الكتابة في العهد الفاطمي


فئة :  مقالات

الكتابة في العهد الفاطمي

انطلقت الدولة الفاطمية من بلاد المغرب بعد بيعة عبيد الله المهدي أميرا للمؤمنين في اتجاه بلاد مصر بعد إرسال دعاة، عملوا على التمهيد للسيطرة عليها بكسب مؤيدين وأنصار، مما شجعهم على التمهيد لعمل عسكري قصد ضم أرض الكنانة إلى الدولة الفاطمية، وكان ذلك عبر حملات عسكرية متوالية، بالرغم من تصدي بني العباس لهم في بداية الأمر، غير أن الفاطميين ظلوا يواصلون حملاتهم، حتى تمكنوا من ضم مصر إلى دولتهم، فتوسعت الدولة الفاطمية، وشملت فضاء جغرافيا امتد من شرق الجزائر وتونس وليبيا وصقلية، ثم مصر التي باتت تعد مركز الخلافة العامة.

في العهد الفاطمي، نشطت الحركة الفكرية، واحتضن بلاط الدولة العديد من العلماء والشعراء والكتّاب، وزاد من هذا الاهتمام إنشاء دار الحكمة على يد الحاكم بأمر الله في القاهرة الذي أولى عنايته الخاصّة بها، وأراد منها أن تكون مؤسّسة علمية تضاهي بيت الحكمة في بغداد.

لقد أخذت الدولة الفاطمية من عمر التاريخ الإسلامي أكثر من قرنين ونصف، توالى فيها على الحكم خلفاء فاطميون، مثل:

ــ عبيد الله المهدي/ القائم بأمر الله / المنصور بالله / المعز لدين الله / العزيز بالله/ الحاكم بأمر الله/ الظاهر بأ مر الله / المستنصر بالله/ أحمد المستعلي / الآمر بأحكام الله.

وشهدت الدولة الفاطمية في عهد هؤلاء الحكام حركة ونشاطا كبيرين في مجال العلم والمعرفة، وذلك بفضل تشجيع الخلفاء والسلاطين لرجال العلم والأدب، فنشطت الحركة الفكرية، واحتضن بلاط الدولة العديد من العلماء والشعراء والكتّاب، وزاد من هذا الاهتمام إنشاء دار الحكمة على يد الحاكم بأمر الله في القاهرة الذي أولى عنايته الخاصّة بها، وأراد منها أن تكون مؤسّسة علمية تضاهي بيت الحكمة في بغداد.

جاء في الموسوعة البريطانية "في سنة 395 هـ، أسّس الحاكم بأمر الله دار الحكمة، وألحق بها عددا من علماء الفقه والتفسير فضلا عن العلوم الطبيعية والرياضية، كما أنشئت مكتبة دار العلم، فكانت متّصلة بدار الحكمة تمدّه بالمؤلفات الكثيرة التي تطلع الناس على أنواع المعرفة وتساعد الكتّاب على البحث والتأليف..."[1]

وجد الفاطميّون المجال فسيحا لحضور مجالس المناظرات بين العلماء، والاستمتاع بمدائح الشعراء التي تتحدّث عن مجد الأجداد وعزّ الآباء

فكانت دار الحكمة بما تتوفّر عليه من مادّة علمية، وبما تحظى به من رعاية الحكّام الفاطميّين وجهة علمية، تجتذب الكثير من علماء المشرق والمغرب، ووجد الفاطميّون المجال فسيحا لحضور مجالس المناظرات بين العلماء، والاستمتاع بمدائح الشعراء التي تتحدّث عن مجد الأجداد وعزّ الآباء، وكان الحكّام يكثرون من العطاء ويجزلون فيه للشعراء الذين يفدون على مصر من مختلف الأقطار، مثل الشاعر ابن هانئ الأندلسي الذي ارتبط اسمه بالمعز لدين الله حتى لقّب بمتنبي المغرب. وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على اهتمام الفاطميّين بالأدب والمعرفة، بل كلّ صنوف الكتابة، لاسيّما التي تخدم مذهبهم وتؤيّد فكرتهم.

