في مفهوم التّعايش الديني: الماضي والحاضر والآفاق المستقبلية


فئة :  مقالات

في مفهوم التّعايش الديني: الماضي والحاضر والآفاق المستقبلية

في مفهوم التّعايش الديني:

الماضي والحاضر والآفاق المستقبلية([1])

يقول فرانك بورمان[2]: "حين تصل أخيراً إلى القمر وتنظر إلى الأرض، كل هذه الاختلافات والسّمات القومية ستندمج بشكل جيد، وستفهم المبدأ أن هذا لربّما فعلاَ عالم واحد بالفعل، وستتساءل: لماذا بحق الجحيم لا نستطيع أن نتعلّم التعايش معاَ كأُناس محترمين؟!".

يبدو قول بورمان مجسّداً لكل الآلام والآمال معاً التي تشكل هاجساً عند الإنسان؛ حيث عانت البشرية ما عانته من ويلات الحروب والصراع الذي دفع فيه الإنسان أحياناً حياته ثمناً له، وأحياناً أخرى مظاهر حياته وشكلها الذي هددتها تلك الحروب، وقضت على طابعها الإنساني المسالم.

لقد عاشت الحضارات صراعاً كان من الممكن تلافيه، أو الحد من همجيته بنشر قيم التسامح والتعايش الديني الذي حضت عليه دائما كل الديانات السّماوية والأرضية معاً. وقد كلف ذلك الصراع خسارات مادية وروحية كبيرة؛ حيث انهارت حضارات بأكملها، وزهقت أرواح الملايين، ولما تزل تزهق حتى عصرنا الحالي.

وعلى الرغم من صور الحياة الإنسانية المشتركة والسامية التي طرحتها الأديان إلا أن الواقع كان دامياً، ومرتكزاً على المصالح التي حملت بعداً وهدفاً لا يمت إلى تلك الصور، ولا إلى الإنسانية بأي مظهر. وإذا كانت "الفضيلة": "حالة حرب، ولكي نتعايش معها، علينا أن نكون دائماً في معركة مع أنفسنا[3]". فإن هذه المعركة طالت حقاً، وتجاوزت في حدودها طموح الإنسان ورغبته في العيش المشترك، والسلام المنشود.

لقد أصبحت الحاجة إلى تكريس مبدأ التعايش الديني ضرورة ملحة في وقتنا الحالي لما وصلنا إليه من مظاهر العنف، وأدواته، وارتكابه بحق الإنسانية والإنسان عموماً في كل بقاع الأرض، وباتت الدعوة لأهمية التعايش الديني الكريم، هدفاً ومبتغى في آن.

إن الصراع بين الحضارات، والذي تعدّدت صوره لا يمكن أن يستمر، ولا يمكن أن يبقى أساساً للحياة بين الشعوب والأمم، لأنه إن استمر فهذا سينهي تلك الحياة، ويدمّر أركانها معاً، ولابد من نشر مبادئ العيش المشترك، وتطبيق تلك المبادئ بين تلك الأمم، دون أن يتم تهميش حضارة دون أخرى. وأن يكون التعايش بكلّ صوره الإيجابية قائماً ومصاناً من الجميع.

أولاً: مصطلح التعايش الديني

بالرجوع إلى الدلالة اللّغوية للتعايش، نجد في المعجم الوسيط، تعايشوا: عاشوا على الألفة والمودّة، ومنه التعايش السلمي، وعَايَشَه: عاش معه. والعيش معناه الحياة.

وجاء تعريفه في القاموس الموسوعي الإسباني أوثيانو طبعة 1996: التعايش من العيش، والتعايش هو العيش برفقة آخر أو آخرين، العيش مع بعض، صناعة الحياة الزوجية بين رجل وامرأة.

وإذا تتبعنا مدلولات مصطلح التعايش (COEXISTENCE) في هذا العصر، نجد أن البحث في هذا المصطلح يقودنا إلى جملةٍ من المعاني مُحَمَّلةٍ بمفاهيمَ تتضارب فيما بينها، ولكن يمكن تصنيفُها في مستويات ثلاثة: سياسي Politician، اقتصادي economic، ديني Religious، وهو الأحدث، ويشمل ـ تحديداً ـ معنى التعايش الديني، أو التعايش الحضاري. والمرادُ به أن تلتقي إرادةُ أهل الأديان السماوية والحضارات المختلفة في العمل من أجل أن يسود الأمنُ والسلام العالم من دون استثناء، وهذا يعني قبول التعددية الدينية واحترام كل أطرافها، فدين الشخص لا يعتبر المصدر الوحيد والحصري للحقيقة، وبالتالي: يجب الاعتراف بوجود بعض الحقائق والقيم الحقيقية على الأقل في الأديان الأخرى.

