تقديس الخلاص وتجلياته في الثقافة الشعبية المغربية


فئة :  مقالات

تقديس الخلاص وتجلياته في الثقافة الشعبية المغربية

تقديس الخلاص وتجلياته في الثقافة الشعبية المغربية

الملخص

يتناول هذا المقال تجليات الخلاص في الثقافة الشعبية المغربية، سواء في الطقوس الاجتماعية أو في الممارسات الشعبية الأخرى، وكيفية تشكله في التمثل الشعبي للإنسان الشعبي المغربي، متتبعا أثرهذا المفهوم في الديانات السابقة "اليهودية والمسيحية والإسلام، ونظرا للأهمية التي يتميز بها "الخلاص"، فقد اهتمت به الأقلام البحثية في مجال الثيولوجيا أساسا، ومنحت له مكانة رمزية لما يتضمنه الخلاص من حمولة ثقافية عميقة ترتبط بالكيفية التي يمارس الإنسان شعائره الدينية والتمثل بها أملا في تحقيق المحبة الإلهية. الهدف الرئيس من هذا المقال هو إزالة الغموض الذي يطال مفهوم الخلاص كتمثل وعقيدة، والذي يتمظهر أساسا من خلال الممارسات والطقوس الشعبية، كالطقوس الدينية مثل الأعياد، وعاشوراء، ثم المولد النبوي، والطقوس الشعبية الأخرى كزيارة الأضرحة والزوايا، وطقوس الاستمطار، وغيرها من الطقوس الاجتماعية.

تقديم

إن المبحر في دراسة الطقوس الشعبية بالمغرب، باعتبارها ممارسة جماعية وفردية، سيجد أن الغاية منها لا ترتبط بالضرورة فقط بما هو ترفيهي أو ما شابه ذلك، ولكن الطقوس هي أبعد من ذلك، هي تعبير عن البحث نحو تحقيق نوع من الخلاص، ويتمظهر هذا المبتغى (الخلاص) انطلاقا من بعض الممارسات المرافقة للطقوس الدينية (الصلاة، الزكاة، مناسك الحج)، أو الطقوس العبور الاجتماعية (العقيقة، الختان، الزواج، الموت).

غير أن الخلاص كمفهوم وموضوع رئيس، قد اهتمت به الكتب الدينية منذ الأزل، ومنحت له مكانة مقدسة لما يتضمنه الخلاص من حمولة دينية عميقة ترتبط أساسا بالعلاقة الرابطة بين العابد والمعبود، "فالخلاص هو الاهتمام الأساسي للأديان كلها، حتى بالنسبة إلى الأديان التي ترى في الإنسان مخلصا لنفسه، وقد تناولت الأديان فهم الخلاص بطرائق مختلفة. ولهذا، فكل ديانة يمكن أن توصف بنوع ما أنها "طريق" للخلاص أو نظرية عن الخلاص"[1].

هذا وإن الكتب المقدسة ليست وحدها التي اهتمت بموضوع الخلاص، بل إن الخلاص أصبح يتبوأ مكانة مقدسة لدى الثقافات والحضارات، كالثقافة المصرية القديمة والثقافة الهندية والثقافة المغربية، وتعتبر هذه الأخيرة أبرز هذه الثقافات التي يتمثل فيها الخلاص كمعتقد وطقس اجتماعيين في العديد من المناسبات، ويتمظهر أساسا من خلال الممارسات والطقوس الشعبية، كالطقوس الدينية (الأعياد، عاشوراء، المولد النبوي)، والطقوس الشعبية الأخرى (زيارة الأضرحة والزوايا، الاستمطار/تاغنجا)، وغيرها من الطقوس، غير أن تحديد تمثلات المغاربة للخلاص يفرض الفهم الدقيق لمفهوم الخلاص في البدء، مما يستوجب طرح العديد من التساؤلات؛ فما هو الخلاص؟ وما موقف الديانات السابقة منه؟ وماهي تجلياته في الثقافة الشعبية المغربية؟ وما هي أدواره الاجتماعية والنفسية والثقافية؟

1- مفهوم الخلاص ودلالاته:

إن المتتبع لأثر مفهوم الخلاص، سواء في المعاجم أوالقواميس اللغوية، سيجد أنه اكتسب دلالات واسعة ومتعددة؛ إذ نجد: الخلاص في اللغة: مشتق من فعل خلص، "وخلص الشيء، بالفتح، يخلص خلوصا وخلاصا إذا كان قد نشب ثم نجا وسلم، وأخلصه وخلصه وأخلص لله دينه: أمحضه، وأخلص الشيء: اختاره، وقرئ: إلا عبادك منهم المخلصين، والمخلصين؛ قال ثعلب: يعني بالمخلصين الذين أخلصهم الله عز وجل. والمخلص: الذي أخلصه الله جعله مختارا خالصا من الدنس، والمخلص: الذي وحد الله تعالى خالصا"[2].

