فيلهلم دلتاي وهيرمينوطيقا علوم الروح (1833-1911)


فئة :  مقالات

فيلهلم دلتاي وهيرمينوطيقا علوم الروح (1833-1911)

فيلهلم دلتاي وهيرمينوطيقا علوم الروح (1833-1911)

المناخ النظري العام

سنتوقف في هذه اللحظة على عدد من المشكلات الفكرية التي طرحت على الفلسفة المعاصرة؛ وذلك نظرا لاعتقادي بأن الفلسفات ليست ترفا فكريًّا أبدًا، أو جزرا متباعدة ومفصولة عن بعضها، بل فتاوى شرعية للعقل المنطقي، محركها الأساسي هو الأسئلة والإشكاليات، فكل محاولة فلسفية لكي نفهمها علينا معرفة أولا السؤال الذي يحركها والتساؤل الذي صدرت عنه، فالفلسفات على اختلافها، هي إجابات عن أسئلة، فالفلسفة ذاتها علم المشكلات والأسئلة قبل أن تكون علم الحلول والإجابات.

لهذا السبب، سنذكر بالحدث الكبير الذي عرفه الفكر في العصر الحديث، والذي يتمثل في العلوم الوضعية التي أخذت تستقل عن الفلسفة شيئًا فشيئا، هذا من جهة ومن جهة ثانية نذكر بـمحاولات الفلاسفة الرامية إلى تخليص الفلسفة من اللاهوت، فهذه العملية المزدوجة انبثقت عنها مشكلات لا زالت بقاياها تواجه الفلسفة المعاصرة بقلق. فكل فلسفة معاصرة تقدم بشكل صريح أو ضمني حلا لمشكلة العلاقة بين الفلسفة والعلم الطبيعي من جهة، وعلاقة الفلسفة باللاهوت من جهة أخرى، ثم علاقة العلم باللاهوت من جهة ثالثة، وكتاب راسل الذي يحمل نفس العنوان يدخل في هذا السياق. بالإضافة إلى سؤال عما إذا كان العالم الفيزيائي أو الرياضي الذي يتوقف على المشكلات الفلسفية التي تواجهه ويأخذها إلى حلها النهائي الممكن، هل يظل عالما مع ذلك، أم إنه يتحول إلى فيلسوف أصيل، ويدخل في هذا الباب دوهيم وبوانكاريه وراسل وغيرهم. هكذا نفهم أن الألوان الفلسفية الكثيرة والغنية في الفلسفة المعاصرة بوصفها إجابات صريحة أو ضمنية على أسئلة ملحة يطرحا الواقع العملي والنظري.

إن وصول فكرة الحتمية إلى أوجها في نفس الفترة، وداروين نفسه أكدها حينما وضع التطور في مكانة مرموقة، أصبح ينظر معها إلى الإنسان ككائن محتوم وسلوكه محدد سلفا، ينطبق عليه ما ينطبق على الطبيعة من قوانين. فمع تضخم النزعتان المادية والحتمية، أصبح التفكير موجها لمحاولة التأليف بين العقل والمادة من جهة، وبين الحرية وغياب الحرية من جهة أخرى. وفي هذا السياق، نفهم موقف وليام جيمس في الأكسيولوجيا ومسألة حرية الإرادة. فمشكلة حرية الإرادة الإنسانية ظهرت مرة أخرى في صورة حادة، حينما ظهرت المادية ضعيفة وناقصة وتقوض فكر الحتمية والعلية وبروز فكر النسبية، فأصبحت وحدة الإنسان وحريته مشكلات أساسية في القرن العشرين في الفلسفة واللاهوت والسوسيولوجيا والأحياء وغيرها.

والعلم محطة مهمة في الفلسفة المعاصرة؛ لأن اتحاده مع التقنية عجل بظهور الطبقة العاملة في إطار بدع المجتمع الصناعي، ومن ثم ظهرت المشكلة الاجتماعية الأساسية في القرن 19. لذلك جاءت الماركسية بفكرة التقدم وآثار المشكلة الفلسفية الكبرى الأخرى التي تستهدف تغيير العالم في مواجهة الفلسفة التي تهدف إلى مجرد فهم العالم. إنها فلسفة البراكسيس والعمل التي نفهمها مع البراغماتية، هذا التيار الأمريكي الذي أثر كثيرا في أوروبا؛ لأنه حقق حلم ماركس النظري.

