فيلهلم دلتاي وقتل الميتافيزيقيا الرحيم


فئة :  مقالات

فيلهلم دلتاي وقتل الميتافيزيقيا الرحيم

فيلهلم دلتاي وقتل الميتافيزيقيا الرحيم

  • تاريخانيّة وهرمينوطيقيّة المعرفة و«قتل الميتافيزيقيا الرحيم»:

إنَّ فهمَ دلتاي السابق للعلاقة بين الهرمينوطيقا والتاريخ ولطبيعة المنهجيات الإبستمولوجية للعلوم الإنسانية يمثّل الخلفية المنطقية لرفضه لعملية التأسيس التقليدي للفكر الغربي على قاعدة الميتافيزيقيا. من الضروري هنا أن نفحص نقدَ دلتاي للميتافيزيقيا كيما نستوعب لاحقاً جذور تأثيرات فكره على كل من فِكر فولفهارت باننبرغ اللاهوتي وفِكر مارتن هايدغر الفلسفي. من جهة أخرى، فهمُ الأسباب الكامنة وراء رؤية دلتاي للبنية الداخلية للفهم البشري سيجعلنا نفهم كيف تقوده هذه الرؤية لإعلان نهاية الميتافيزيقيا. يقول لنا التحليل الذي قدمناه في الفقرات السابقة بأنه لا يمكننا تطوير هذا الفهم ما لم نتوقف عند رؤية دلتاي للعلوم الإنسانية وللصلة الإبستمولوجية العضوية بين الذهني والمادي. من هنا، فإنَّ فهم عدم إيمان دلتاي بالميتافيزيقيا يمكن أن يتحقق من خلال قراءة مقالته «هيكليّة العالم التاريخاني في العلوم الإنسانية»، وخاصة القسم المعنوَن «بُنيان العلوم الإنسانية»[1].

في القسم المذكور من المقال، يناقش دلتاي بأنَّ «الفهم» كنشاطٍ ما يقومُ على قاعدة «العلاقة بين الخبرة، والتعبير والفهم»[2]. لا يمكن الاستغناء أبداً، برأي دلتاي، عن أيِّ عنصرٍ من عناصرِ هذا الثالوث. فالخبرة لا تمثّل شيئاً بمعزلٍ عن انكشافِ محتواها، والذي هو بدوره بلا قيمة (أي إنه لن يكون انكشافاً لشيءٍ ما) بمعزلٍ عن عملية تفسيره. إنَّ العلاقة التي يقيمها الإنسان مع الحياة تبين لنا أنَّ «الخبرة» و«الفهم» «يتعاشَقَان بُنيوياً ويحتويان معاً كافة النشاطات والتطورات»[3]. يعتقد دلتاي أن من أهم الأمور المتعلقة في علاقة الإنسان بالحياة، والتي تنبثق من تشابك العناصر الثلاثة المذكورة، هو إدراكنا أنَّ الإدراك البشري للعناصر الواقعية له طبيعة زمانيّة، وهو يتشكل من عملية استذكار صور وظروف الماضي، والتي تقدم لنا مبدئياً حالاتٍ تاريخيّة ماضوية مختلفة؛ أي إنَّ يقين المعرفة، ذاكَ الذي يعتمد على الاستذكار الفردي والمعمَّم لمجموع الخبرات، لا يمكن قياسه وفق معيارٍ علمي مُتعارف عليه ومُستخدَم في حقل العلوم الطبيعية. مع ذلك، يقول دلتاي، فإنَّ تلك الذاكرة الفردية والمعمَّمة غير مُعفاةٍ من التقويم والتعديل والتوسيع بواسطة الخبرة المشتركة أو بواسطة ما يدعوه دلتاي «المعتقدات المشتركة التي تنبثق في قلب حلقة متماسكة من الأشخاص»[4]. في ضوء هذا، تصبح المسألة الأساس المتعلقة بالصلة بين العقل البشري وعملية الفهم، من جهة، والذاكرة (سواء الفردية أو الجمعية)، من جهة أخرى، سبيلاً لإدراكنا بأنَّ التفسير ذا التوجه التاريخاني يمكّنُنا من إدراك الأهمية المحورية لمفهوم «التاريخ» في سياق المعرفة. إنه يجعلنا نلاحظ، أولاً، أنَّ الكائن المفرد ما هو إلا كائنٌ تاريخيٌ في قلب اتّكاليته الوجوديّة، وأنه محكومٌ ومُصمَّمٌ بفضل موقعه ووضعه في الزمان والمكان وفي التفاعل مع الجماعات والمنظومات الثقافية. كما أننا ندركُ، ثانياً، مدى مقبوليّة وموثوقيّة فهم الواقع البشري في كلَّانيته أو في قلب الشبكة المتكاملة التي يصنعها هذا البشري في التاريخ[5].

يستنتج دلتاي مما سبق، أنَّ المعرفة هي نِتاجُ التفكير الهرمينوطيقي الخاص بحقيقةٍ يمكن اختبارها تاريخياً، وأنَّها أيضاً نشاطُ إدراك مسار الحياة الزمني الذي ينتمي لصلب تلك الحقيقة في كلَّانيتها، والذي نتمكن من إدراكه من زاوية اكتمال المسار النهائية. سوف نرى لاحقاً في هذه الدراسة انتباهاً للكلَّانية أو الكليَّة يتصف به حديث مارتن هايدغر عن عملية تطوير الفهم من زاوية نهاية الحياة (الموت)، وكذلك يتصف به حديث فولفهارت باننبرغ عن الفهم الارتجاعي (retrospective) للماضي والحاضر من نهاية المستقبل الإلهي. ولكن، لنبقَ حالياً ضمن إطار فكر فيلهلم دلتاي، حيث يستقي الأخير من طبيعة مسار المعرفة المذكور خلاصةً مفادها أنَّ الحياة ومعرفة الحياة يتفاعلان باستمرار، وكأنَّ «الحياة تستوعب الحياة»[6]. ويعتبر دلتاي أنَّ الحقيقة المعروفة وحَدثَ معرفةِ تلك الحقيقة يتلاقحَان ويتّحدان ببعضهما البعض عند أفقِ النهاية الكلَّانية، ومن ثم يخلقان معاً حالةَ انكشاف- ذاتٍ ومعرفة- ذاتٍ تاريخيتين. يتّصفُ هذا الانكشاف بالمناعة ضد النسبويَّة والتجزيئيّة بفضل كشفه لفهمٍ علاقاتيٍّ بطبيعته ومن ثم تأكيده على الأبعاد المشتركة والجامعة بين الأفراد. يقول دلتاي عن تلك التشاركية والشيوع بأنهما «نقطة ابتداء كافة العلاقات بين الجزئي والعام في الدراسات الإنسانية»[7].

ما يعني دلتاي هو الحقيقة في كلَّانيتها، وهو يشدِّد على أنَّ «الخِبرة تتحول إلى معرفة للحياة حين تقودنا عملية الفهم من ضيقِ وذاتويّة الخبرة إلى الكلي والعام»[8]. يبين هذا أنَّ دلتاي لا يمتنع فقط عن دعم الذاتويّة والسيكولوجيّة، بل ويعتقد أيضاً أنَّ المعرفة من أَلفِها إلى يَائِها عبارةٌ عن علاقة اتكالٍ متبادلةٍ بين العارِف والمَعروف. يقود هذا الاتكال المتبادل إلى «توسيعٍ متقدِّمٍ لأحداثٍ محدَّدة»[9] لدرجةٍ تجعل كلَّاً من المعرفة الخاصةِ بانكشافٍ تاريخيٍّ محدَّد، من جهة، والمعنى العام لتلك الانكشافات، من جهة أخرى، يتفاعلان ويتكاملان مع بعضهما البعض. يعبِّر انتباه دلتاي للأحداث التاريخية الجزئية واعتقاده بأهميته البنيوية للمعرفة عن قناعته المبادئية أنَّ الكائنة البشرية لا يمكنها تجاوز الحياة والتاريخ، بل إنَّ على الحياة والتاريخ أن يُعرَفَا ويُقارَبا من داخل (from-within) السيرورة التاريخية للحياة في حد ذاتها. «كل معنىً وكل قيمةٍ وكل غايةٍ في العالم التاريخي»، يقول دلتاي: «تتجذَّرُ في خبرة الكائنات البشرية الأفراد الذين يعيشون في زمانٍ محدد وضمن ظروف معيَّنة»[10].