أما من الناحية الاصطلاحية، فنجد أن الخلاص يقصد به: "التحرر من الخطيئة والتحرر بالتالي من آثارها؛ أي إن الخلاص من قصاص الخطيئة لا يترتب عليه النجاة من دينونتها إلى الأبد فقط، بل يترتب عليه أيضا تبرير الخطاة وتطهيرهم وتقديسهم ومصالحتهم مع الله وتمتعهم معه بالحياة الأبدية"[3].

وتبعا لذلك، نجد أنه "في البدء ارتبط مفهوم الخلاص بقهر الاغتراب الداخلي، والذي يعاني منه الإنسان تجاه الظواهر الطبيعية؛ إذ كانت في غاية الغموض بالنسبة له، وفي تلك المرحلة اتجه الإنسان إلى تأليه تلك الظواهر معتقدا أنها تتضمن أرواحا كونية لها القدرة على تغيير مسار حياته هنا وفي العالم الآخر، ولذلك لم يسع الإنسان لنبذ العالم استنادا إلى أنه يكشف دوما من تجليات المقدس المتعددة، ومن ثم ظهرت الطقوس والشعائر القربانية بوصفها الوسيلة الأمثل لتحقيق الخلاص من قهر العالم، كما كانت في ذات الوقت وسيلة لتحقيق ذات الخلود الإلهي بعد فناء الجسد، وعليه أصبح الخلاص نوعا من التعالي على الجانب الفاني في الإنسان وبلوغ عالم الآلهة دون الحاجة لأي ممارسات أخرى، فالخلاص عمل شعائري محض بعيد عن ممارسة الخير أو اجتناب الشر"[4].

وقد "كان الخوف والرجاء وفطرية الأفكار أهم الأسباب التي دفعت الإنسان قديما لتأمل ما يحيط به من ظواهر دون أدنى تفرقة بين الكيان الحي وغير الحي، حيث إن كل ما يتحرك كان بالنسبة إليه حيا، فالشمس التي تشرق، والرياح التي تهب، والرعد الذي يعصف، كل ذلك قد لعب دوار كبيرا، بل وشغل حيزا ضخما في تفكير الإنسان قديما، لذا شرع في البحث عن طرق للتعامل مع تلك الظواهر الطبيعية"[5].

"بعد أن عانى الإنسان ما عاناه في احتكاكه مع قوى الطبيعة وقسوتها، انتهى من تلك المعاناة وهذا الاغتراب إلى الإيمان بوجود المقدس عبر ثنايا الكون باعتبار الخالق له، ومن ثم فلا بد أن تتجلى القداسة في كل جزء من أجزائه"[6].

2- مدلول الخلاص وتجلياته في الديانات السابقة:

من الصعب جدًّا استجلاء مدلول الخلاص في الديانات السابقة، إلا أن ما ينبغي أن نعرفه وهو أنه "تتجلى عقيدة الخلاص بوصفها ذلك القاسم المشترك الذي يجمع سائر الأديان والملل على اختلافها في نقطة بعينها[7].

أ - الخلاص في الديانة اليهودية

يشكل الخلاص رمزا أساسيا من الرموز المقدسة في الديانة اليهودية، وما دام العهد القديم هو الكتاب المقدس لدى اليهود، فإن"الخلاص في العهد القديم كان له مفهوم غير معناه في العهد الجديد ففي العهد القديم كان الخلاص يعني المادي الجسدي فحسب؛ أي نجاة عبيد الله من أيدي أعدائهم وانفكاك عبودية وأسر الشعب الله من أيدي آسريهم وسكناهم في أرض خصبة غنية، ولكن نجد أنبياء العهد القديم يبدؤون في التأكيد على الحاجة إلى التحول الداخلي عن حالة الخطية والإثم التي في قلب الإنسان، وأن الخطر الحقيقي هو في موقف الإنسان والجماعة من الله حينما يعصون مشيئته، وقد تركزت وسائط الخلاص بناء على ذلك في العهد القديم، في تتميم الناموس بشقيه الأخلاقي والشعائري أي بالوصايا السلوكية وبالفرائض والذبائح والتطهيرات"[8].