1. فيلهلم دلتاي وهموم القرن التاسع عشر

يعدّ دلتاي حلقة مركزية في تطور الهيرمينوطقا الغربية، كما يعدّ آخر ممثل للتأويلية الرومنطيقية؛ وذلك من خلال مساهمته المبدعة في رسم صورة جديدة عن تطور أعمال التأويل، حتى إن هناك من يراه الوارث الشرعي للمشروع التأويلي الحديث، وخاصة بفكرته عن ضرورة تأسيس منظومة متكاملة ومستقلة تخص علوم الإنسان وتجاوز الإقصاء أو الاحتواء الفلسفي، وبالتالي بلورة فلسفة حقة في العالم التاريخي؛ إذ يتمثل جهده العلمي الأساس بوصفه حلقة الوصل بين التأويل الديني الذي طوّر أسسه شلايرماخر[1] والتأويل الفلسفي لدى مارتن هايدغر. لذلك، فمؤلِّف الكينونة والزمان قد تمرس لزمن طويل بأعمال دلتاي قبل أن يقول قوله في الأنطولوجيا[2]. بهذا المعنى، وكما يرى جورج غوسدورف، فغادامير يحيل على هايدغر، وهايدغر بدوره يحيل على دلتاي، ودلتاي يحيل على الأب المؤسس شلايرماخر، ولزيادة إيضاح مكانة الرجل؛ إذ يقول عنه شالدباخ: "لا نكاد نبالغ إن قلنا إن كل ما جرى إلى يومنا هذا ليس إلا ملحوظات أضيفت إلى عمل دلتاي".

2. السياق الفكري الخاص

لقد جاءت أعمال دلتاي في سياق تراجع الهيجيلية إلى حدودها الدنيا، فدلتاي ينتمي إلى أفق فلسفي وتاريخي مخصوص. إنه أفق النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة الصراعات النظرية الكبرى، حيث عرف العالم الغربي انهيار المنظومة الهيجيلية، وتقهقر المثالية الألمانية بكيفية عمومية، حيث تراجعت إلى أبعد حدودها لتفسح المجال لسلطة علوم الطبيعة التي كانت قد حصدت ريادة منقطعة النظير حتى صارت نموذجاً حقًّا للعلمية، ناهيك عن تنامي النزعة الوضعية والأفكار العلموية التي قدمت العلم بوصفه المخلص الأخير للبشرية الحديثة؛ ففي هذا السياق المطبوع بطغيان الوضعية والنزعة الموضوعية المرتبطة بها جاء مجهود فيلهلم دلتاي وأعماله.

3. النزعات التراثية (الكانطية)

يعدّ القرن التاسع عشر قرناً تراثياً بامتياز، فبسبب التكلس الفكري الذي لم يستطع لا ماركس ولا نيتشه ولا حتى يسبرز الانفلات منه، ظهرت حركات توراتية متعددة؛ إذ نعثر في مقدمتها على مذهب التوماوية الجديدة في إيطالية، التي حاول الفكر الكاثوليكي أن يجدد نفسه من خلال أعمال الأكويني، والمساهمة في توجيه الفكر وكذا الإجابة عن أسئلة القرن الكبرى خاصة مسائل الحرية والفرد والمجتمع والديمقراطية وغيرها، بينما اتجه تيار ثاني إلى إعادة اكتشاف هيجل وخاصة البريطانيين، وبرادلي واحد منهم، بينما سنجد من رجع لإيمانويل كانط، وأسس مدرسة كانطية جديدة، وإلى هؤلاء ينتمي دلتاي، حيث يقول: "أما مهمتنا نحن، فهي مرسومة بوضوح، الثبات على السنة النقدية لكانط، وتأسيس علم تجريبي بالروح البشري تعاونا مع باحثين أخرين...".[3]

كان الغرض من العودة لكانط هو الاقتداء بالنموذج الترونسندنتالي واستئناف التفلسف على أساسه، بعد أفول نجوم الهيجيلية، وهذا يعني تجديد الموقف النقدي دون الالتزام بنطاق عالمه الطبيعي، فكان الموضوع الأساس هو السؤال النقدي عن ماهية المعرفة، وحدودها لفائدة مشروعه المبني على المنزلة التأسيسية لعلم النفس ولنظرية الوعي عامة، فصورة كانط التي احتفظ بها دلتاي أثناء قراءته لشلايرماخر المبكرة، هي التي شكلت جزءا مهمًّا من رؤيته للعالم، وهي ما وجهه في العديد من بحوثه ومسائله النظرية.