لا توجد أيّ إمكانيةٍ في سياق انتباه دلتاي الثنائي البُعد للجزئي والكلي كي نعتبر خطابه تعبيراً عن موقفٍ تتريخائي نِسبَوي (historicist relativism). إيمان دلتاي بالكونيّة التاريخية يتمظهر في قناعته أنَّ «إدراك معنى وأهمية العالم التاريخي لطالما يتحقق... من التأكيد على توجُّهٍ عامٍّ في سياق حراك التاريخ الكوني»[11]. يلعب الحاضرُ دوراً مركزياً في عملية تشكيل المعنى، ولكنه لا يلعب هذا الدور بمعزلٍ عن الماضي والمستقبل، فكل ما هو حولنا يساعدنا على فهم البعيد والماضوي[12]. نجد دليلاً آخر لرفض دلتاي الانتقادي للنسبويّة المطلقَة في إقراره أنَّ الخبرة الجوّانية محدودة الأفق بسبب طبيعتها وافتراضاتها الشخصانية، بالرغم من تمتع تلك الخبرة بوضوحٍ وجلاءٍ مبدئيَّينِ معتبَرَين. إنَّ وجهات النظر المستقاة من استبطان الفرد الجوّاني ليست كافية ولا ناجِعَة بحد ذاتها لتحقيق فهمٍ كليٍّ، بل هي بحاجة إلى أن يتم توسيعها لدرجةٍ تجعل من معانيها «تكشف الغطاء عن الشروط الماورائية للفهم البي-ذاتوي»[13]. هنا، يتم تفسير الخبرة الفردية في علاقتها بالاستبطان الذهني العام المتعلق بالطبيعة البشرية وبميكانيزمات الفهم في كلَّانيتها. تُقرُّ كافة أشكال التفسير التاريخية في مداها الكلي بوجود درجة ما من النسبويّة في المعرفة، ولهذا فهي «تفترض نوعاً من التأمل-الذاتي الذي يُنصِفُ الخبرات الجوّانية ويشرح مؤهلاتها»[14]. إلا أنَّ هذا الإقرار ما هو سوى اعتراف بالنسبويّة الجزئية لكل خبرة خاصة يهدف إلى الحفاظ على نوعٍ من التوازن الإيجابي بين العام والخاص.

يأخذ دلتاي جانب الجزئي والخصوصي بعين الاعتبار في انتباهه لقيمة الفرد وخبرته في عملية الفهم. يقول رودُلف ماكرييل (Rudolf Makkreel) حول هذا إنَّ دلتاي «ما لبثَ يتحدث عن الذوات الفردية كذواتٍ مُحمَّلةٍ (tr?ger) بالحياة التاريخية وكنقاط عبورٍ (Kreuzungspunkte) إلى المنظومات الثقافية». مع ذلك، يتابع ماكرييل، فإنَّ دلتاي لا يعتبر الكائن الفرد المُنشِئ الوحيد للقيَم وللخير، بل إنه يتحدث عن «أفرادٍ وجماعاتٍ ومنظوماتٍ ثقافيةٍ تعمل معاً كحوامل للحياة التاريخية»[15]. يلخِّص ماكرييل في مقطعٍ شديد الأهمية رفض دلتاي لأيِّ فهمٍ تحذُّري تجريدي للكلَّانية وكذلك قلقه الشديد من المترتبات السلبية التي تنتج عن عملية استبدال الكلَّانية بالنسبوية. يستحق مقطع ماكرييل الاستشهاد به بإسهابٍ هنا:

لاشكَ أنَّ دلتاي يُقرُّ بأنَّ التقليد التتريخائي الألماني (historicisim) قد قام بخطوات كبيرة نحو تخليص التاريخ من الفكر الكوني الذي ينتجه التفكير الميتافيزيقي. فمن جهة أولى، قام هذا التقليد بتحرير المؤرِّخ من اعتقاد عصر الأنوار أنه من الممكن تلخيص التاريخ كقصّة غزوِ الإنسان المتطوِّر للطبيعة. ومن جهة ثانية، ابتعدت المدرسة التتريخائية عن الفكر المضاد الهيغلي القائل إنّ التاريخ هو التكشُّف الديالكتيكي لروح العالم. على الرغم من كل هذا، يدرك دلتاي بأنَّ التمرد على ميتافيزيقيا الطبيعة والروح لم يمنع التتريخائية من الاحتياج إلى أرضية إبستمولوجية تجنّبها من التفكُّك والانحدار نحو النسبويّة التامة[16].

استخلصُ من كلمات ماكرييل أنَّ دلتاي، في معرضِ سَعيه لإيجاد أسسِ جديدة للأبستمولوجية، قد قام أيضاً بما يلي:

1- آمن بأنَّ اختبار الحياة يعتمد على إدراك السيرورة الحثيثة للتاريخ، واعتبر تلك السيرورة أساساً لرفضه لفهم إيمانويل كانط المتعلق بالزمن. وكما يخبرنا هوارد توتَّل، آمن دلتاي بأنَّ فهم كانط للزمن لا يخرج عن كونه فهماً تجريدياً تم تركيبه لإرضاء المشروطات الماورائية للعلوم الطبيعية. إلا أنَّ هذا الفهم بقي غريباً بشكلٍ جديٍّ عن الواقع الراديكالي للحياة البشرية[17].

2- الأمر الأكثر أهمية وارتباطاً بتأثير دلتاي على مارتن هايدغر وفولفهارت باننبرغ من علاقة دلتاي بكانط هو موقف دلتاي من الميتافيزيقيا. دلتاي، كما بيَّنتُ، يقاربُ تاريخانيّة المعرفة من داخل إطار الحياة، وفي هذه المقاربة تتمثل قاعدة انتقاده لتاريخ الفكر الميتافيزيقي في الغرب. يقول دلتاي بوضوح إنَّ المعصية الرئيسة في الفكر الميتافيزيقي الغربي تكمن في انطلاق هذا الفكر منهجياً من «نقطة انطلاق قبَليّة» مُسبقَة التصوُّر ومن معاملة نقاط الانطلاق تلك وكأنها أرضية قَبليَّة تسبق المعرفة وتؤسِّس لها. هذا السعي لخلق أساس ميتافيزيقي للعلوم، بالنسبة إلى دلتاي، ما هو إلا إنكارٌ صريحٌ للأهمية التكوينيّة للتاريخانيّة وللحياة فيما يتعلق بتحقيق الفهم.