"فقال موسى للشعب: لاتخافوا قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم، فخلص الرب في ذلك اليوم إسرائيل من يد المصريين ورأى إسرائيل الفعل العظيم الذي صنعه الرب بالمصريين"[9]، غير أن ما يمكن ملاحظته في هذا الإطار، هو أن "إيمان الكتاب المقدس لا يهمه على الإطلاق أن يسأل من أي شيء يتكون الخلاص؟ ولم يوص الكتاب الكتاب المقدس بتوصيات معينة من أجل بلوغ الخلاص، تصوفية كانت هذه التوصيات مثل الغنوسية مثلا أم أخلاقية مثل الكونفوشية أم نسكية مثل الهندوكية لكن إيمان الكتاب المقدس مهتم بالحري بإعلان حقيقة حدوث الخلاص ومن هنا فهو يختلف عن أي ديانة أخرى من حيث كونه كرازي السمة أي أنه يبشر بخلاص الله الذي تم"[10].

ب - الخلاص في الديانة المسيحية

يشير الخلاص في العهد الجديد إلى حالة عبودية الإنسان للخطية وخطورة سلطانها، وأن الخلاص هو التحرر من عبودية الخطية وسلطان إبليس بقوة المسيح والدخول في الخليقة الجديدة بكل نعمه وبركاته الروحية التي تتجاوز حدود وطن أرضي بخصبة وغناه المادي، والتي تتخطى آمال النجاة من الأعداء وأوهام السيطرة والتفوق على سائر الشعوب"[11].

"إن فعل الخلاص يظل حيا فعالا من خلال التاريخ المستمر للخلاص، فالخلاص ليس مجرد حدث تم في الماضي، بل هو قائم وحاضر وحقيقة في حياة أولئك الذين يحتفظون به بكلمة الله وبالأسرار، الخلاص الذي صنع مرة واحدة ومن أجل الكل، من أجل كل الشعوب، هذا خلاص تستمده، وتناله كل عائلة وكل فرد في كل مرة تجاوب العائلة أو يجاوب الفرد على عمل خلاص الله بالعبادة والشكر (الإفخاريستا)"[12].

المسيحيون حريصون على تعليم أبنائهم عقيدة الخلاص "إذا سألك ابنك غدا قائلا: ما هي الشهادات والفرائض والأحكام التي أوصاكم بها الرب إلهنا تقول لابنك: كنا عبيدا لفرعون مصر، فأخرجنا الرب من مصر بيد شديدة، وصنع الرب آيات وعجائب عظيمة ورديئة بمصر، بفرعون وجميع بيته أمام أعينننا، وأخرجنا من هناك لكي يأتي بنا ويعطينا الأرض التي حلف لآبائنا فأمرنا الرب أن نعمل جميع هذه الفرائض، ونتقي الرب إلهنا ليكون لنا خير كل الأيام، ويستبقنا كما في هذا اليوم وإنه يكون لنا بر إذا حفظنا جميع هذه الوصايا لنعلمها أمام الرب إلهنا كما أوصانا (تث 6: 20-25)"[13].

إن الحدث الخلاصي يحتفل به سرائريا، يقام بالسر الكنسي في زماننا الذي نعيشه، في تذكار عشاء الفصح الجديد الذي هو تذكار عشاء الرب"[14].

ت - الخلاص في الإسلام

لقد حسم الإسلام موقفه من الخلاص، على اعتبار أن "الدين الإسلامي لا يبحث عن المخلص؛ لأن كل إنسان مسؤول عن أعماله وأفعاله، وعلى ذلك فليس للإنسان إلا ما سعى"[15]. عكس مثلا ما نجده في الدين المسيحي أنه "تمت وجود المخلص الذي يتحمل عن البشر أوزارهم"[16].

بيد أنه في "ما يخص التراث الصوفي، فقد تجلى الخلاص ـ إذا جاز لنا ذلك ـ عبر التضحية بالأنا الفردية، وبرغباتها من أجل بلوغ الذات السامية، إذ أن النزعة الروحية خلال الإسلام تكمن في التأكيد على أن كل شيء هو الله، والله في كل شيء إنه البداية والنهاية، ومن ثم وجب على الإنسان السعي للتوحد معه هنا وفي العالم الآخر حتى ينال السعادة الأبدية.. كما يقول الإمام الجنيد "هو أن يجعلك الله تموت لدى نفسك لتولد من جديد فيه هو"[17].