4. نقد الوضعية

لقد جاءت مجهودات دلتاي كإجابة بارعة عن المشكلات العويصة التي واجهت الفلاسفة والباحثين منذ بدايات القرن التاسع العشر؛ وذلك حينما بادرت العلوم الإنسانية في الانفصال عن الفلسفة، ماضية في الاستقلال بذاتها الواحد تلو الآخر، تتدحرج على خطى الانفصال الذي أنجزته علوم الطبيعة بنجاح منذ القرن السابع عشر، فزاد النقاش حدة في الوقت الذي اتجه الوضعيون إلى إخضاع الإنسانيات للمنهج الطبيعي بسبب نموذجية هذه العلوم الدقيقة واكتمال مناهجها وازدهار عطائها، فكانت مناهجها إذن بمثابة الحل الممكن والمخلص لعلوم الإنسان من تخلفها في نظر توجهات عديد. وفي هذا السياق الفلسفي والعلمي الذي سيطرت عليه النزعة الوضعية، سيخرج دلتاي بفكر مبتكر؛ ذلك أنه ظل يصارع الفلسفات المؤثرة في ذلك التاريخ، فمن جهة الوضعية الفرنسية مع أوغست كونت August Compte التي تقدم المنهج العلمي كنموذج، وتقول في المقابل بعدم وجود مناهج خاصة بالعلوم الإنسانية، بل إن كونت شرع في تصنيف العلوم، وأطلق على السوسيولوجيا الفيزياء الاجتماعية، اقتداء بالفيزياء الطبيعية، حيث صارت ملزمة باستعارة مناهج علوم الطبيعة، هذا إذا أرادت طبعا أن تصير علوما، كما صارع دلتاي في الاتجاه المقابل ميتافيزيقا التاريخ التي تتبناها الفلسفة المثالية خاصة مع هيجل، الذي ادعى أن بإمكانه إعادة صياغة سير التاريخ بشكل مسبق لمتطلبات نظامه الفلسفي، هكذا حاول هذا الراجل أن يقود سفينة العقل التاريخي وعلوم الروح بين حافتي الوضعية والمثالية.

فالمذهب الوضعي يمثل في نظر دلتاي عائقا أمام مشروع بناء نظرية في علوم الروح، حيث أكد حرصه منذ ستينيات القرن التاسع عشر على استقلالها الذاتي عن العلوم لطبيعية، بهذا يبدو الموقف الوضعي نقيضاً مباشرًا للموقف النقدي الذي ابتغاه من كانط، لذلك أخذ دلتاي مناظرة مع أعلام هذا المذهب خاصة كونت في فرنسا وجون ستيوارت مل في بريطانيا؛ ذلك أن نقد الوضعية عند دلتاي كان مصاحبا لنقض ما يسميه بميتافيزيقا التاريخ؛ أي تلك الفلسفات الشمولية التي تدعي إعطاء معنى كلي ونهائي للسيرورة التاريخية، مثلما تدعي إنشاء علم كلي للمجتمع. لذلك، يرى فيلسوفنا أن الصيغ التي أقامها هيجل وشلايرماخر وكونت لتفسير قانون التاريخ، إنما هي من جنس التفكير الطبيعي السابق على التحليل، وهو ليس شيئًا آخر سوى الميتافيزيقا.

5. التأويلية بوصفها تأسيساً منهجيًّا.

عرف فلهلم دلتاي بإلمامه الشديد بالتأويلية الكلاسيكية، حيث درسها واستوعب معانيها، غير أنه شيد مشروعا جديدًا في هذا الحقل، الذي سبق لشلايرماخر أن دشن ملامحه الكبرى، فدلتاي قد أغنى هذه التأويلية بمهمة جديدة[4]، وهي أنه إذا كان على التأويلية أن تركز على قواعد علوم الفهم ومناهجها، فإنه بإمكانها كذلك أن تكون أساسا منهجيًّا لكل علم إنساني، من آداب وتاريخ ولاهوت وفلسفة وكل العلوم الاجتماعية، بالتالي ستصبح مع دلتاي التأويلية الجديدة بوصفها تأملا منهجيًّا يتناول بالدراسة الرغبة الدؤوبة في الوصول إلى الحقيقة وإلى العلمية في العلوم الإنسانية؛ فالمسألة المنهجية للعلوم الإنسانية لم تكن موجودة عند شلايرماخر ولا عند التراث الهيرمينوطيقي على مدار التاريخ.