تعبيراً عن معارضته الشديدة لتلك النسخة الميتافيزيقية لأنماط المعرفة العلمية، يقوم دلتاي بتفكيك تاريخ اعتماد الفلسفة الغربية على الميتافيزيقيا واستعمالها لتلك الأخيرة كأساسٍ كونيٍّ للعلوم. من ثمّ، فإنه يقترح كل من تاريخ وهرمينوطيقا الحياة كأسُسٍ بديلةٍ للمعرفة العلمية، كما حاولت أن أبيِّن في الصفحات السابقة[18]. المهم في هذا الإطار هو أنَّ دلتاي لم يتوقف عند هذا الأمر، بل إنه مضى أبعد من ذلك في الشروع بتفكيكٍ هرمينوطيقي لقصة الاعتماد على الميتافيزيقيا في تاريخ الفكر الغربي. فهو يتتبع جذور المحاولات الأولى لــــِ هكذا تأسيسٍ للعلوم على ادعاءاتٍ ميتافيزيقيةٍ بالعودة إلى مفهوم أرسطوطاليس عن «الفلسفة الأولى». يناقش دلتاي بأنَّ تعريف الميتافيزيقيا الأرسطوطالي، الذي يعتبرها تعبيراً عن عقلٍ كفوءٍ، رسمَ خطوات وتوجُّهات العلوم في القرن التاسع عشر وجعلها تتمحور حول فكرة «نموذج منطقي مثالي، هو نموذج اللوغوس، أو العقل (Vernunft)». وبفعله هذا، فإنَّ هذا التعريف للميتافيزيقيا همَّشَ بالنتيجة وقلّل من قيمة الصفات المنطقية لكل من «الطبيعة» و«التاريخ» لمصلحة فكرة «العقل». يسرد دلتاي، إذاً، قصة وصول مثل هكذا اتكال للعلوم على الميتافيزيقيا من أرسطو إلى هيغل، مجادلاً بأنَّ هذا المسار يحمل في بنيته «كعبُ أخيل» العلوم أو نقطة مقتلها، إن لم يكن «كعب أخيل» التفكير العلمي الغربي برمته. دلتاي مقتنع بأنَّ الميتافيزيقيا «التي سعت في الأصل لتزويد كل أنواع العلوم (wissenschafts) بأرضية منطقية انتهى بها الأمر بشكلٍ مثيرٍ للسخرية إلى تبخيس وتقليل قيمة ذاك الذي وعدت به العلوم بحد ذاته»[19]. ما يخلِّص العلوم (wissenschafts) من الميتافيزيقيا، برأي دلتاي، هو التشديد على تاريخانيّة الإدراك البشري، والمصالحة بين الفلسفة والتاريخ، وتأسيس المعرفة العلمية على هرمينوطيقا الحياة. وكما يبين جاكوب أونسبي (Jacob Owensby)، فإنَّ دلتاي يكشف لنا أنَّ المنظومات المتيافيزيقية ليست سوى «رؤىً للعالم»، ويبيِّن بأنَّ «هدف تلك الرؤى هو استيعاب العالم والوجود الإنساني ضمن نظامٍ تقييمي نظري أحادي لا يمثل في الواقع سوى مجرد تفسيرات للحياة ذاتها»[20]. بكلمات أخرى، تنشأ الميتافيزيقيا بحد ذاتها من قلب حالات تاريخانيّة محدّدة وتتكوَّنُ وفقَ دوافعٍ تتشكَّلُ في التاريخ، وما مرجعيتها المفاهيميّة سوى شيء ينتج عن «التغير المتواصل المتدفق (flux) للحياة السوسيو-تاريخانيّة» ولا شيء آخر[21].

من الممكن وصف موقف دلتاي المناهض للميتافيزيقيا بأنه محاولة لإظهار تناقض الميتافيزيقيا الذاتي؛ وذلك من خلال كشف تجذرها في التاريخ وفي البنى الحياتية. يشير بامباخ إلى أنَّ دلتاي يدعو شخصياً إلى محاولة كشف الغطاء عن الطبيعة التاريخية للميتافيزيقيا «بحثاً تاريخانيّاً ذا غاياتٍ فلسفية»[22]. وكبديلٍ للأساس الميتافيزيقي المتناقض في ذاته، يعرض دلتاي على العلوم منهجية تاريخانيّة تتشكّل من المعرفة الهرمينوطيقية. إنها منهجية «تضمن تفسيراً مشروعاً على المستوى الكلي» وهي تحل «مشكلة النسبوية التي تبتلي العلوم الإنسانية بها»[23]. تزيح تلك المنهجية الغطاء بأسلوب هرمينوطيقي عن الإفلاس المعرفي للانقسام الثنائي (dichotomy) بين الذاتي والموضوعي في الميتافيزيقيا الكلاسيكية. تلك الهرمينوطيقا هي هرمينوطيقا تقوم بالكشف وتحقق تلاقياً تفاعلياً يقوم على علاقة بين الجزء والكل؛ أي على شكلٍ من أشكال الانخراط التبادلي للذات والموضوع كطرفين يتشكلان تاريخياً ويُعرفان كليهما في التاريخ[24].

  • من دلتاي إلى باننبرغ وهايدغر:

لقد طوَّر كل من مارتن هايدغر وفولفهارت باننبرغ، بالاعتماد على فهم دلتاي لتاريخانيّة المعرفة، فهمهما لطبيعة المعرفة ولقيمة الهرمينوطيقا وأهميتها للأبستمولوجيا وكذلك أهمية (أو الأهمية المزعومة) الميتافيزيقيا للفلسفة وللاهوت. يحاول كلا الباحثان أن يفكِّكَ الموقف الميتافيزيقي لتاريخ الأفكار الغربي الفلسفي (هايدغر) واللاهوتي (باننبرغ)، وكلاهما يفعل هذا بإلهامٍ من فيلهلم دلتاي وتشديده على المفاهيم المفتاحية، «تاريخ»، «معرفة مُتزمِّنَة» (temporalized)، «انكشاف/كشف»، «تواصل تفاعلي» و« نموذج جزئي-كلي/جزئية- كلَّانية الإبستمولوجي». مع ذلك، يُبدي كلٌّ من باننبرغ وهايدغر اتكالاً انتقائياً وتعديلياً، وليس حَرفياً أو صَاغراً، على منطق دلتاي النقدي والمركزي-تاريخاني. فبدلاً من تبني اعتقاد دلتاي بأنَّ الميتافيزيقيا بحد ذاتها تنتمي كلياً لتقليدٍ فكري مضى عليه الزمن، فإنهما يستعيران مفاهيمَ مفتاحيّة من سلّة مفردات دلتاي بغرض تجديد الميتافيزيقيا وإعادة تعريفها بشكل مناسب وصحيح، كل منهما وفقاً لمعاييره عما هو الملائم وما هو الصحيح. يستخدم هايدغر تلك المفاهيم المفتاحيّة ليبيّن أنَّ خلاص الميتافيزيقيا (وليس نهايتها في الحقيقة) يكمن في الإقرار بقاعديّة مفهوم «الكائن» (Being). في المقابل، يناقش باننبرغ بأنَّ تكفير الميتافيزيقيا عن ذنوبها وإعادة تثمينها يكمنان في الموقع القاعدي الذي تتبوَّؤهُ فكرة الله. المثير في الأمر، أنَّ كلَّاً من الفيلسوف واللاهوتي يسعى للدفاع عن الميتافيزيقيا بمساعدة مفاهيم مستعارة من جعبة مفكرٍ يعتقد بشكلٍ فجٍّ وصريح بموت الميتافيزيقيا.