3- تجليات الخلاص في الطقوس الشعبية المغربية:

إن الثقافة الشعبية هي "ذلك الكل المترابط من معطيات النشاط الإنساني والناتج عن جدل الجماعة الشعبية، مع واقعها الفيزيقي والميتافيزيقي والطبقي، ساعية في هذا الجدل إلى إخضاع الواقع لسيطرتها وتحقيق وجودها الإنساني، منتفعة بمادة هذا الواقع صائغة منها عالما متجانسا ومألوفا تأنس إليه وتطمئن إلى استجابته لها ولنشاطها الإنساني المقاوم لحتميات هذا الواقع الطبيعية وفوق الطبيعية والاجتماعية"[18]، فإن الثقافة الشعبية المغربية تعد من أبرز الثقافات الشعبية التي يتمثل فيها الخلاص بشكل كبير، ويتجلى ذلك أساسا في مختلف الطقوس الشعبية التي تأخذ بعدا تدينيا نأخذ على سبيل المثال لا الحصر:

أ - طقس كناوة

إن تحديد التمثل الخلاصي في طقس كناوة ورصده وتفسيره مرتبط بالضرورة الوقوف عند كلمة "كناوة" ودلالتها ومرجعيتها؛ فالمتتبع لآثار هذه الكلمة سواء في المعاجم اللغوية خصوصا، لا نتوفر على معلومات دقيقة لها؛ وذلك نظرا إلى شح المصادر والمراجع التي تتحدث عنها، بيد أن كلمة كناوة كتسمية موجودة في ثنايا بعض الأبحاث والكتب، فإذا رجعنا مثلا إلى معلمة المغرب نجد أن كلمة كناوة "حسب ما تنطوي عليه المصادر، تعود جذور كناو إلى إفريقيا جنوب الصحراء أو السودان الغربي، حيث كانت هناك إمبراطوريات عريقة كمالي وسنغاي وغيرهم وحيث ازدهرت التجارة التجارة وبرزت أسماء لمدن لها وزن تجاري وحضاري وإشعاع علمي وثقافي مدينة تمبكتو وكاو وغيرهما"[19]، بيد أنّ (هناك من يرجعها إلى قبيلتهم الأصلية "الكانكا"، والتي توجد بين تمبكتو وتالاندي بمالي الحالية، ومنها جاءت كلمة "كناوة" وهناك من يرى أن هؤلاء العبيد لما استقروا في منطقة وادي نون تأثر فنهم بخصوصيات العرب الرحل من جهة، وخصوصيات القبائل الأمازيغية من جهة ثانية، وبالتالي حصل التمازج بين التأثيرات وممارسات العبيد اليومية)[20].

وتعد القارة الإفريقية مجال استقرار هذه الفئة الاجتماعية، حيث بدأ تواجدهم في جنوب إفريقيا، لينتشروا بعد ذلك في ربوع إفريقيا من شرقها إلى غربها، ومن جنوبها إلى شماله، ومادام المغرب ينتمي إلى الدول المتواجدة في إفريقيا الشمالية، فإن "كناوة" استقرت فيه بحكم أن المغرب بلد محتضن لمجموعة من الإثنيات والأعراق البشرية.

وتتميز هذه الفئة الاجتماعية "كناوة" في المغرب بتراث عريق، طبع الطقوس الاجتماعية، كطقوس الزواج والختان، وطقس الحضرة الكناوية.

ب - طقس عاشوراء

يعد طقس عاشوراء من بين الطقوس المعروفة قديما في شمال إفريقيا عموما، والمغرب منه على وجه التحديد، والتي تمارس فيه مجموعة من الطقوس تجسد البعد الرمزي للخلاص، والمتأمل في هذه الطقوس على سبيل المثال، سيكشف أن هذه الممارسات ليست اعتباطية بقدر ما تعبر عن العمق الخفي لمجموعة من المعتقدات الشعبية القديمة جدا بما هي رواسب ثقافية بتعبير الأنثروبولوجي الشهير "إدوارد وسترمارك". فإذا رجعنا إلى مناطق الجنوب الشرقي للمغرب، سنجد أن سكان أهل هذه المناطق يحتفلون بطقس عاشوراء كباقي المجتمعات الإسلامية، غير أن ما يميز هذه المناطق عن غيرها، وهي أنها سنّتَ لهذا الطقس مجموعة من الممارسات التي تطبع عليها طابعا احتفاليا قائم الذات، "ويسمّى هذا الطقس في هذه المناطق عموما بـ"تَاعْشُورْتْ"؛ أي نسبة إلى عاشوراء، ويمتد الاحتفال بهذا الطقس لمدة ثلاثة أيام فما فوق، وكل يوم له طقوس محددة وعادات وتقاليد محددة"[21].