ومن مظاهر الاهتمام بالكتابة في العهد الفاطمي، ما ذكره القاضي النعمان عن المعزّ لدين الله، الذي أمر بصنع قلم "يكتب به بلا استمداد من دواة، يكون مداده من داخله، فمتى شاء الإنسان كتب به فأمدّه، وكتب بذلك ما شاء، ومتى شاء تركه، فارتفع المداد، وكان القلم ناشفا منه، يجعله الكاتب في كمّه، أو حيث شاء، فلا يؤثّر فيه، ولا يرشح شيء من المداد عنه، وجيء بأحد الصنّاع، فشرح له الفكرة، فصنع له قلما من ذهب فأودعه المداد، وكتب به فكتب وزاد شيئا من المداد على مقدار الحاجة، فأمر بإصلاح شيء فأصلحه، وجاء به فإذا هو قلم يقلب في اليد ويميل إلى كل ناحية، فلا يبدو منه شيء من المداد، فإذا أخذه الكاتب وكتب به أحسن كتاب ما شاء أن يكتب به، ثم إذا رفعه عن الكتاب أمسك المداد".[2]

وإذا كان النعمان يحاول أن يرسم لنا في كلامه صورة بديعة عن شخصية المعز لدين الله وما تمتّع به من ذكاء، فإنّ ما أثار انتباهنا هو البحث عن أدوات الكتابة التي تليق بكتابة راقية، ولعلّ رقيّ الكتابة في نظر المعزّ لدين الله، يكمن في ما يخدم المذهب وما يرسّخ الدعوة الفاطمية، لذلك توسّع مشروع الكتابة من خلال تأسيس ما سمّي بديوان الإنشاء.

رقيّ الكتابة يكمن في ما يخدم المذهب وما يرسّخ الدعوة الفاطمية، لذلك توسّع مشروع الكتابة من خلال تأسيس ما سمّي بديوان الإنشاء.

ويعد ديوان الإنشاء من أعظم الدواوين قاطبة في إدارة الحكم الفاطمية، حيث كانت مهمّته من أخطر وأدقّ المهامّ؛ ففي دولة كالدولة الفاطمية لها صبغة مذهبية خاصّة، كانت السجلاّت والمراسيم تصاغ في أساليب عالية، وكان بثّ الدعوة المذهبية وعرضها خلال المكاتبات السياسية يتطلّب أرقى وأبلغ الصيغ البيانية، مما أدّى إلى تطوّر الكتابة بشكل رغبه الحكام الفاطميّون؛ لذلك عنيت الدولة الفاطمية بديوان الإنشاء عناية كبرى "ووجّهوا إليه مزيدا من اهتمامهم اتخذوه وسيلة لرفعة قدرهم، ونشر ذكرهم في الآفاق، ذلك أن كتّابه يشيدون بمجدهم فيما يكتبون من رسائل وغيرها، فينمون في قلوب الشعب إجلالهم وتقديسهم، كما كانوا ينشرون اسمهم محاطا بهالة التعظيم في أنحاء العالم، ولهذا كان لا يرأس هذا الديوان إلاّ أجلّ كتّاب البلاغة، ويخاطب بالأجل، وكان يقال له عندهم كاتب الدست الشريف، وإليه تسلّم المكاتبات الواردة مختومة، فيعرضها على الخليفة من يده، وهو الذي يأمر بتنزيلها والإجابة عنها، ويستشيره الخليفة في أكثر أموره، ولا يحجب عنه متى قصد المثول بين يديه، وربّما بات عنده الليالي، ولا سبيل إلى أن يدخل إلى ديوانه ولا يجتمع بكتابة أحد إلاّ خواصّ الخليفة، وله حاجب من أمراء الشيوخ، وله مرتبة عظيمة للجلوس عليها... ودواته من أخصّ الدوي وأحسنها..."[3] وكان جاريه مائة وخمسين دينارا في الشهر، وهو أوّل أرباب الإقطاعات، وأرباب الكسوة والرسوم والملاطفات، ويأتي بعد صاحب ديوان الإنشاء والمكاتبات جليس الخليفة الذي يذاكره في أمور كتاب الله المبين، ويحدّثه عن أخبار وقصص الأنبياء والمرسلين.