واحدة من الأفكار الأساسية التي يعمل عليها كل من باننبرغ وهايدغر من جعبةِ مقارباتِ دلتاي هي تشديد هذا الأخير على القيمة الإبستمولوجية للعلاقة المتوازنة بين أبعاد المعرفة الجوّانية والبرّانية على حد سواء. لا يمكن برأيي التشديد بما فيه الكفاية على أهمية هذه الفكرة وتأثيرها على فهم باننبرغ وهايدغر لمفاهيم «تاريخ» و«كشف-ذات». لقد رأينا سابقاً تشديد فكر دلتاي على القيمة الإبستمولوجية للعلاقة المتوازنة بين الجوّاني والبرّاني، وكيف أنَّ هذه العلاقة المتوازنة تدلُّ على أنَّ التاريخ ليس نتاجاً عملانياً للمسار التفسيري الذي يسافر عليه الإنسان بغية فهم الأشياء. تعني تلك العلاقة المتوازنة أنَّ العقل المُفسِّر لا يمثل فرضيَّة مضادّة مُفترَضَة نظرياً انطلاقاً من ضرورة منطقية مَحضة. بالعكس، المُفسِّر هو عنصرٌ فاعلٌ في التاريخ وفي مواجهةِ المنظومة السياقيّة التاريخية، وليس مجرد افتراضٍ عقلي يعبِّر عن تحقيق التاريخ لذاته. أضف لهذا، اعتقاد دلتاي أنَّ العلاقة بين الجوّاني (وليكن التفكير الهرمينوطيقي للمُفسِّر) والبرَّاني (وليكن الظَهورَة التاريخية المُعَاشَة) هو اعتقاد أبستمولوجي بطبيعته، وهو يرتبط بقوة بمفهوم «معرفة الذات»، أو ما سمَّيته سابقاً «كشف الذات». وهذا يدل على أنَّ الذات المُفسِّرة أو العارِفَة لا تخلق للوجود (أي لا تتسبب بوجود) ما يفسِّره العقل لمجرد أن العقل مارس عملية تَفسيرٍ ما. هذا يعني أنَّ العقل المُفسِّر يقوم فقط باستقبال ما يوجَدُ أصلاً وما يَملك مسبقاً كينونةً قائمةً بذاتها تُشكِّل مسبقاً مُكونِّاً للحقيقة التاريخية للحياة. تبعاً لهذا، يمكن لفكرة دلتاي عن «معرفة الذات» أن تعني أيضاً «كشف الذات»، حتى وإن لم يكن دلتاي قد استخدم مفردة «كشف» (disclosure) في كتاباته[25]. في عملية كشف الذات، إنَّ الشيء الذي يتعلق بحقيقة معينة يصبح معروفاً في عملية الانكشاف تلك، وهو شيءٌ لم يكن ممكناً معرفته ما لم تحدث عملية كشف الذات. إنها عمليةُ جعلِ شيءٍ ما، موجوداً مسبَقاً في ذاته، شيئاً مفهوماً، أي له معنىً هرمينوطيقيٌ. إنَّ «كشف الذات»، أو «معرفة الذات»، شرطٌ حاسمٌ لكلٍّ من مسألة التلاقي مع الفاعِل المَعروف ومسألة تحقُّق فِعْل المعرفة بحد ذاته. بدون انكشافٍ في السياق التاريخي للحياة، فإنَّ المعرفة برمّتها غير ممكنة، والإمكانية الصرفة للمعرفة تصبح عديمة الجدوى والغاية.

على قاعدة استنتاجات مشابهة لتلك الدلالات العميقة الناتجة عن فهم دلتاي للعلاقة بين الجوّاني والبرّاني بصفتها، في الدرجة الأولى، علاقة أبستمولوجية في طبيعتها وقيمتها، يطوِّر كلٌّ من فولفهارت باننبرغ ومارتن هايدغر فهمهما لكل من «التاريخ» و«كشف الذات». لقد تشكَّلَ انتباهُ كلا الباحثَين للتاريخ وللبُعد العلاقاتي للمعرفة حتماً على أرضية اعتقادِ دلتاي التالي:

إننا نتعلَّمُ ما كان المرء عليه يوماً وما أصبحنا عليه اليوم من خلال التطلُّع في أساليب تصرُّفنا في الماضي، والخطط التي خطَّطناها لحياتنا يوماً ما، والمسيرة الاحترافية المهنية التي رسمناها لأنفسنا... باختصار، يمكننا أن نعرف أنفسنا بشكلٍ صلبٍ فقط من خلال الفهم. إلا أننا لا نستطيع فهم أنفسنا والآخرين ما لم نُسقِط (project) ما اختبرناه في الواقع على كل تعبير عن حياتنا وحياة الآخرين. لهذا، يتحول المرءُ إلى موضوعٍ معرفي في الدراسات الإنسانية فقط حين نربط الخبرة والتعبير والفهم ببعضها البعض. فتلك الثلاثة تتأسس على قاعدة تلك العلاقة، والتي هي بدورها تعبيرٌ عن صفاتهم المتمايزة[26].

يتَّكلُ مارتن هايدغر على هذه الرؤية في دفاعه عن الطبيعة التاريخية لكشف الكائن الحاضر هنا والآن (Dasein) لذاته. يكتشف هايدغر في أبحاث دلتاي تفسيراً رائداً حسّاساً للتاريخ وتقديراً لتاريخانيّة «الكينونة-في-العالم» (being-in-the-world) بصفتها وسيطاً للمعرفة. كما يلاحظ هايدغر أيضاً مبدأً أنطولوجياً لفهم كينونة الكائن الحاضر هنا والآن في طيَّاتِ قناعةِ دلتاي في خطاباته الفلسفية المتعلقة بفكرة الحياة. يقول هذا المبدأ إنَّ الكلي ينبثق جنباً إلى جنب، وفي تزامنٍ، مع الأجزاء المكوِّنَة له[27]. من هذا الخطاب والمبدأ، يتعلم هايدغر أنَّ «الحياة يجب أن تُفهَم في السياق التاريخي لتطورها ولتأثيراتها، ويجب أن تُفهـــَم بصفتها السبيل/الطريقة التي يكتسب عبرها الإنسان كينونته ويمثِّل الإنسان فيها الموضوع الممكن للعلوم الإنسانية، وبشكل أخص منبع أو جذور تلك العلوم»[28].

في كتابه عن تطور الفكر الهايدغري، يشير ثيودور كيزل (Theodore Kisiel) إلى أنَّ هايدغر الشاب استوحى من دلتاي (وكذلك من شلايرماخر) مبدأ الهرمينوطيقا العقلانية التاريخانيّة التي تنطلق منهجياً من افتراض مباشرةِ وفوريةِ الخبرة المُعاشَة. بدوره، يربط إستفان فيهير (Istevan Feher) نفس الاستلهام المُشار إليه بتقييم هايدغر النقدي للفلسفة الفينومينولوجية لأستاذه، إدموند هوسرل (Edmond Husserl). يناقش فيهير بشكلٍ مقنع بأنَّ المرء لا يمكنه أن يستوعب شمولياً «رفضُ هايدغر لفكرة الأنا المتعالية (transcendental ego) عند هوسرل» بمعزلٍ عن لحظِ تأثير فكر دلتاي على تبدُّل انتباه هايدغر نحو الهرمينوطيقا[29]. رفض هايدغر الشاب في فكره المبكر للتفسير الهوسرلي السيكو-منطقي (psychologistic) للفلسفة، والذي كان مهيمناً في سنواته المبكرة، لهو دليلٌ على التجائِه اللاحق لمقاربة دلتاي التاريخانيّة-الهرمينوطيقية. وهذا بحد ذاته يدعم قناعة فيهير بأنَّ التجاء هايدغر لفلسفة الحياة (Lebensphilosophie)، وتشديده على هذا الفرع من الفلسفة ضد باقي الفروع المعروفة، يدلُّ على أنَّ «الفيلسوف الذي يفكِّرُ به غالباً في عقله ما هو إلا دلتاي»[30].

من الصعب التشديد بشكلٍ كافٍ على درجة تأثير دلتاي على فكر هايدغر وميل الأخير الفلسفي تجاه الهرمينوطيقا التاريخانيّة، بالرغم من احتفاظ هايدغر بتحفّظاتٍ جديّة على العقلانية التي استخدمها دلتاي للاستطراد حول مسألة فلسفة الحياة أو حول فكرة الحياة التي طوّرها دلتاي في مشروعه[31]. لقد درس هايدغر اللاهوت في كلية لاهوتٍ كاثوليكية في مطلع حياته العلمية. وقد قرأ خلال تلك الدراسة كتبَ فيلهلم دلتاي من بين العديد من المراجع الأخرى. ليس صعباً أن نلاحظ من كتابات هايدغر، التي أنتجها في المرحلة المبكرة من وجوده في كلية اللاهوت، التأثير الواضح على تفكيره لمحاولة دلتاي الدمج ما بين جانب الوعي الذاتوي، من جهة، والأبعاد الموضوعية للتاريخانيّة، من جهة أخرى، ومن ثم معاملة هذين العنصرين كشيءٍ واحدٍ في سيرورةٍ هرمينوطيقية. من المرجَّح أنَّ التأثير الدلتاني المذكور هو الدافع المحرِّك خلف ما يقوله هايدغر في رسالة شخصية كتبها لكارل لوفيت (Karl Löwith) في 19 آب من عام 1921 حول طبيعة تفكيره (هايدغر). يقول هايدغر في تلك الرسالة عن هذا الأمر:

إنني أعمل بشكلٍ محدَّدٍ وفعلي انطلاقاً من عبارة «أنا أكون» أو «أنا كذا» (I am)؛ أي انطلاقاً من أصلي وزمني وسياق حياتي العقلية وكليَّة الواقعية، وكذلك من كل ما هو مُتاحٌ لي من تلك الأمور باعتبارها خِبرَة حيّة أحياها... يشتمل هذا على اهتمامٍ راديكالي شخصيٍ محدد، أو عِلمَوية (scientificality) راديكالية خصوصية وضعية وصارمة في قلب الواقعية؛ والتي تحمل أيضاً في قلبها وعياً تاريخانيَّاً، أي وعياً بالتاريخ الفكري والثقافي[32].