وقد أوردت ويكيبيديا تعريفاً للتعددية الدينية: بأنها عبارة تدل على قبول الأديان المختلفة في مجتمع واحد. وقبول فكرة أن هناك صحة في تعاليم دينين أو أكثر؛ نظرًا لأن قبول المفهوم القائل بأن ديانتين أو أكثر لديهما ادعاءات حقيقة متبادلة صحيحة متساوية، قد يعتبر شكلًاً من أشكال التسامح (وهو مفهوم نشأ نتيجة حروب الدين الأوروبية) أو النسبية الأخلاقية[4].

إن تعريف التعايش هو في الوقت الحاضر إشكالية لتركيزه على سلبيات عدم الاعتداء، وعدم التدخل، وكذلك في منهجه المتمركز حول الدولة. وهو يفتقر إلى الطموح والرؤية، سواء من حيث إمكانيات العلاقات بين الدول، أو إمكانيات العلاقات بين المجموعات داخل الدول، حيث تحدث في الواقع معظم الصراعات العنيفة الحالية. وتواجه معظم الدول صعوبات كبيرة في الاستجابة للصراعات بين المجموعات الثقافية والدينية واللغوية والإثنية والسياسية داخل مجتمعاتها. وبدأ التعريف الجديد والموسع للتعايش، والذي استجاب لهذا الواقع الجديد، في الظهور في نهاية القرن العشرين. وعليه، فإن "التعايش" يصف المجتمعات التي يتم فيها تبني التنوع لإمكانياته الإيجابية، ويتم السعي لتحقيق المساواة بنشاط، والاعتراف المتبادل بين المجموعات المختلفة، ومن الواضح أنه لكي تكون العلاقات بين المجموعات الإثنية أو الدينية أو الاجتماعية المختلفة إيجابية ومستدامة، نحتاج إلى تجاوز مفهوم مجرد التسامح إلى تعريف التعايش الذي يتضمن المساواة والتنوع والاعتماد المتبادل، حيث يتجلى التعايش في العلاقات عبر الاختلافات المبنية على الثقة والاحترام والاعتراف المتبادلين، ويُفهم على نطاق واسع على أنه مرتبط بالإدماج والتكامل الاجتماعيين. ويركز مصطلح التعايش بشكل خاص على العلاقات بين المجموعات ووصف رؤية واقعية عن التماسك الاجتماعي والاندماج الاجتماعي والتكامل الاجتماعي. ويمكننا بالتالي، أن نصل إلى تعريف جامع مانع عن التعايش بأنه: "تفاعل متبادل بين طرفين مختلفين في العادات أو المعتقد والدين، ويكون في المجتمعات المتنوعة الديانات والثقافات التي ينتمي أفرادها إلى أصول مختلفة في الثقافة أو الدين أو العرق".[5]

ثانياً: أسس ومظاهر التعايش الديني

إن التعايش الديني كما تبين لنا في تعريفه، ليس مصطلحاً نظرياً فحسب، وإنما يجب تجسيده عبر خطوات تطبيقية واقعية يكون لها صدى وتأثير لدى أطياف المجتمع الواحد، والعالم كافة أيضا. وإن الكشف عن تعاليم أديان العالم الكبير، واحترام الحكيم والمقدس لجميع الأديان والخبرات الصوفية لكل عرق يجسد الوحدة الأساسية للإيمان التي تمكن الإنسان من تحقيق الوصول إلى الحقيقة، والواقع السلمي المراد في نهاية المطاف. وفي هذا المقال، نعرض كتابات هؤلاء القديسين والأنبياء الذين اقتربوا من المعرفة الروحية المباشرة، والذين أدركوا أن العمق والفهم الروحي للقيم الدينية هو ما يقرب الشعوب من بعضها ويلغي التنافر. وقد ورد في رسائل القديس بولس[6] أن: "ما تلقناه ليس روح العالم، بل الروح من الله، والشخص الذي لا يتمتع بالروح لا يقبل الأشياء التي تأتي من روح الله ولكنه يعتبراً حماقة، ولا يستطيع فهمها لأنهم يتم تمييزهم فقط من خلال الروح"5.

