بعيدًا عن كل ما يفسد الذوق الذي بدا في وقتنا منحصراً في كل ما هو مسلٍّ وقد يزول في أيّ لحظة، من دون البحث عن المتعة الفنية التي تؤهله بمختلف مستوياته الاجتماعية والفكرية والعمرية لأن يكون عارفاً بالثقافة والفن. فكل ما هو ثقافي يتضمن بصيغة أو أخرى حكياً؛ فالرياضي يحكي بطولاته وانتصاراته، والمفكر يحكي مواقفه وأفكاره، والفنان يحكي بألوانه المركبة، والمسرحي يحكي بحركاته على الخشبة، والموسيقي يحكي بمقاماته، وهكذا دواليك. إنهم جميعاً يقدمون منتوجاً يستقبله المستهلك ويتحسس فيه الذوق، فكلما كان الحكي رصيناً وأصيلاً زاد من الرقي بالذوق، وهذا ما نحن اليوم في أمس الحاجة إليه؛ لأن المستهلك أمسى "بمقتضى هذا الواقع المزيّف، حجّة في صناعة اللهو بالنسبة للمؤسّسات الدعائية التي لا يستطيع اكتشاف قوة تأثيرها عليه، مادام أنّه خاضع لضرورة اقتناء بضاعة فنّية معيّنة باعتبارها سلعة. أصبح كلّ شيء تقريباً تحت هذا المظهر الوحيد قابلاً لأن يستخدم لأجل شيء آخر عداه حتى من دون تعيين غرض عقلاني معقول؛ وبالتالي فلا قيمة لأيّ شيء، إلاّ بوصفه سلعة وغرضا لا قيمة لهما في ذاتهما تقريبا. وإذاً، فقيمة استخدام الفنّ إنّما تتحدّد فقط باعتباره موضوعة (Notion) أو تيمة (Thème) ذات القيمة التبادلية فقط، وهي الصفة الوحيدة التي يمكن أن يتمتع بها المستهلك للفنّ في مثل هذا الأفق"[4].

وما يجب التنويه به، هو أن الإبداع الثقافي الأصيل والجاد، لا يسهم في تنمية الذوق فحسب، وإنما يساعد على تغيير المجتمعات والانتقال بها من دائرة الجمود والانغلاق إلى دائرة الإنتاج والنمو والتغيير. وعلى ضوء هذا، فإن المهتمين بالصناعة الثقافية مطالبون اليوم بتطوير المنتوج الثقافي والرقيّ بالمحتوى الثقافي حتى يساير التطور التكنولوجي والرقمي أولاً، ويكون فضاءً قابلاً لتبادل المعرفة مع الآخر، بل وحماية الموروث الثقافي من الفوضى التي أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في إحداثها، وتسببت في إخراج هذا الموروث عن دوره الإنساني النبيل، وحلّت محله تفاهات قد تدمّره؛ لأنها أصبحت هي المنتوج المهيمن في السوق. فما أحوجنا إلى الحرص على تطوير عمليات الإنتاج الثقافي وفق ما يخدم الحس الإنساني النبيل، ويتماشى مع آليات السوق الداخلية والخارجية، ونحقق بالتالي صناعة ثقافية متوازنة يمكن استثمار الحكي الشعبي فيها لما يحتوي عليه من قيم إنسانية أصبح الإنسان اليوم في أمس الحاجة إليها، وتوظيفها في سلوكياته اليومية وفي علاقاته مع الجيران والأصدقاء وزملاء العمل. لذلك، تعد الحكاية الشعبية شكلاً تعبيرياً يطمح إلى تقويم الفرد حتى يكون عنصراً فاعلاً في المجتمع يدافع فيه عن هويته، ويؤمن بقيمه الأخلاقية ويضمن استمراره في محيطه، ولهذا لم تقف الحكاية الشعبية "عند تحقيق الرغبات، وإنّما ذهبت إلى أبعد من ذلك حينما أبلغتنا برسائل ذات قيم إنسانية، أخلاقية وتربوية، مجملها مرتبط بالحياة الاجتماعية، ولهذا يمكننا اعتبارها نصًّا إنسانياً"[5].