تظهر كتابات هايدغر التي أنتجها في السنوات اللاحقة لهذه الرسالة بأنه غَنِمَ من دلتاي بأجوبةٍ عميقةٍ ممكِنَة لأسئلةٍ مثل الأسئلة التالية: «كيف نتكلم بوضوحٍ عن الخبرة الفوريّة لعملية إيجاد أنفسنا محاصرين مُسبَقاً في الوجود وفي حالةِ حراكٍ مازال يجري (underway)، أي كيف يمكننا قولُ ما لا يمكنُ قولُه؟ كيف يمكننا أن نحظى بمنفذٍ لخبرتنا الأكثر فورية ومباشرة، والتي تشكل حقيقة كاملة ومكتملة، والتي هي سابقة للتفكير في فوريتها، وبالتالي هي ليست حتى مُتاحة كموضوعٍ ما يلبثُ أمام ذات ويقابلها؟»[33]

يستنتج ثيودور كيزل من هذا دليلاً على دورٍ أساسيٍّ لمبدأ دلتاي القائل بــــ «فهم الحياة من قلب الحياة ذاتها» يمكن رصده في مسارِ فهم هايدغر للفينومينولوجيا في كتابه، الكينونة والزمان (Sein und Zeit/Being and Time). لا شك أنَّ المبدأ الدلتاوي المذكور يقبع في أساسات تعريف هايدغر للفينومينولوجيا بصفتها «مسألة سماحٍ لذلك الذي يعرض ذاته بأن يكون مرئياً من خارج ذاته وفي الكيفية التي تظهر فيها هذه الذات نفسها بنفسها». كما أنَّ هذا المبدأ يقبع أيضاً في قلب تعريف هايدغر للفكر بحد ذاته على أنه «عملُ الحياة»[34]. إنَّ التواصل والتساوق الممتد بين عناصر خبرة الحياة، من جهة، والتعبير والفهم، من جهة أخرى، والتي تشكِّل مكوِّنات أساسية في فكر دلتاي، هي، برأي كيزل، «الأسلاف المفاهيمية للانتباه إلى مفاهيم 'النزعة' و'الخطاب' والفهم'، التي تشكِّل قاعدةَ تحليلِ هايدغر لفكرة الكائن الحاضر هنا والآن (Dasein)»[35]. زِدْ على ذلك، تربضُ منهجية دلتاي القائلة بــــ «فهم الحياة من قلب الحياة عينها» أيضاً في قلب محاولة هايدغر لتجاوزِ تمايزِ «ذات-موضوع» التقليدي وفكرته عن «الكائن الحاضر هنا والآن» (Dasein) وعن «العالم» في تزامنهما ضمن إطارِ عملية فهمٍ وتكوينٍ لحلقةٍ أبستمولوجية هرمنيوطيقية[36]. ليس مفاجئاً أنَّ انتباه هايدغر لفكرة «الكائن الحاضر هنا والآن» بصفته كائناً «حاضراً -في-العالم» يكشف لنا عدم اهتمام هايدغر في إثبات الصلة بين الكائن والعالم، وإنما افتراضه لتلك الصلة قبلياً وانهماكه في تفسير وشرح ترابطية الكائن الحاضر هنا والآن (connectedness of the Dasein) مع العالم[37].

لا ينبغي على المَديونيّة المذكورة في الأعلى لدلتاي أن تعطينا انطباعاً بأنَّ دعم هايدغر لفكر الأول تم بدون تحفظات وبدون أية مقاربة نقدية. يعتقد هايدغر عموماً أنَّ دلتاي يعبِّد في بحثه طريقاً أبستمولوجياً هاماً دون أن يسير هو شخصياً (أي دلتاي) بعربته البحثية الخاصة عليه، تاركاً الإجابة عن الأسئلة الحاسمة المتعلقة بمفهوم «الحياة» الذي قدمه كأمرٍ غير مُنجَز[38]. بكلامٍ آخر، يعزو هايدغر لدلتاي المحاولة الرائدة المهمّة لفهم خبرات الحياة من زاوية ترابطها وتطورها التاريخي. إلا أنَّ هايدغر يعتقد، بالتوازي مع ذلك، بأنه من السهل ملاحظة «مدى محدودية كل من إشكاليات دلتاي والمفاهيم التي استخدمها للتعبير في كلمات عن تلك الإشكاليات»[39]. إنَّ مقاربة دلتاي محدودة لأنها لا تسير أبعد من هدفٍ مُفترَضٍ نظرياً ألا وهو فهم طبيعة الكائن الحاضر هنا والآن (Dasein) دون أن تحقِّق هذا الفهم في الحقيقة. لا شك بأنَّ دلتاي نجح في جعل العلاقة بين الجزء والكل، وبين المُراقِب والمُراقَب، أساساً مؤكَّداً لمعرفة وجود وكينونة الواقع الحقيقي. بالرغم من ذلك، لا يأخذ دلتاي بعين الاعتبار، برأي هايدغر، مسألتين هامتين: أولاً، الطريقة التي يتم بها إدراك تلك العلاقة هي طريقة مُفترَضَة قبلياً من قبل المُراقِب ولا يتم اكتسابها بَعدياً (aposteriori). والأهم من هذا، ثانياً، أنَّ كينونة الشيء الذي يقوم بعملية البرهان على تلك العلاقة ويقدم الأدلة عليها لم يتم توضيحها بشكلٍ كافٍ[40].

في كتابه، الكينونة والزمان، يبدأ هايدغر من إيمان دلتاي بقاعديّة التحقيق والتقصي (investigating)، لا بل ويعبِّر من اللحظة الأولى عن توقعه لعلاقةٍ ملموسة، فعلية وضرورية بين الجانب النسبي الذي يكمن في «في داخلي» (in me) والجانب الكوني الذي يكمن في «خارجاً عني» (outside of me). إلا أنَّ هايدغر يُقرُّ بالحاجة إلى السير بادعاءات دلتاي خطوة راديكالية للأمام، مُلاحِظاً أنَّ منهجية افتراض العلاقة بين النسبي والكوني هي بحد ذاتها منهجية نسبوية ولم يتم تحديدها بشكل حاسمٍ بَعد. بكلماتٍ أخرى، يرى هايدغر في تشديد دلتاي على استحالة تجاوزِ أو عبورِ حدودِ «الحياة» كعلامةِ قوةٍ وكدليلِ ضعفٍ على حد سواء. فبرأي هايدغر، اقتراح مفهومٍ للواقع «قابلٍ للوصف ومُقَاومٍ لهذا الوصف في نفس الوقت» يدل على إقرار دلتاي الملائِم بالقيمة الأنطولوجية لمفهوم الواقع المعاش. إلا أنَّ إقرار دلتاي المذكور يحتاج، برأي هايدغر، كي ندمجه إبستمولوجياً بهرمينوطيقا أنطولوجيّة عن طبيعة هذا الواقع. هذا هو ما يعنيه اقتناع هايدغر بأنَّه، وعلى الرغم من تبيانه أنَّ إرادة المراقِب وما يواجه تلك الإرادة من خارجها يندمجان معاً، فإنَّ دلتاي لا يقول لنا «ما هو نوع الكينونة الذي ينتمي لهذا الاندماج؟ وأية علاقة كينونة يُنجب الوعي إلى الواقع في ذاته؟»[41] فإذاً، لا تكمن قيمة تهيئة دلتاي للأرضية اللازمة لتأمُّل تلك التساؤلات الأنطولوجية عن «الحياة» (حتى ودون أن يسير بنفسه على تلك الأرضية) في مفهوم «حياة» الذي يقدمه. برأي هايدغر، تلك القيمة التحضيريّة تكمُن في إشراك دلتاي لمفهوم «الموت» في فلسفته عن الحياة. يؤكد هايدغر بشكلٍ إيجابي بأنَّ فلسفة الحياة عند دلتاي «لم تفشل في لحظِ كيفية ارتباط الحياة بالموت»، بل إنَّ فلسفته تقبل تماماً أنَّ «اقتران وجودنا بالموت أمرٌ حاسمٌ دوماً لفهمنا ولتقييمنا للحياة»[42].