الكاتب الموالي للدولة الفاطمية كان يحظى بمكانة خاصّة، إذ يلقى الإجلال والتقدير من الحكّام أنفسهم؛ فهو الحافظ لأسرارهم وخفايا أمورهم

يتّضح فوق ما تقدّم، أنّ الكاتب الموالي للدولة الفاطمية كان يحظى بمكانة خاصّة، إذ يلقى الإجلال والتقدير من الحكّام أنفسهم؛ فهو الحافظ لأسرارهم وخفايا أمورهم، وفي الوقت نفسه هو من يمجّدهم ويحيطهم بالتعظيم والتقديس، والملفت للانتباه هو الحرص على أسلوب الكتابة في جميع المكاتبات التي يشترط فيها صحّة المعنى وجزالة اللفظ، وجودة الخطّ، وسلامة اللغة، والاستشهاد بآيات من القرآن الكريم، حتى تكون المكاتبة سليمة صحيحة، ولهذا ليس من السهولة بمكان تولي منصب الكتابة في ديوان الإنشاء، إذ لا بدّ من شروط يجب توفّرها في صاحب الخط، وأوّلها الثقة، وثانيها المؤهلات التي تسمح له بالمنصب العالي، ومنها حفظ القرآن الكريم، وفصاحة اللغة، والخط الجيّد، والإلمام بعلوم الأدب "حتى إذا وردت مسألة دينية، أو سياسية كان مستطيعا أن يخوض فيها وأن يتحدّث عنها".[4]

ولأن كتابة الإنشاء هي ركيزة من ركائز الدولة، فإنّ صاحب الكتابة يجب أن يتمتّع بثقة عالية، حاملا لكتاب الله وعارفا بأسباب نزول آياته، عالما بالأحاديث النبوية، مطّلعا على أخبار الملوك وسيرها، حكيما.... جاء في العقد الفريد للملك السعيد: "كتابة الإنشاء من مقوّمات الدولة وقواعد المملكة، وصاحبها المباشر لها في خدمة السلطان، معدود من أكبر الأعضاء والأعوان، نازل منه منزلة القلب واللسان من الإنسان، فإنّه المطّلع على الأسرار، المجتمع لديه خفايا الأخبار... فلهذا كاتب الإنشاء... ضارب في أعشار العلوم بالقدح المعلّى، وراكب من صهوات الفضائل... فإن موادّ صناعته وأمتعة بضاعته، وشروط براعة معرفة الآيات القرآنية، وأسباب نزولها، وعلم الأحاديث النبوية، وكيفيّة مدلولها، وفهم سير الملوك الأولى في أفاعيلها وأقاويلها، والتضلّع من الحكمة والأمثال بتفريعها وتأصيلها، والتطلّع على وقائع العرب، بجملها وتفاصيلها، والتوسّع في أبحر المعاني الشعرية ما بين متقاربها وطويلها، فبذلك يملك زمام البلاغة والبراعة، ويرقى بقدمه على قمم أهل هذه الصناعة، فإذا أمره السلطان بكتاب تخير له أفصح ألفاظه وأرجح معانيه، وجعل مطلع دعائه مشعرا بالغرض المودع فيه، ويختصر تارة، ويطنب أخرى، ويستعمل في كلّ مقام ما هو أليق به وأحرى".[5]

 توجّه الفاطميّون إلى الاهتمام بفنّيات الكتابة، وخصّصوا قدرا كبيرا من العطايا والأموال للمتفنّنين في الكتابة والعارفين بقواعدها، بوصفهم يمتلكون أسلوبا راقيا يروّج للعقيدة ويدافع عن النسب

وتوحي الشروط المذكورة أعلاه، أنّ الكتابة في العهد الفاطمي بلغت أوجها، وبرز فيها أعلام كثر، نذكر منهم:

1- ابن الصيرفي، كان أبوه صيرفيا، وجدّه كاتبا، مال إلى الكتابة وأعجب به الوزير الأفضل، فاستخدمه في ديوان المكاتبات.