3- صناعة الحكي:

الحكي فعل سردي لأحداث حقيقية أو خيالية أو المزج بينها؛ أي بين الواقعي والخيالي، ويؤدي الحكي غالباً راوياً واحدًا أو أكثر، يقدّم حكيه لمتلقٍّ واحد أو أكثر من المروي لهم، بشكل شفاهيّ تارة وأخرى بشكل مكتوب؛ فمن المكتوب نذكر القصص والروايات، ومن الشّفاهي نستحضر الحكاية والسيرة والأمثال والأحاجي والألغاز، وإن أصبحت جميع هذه الأشكال التعبيرية تدوّن وتحفظ في مدونات المحكي.

والحكي عموماً، والشعبي خصوصاً، تقنية قديمة لكنها متجدّدة، فكما قدم الرواة الحكي قديماً، نلاحظه (الحكي) حاضراً حضوراً حيًّا على المسرح وفي المقاهي والأماكن العامة وفي المنازل، يستثمر فيه الراوي تقنيته وينقل عبرها بعضاً من الجوانب الثقافية والفنية والاجتماعية التي سادت في عصر معين، وينقلها بقالب لغوي شعبي يصل إلى الحاضر بسلاسة، غرضه من ذلك تطهير النفوس وتهذيبها وغرس القيم الإنسانية النبيلة وتشكيل هوية ثقافية، وبناء شخصية الفرد وتنمية الخيال لديه، وبالتالي تشييد جسر من التقارب بين الأجيال والثقافات المختلفة.

وعلى الرغم من أن أشكال التعبير الشعبي كثيرة، وتسند إلى رواة، فإنها تواجه اليوم صعوبات في عرضها وتناولها بشكل يليق بها حتى تؤدي مهمتها المنوطة إليها. فأمام ظهور وسائل إعلامية من تلفزيون وراديو، بدأت هذه الأشكال تختفي وتتراجع لتحتويها أشكال فنية حديثة من قصص وروايات ومسرحيات وما إلى ذلك من الأشكال التعبيرية. ومع تطور وسائل التواصل الرقمية، أصبح لزاماً ضمان استمرار هذا اللون الحكائي عبر حفظه وتخزينه ونقله مع الانفتاح به على الخارج وتسويقه في الداخل، وبالتالي حمايته من الطمس والتشويه[6].

ثمة محاولات أجنبية سعت إلى طمس جزء كبير من الحكي الشعبي في عدد من البلدان، وهي تستهدف الهوية الوطنية على اعتبار أن التراث المحكي يختزن عقلاً جماعياً وثقافياً للمجتمع، مما ساهم في خلق قطيعة بين الشعوب وتراثها، غير أن تطور الوسائل السمعية البصرية أوّلاً، والإنترنيت وتطبيقاته المختلفة ثانياً، حفّزت على نقل الحكي الشعبي من النمط الشفهي إلى التخزين الرقمي، الأمر الذي زاد من الاهتمام بالثقافات المحلية التي كانت في الأصل هدفا لثقافة مركزية معولمة، حيث أصبح الحكاؤون الجدد يسعون بجهد حثيث إلى عرض أشكال حكائية متنوعة تبرز ثقافتهم المحلّية إلى الواجهة قصد تفاعلها مع الثقافات الأخرى، وبالتالي تضمن لنفسها الاستمرار وحمايتها من الاندثار. والثقافة بشكل عام تمنح أبناءها إحساسا بالهوية، ما يشجعهم على التضامن الاجتماعي، وتطوير القدرة على تحقيق الاستقلال الذاتي؛ وذلك بالنطر إلى الثقافة اليوم كرافد مهم من روافد التنمية. فالثقافة الشعبية لم تعد ذلك المحكي الشفاهي، أو العرض الفلكلوري، بقدر ما أصبحت فاعلاً اقتصاديًا مهمًّا ورافعة من رافعات التنمية المستدامة، وبقدر ما تطمح إلى الابتكار والتجديد، فإنها تدعو إلى الاعتزاز بالتراث، وفي الوقت نفسه الانفتاح على ثقافات أخرى لتنمية الحس النقدي، وصوغ مفاهيم جديدة قصد التجديد والتغيير.