في عمله البحثي، يستعير فولفهارت باننبرغ بدوره انتباه دلتاي للتاريخانية ولهرمينوطيقا الحياة. وهو يتَّكل عليهما في الحديث عن كشف الله لذاته بصفته مساراً تاريخياً يقابل الكائن البشري موضوعياً من خارجه. بمساعدة التاريخانية وهرمينوطيقا الحياة، يطوِّر باننبرغ شكلاً من أشكال عمليات الفهم الإسكاتولوجيّة الأخرويّة (eschatological)، تجعل من الله معلوماً للإنسان دون تحويل العلاقة بينهما إلى رَحمِ نشوءٍ أنطولوجي أو مصدراً (arche) لكيان الله في ذاته. هرمينوطيقياً، يشتق باننبرغ من دلتاي اعتقاده بأنَّ المعضلة الكامنة بين مطلَب تجاوز النصوص الدينية للحصول على معانيها التاريخية، من جهة، وبين ضرورة بناء جسرٍ هرمينوطيقيٍ بين هذا المعنى التاريخي وزمان المُفسِّر الحاضر، من جهة أخرى، يمكن حلّها فقط حين ننظر لها من زاوية العلاقة بين الجزئي والكلي. تبعاً لهذا، فإنَّ «الحدثَ الذي نجده خلفَ النص»، يستنتج باننبرغ، «يمكن فهمه بشكل صحيح فقط ضمن حدود السياقات الكونية للأحداث وللمعاني ويمكن أن يتبرر فقط بطريقة عمومية»[43]. أيُّ انتباهٍ لأيِّ نصٍّ جزئي يتم عن طريق المضي خلف النص باتجاه الماضي الخاص الذي ينتمي النص المعني إليه يجب أن يتم تحقيقه من زاوية المجموع الكوني لأبعاد خصوصية وجزئية أخرى تكمن خلف عملية تفسير النص المذكور. وبالعكس، فإنَّ كلَّانية المعنى التاريخي للنص لا يمكنها أن تحلَّ محلَّ مُتطَلَّب ربط هذا المعنى بلحظةٍ محددة من ضمن تلك التاريخانيّة الكلّية، ألا وهي تلك اللحظة في الزمان الحاضر للمُفسِّر. هذا ما يعنيه اقتناع باننبرغ بأنَّ الفهم الكوني التاريخي «لا يمكنه أن يمثِّل الأحداث التي يسعى لتشكيلها حين تسير خلف حدود النص وكأنه شيءٌ كلي الماضوية. على الباحِث، خلافاً لهذا، أن يقاربَ تلك الأحداث ضمن سياق المعنى الذي تقدمه تلك الأحداث للمؤرِخ ولزمانه»[44].

التحدي الذي يواجه الفهم السابق، كما يعترف باننبرغ بنفسه، هو في كيفية المحافظة على التمايز (وليس الانفصال) بين الجزئي والكلي وبين الخاص والكوني دون تشتيت ودون نفي للهرمينوطيقا وللتاريخ في ذات الوقت[45]. للتعامل مع هذا التحدي، يلجأ باننبرغ لمقاربة دلتاي للهرمينوطيقا كعنصرٍ مُكوِّنٍ مركزيٍّ للعلوم الإنسانية، وهو يثمّن حقيقة أنَّ دلتاي لا يعير فقط انتباهاً لتاريخانيّة النص وتفسيره، بل وإنه يشدّد أيضاً بأنَّ إعادة تركيب المُفسِّر لمعنى النص ليس بعملية إعادة تركيب سيكولوجيّة فقط بماهيتها ولكنها أيضاً، وبشكل رئيس، عملية تركيبٍ تاريخية بالطبيعة. يعبّر دلتاي عن هذه القناعة بالطريقة التالية: «يكمن أول شروط العلوم التاريخية في حقيقة أنني أنا نفسي كائنٌ تاريخي وأنَّ ذاكَ الذي يتحرّى عن التاريخ يشبه تماماً ذاك الذي يصنعُ التاريخ»[46]. يلاحظ باننبرغ أنَّ دلتاي يقدِّم شكلاً مناسباً من أشكال الوحدة بين ماضي النص الخاص وبين حاضر المُفسِّر، وذلك من خلال افتراض تلك الوحدة من اللحظة الأولى للنشاط الهرمينوطيقي: ينطلق المـــُفسِّر التاريخي من العلاقة بين ماضي النص وحاضره، ولا يصل إلى تلك العلاقة ويحقق وجودها في نهاية المسار التفسيري. بالتأكيد على هذا، يضع دلتاي جنباً لجنب كلَّاً من الكلي والجزئي، مفترضاً، كما يشير باننبرغ، بأنَّ «الإنسان يبلغ معرفة إمكانية وجوده فقط من خلال استيعابٍ وفهمٍ للمكونات التي ينتجها بشرٌ في التاريخ»[47].

يلاحظ باننبرغ في فهم دلتاي للعلاقة بين ماضي النص وحاضر المُفسِّر منهجية ملائمة للإبقاء على التمايز الميتافيزيقي بين الجزء والكل وكذلك لكشف الطبيعة الشاملة للكلَّانية في قلب تاريخانيّتها. في موضعِ آخر، يشير باننبرغ إلى استعارته لهذه المنهجية من دلتاي بالقول:

من نظريةِ فيلهلم دلتاي الهرمينوطيقية، اشتققت أولاً مفهوم الكلَّاني وتموضعه وسموَّه ما فوق الأجزاء. الكلي يتفوق على الأجزاء؛ لأنه يحتوي مسبقاً على كل شيءٍ يمكن أن ندعوه أجزاءً له، وإن لم يكن هذا الأمر دائماً معلَناً[48].