2- ابن الخلال، يوسف بن محمّد، تتلمذ على يديه القاضي الفاضل.

3- القاضي الفاضل.

4- العماد الكاتب.

5- ابن قادوس الدمياطي.

لقد توجّه الفاطميّون إلى الاهتمام بفنّيات الكتابة، وخصّصوا قدرا كبيرا من العطايا والأموال للمتفنّنين في الكتابة والعارفين بقواعدها، بوصفهم يمتلكون أسلوبا راقيا يروّج للعقيدة ويدافع عن النسب؛ لذلك برع الكتاب في الوصف والتصوير والتوثيق، وحرص الفاطميّون على هذا اللون من الكتابة من باب المباهاة والمنافسة، خصوصا وأنّ الفاطميين كانوا حريصين على منافسة قرطبة وبغداد وغيرهما من مراكز الأدب المرموقة، فزاد هذا الحرص على الرفع من الشأن الفني في عين مبدعيه.

فمع قيام الدولة الفاطمية، انتعشت الكتابة ووجد من يحتضنها ويشجّع أصحابها، لاسيما وأنّ الحكّام الجدد، وجدوا أنفسهم في مجتمع سنّي يعارض قسم كبير منه النحلة الفاطمية معارضة شديدة؛ فكان عليهم أن يخوضوا غمار صراع داخلي، كما كان عليهم أن يدخلوا في صراع مع الأمويين في الأندلس من جهة ومع البيزنطيين من جهة ثانية، ومع العباسيين من جهة ثالثة، وكانت الكتابة ــ مع بعض الألوان الفنية الأخرى ــ سلاحا نافعا، يمجّد الفاطميّين ويردّد عقيدهم، ويدافع عنهم، ويتغنّى بأعمالهم.[6]

 انتعشت الكتابة ووجد من يحتضنها ويشجّع أصحابها، لاسيما وأنّ الحكّام الجدد، وجدوا أنفسهم في مجتمع سنّي يعارض قسم كبير منه النحلة الفاطمية معارضة شديدة

ولعل من العوامل الأخرى التي أسهمت في تشجيع الكتابة الفنّية في العهد الفاطمي، ما يلي:

1- عامل اقتصادي، تمثّل في استيلاء الفاطميّين على الأموال التي كانت ترسل إلى الخلافة العبّاسية من الإمارات المغربية المتفرّقة، وهذا ما جعل الثروة تتجمّع في أيدي الفاطميّين، ممّا جعلهم يغدقون بسخاء على الكتاب ويعتنون بالكتابة.

2- عامل سياسي، تمثّل في التنافس بين قصبات الحكم، إذ ضعفت الخلافة العباسية، وفقدت بغداد الكثير من قدرها، فكانت الدولة الفاطمية هي الوجهة البديل التي بدأ يقصدها الكتاب والشعراء.

لقد كان الغرض من الكتابة في العهد الفاطمي ليس التأثيل لقواعد فنية في الكتابة، وإنّما تمّ تسخيرها لخدمة أغراض مذهبيّة في فضاء إسلامي، توزّعته ثلاث دول اختلفت من حيث السياسة والمذهب، ونقصد بذلك الدولة العباسية في بغداد، والفاطمية في مصر، والأمويّة في الأندلس.


[1]- الموسوعة البريطانية، مجلد 9، ص 1538

[2]- القاضي النعمان، المجالس والمسايرات، ص 148

[3]- القلقشندي، صبح الأعشى، ج3، دار الكتب العربية، بيروت لبنان، ط1، ص563

[4]- أحمد أحمد بدوي، الحياة الأدبية....، ص332

[5]- محمد بن طلحة، العقد الفريد للملك السعيد، ص 148، نقلا عن الحياة الأدبية، احمد بدوي، ص339

[6]- إبراهيم الدسوقي جاد الرب، شعر المغرب حتى خلافة المعز، دار الثقافة للنشرـ القاهرة، 1991، ص55