خاتمة:

إن لكل شعب ثقافته الخاصة به التي ينسجم معها، انطلاقًا من قيمها وعاداتها ورموزها بوصفها خصائص تنمو من خلال تفاعل العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، مما يؤدي إلى نمط حياتي يخص هذا المجتمع أو ذاك، يسهم في نموها وتطورها حتى ترقى إلى مستوى التأثير والإعجاب. لذلك، نقر أنّ الأمة العربية تختزن ثقافة شعبية غنية يمكن العمل على صناعتها، فإذا كانت الثقافة الغربية قد اجتذبتنا بتطورها التقني إلى درجة الانبهار والإعجاب، فإنه من الواجب علينا أن نطور من ثقافتنا باستثمار نصوصها وفق ما يتماشى مع طبيعة المرحلة التي نعيشها اليوم؛ وذلك بغرض تشييد نوع من التكافؤ بين الثقافات قصد تحقيق فعل التثاقف؛ إذ إن المثاقفة هي الوسيلة التي تسمح بالاستفادة والإفادة من الثقافات الأخرى، وليس هيمنة ثقافة على أخرى، أو ما يسمى بالانتشار الثقافي، وتصبح الثقافة الواحدة هي السائدة، بسبب الانبهار والإعجاب بالثقافات الأخرى، وهو ما يؤدي إلى الانهزام الثقافي الذي يسمح بالغزو الثقافي.

وبما أن ثقافتنا الشعبية هي الثقافة الأكثر تعبيرًا عن تفاعلات الحياة اليومية بوصفها ثقافة تنبع من الذات وتتجه نحو الذات، فإن شروط العصر بكل تحولاته تفرض علينا اليوم أن تخرج هذه الثقافة بكل أشكالها التعبيرية من دائرة الذات لتتجه نحو الآخر، حتى يطلع عليها ويعرف مضمونها وخصوصيتها، وهذا لا يتأتى إلا باستثمار النصوص وتطويرها وفق ما يقتضيه العصر، وبهذا قد يتحقق بعض التكافؤ بين الانبهار بالتقدم التقني والإعجاب بأشكال التعبير في الثقافة الشعبية التي لا تخلو من إعجاب وإثارة تثير بال الآخر، لينبهر بها ويجد نفسه يكرّرها ويمارسها في حياته اليومية، وبهذا تكون ثقافتنا الشعبية أدت دورًا مزدوجًا؛ تَمّثل الأول منها في الحفاظ على الخصوصيات الأصيلة لهذه الثقافة، وأصبح الثاني واجهة لثقافتنا عند الآخر، وبدل أن نعيش في دائرة الانبهار الثقافي الذي يؤدي إلى الغزو الثقافي، فإننا نمارس تبادل الثقافات بنوع من التكافؤ.[7]

 

المراجع المعتمدة

1- عبد السلام شرماط، في صناعة الثقافة؛ الحكي الشعبي نموذجا، مؤسسة مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع 2023

2- عبد السلام شرماط، الحكي والأسطورة أي علاقة، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 10سبتمبر 2013

3- شرماط عبد السلام، البناء والسقوط في تغريبة بني هلال، مجلة الموروث، مجلة فصلية محكمة تصدر عن معهد التراث للشارقة، العدد 5، مارس 2017

4- نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار غريب للطباعة، ط2

5- عمر أبو النصر، تغريبة بني هلال ورحيلهم إلى بلاد الغرب وحروبهم مع الزناتي خليفة وما جرى لهم من الحوادث اللطيفة والحروب الهائلة المخيفة....وفيها قصة مغامس مع بنت عمه شاه الريم، وقصة الدبيسي، والبردويل ابن راشد ملك العريش، وقصة جوهر الحبشي، وقصة الملك الفرمند حاكم مصر القاهرة، ونزول بني هلال، ورحيل حسين الجعيزي إلى أرض نجد، وغرق بني هلال في أرض المخضة، واسر الأمير ذياب، وهروب بنو زغبة، وقتل الأمير حسن، وقتل الأمير أبو زيد وغير ذلك من الأخبار العجيبة ..والقصص الغريبة..، دار عمر أبو النصر وشركاه للطباعة والنشر والتوزيع والصحافة، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1971

6- محمد وحدو، الهرمنوطيقا كأفق استراتيجي للحس النقدي في الثقافة الشعبية، على الرابط:

https://ammannet.net/ثقافة/الهرمنوطيقا-كأفق-استراتيجي-للحس-النقدي-في-الثقافة-الشعبية

7- الحسين أخدوش، بُؤْسُ الصناعة الثقافية وتَسَيُّدُ آفة التفاهة، مركز تكامل للدراسات والأبحاث، مقال نشر بتاريخ 06 مارس 2022، على الرابط:

https://www.takamoul.org/دراسات-وأبحاث/مقالات/بُؤْسُ-الصناعة-الثقافية-وتَسَيُّدُ-آ/

8- صليحة سنوسي، الواقع الاجتماعي والأخلاقي للحكي الشعبي، مجلة إنسانيات على الرابط:

https://journals.openedition.org/insaniyat/16987?lang=en#:~:text=1تعدّ%20الحكاية%20الشعبية%20بأنواعها,آلامه%20المرتبطة%20بالضغوطات%20الاجتماعية%20والنفسية.

[1]- نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار غريب للطباعة، ط2، ص ص 3-4

[2]- عمر أبو النصر، تغريبة بني هلال ورحيلهم إلى بلاد الغرب وحروبهم مع الزناتي خليفة وما جرى لهم من الحوادث اللطيفة والحروب الهائلة المخيفة....وفيها قصة مغامس مع بنت عمه شاه الريم، وقصة الدبيسي، والبردويل ابن راشد ملك العريش، وقصة جوهر الحبشي، وقصة الملك الفرمند حاكم مصر القاهرة، ونزول بني هلال، ورحيل حسين الجعيزي إلى أرض نجد، وغرق بني هلال في أرض المخضة، واسر الأمير ذياب، وهروب بنو زغبة، وقتل الأمير حسن، وقتل الأمير أبو زيد وغير ذلك من الأخبار العجيبة...والقصص الغريبة...، دار عمر أبو النصر وشركاه للطباعة والنشر والتوزيع والصحافة، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1971، ص 12

[3]- محمد وحدو، الهرمنوطيقا كأفق استراتيجي للحس النقدي في الثقافة الشعبية، على الرابط:

https://ammannet.net/ثقافة/الهرمنوطيقا-كأفق-استراتيجي-للحس-النقدي-في-الثقافة-الشعبية

[4]- الحسين أخدوش، بُؤْسُ الصناعة الثقافية وتَسَيُّدُ آفة التفاهة، مركز تكامل للدراسات والأبحاث، مقال نشر بتاريخ 06 مارس 2022، على الرابط:

https://www.takamoul.org/دراسات-وأبحاث/مقالات/بُؤْسُ-الصناعة-الثقافية-وتَسَيُّدُ-آ/

[5]- صليحة سنوسي، الواقع الاجتماعي والأخلاقي للحكي الشعبي، مجلة إنسانيات على الرابط:

https://journals.openedition.org/insaniyat/16987?lang=en#:~:text=1تعدّ%20الحكاية%20الشعبية%20بأنواعها,آلامه%20المرتبطة%20بالضغوطات%20الاجتماعية%20والنفسية.

[6]- انظر كتابنا، في صناعة الثقافة؛ الحكي الشعبي نموذجا، مؤسسة مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع 2023

[7]- عبد السلام شرماط، الحكي والأسطورة أي علاقة، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 10سبتمبر 2013