وان كانت الديانة المسيحية بسمو أفكارها قد دعت إلى هذا العمق الروحي الذي يعكس المعاني الإنسانية العميقة التي تدفعنا لفهم المعنى الأصيل في الأديان، وقد أشار المؤرخ الإنجليزي ارنولد توينبي إلى ذلك بقوله: "إن التاريخ الإنساني هو محاولة الروح قهر المادة" وفى الأديان آيات متعددة تشير لذلك "ملكوت الله في داخلكم". ولم يقتصر ذلك على الدين المسيحي، بل إن الإسلام دعا إلى ذلك العمق، وتجاوزه لضرورة احترام روح الآخر وما ترنو إليه تلك الروح؛ ومن مبادئ الإسلام المقررة أنه لا إكراه في الدين، بل الدين راجع إلى القناعة والاختيار، قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)[7]. ومن تكريم الإسلام للإنسان أن الأصل هو حرمة دم الإنسان لأي سببٍ كان قال تعالى: "مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ".[8]

إن من يقرأ الدين بعقله لا بانفعالاته، سيدرك أنه لا يوجد دين قد دعا إلى نبذ الآخر أو رفضه؛ بل كل ما جاء في الأديان تمحور حول وضع أسسٍ سليمة للتعايش بين الشعوب، لأن ذلك التعايش ضرورة ملحة؛ لتحقيق ما نرنو إليه من إنجاز مشروع السلام العالمي. ويذهب الكتاب المهتمون بقضية التعايش الديني إلى تحديد بعض الأسس المتفق عليها في كل الأديان لتجسد ذلك التعايش وتكريسه على أرض الواقع، ومن أهم هذه الأسس:

- "لابد من وجود القناعة التامة والإرادة الحرة، والرغبة المشتركة بين أهل الأديان السماوية للتعايش؛ بمعنى أن تكون هذه الرغبة والإرادة والقناعة نابعة من الذات من غير أي تأثير خارجي عن الذات، كالضغوط المفروضة عليهم، مهما كان شأنها ومهما كانت أسبابها.

- التفاهم والاتفاق المشترك على أهداف التعايش وغاياته التي تخدم الإنسانية كلها، وتحقق مصالحها العليا وعلى رأسها السلم العالمي والأمن والأمان مما يحول بينها، وبين نشوء النزاعات والحروب المختلفة فضلاً عن دفع الجور والظلم والاضطهاد، وردع الاعتداء على الشعوب والجماعات والأفراد الذي يصدر عن بعض السياسات التي تخترق حقوق الإنسان.

- التعاون المشترك من قبل أهل الأديان كلها والعمل الجاد؛ للوصول إلى تحقيق النتائج المرضية الحسنة والأهداف السياسية للتعايش، وهذا لا يتم غالباً إلا بناء على وضع مخطط تنفيذي يشترك فيه الجميع للوصول إلى المطلب الأسمى.

- الاحترام المتبادل بين أهل الأديان كلها، ومنح الثقة لبعضهم البعض؛ من أجل الاستمرارية والتمكن من تحقيق أهداف التعايش وأغراضه، حيث لو حدث أيّ خلاف فيما بينهم، فليحتكموا إلى ما التزموا فيه من القدر المشترك الديني، أو القانوني المستوحى من جميع الأديان كلها، وهو القيم العظمى والمثل العليا التي اجتمعت عليها إرادة المجتمع الدولي"[9]. ومن الضروري بمكان، أن نعترف ببعض الأخطاء الكبرى في الأديان، والتي تجلّت عند بعض المتطرفين بعدم اعترافهم بالآخر ولا وجوده، ولا مصداقية دينه، وهذا خلق العنف ومظاهر الكراهية والرفض بين أبناء الديانات المختلفة، "أحد المشاكل الرئيسة بين المتطرفين المسلمين وغيرهم هو عدم احترامهم الاختلافات بين الأديان. ويطالب المسلمون بإصرار المسيحيين واليهود ليس بالاعتراف بالإسلام، وإنما بالإيمان الإسلامي، بمعني أوضح يطالب المسلمون الآخرين بالتصديق على إيمانهم هم، في حين أن تعدد الأديان معناه أن هناك اختلافاً جذريا في المعتقدات وتبقي القيم الإنسانية المشتركة وحق الفرد في اعتناق الدين الذي يريده هي الحاكمة للتعامل بين البشر".[10]