إن ما يهمنا في هذا الصدد، هو الوقوف عند اليوم الذي يمارس فيه الطقس، والذي يجسد الخلاص في بعده الرمزي وهو اليوم الثاني، حيث يمارس فيه طقس التراشق بالماء بين الفتيان ذكورا وإناثا، والذي يعبر عند أهالي الجنوب الشرقي عن الفرح والسعادة. أما في بعض المناطق الأخرى من المغرب، يقول الباحث المغربي عبد الغني منذيب: "في الصباح الباكر من اليوم الموالي (العاشر من محرم)، قبيل طلوع الشمس تبدأ المرحلة الثالثة المتمثلة في الاستحمام بالماء البارد، حيث يتحول من ماء البرك والآبار والنطافئ إلى ماء مقدس (زمزم) يبطل كل أشكال السحر والنحس وسوء الحظ والطالع"[22].

والحال أن الاحتفال بعاشوراء عن طريق التراشق بالماء أو الاستحمام به، لا يعبر عن الاحتفال وفقط، بل يعبر عن اعتقاد عميق يمثل تمسك الإنسان بعنصر الماء، باعتباره خلاصا لمجموعة من المعتقدات الشعبية القديمة كالنحس أو الشعوذة، حيث إن البحث في ثقافة المغاربة، سيجد أن الإنسان المغربي منذ تاريخه الطويل، له علاقة وطيدة مع الماء، ولذلك عادة ما نجد أمثال وألغاز ومعتقدات شعبية حول الماء نسجها الإنسان المغربي.

"إن الأهمية التي تكتسيها المياه بالنسبة إلى حياة الإنسان والنبات والحيوان، جعلت منها موضوع عبادة، ويكون الأمر طبيعيا أكثر في شمال إفريقيا الذي يتغلب على مناخه الجفاف في كثير من الأحيان، حيث تصبح المياه غير كافية أو نادرة، مما أعطاها قيمة مقدسة منذ أقدم العصور"[23].

ت - طقس زيارة الأضرحة أو الفضاءات المقدسة

تعد طقوس زيارة الفضاءات المقدسة بالقارة الإفريقية عموما ومنطقة شمال إفريقيا خاصة، ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن نغض الطرف عنها بحال من الأحوال، فهي ممارسات وأفعال وسلوكيات متجذرة في اللاوعي الاجتماعي منذ أمد بعيد، والمتأمل في هذه الظاهرة سيجد أن لها دوافع متعددة منها ما هو اجتماعي أو نفسي أو ديني أو اقتصادي إلى غير ذلك، بيد أن ما يهمنا في هذا الصدد هو كشف البعد الخلاصي في هذه الظاهرة، أو بمعنى آخر تجليات الخلاص في الطقوس المرافقة للفضاءات والمزارات المقدسة.

تعرضت ظاهرة التبرك بالزوايا والأضرحة في المغرب للعديد من الدراسات والأبحاث الأنثروبولوجية والاجتماعية، كالدراسة التي أقامها الباحث الأنثروبولوجي "إدموند دوتي" من بين الدراسات المهمة في فهم العلاقة التي تربط بين المخيال الاجتماعي للمجتمع والفضاءات الطبييعة المقدسة، ويعد كتاباه المشهوران "السحر والدين في شمال إفريقيا" و"الصلحاء بالمغرب"، من أبرز الدراسات الأنثروبولوجية بالغة الاهتمام، غير أن هذه الدراسات ركزت بالأساس على الكيفية التي تمارس بها طقوس الزيارة، غافلة الدور التي تلعبها هذه الممارسات في خلاص الإنسان من الأمراض والاضطرابات التفسية والاجتماعية والوقاية منها بمنطق الوعي الاجتماعي الثقافي الشعبي.