بكلماتٍ أخرى، لدينا هنا تثمينٌ واضحٌ لتشديد دلتاي المبادئ على الوحدة الفعليّة بين سياق الحياة الخاص بالفرد وتاريخ الحياة في كلّيته؛ وذلك على قاعدة تجاوبٍ منطقي (بالنسبة إلى باننبرغ هو تجاوب ميتافيزيقي أيضاً) بين الجزء والكل. يضع دلتاي بشكلٍ صائب الفرد البشري في السياق الأوسع للكلّ المجتمعي، الأمر الذي يشير بدوره إلى الدلالات الكلّية التبدُّل للمكونات الفردية للحياة البشرية في سياق التاريخ[49]. بالرغم من هذا، يُفيدنا طرح باننبرغ الفكري اللاهوتي بشكلٍ عام أن هذا الأخير يفتَرق عن دلتاي فيما يتعلق بسؤال القاعدة التي يتم تأريض العلاقة بين الجزء والكل فيها، وما إذا كانت تلك القاعدة ميتافيزيقية أم لا. مبدئيَّاً، يعتقد باننبرغ أنَّ عليه تذكير دلتاي بأنَّ «الكلّي يظلُّ متَّكِلاً على أيِّ جزئي يمكن أن يتضمنه»[50]؛ تلك الحقيقة التي لا أعتقد أنَّ دلتاي كان غافلاً عنها أو ناسياً لها أو متجاهلاً لوجودها. مع ذلك، فإنَّ اختلاف باننبرغ المحوري والصحيح مع دلتاي يكمن في النقطتين التاليتين:

1- يتعلق عدم الاتفاق الأول بمسألة المحتوى. باننبرغ يختلف بشكل مُصيبٍ مع هرمينوطيقا دلتاي المركزي-بشرية (anthropocentric) لحقيقة الوجود. ويكشف باننبرغ عن عدم رضى منطقي تجاه تجاهل دلتاي لمفهوم «الله» وتجاه تبخيسهِ من موثوقية صلة هذا المفهوم بمهرمينوطيقا الوجود وبالتاريخانيّة. وفي اعتراضٍ على صمت دلتاي حيال قاعدية ومركزية مسألة الله فيما يتعلق بعملية الفهم في العلوم الإنسانية، يسأل باننبرغ ما يلي:

أليس صحيحاً أنَّ السؤال المتعلق بإمكانية الوجود البشري هو سؤالٌ يتم إحالته، بغية توضيحه، إلى سؤالٍ يتعلق بالعالم، يتعلق بالمجتمع، ولكن تتمُّ إحالته أيضاً، بغية توضيحه، لسؤالٍ يكمن خلف كل من العالم والمجتمع، أعني به سؤالاً يكمن في مسألة الله؟ أليس صحيحاً أنَّ الإنسان لا يمكنه أن يتوقع إجابةً عن السؤال المتعلق بها بمعزلٍ عن معرفة للعالم وللمجتمع وللتاريخ، ولكن أيضاً لله؟[51]

الأمر الأكثر جوهرية من المقبولية المنطقية للعلاقة بين الجزء والكل، إذاً، هو الأساس المُسبَق الذي يقوم عليه الفهم، وكذلك الادعاء القائل بوجود تلك العلاقة في الدرجة الأولى. هذا الأساس القَبلي بالنسبة إلى باننبرغ ليس مركزي- بشري بماهيته ولكنه ميتافيزيقي بامتيازٍ: هو ليس الوعي السيكولوجي الجوّاني للإنسان، ولكنه حقيقة الله في ذاتها. ما يلزم، باعتقاد باننبرغ، هو إدخال هذا الأساس القَبلي إلى حقل دراسة العلاقة بين خصوصية الخبرة الماضوية المشهود عنها وعمومية أفق التفسير البشري. الدمج المطلوب ليس من طبيعة فلسفية صِرفة فقط، بل هو من طبيعة لاهوتية وميتافيزيقية أيضاً، كما يؤكد باننبرغ. ولهذا، فهو يرى، في المحصلة، بأنّ هناكَ وعداً ميتافيزيقيَّاً ثميناً في تشديد دلتاي على التأثير الفاعِل لتساؤلِ المُفسِّر عن ادعاءات النصوص، أو عن السياقات الحياتية، من زاوية وجود المُفسِّر الإنساني. إلا أنِّ باننبرغ يعتقد أيضاً أنَّ هذا الوعد لا يمكنه أن يصبح واقعاً إلا حين نسمح، ونحن ندرس نصوصاً تحتوي ادعاءاتٍ لاهوتية، لتلك الادعاءات أن تتحدى بشكلٍ جادٍّ وجودَ المُفسِّر الحاضِر وأن تدعو هذا الأخير لاتخاذ موقف[52].

2- أما عدم الاتفاق الثاني، فيتعلق بمسألتَي الشكل والبُنيَة. يعتقد باننبرغ أنَّ منطق دلتاي يتضمّن نزاعاً داخلياً بين التحليل الذي يقدمه عن منطق الخبرة التاريخية، وبين قوله بحضور الحياة الحقيقي في وحدانيّة الحياة الكلّية في أية لحظة تاريخية مفردة مكوِّنة لتلك الكلَّانية[53]. لا يحاول دلتاي أن يشرح كيف يمكن توظيف ظهور كلّية الحياة، الذي لم يكتمل بعد في كل لحظة من لحظات العيش الجزئية بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ، في مسار المعرفة، وكيف يمكن إثبات وضوح هذا التوظيف؟ بدل أن يقدم لنا شرحاً لشَرعنَة هذه الإمكانية؟ يعتقد باننبرغ أن دلتاي يفترض حقائقيّة تلك الإمكانية وينطلق منها وكأنها حقيقة قَبليَّة. فيما يتعلق بالمنهجية، وضوح كلَّانية الحياة وتجلّيها في أجزاء الحياة لم تعد بعد الآن النتيجة أو الخلاصة التي ينتهي بها مسار المعرفة، وإنما هي الافتراض المُسبَق الذي يعتمد دلتاي عليه في منطقه الهرمينوطيقي. يعتقد باننبرغ أنَّ هذا يبيِّن تورُّط دلتاي، سواء اعترف هذا الأخير بذلك أم لا، في منطق تفكيرٍ وتحليلٍ ميتافيزيقي الشكل، بالرغم من نَبذه المبادئ للميتافيزيقيا. يذكّرنا باننبرغ بأنَّ دلتاي «اعتبر الميتافيزيقيا برمّتها تعبيراً عن مرحلة في مسار تطور الفكر البشري قام هذا الفكر بتجاوزها وتركها خلفه». إلا أنَّ تحليل دلتاي للفهم البشري، كما يتابع باننبرغ مؤكداً، كان سيظل مَحروماً من أيِّ سندٍ منطقي لو لم يفترض دلتاي، بأسلوبٍ لا يمكن إخفاء ميتافيزيقيته، أنَّ ذاتويانيَّة اختبار المرء للوجود التاريخي يمكنها أن تقدم لنا «حقيقة مافوق-ذاتوية عن الحياة»، وأنَّ تلك المافوق- ذاتوية تتمتع بمشروعيّة علاقاتيّة[54].

في ضوء هذا، يرى باننبرغ في فكر دلتاي إنكاراً مؤسِفاً لأيِّ أساسٍ ميتافيزيقي للمعرفة البشرية، والذي هو، في الواقع، إنكارٌ ينبهنا باننبرغ إلى أنه يقوم على منطقٍ تحليليٍّ ميتافيزيقي في شكله وتوجهه بشكلٍ لا مفر منه ولا يمكن لدلتاي أن يخفيه. ما يفعله باننبرغ بالنتيجة هو المتابعة من حيث انتهى به دلتاي في حديثه عن هرمينوطيقا الحياة المؤسَّسة على التاريخانيّة وفي تشديده على العلاقة التبادليّة بين الجزء والكل. وقد فعل باننبرغ ذلك بأن قام بربطِ هذا الحديث والتشديد مرة أخرى بأساسٍ ميتافيزيقيٍّ صريحٍ غير مواربٍ (باننبرغ آمن أن دلتاي نفسه يمهد ضمنياً له) يقوم على فكرة حقيقة الله واعتبارها أرضية (ground) كلَّانية الحياة. يناقش باننبرغ أنَّ حقيقة الله هي التي تجعل من حضور الكلّي في أجزائه المكوِّنَة له أمراً ممكناً. إنني أعتقد أننا إن نحينا جانباً بناء باننبرغ الصريح والمُعلَن لمسألة البحث عن معنى تاريخي كوني على قاعدة فكرة الله أو على قاعدة الميتافيزيقيا اللاهوتية، فإنَّ دلتاي سيتفق مع كيفية استخدام باننبرغ للعلاقة المبدئيَّة بين الجزئي والكوني. كما أنَّ باننبرغ بدوره سيتَّفق مع دلتاي وينطلق مثله من الاعتقاد أنَّ «الإنسان يستطيع أن يكتسب معرفةً عن أيِّ شيءٍ إنساني فقط من خلال التاريخ وبواسطته»[55]، قبل أن يؤوب تراجعياً (retrospectively) من هذه النقطة نحو الحقيقة المطلقة التي تمثّل قاعدة التاريخ في كلَّانيته، والتي هي حقيقة الله، بالنسبة لباننبرغ.