وقد أوضح د. حنا عيسى، الأمين العام للهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات: "إن أسس الحوار والتعايش بين الأديان تكون بضرورة نبذ العنف، والاعتذار المتبادل، والمعاملة بالمثل، بالإضافة لاحترام الاختلافات بين الأديان، والقبول غير المشروط للمواثيق الدولية".[11]

وقد تجسد ذلك في الكتب السماوية، فنجد في الإسلام مثلاً الكثير من الآيات والتعاليم التي تشير إلى عمق مبدأ التعايش، ونجد أن المساحة المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب مساحة واسعة، وإذا كان الإسلام قد منح في قلوب المسلمين متّسعاً للتعايش مع بني الإسلام كافة؛ ففيه من باب أولى متسع للتعايش بين المؤمنين بالله[12]. وفي الدين المسيحي دعت التعاليم المسيحية إلى مقاومة الشر بالسلام "لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضاً".[13]

وليست الكتب السماوية وحدها من دعت للتعايش السلمي، لأننا نقرأ ذلك عند جميع الشعوب بأطياف معتقداتها المتعددة. فمن غير الممكن أن يتمكن أي مجتمع من الانغلاق على نفسه دون أن يختلط مع باقي شعوب العالم بسبب الاختلاف في الدين أو لأي سبب آخر. وإذا كنا نعيش عصر التطور التكنولوجي وتبادل المعلومات التي تؤثر في ثقافاتنا وعلاقاتنا ونمط حياتنا، فإن الأمل مازال معقودا على أن تتمكن شعوب العالم من التعايش مع بعضها البعض بشكل سلمي، على الرغم من الاختلافات الدينية والمذهبية والقومية، مهما كانت درجة الاختلاف من النواحي الاقتصادية والعلمية أغلبية كانت أم أقلية.[14]

ثالثاً: الآفاق والآمال المستقبلية لمفهوم التعايش الديني

إن التاريخ يبين أن الشرق الأوسط شهد ولادة ثلاث ديانات توحيدية: اليهودية والمسيحية والإسلام، كما كان أيضًا موطن العديد من الثقافات والأعراق والحضارات. وهذه الاختلافات بين الديانات هي التي ميزت تاريخ المنطقة غالباً مما تسبب في توترات واستقطاب وصراعات. ولقد استخدم الدين لأغراض غير دينية، وأصبح التطرف الديني، عاملاً رئيساً في إثارة الاضطهاد والحروب.

ونرى أن الشرق الأوسط هو في الواقع في المرحلة الأكثر أهمية في تاريخه الحديث. وإن الحياة مقدسة، وليس للإنسان الحقّ في إساءة استعمالها وإساءة معاملتها، وفي قتل الإنسان. ومثل هذا الفعل هو خطيئة ضد الله. ويجب علينا حماية قدسية الحياة وسلامتها وكليتها، وهي في النهاية والبداية دعوة الله التي يجب أن تتحقق مع الشعور بالمسؤولية والمساءلة، ويجب علينا تعزيز ثقافة الحياة ضد ثقافة الموت.

ولا ننكر أن التنوع حقيقة هو منحة الله؛ وأنه سمة مهمة للخلق والحياة الإنسانية، ولهذا فهو مصدر للإثراء والتقدم، ولهذا يجب علينا تعزيزه وحمايته، وتقبل واحترام الطريقة التي يفكر أو يؤمن بها الآخر... ويصبح التنوّع مصدرًا للشر عندما يتحول إلى التشدد والتعصب ورفض الآخر. وأن التطرّف هو شكل آخر من أشكال الشر. وحتى لو زعم بعض متطرفي الدين أنه يمتلك الحقيقة، إلا أن ذلك لا يخول له فرض قيمه على الآخرين، واستغلال المعتقدات الدينية لتحقيق غايات أيديولوجية وسياسية، وقتل الناس باسم الله لا يقبل به أي دين. لذلك، يجب أن نضم أصواتنا جميعاً لرفض التطرف بكل أبعاده ومظاهره التي تؤثر بقوة على المجتمعات الحديثة. ويجب علينا تعزيز ثقافة التسامح والاحترام المتبادل والتعايش السّلمي بين الجميع.