وتعد المزارات الطبيعية، من أكثر تجليات البعد الخلاصي، حيث تقام فيها مجموعة من الطقوس، وفي الصدد يمكن نأخذ على سبيل المثال بعض المزارات المائية أو العيون المائية في العديد المناطق المغربية التي تأخذ بعدا تقديسيا، وهي عديدة ومنتشرة، يقول الباحث عبد اللطيف مجدوب: "لا يمكن إحصاء أسماء العيون المائية بالمغرب، لتعددها وانتشارها، سواء داخل أحياء المدن العتيقة كفاس ومكناس ومراكش وتطوان أو طنجة، أو في قراه ومداشره"[24]، و"تكاد تختص كل عين مائية، لدى الأهالي والسكان المجاورين، بميزة في معظمها استشفائية وتبركية.. ترسخ هذا الاعتقاد عبر شهادات وروايات شفاهية لأشخاص شربوا مياهها فتماثلوا للشفاء أو توهموا تعافيهم، فكان الواحد منهم يجتاز المسافات الطويلة ليحط رحاله بعين مائية، ليمكث بالقرب منها أياما. ومن الناس من يقدم القرابين لهذه العين أو تلك توسلا "لأهل العين". وما زالت هذه العادة دارجة حتى الآن في العديد من المناطق المغربية؛ من هذه العيون عين سيدي حرازم، وحامة مولاي يعقوب، وعين الله بسهل سايس، وعين فتيل، وعين ربيعة"[25].

والدارس لثقافة الجنوب الشرقي للمغرب على سبيل المثال، سيجد ثقافة الأهالي التي تسكن في هذا المجال لها ارتباط وثيق جدا بعنصر الماء، فهذا الأخير له حضور وازن في المخيال الاجتماعي للإنسان الواحي؛ أي نسبة إلى الواحات، والسبب في هذا الأمر هو النذرة التي تتميز بها مناطق الجنوب الشرقي للمغرب، ولذلك أصبح الماء عنصر مقدس بشكل كبير لدى المجتمعات الواحية، فالماء بهذا المعنى حاضر في تفاصيل الحياة الاجتماعية، وبالتالي فهو في المخيال الاجتماعي يعد الخلاص الوحيد من النذرة والفقر والتهميش والإقصاء، فوجود الماء هو وجود للإنسان والمجتمع الواحيين.

ومن جهة أخرى، فالماء شفاء وخلاص لمجموعة من الأمراض المستعصية في الجنوب الشرقي للمغرب، ولا نستثني الدور الذي تلعبه حامات مولاي علي الشريف في استقبال العديد من الزوار يوميا من أجل الاستحمام في حوض كبير فيه ماء ساخن ينبع من الأرض، ويقال إن هذا الماء له مزايا استشفائية وخلاص الإنسان من أمراض الروماتيزم وأمراض الجهاز الهضمي والقلب والشرايين إلى غير ذلك من الأمراض.

ث - طقس الرقية الشرعية

يعد طقس الرقية الشرعية في المغرب خاصة حديث النشأة نسبيا، ويرتبط ظهور هذا الطقس في المغرب تحديدا بظهور السلفية الوهابية، "نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب مؤسس الدعوة"[26]، يقول الباحث يونس الوكيلي إنها "ممارسة ظهرت في التسعينيات من القرن الماضي على إثر انتشار مظاهر التدين السلفي الوهابي القادم من الشرق العربي بمشروع ديني تطهري"[27]، حيث إن الوهابيين يؤمنون "بأن الإسلام الصحيح يتجلى في حياة المسلمين الأوائل في السلف الصالح الذي عاش في القرون الثلاثة الأولى بعد الهجرة ووضع أسس الإسلام، ويسعى الوهابيون إلى العودة إلى هذه الفترة المبكرة وإلى فكرها الديني وإلى ممارساتها وتعاليمعا، كما تمت الإشارة إلى ذلك في فتاواهم وكتاباتهم المعاصرة"[28].

وعلى هذا الأساس، سعى الوهابيون إلى تطبيق تعاليم الدين الإسلامي واتباع السنة النبوية، ولذلك نجد أن الرقية الشرعية عندهم كانت تمارس بواسطة ترتيل الآيات القرآنية والأدعية النبوية عند معالجة المرضى؛ فالرقية في نظر الشيخ راشد بن حسين "القراءة على المريض، مع النفث أو المسح على موضع الألم، تسمى العزيمة وهي مشروعة ونافعة بإذن الله إذا كانت من القرآن والأدعية الصحيحة الخالية من الشرك والاستغاثة بغير الله"[29].