فإذا كانت تأويلية شلايرماخر قد ظلت لوقت طويل ذات اختصاص فيلولوجي عام، يتعقب النصوص الدينية والأدبية والقانونية، فمع دلتاي ستتخذ منعطفا منهجيًّا، ومنهجية العلوم الإنسانية بالضبط؛ ذلك أن منهج هذا النوع من العلوم لم يكن مطروحاً، حيث لم يكن هذا الموضوع ذا أهمية إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لتصبح المسألة جدية وضاغطة كذلك، لذلك سيخرج دلتاي سنة 1883 بمؤلفه مقدمة للعلوم الإنسانية، يعلن صراحة فيه عن مشروعه، فيقترح إذن تأسيس علوم الروح[5] Sciences de l’esprit على مقولات منطقية خاصة ومنهج يستجيب لطبيعة هذه العلوم، حيث يقول دلتاي: "إن مشروع علوم الروح يناسب عصرا للفكر، لم يعد قادرا الوفاء به العصر الميتافيزيقي، الذي لم يفلح في التأسيس الموضوعي لهذا الاختلاف بين وقائع الروح ووقائع المجرى الطبيعي، ولذلك فتحلل وجهة النظر الميتافيزيقية أمر لا مناص منه".[6]

فكما هو متعارف، لا يمكن مقارنة العلوم الطبيعية مع نظيرتها التي تنصب على الإنسان والمجتمع في باب العلمية، فالعلوم الإنسانية ضعيفة ونتائجها مازالت حتى اليوم تثير الشكوك، وإذا أرادت أن تحظى بالاحترام، فإن عليها أن تستند إلى منهج خاص تضطلع به التأويلية، فالهيرمينوطيقا هي من يحدد المنهج الرائد لعلوم الإنسان، حيث يأتي الاختلاف في أن العلوم الطبيعية تعالج وقائع مادية محسوسة، بينما تعالج العلوم الإنسانية معاني باطنية لا يمكن ملاحظتها إلا بالمعايشة الداخلية. لهذا يشير دلتاي إلى أن هذا الشطر الآخر من الكوكب الفكري الذي يقصد به علوم الروح، التي يجب تحريرها من هيمنة علوم الطبيعة، وأن نضمن لها ما تحتاجه من منظومة سببية ونظام داخلي.

إن دلتاي انتبه بشكل جاد إلى الازدواجية التي تطبع العلم، في الوقت الذي أخفقت وضعية كونت في إدراكها، فيتعين إذن أن نقسم معقولية العلم مثلما نقسم العمل، لأن مجال العلوم الإنسانية يختلف عن مجال الطبيعة، من هنا عمق نقده لكونت الذي طبق المنهج الوضعي على كافة مناحي الحياة الطبيعية والاجتماعية، بل إنه قد امتد إلى تخصيص علم للمجتمع وأطلق عليه الفيزياء الاجتماعية، وأقصى علم النفس من قائمة العلوم، وهذا مجانب للحقيقة البشرية عند دلتاي، الذي سيلخص موقفه هذا في قولته الشهيرة. إننا نفسر الطبيعة، ولكننا نفهم الإنسان. لكن هذا الاختلاف الإبستمولوجي، لا يعني التعارض، فالتعارض بين الطبيعة والإنسان ليس من المذهب الرومنطيقي في شيء، ما دامت الطبيعة تحتوي الإنسان، الذي هو ذروة تحققها، فالعلم الرومنطيقي يدرك العالم بما هو مقام للإنسان. إن هذه الإبستمولوجيا جامعة للميدان الطبيعي والميدان البشري في مسار واحد.

ففكرة دلتاي التي استمرت طيلة برنامج عمله، والتي تقضي بإيجاد قاعدة منهجية لعلوم الروح قد أعطت للتأويلية نفسا ورؤية لم تعرفها من قبل، كما لا يمكن اعتبار أن هذه الأعمال تعد متجاوزة؛ ذلك أنه حتى وقت قريب ما زال مفكرون مثل إميليو بيتي يرى في التأويلية تأملا منهجيًّا يطور وضعية العلوم الإنسانية، وفي المقابل يرى أن كل تأويلية لا تعترف بهذه المهمة تفقد سبب وجودها.