وفي محاولات مختلفة لتجسيد واقع مسالم بين الشعوب المختلفة تأسست مؤسسة التعايش في أمريكا في عام 2006 بهدف تعزيز التفاهم بين اليهود والمسيحيين والمسلمين من خلال التعليم والحوار والبحث. وتهدف المشاريع والبرامج التي يدعمها Coexist إلى مساعدة أتباع هذه الأديان على تحسين علاقاتهم مع الأديان المختلفة. والعمل بالشراكة مع المنظمات ذات المستوى العالمي، والتي أظهرت قدرتها والتزامها في تعزيز التفاهم الأفضل بين المجتمعات الدينية؛ سواء من خلال البرامج والمعارض والمبادرات التعليمية الصارمة التي تجسد الخيال العام، أو عن طريق تعزيز المصالحة بين المجموعات التي تتعارض مع بعضها. وهكذا، فإن Coexist تبدأ برامج جديدة، وتحفز شراكات جديدة، وتدعم المشاريع الحالية التي تعمل من أجل تحقيق هذه الأهداف.

لكن؛ لازالت الحروب ولم نرَ السلام الذي قُصِد ووافقت عليه الدول الموقعة على هذه الاتفاقيات. فشلت هذه الاتفاقيات في تحقيق الهدف المنشود، لأن هذه المشاريع والخطط وهذه القوانين الإنسانية النظرية تفتقر إلى تلك القوة الأخلاقية والروحية الضرورية لتحقيق السلام الشامل. وتفتقر قوانين الإنسانية تلك إلى قوة الإدانة. وحتى القوانين الأخلاقية الإلهية لا يمكن أن تؤدي إلى سلام عالمي وتشكيل سلوك إنساني من أجل السلام الدولي، وهذا ما تفسره الحروب والنزاعات المستمرة وجسده الواقع المر بكل مظاهره.

يوضح القرآن الكريم مثلا، أنه لا يوجد مجال للشك في أن المسلمين يجب أن يعتبروا التوراة والمزامير والإنجيل بمثابة كتاب الله الذي كشفه لموسى وداود ويسوع. يجب أن يؤمنوا بها، وبكل كتب الله دون أي استثناء. يجب أن يؤمنوا بجميع الأنبياء مثل النبي محمد. ويعتقد جميع الأتباع الحقيقيين لهذه الديانات العظيمة أن الله قد خلق الكون بأسره من لا شيء، وأنه يهيمن على كل ما هو موجود مع قوته المطلقة؛ ويؤمنون بالحياة بعد الموت والسماوات والجحيم والملائكة، ويجب أن نؤمن أنه إلى جانب يسوع أو موسى أو محمد، أرسل الله العديد من الأنبياء والمرسلين مثل نوح وإبراهيم ويوسف على مر التاريخ، وهم يحبون كل هؤلاء الأنبياء.

وفي القرآن الكريم: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ".[15]

وفى "إنجيل متى": نجد (وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مُبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم).[16]

فما نحن عليه الآن، هو بعد آخر من أبعاد الخطيئة التي نقترفها بحق أنفسنا والآخر بنبذه أو رفض معتقده، وهذا ينبئ بمستقبل تسوده الحروب والنزاعات والخلافات الكثيرة التي ربما تنهي السلام والوجود الإنساني قبل أن تنتهي، وتنذر بمستقبل يسوده الصراع بين الشعوب، والحروب التي لا تتوقف، والتي تستنزف إمكانياتها وطاقاتها الاقتصادية والروحية معاً، لقد دفعنا ثمن إيديولوجيا مشوهة انتقصت من قيمة الحياة المتكاملة وابتعدت عن الإنسانية، وعن أجمل ثمارها.

خاتمة

في نهاية المقال، لابد من الإشارة إلى أن الحروب التي خاضتها البشرية، والتي شهدها القرن الحالي قد أفرزت شكلاً جديداً ومعاصراً من المجتمعات، حيث دفعت الحرب بالكثير من السكان للهجرة ومغادرة موطنهم الأصلية لمواطن جديدة، وهذا بدوره انعكس على تلك المواطن، وعلى المهاجرين بآن، وأصبح من الضروري طرح مفهوم التعايش كحلٍّ لمشكلة الاندماج والتغيير، فمن خلال التعايش السلمي نستطيع تجاوز المخاوف والأزمات التي يمكن أن تظهر كتجليات لتلك الهجرة، ولا بد من أن يتم ذلك التعايش بالاستناد إلى أسسه المتينة التي تقبل الآخر، وترحب به وبمعتقده، وترفض العنف بكافة أشكاله، وترسم صورة مستقبل أفضل للجميع.