إن الرقية الشرعية في اعتقاد فئة عريضة من المغاربة تعد خلاصا للعديد من الأمراض، كالمس أو الجنون أو الصداع، حيث يذهب المرضى إلى الراقي من أجل تلقي العلاج عن طريق تلاوة القرآن، ولا ينبغي للراقي أن يقتصر فقط على قراءة القرآن "بل لابد من تصور معاني الآيات والتأثر بها، وإذا أردت معرفة قوة هذه القراءة على الجان أو على الأمراض العضوية، فتصور تلك المعاني العظيمة، فهي على الجان مؤثرة ولللمرض العضوي شافية"[30].

بيد أن السؤال المطروح في هذا الصدد، وهو لماذا ارتبطت ظاهرة مرض الجنون بالرقية الشرعية أساسا؟، للإجابة عن هذا السؤال، يتطلب تفسير هذه الظاهرة في المعتقد الشعبي المغربي؛ فالجن في اعتقاد المغاربة الشعبي موجود في الواقع، لكنه لا يرى ويتصف بالشر، حيث يتسبب في مجموعة من الأمراض؛ "ومن المعتقدات الشائعة أن أمراض الصرع، وفقدان الذاكرة وانفصام الشخصية وشلل العصب الوجهي (اللقية وتسمى أيضا النقطة)، والثقاف، وتجربة الدم، والتمريض، (إصابة شخص بمرض)، والتعريض (إبطال أعمال ومشاريع خصم بأعمال السحر)، غيرها كلها من أعمال الجن الشرير"[31].

الخاتمة

في الختام، لابد من القول إن موضوع الخلاص وتجلياته في الثقافة الشعبية المغربية يظل في غاية التعقيد، نظرا لارتباطه الواسع بكل ما يتعلق بالتنشئة الاجتماعية والثقافية والدينية للإنسان المغربي، فالخلاص حاضر وبقوة بكل تفاصيل الحياة الاجتماعية للإنسان، وبالتالي ففهم الخلاص بحد ذاته، مرتبط أساسا بفهم معتقدات وتقاليد وأعراف وطقوس التي يمارسها هذا الإنسان ولا يزال.

 

لائحة المصادر والمراجع:

- E.Laoust « Noms et Cérémonies, des feux de joie chez les Berbére du Haut et de l’Anti-Atlas Hespéris, vol l. Rabat, 1. 1921

- Gsell Hérodote texte relatifs à l’histoire de l’afrique du nord Alger 1919

- ابن منظور "لسان العرب"، دار صادر، بيروت،

- أحمد بن عبد الرزاق الويش "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد" ج33، دار الؤيد 2003 ص 165

- أحمد رهبان برية القديس مقاريوس "الخلاص الثمين"، دار مجلة ملاقس، الطبعة الأولى 1998

- أحمد علي عجيبة "الخلاص المسيحي ونظرة الإسلام إليه"، دار الآفاق العربية، الطبعة الأولى 2006

- صلاح الراوي "فلسفة الوعي الشعبي، دراسات في الثقافة الشعبية"، دار الفكر الحديث، القاهرة، الطبعة الولى، 2001

- طواهري ميلود "المقدس الشعبي، تمثلات مرجعيات وممارسات"، دا الروافد الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى 2016

- عبد الغني منذيب "الدين والمجتمع"، منشورات إفريقيا الشرق، 2006

- عبد اللطيف مجدوب "العيون المائية بالمغرب.. نظرة أنثروبولوجية وطبية"، مقال منشور في جريدة هسبريس، الموقع الإلكتروني: https://www.hespress.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%86%D8%B8%D8%B1%D8%A9-%D8%A3%D9%86%D8%AB%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%88%D9%84-467724.html

- عبد الله بن محمد الرحمن السدحان، "كيف تعالج مريضك....، م.س ص16

- العطاونة محمد "الإسلام الوهابي في مواجهة تحديات الحداثة"، ترجمة أبو بكر باقادر، دار الإفتاء في المملكة العربية العودية، الطبعة الأولى بيروت 2014

- محمد الصغير غانم "الملامح الباكرة للفكر الديني الوثني في شمال إفريقيا"، دار الهدى للنشر والتوزيع، د.ت ص

- محمد جنبوب، مادة "كناوة"، معلمة المغرب، إنتاج الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، الطبعة الأولى.