6. نشأة علوم الروح ونسقها العلمي

كان هدف دلتاي هو تأسيس مبدأ للمدرسة التاريخية، وإضافة عمل مختلف في علوم المجتمع، وبالتالي حل الصراع بينها وبين النظريات المجردة، لذلك يؤاخذ على المدارس التاريخية بأنها ليست ذات دور في تشكيل علوم الروح، وليس بوسعها صياغة منهج تفسيري، فقد اكتفت بالحدس التاريخي، وبالمنهج المقارن، كما أنها ليس لها أثر في الحياة، فلا نفع مما فعله الوضعيون حين نقلوا مبادئ العلم الطبيعي ومناهجه إلى مجال التاريخ.

فكتاب المقدمة تضمن نقدًا عنيفا لفلسفة التاريخ، حيث يقول دلتاي، إنها وهم مثل فلسفة الطبيعة، ومادتها المشكلة تتضمن أنصاف حقائق، ورهانه كان هو النقد المزدوج لفلسفة التاريخ الألمانية، ثم للسوسيولوجية الإنجليزية والفرنسية، وما يحيط بها من ميتافيزيقا.

من جهة أخرى، يختصر دلتاي المشكل المنطقي لعلوم الروح، في ضرورة تخليصها من التبعية لعلوم الطبيعة، وهذا يقتضي تحليل موضوعي لهذه العلوم بمنطق مختلف غير المنطق الذي كان سائدًا في عصره، وهذا ما يؤكد خصوصية هذا الشطر من العلوم، التي تقوم على البعد الداخلي للتجربة النفسية، في السيكولوجية مثلا، التي تفطن إليها دلتاي مبكرًا، مثل رواد عصره، وخاصة في علاقاتها مع الشعر والتاريخ، وكذا اختلاطها بالتأويلية.

خاتمة

نختم هذا المقال بالقول إن عبقرية دلتاي لا تنحصر في التأويلية بوصفها إبستمولوجيا العلوم الإنسانية، بل وأيضا من خلال جهوده المتأخرة، سيتفطن إلى أن الفهم والتفسير ليسا مجرد منهجين نجدهما في العلوم الإنسانية وحسب، بل إنهما سيرورات أساسية نجدها في قلب الحياة بالذات، حيث يبدو التفسير بوصفه سمة أساسية لحضورنا في العالم، هذا يظهر وجهاً جديدًا للمملكة التأويلية، بوصفها ليست مجرد طرائق خاصة بهذا النوع من العلوم، بل في كونها ترجمة للبحث عن المعنى، وتعبير أكثر أصالة عن الحياة نفسها، خاصة مع اكتشافه هوسرل، الذي عدّ من الأحداث العظيمة لدى منعطف القرن؛ فالفينومينولوجية توفر مفاتيح فهم الفلسفة المتأخرة لدلتاي، ومن خلال هذه النظرة المتأخرة التي انتهى إليها، فقد فتح نوافذ جديدة لتأويلية القرن العشرين، وخاصة مع مارتن هايدغر، الذي سيرى أن لا علاقة للتأويلية بالنصوص، بل بالوجود ذاته الذي ينغمس في التأويلات، وعلى الهيرمينوطقا أن توضح ذلك، وبهذا انتقل الفكر من تأويلية النصوص والمخطوطات، عبر تأويلية المنهج مع دلتاي إلى تأويلية الحياة والوجود.

[1] فريدريك شلايرماخر (1768-1834) هو مفكر وعالم لاهوتي عميق من مفكري ألمانيا البارزين، إذ يعتبر من المؤسسين المركزيين للتأويلية الحديثة وخاصة في شؤون التأويلية العامة، حيث تأثر إلى حد كبير بكانط واسبينوزا، من مؤلفاته: حول الدين: خطابات إلى محتقريه المتعلمين (1799)

[2] جورج غوسدورف، أصول التأويلية، ترجمة فتحي أنقزو، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ص304

[3] فتحي انقزو، معرفة المعروف التأويلية من شيلايرماخر إلى ديلتاي، مؤمنون بلا حدود، الرباط، الطبعة الأولى، 2017، ص 135

[4] جورج غوسدورف، أصول التأويلية، ترجمة فتحي أنقزو، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ص 11

[5] عبارة علوم الروح كانت متداولة منذ كتاب المنطق لستيوارت مل، ويعتبرها دلتاي ناقصة، لأن موضوع هذه العلوم ليست منفصلة عن الحياة النفسية الفيزيائية، التي هي الطبيعة البشرية.

[6] فتحي إنقزو، معرفة المعروف التأويلية من شيلايرماخر إلى دلتاي، مرجع سابق، ص 171