ونحن نحتاج إلى إعادة التفكير في تجارب وممارسات السلام الخاصة بالشعوب التي تمكنت من تطوير توافق سياسي واجتماعي، بعد أن مرت بصراع دموي بين الأديان. وتشير الخريطة الجيوسياسية للعالم التي يعاد تشكيلها لظهور تكتلات قوى جديدة، وتحالفات بين الدول لم نكن نتوقع التفاوض عليها، حتى قبل بضع سنوات. والنظر إلى إمكانية تحقيق سلام دائم في العالم من خلال الحوار والتسامح الديني. ولا بد من الاعتراف بأن الحوار والتفاهم بين الأديان، والوعي بالاختلافات والقواسم المشتركة بين الشعوب والحضارات، يسهم في الحلّ السلمي للنزاعات، ويقلّل من العنف ويمكّن الناس من تقبّل التنوع الإثني أو الثقافي أو الديني على أنه مصدر الإثراء الثقافي. كما أن الحوار بين الأديان يجب أن يركز على ما تشترك فيه الأديان بدلاً ممّا يفرق بينها، بالإضافة لتمكين العلاقات بين الثقافات والحضارات.

إن احترام الثقافات والحضارات الأخرى، والتسامح معها يجب أن يكونا متجذرين دائمًا في المبدأ الشامل لاحترام حقوق الإنسان التي تحمي كل إنسان، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين أو الانتماء السياسي.

وأخيراً نتفق مع الكاتب مونيك ديكسو في قوله: "ينبغي أن نكتب على نحو يجعل ما يكون مكتوباً يحتفظ بالقدرة على تغيير شيء ما في روح من يكتب، كما في أرواح أولئك الذين سيقرؤون له".

إن حل هذا المشكل هو الحوار؛ ولكنه الحوار على نحو ما يكتبه أفلاطون، فالحوار في نظره الوسيلة الوحيدة لأخذ مثلما يفعل الجناح كل ما هو مفكر نحو الأعلى"[17]؛ أي التسامي والنبل في القول والفعل.

إن قضية التعايش ستبقى من أهم القضايا الحاضرة في التاريخ المعاصر، والتي تعتبر هاجساً لدى الجميع دولاً وشعوباً، ولذلك، فإن الكتابة فيها ضرورة ملحّة وهدف، يحاول من خلاله المؤلفون التأثير في المنحى العام للتعاطي مع تلك القضية.


[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 58

[2] (رائد فضاء أمريكي من أصل ألماني).

[3] جان جاك روسو، من موقع اقتباسات المشاهير الإلكتروني.

[4] التعايش السلمي، موقع ويكيبيديا، الرابط:

https://ar.wikipedia.org/wiki/تعايش_سلمي

[5] علي عطية الكعبي، التعايش السلمي بين الأديان السماوية في الأندلس من الفتح الإسلامي حتى نهاية دول الطوائف، مكتبة عدنان للطباعة والنشر، بغداد، ط1 2014، ص 36

[6] بولس الطرسوسي ويعرف عند المسيحيين بأنَّه بولس الرسول أو القديس بولس وأحد قادة الجيل المسيحي الأول وينظر إليه البعض على أنه ثاني أهم شخصية في تاريخ المسيحية بعد يسوع نفسه. يعرف من قبل المسيحيين برسول الأمم حيث يعتبرونه من أبرز من بشر بهذه الديانة في آسيا الصغرى وأوروبا، وكان له الكثير من المريدين والخصوم على حد سواء.

[7] عبد الفتاح بن صالح قديش اليافعي، التعايش الإنساني والتسامح الديني، دراسة تأصيلية، ص15

[8] قرآن كريم، سورة المائدة، الآية 32

[9] دنيا الوطن، د. حنا عيسى، أساس التعايش الديني احترام الاختلافات بين الأديان، 2-6-2017

[10] أسس الحوار والتعايش بين الأديان 1، مجدي خليل، الحوار المتمدن-العدد: 1690 - 2006 / 10 / 1

[11] المرجع السابق.

[12] علي عطية الكعبي، التعايش السلمي بين الأديان السماوية في الأندلس من الفتح الإسلامي حتى نهاية دول الطوائف، ص35

[13] المرجع السابق، ص62

[14] أنور متي هداية، التعايش السلمي في المجتمعات المتحضرة، http://www.ankawa.com

[15] قرآن كريم، سورة البقرة، آية 285

[16] (الإصحاح الخامس آية 44)

[17] مونيك ديكسو، أفلاطون: الرغبة في الفهم، ترجمة حبيب الجربي، دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس2010، ط1، ص44