- محمد وحدو "التراث الفرجوي في الثقافة الأمازيغية تنغير نموذجا، دراسة أنثروبولوجية"، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة ابن طفيل، القنيطرة المغرب، 2021/2022

- هالة أبو الفتح "مفهوم الخلاص في الفكر الهندي" منشورات التنوير، د.ط، د.ت

- يونس الوكيلي "الرقية موضوعا أنثروبولوجيا: التطبيب الديني وصرا أنماط التدين في المغرب"، مقال منشور في hespéris-tamuda lv (3) (2020): 131-157

- يونس الوكيلي "أنثروبولوجيا الشفاء؛ الرقية الشرعية وصراع أنماط التدين"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2021

[1] أحمد رهبان برية القديس مقاريوس "الخلاص الثمين"، دار مجلة ملاقس، الطبعة الأولى 1998، ص6

[2] ابن منظور"لسان العرب"، دار صادر، بيروت، المجلد السابع، ص26

[3] أحمد علي عجيبة "الخلاص المسيحي ونظرة الإسلام إليه"، دار الآفاق العربية، الطبعة الأولى 2006، ص50

[4] هالة أبو الفتح "مفهوم الخلاص في الفكر الهندي" منشورات التنوير، د.ط، د.ت ص 7

[5] المرجع السابق ص89

[6] المرجع السابق ص126

[7] المرجع السابق ص336

[8] أحمد رهبان برية القديس مقاريوس "الخلاص الثمين"، دار مجلة ملاقس، الطبعة الأولى 1998ص7

[9] المرجع السابق ص16

[10] المرجع السابق ص6

[11] المرجع السابق، ص ص7و8

[12] أحمد رهبان برية القديس مقاريوس "الخلاص الثمين المرجع سابق ص21

[13] المرجع السابق 1998ص22

[14] المرجع السابق ص20

[15] هالة أبو الفتح "مفهوم الخلاص في الفكر الهندي" منشورات التنوير، د.ط، د.ت ص362

[16] المرجع السابق ص362

[17] هالة أبو الفتح "مفهوم الخلاص في الفكر الهندي" مرجع سابق ص364

[18] صلاح الراوي"فلسفة الوعي الشعبي، دراسات في الثقافة الشعبية"، دار الفكر الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 2001، ص: 14

[19] محمد جنبوب، مادة "كناوة"، معلمة المغرب، إنتاج الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، الطبعة الأولى 1989ص6818

[20] المرجع السابق ص6818

[21] محمد وحدو "التراث الفرجوي في الثقافة الأمازيغية تنغير نموذجا، دراسة أنثروبولوجية"، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة ابن طفبل، القنيطرة المغرب، 2021/2022، ص319

[22] عبد الغني منذيب "الدين والمجتمع"، ص 133 نقلا عن "E.Laoust « Noms et Cérémonies, des feux de joie chez les Berbère du Haut et de l’Anti-Atlas Hespérise, vol l.Rabat,1. 1921

[23] محمد الصغير غانم "الملامح الباكرة للفكر الديني الوثني في شمال إفريقيا"، دار الهدى للنشر والتوزيع، د.ت ص17 نقلا عن Gsell Hérodote texte relatifs à l’histoire de l’Afrique du nord Alger 1919 p19

[24] عبد اللطيف مجدوب" العيون المائية بالمغرب..نظرة أنثروبولوجية وطبية"، مقال منشور في جريدة هسبريس، الموقع الإلكتروني:

https: //www.hespress.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%86%D8%B8%D8%B1%D8%A9-%D8%A3%D9%86%D8%AB%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%88%D9%84-467724.html

[25] المرجع السابق

[26] يونس الوكيلي "أنثروبولوجيا الشفاء؛ الرقية الشرعية وصراع أنماط التدين"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2021، ص46

[27] يونس الوكيلي "الرقية موضوعا أنثروبولوجيا: التطبيب الديني وصراع أنماط التدين في المغرب"، مقال منشور في hespéris -tamuda lv (3) (2020): 131-157 ص131

[28] العطاونة محمد "الإسلام الوهابي في مواجهة تحديات الحداثة"، ترجمة أبو بكر باقادر، دار الإفتاء في المملكة العربية العودية، الطبعة الأولى بيروت 2014 ص 93 مأخوذ من أحمد بن عبد الرزاق الويش"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد" ج33، دار الؤيد 2003 ص 165

[29] يونس الوكيلي "أنثروبولوجيا الشفاء؛ الرقية الشرعية وصراع أنماط التدين"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2021، ص70 نقلا عن مصطفى لقصير، مفاهيم حول الرقية، م س، ص18

[30] المرجع السابق ص201 نقلا عن عبد الله بن محمد الرحمن السدحان، "كيف تعالج مريضك....، م.س ص16

[31] طواهري ميلود "المقدس الشعبي، تمثلات مرجعيات وممارسات"، دار الروافد الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى 2016، ص125