لا يضحّي باننبرغ بخيار حَلِّ شفرة تاريخ العالم لاهوتياً وميتافيزيقياً لمصلحة ما يصفه بــــ «أنطولوجية هرمينوطيقية أفقها اللغة»[56]، مع أنَّ باننبرغ يشدد في نفس الوقت على أنَّ اليقينيّات اللاهوتية يجب أن تتعرض للفحص والتمحيص على قاعدة ارتباطها باختبارات الحقيقة في كلَّانيتها وعلى امتداد التاريخ[57]. باننبرغ يعتقد بأنَّ التوافق بين التاريخ الكوني وفهم الحقيقة لاهوتياً أمر ممكن؛ لأنَّ:

1) الحديث عن الله والحديث عن الحقيقة في كلَّانيتها ليسا حديثين منفصلين أو متضادين؛

2) كما أنَّ سياق الحياة البشرية القابل للاختبار ما هو سوى تاريخ حكم الله الكلّي وتقريره للمصير الكامل للأشياء الواقعية المحدودة.

لذلك، فإنَّ مستقبل التاريخ البشري يمثّل، برأي باننبرغ، تلك اللحظة التي ينكشف الله فيها كلياً ويجعلنا نتلاقى معه بصفته قاعدة الحقيقة في كلَّانيتها[58]. يعزو باننبرغ لدلتاي بلا تحفظاتٍ تقديمَه للأساس المناسِب لجعل مثل هكذا توافق أمراً ممكناً معرفياً (بالرغم من أنَّ دلتاي شخصياً يعتقد أنه ليس من واجب الهرمينوطيقا الفلسفية والعلوم الإنسانية أن تستفيض حول الإرهاصات والمترتّبات الميتافيزيقية لمثل هكذا توافق). هذا الأساس، برأي باننبرغ، ما هو إلا قناعة دلتاي بأنَّ الكُلَّ وأجزاءه يفسِّران بعضهما البعض بشكل تبادلي، وأنَّ معاني المفرد والجزئي يتم تحديدها وتقريرها من زاوية الكل التاريخي[59]. يُقر باننبرغ على قاعدة هذا الاعتقاد بأنه «سيصبح عندها ممكناً أن ندرك حضور الكل... في قلب النسبية التاريخية اللامحدودة»، وأن نتجنّب بذلك طريق النسبوية المسدود[60].

يمضي باننبرغ أبعد من دلتاي في اعتقاده أنَّ أيَّ تأملٍ هرمينوطيقي وفلسفي متوازن ومتكامل إبستمولوجياً بموضوع معنى الحياة في كلانيتها التاريخية أمر غير ممكنٍ بمعزلٍ عن أخذ الافتراضات الدينية التي يتضمنها مسار التأمل المذكور جدياً بعين الاعتبار. تظهر الطبيعة الدينية للافتراضات الكامنة خلف التأمل الفلسفي من خلال حقيقة أنَّ ما يتم عادةً إدراكه في مسار التأمل المذكور «يسمح لنفسه بأن يصير متاحاً لا على أنه مجرد شيءٍ مستقبلي، بل بصورةٍ تكون فيها الذروة المستقبلية هي حقيقة كل ما هو حاضر وماضوي، أي إنه بحد ذاته شيء موجود في الحاضر»[61]. يجعل هذا من التأمل المعني، بالنسبة إلى باننبرغ، تأملاً ذا صفاتٍ ميتافيزيقية واضحة، فهو تأملٌ يستوعب (assimilates) الخطاب اللاهوتي عن المقدس والإلهي بصفته ذاك الذي «هو ما هو» من الأبد إلى الأزل، والذي، بالتالي، يحتضن في جنباته حضور المحدودات التاريخية بصفته الأرضية القصوى لحقائقيّة تلك المحدودات في كلَّانيتها من البدء وحتى نهاية الزمان. تولِّد تلك القناعة تأكيد باننبرغ على وثاقة صلة رسالة يسوع المسيح عن ملكوت الله المستقبلي بعملية تفسير تاريخ الحقيقة الكوني في كلَّانيته؛ فهو يعتقد أنَّ رسالة المسيح المذكورة وثيقة الصلة بالهرمينوطيقا الفلسفية؛ لأنَّ الله هو «ذروة العالم المستقبلية، والتي ستتمظهَرُ خلالها كلَّانية العالم وتاريخه»[62]. يمكن للمرء أن يناقش، في المحصلة، أنَّ فهم باننبرغ للانكشاف الإلهي، بصفته وسيط معرفة الله علاقاتياً في التاريخ، يردد صدى اعتقاد دلتاي أنَّ «على المرء أن ينتظر ختام التاريخ كي يحصل على كافة العناصر الضرورية لتقرير معاني هذا التاريخ»[63].

على الرغم مما سبق، لا يتبنى باننبرغ بشكلٍ حرفي قناعة دلتاي السابقة الذكر، وهو لا يستخدمها في محتواها الحرفي ذاك. ما يقوله دلتاي بالتحديد هو «على المرء أن ينتظر ختام الحياة، إذ فقط عند ساعة الموت يمكن للمرء أن يحيط بالصورة الكلية التي تثبت العلاقة بين الأجزاء». باننبرغ شخصياً ينتقد عملية تسليم زمام المعرفة للحظة الموت بالذات. انتقاده لإعطاء فكرة الموت موقعاً مركزياً لا يشرح لنا فقط اختلاف باننبرغ عن دلتاي، بل إنه يعكس لنا اختلافاً هاماً بين باننبرغ ومارتن هايدغر كذلك. يتبنى باننبرغ انتباه دلتاي لنهاية التاريخ باعتباره لحظة ذروة المعرفة الكاملة، ولكنه يتخلى عن اقتراح الأخير لمفهوم الموت واعتباره السياق المُعبِّر عن مثل تلك المعرفة. يفترق باننبرغ عن اعتقاد دلتاي أنَّ «الحياة هي ذاك الشيء الذي لا يمكن للفكر أن يمضي أبعد منه أو وراءه»؛ لأنَّ مثل هكذا اعتقاد يمثِّل على الأغلب لباننبرغ موقفاً سلبياً ضد أية «ميتافيزيقيا تبحث عن حقيقةٍ خلف، أو ما-وراء، المرئي»[64]. بدلاً عن تلك القناعة، يلجأ باننبرغ إلى انتباهٍ قاعدي لفكرة الله بصفتها الحقيقة التي تكمن في أساس حالة الحياة في وحدتها الكاملة.

يختلف مارتن هايدغر من جهته عن باننبرغ فيما يتعلق بهذه النقطة، فهو يركِّز على فكرة الموت أكثر من أية فكرةٍ أخرى نجدها في عبارة دلتاي المذكورة في الأعلى، وهو يقوم بتوظيف فكرة الموت تلك في عملية فهم ظَهورَة الانكشاف التاريخي للكائن الحاضر هنا والآن (Dasein). في مقالته، «الهرمينوطيقا والتاريخ الكوني»، يشير باننبرغ لهذا الاختلاف بينه وبين هايدغر ولظهور هذا الاختلاف في كتابات هايدغر. لا بل إنه يقول إنَّ هايدغر يسيء في الواقع تفسير ما أراد دلتاي أن يقوله من تلك الفكرة. يُقرُّ باننبرغ مبدئيَّاً أنَّ هايدغر يلتقط مبدأ دلتاي القائل بالتوافق الإبستمولوجي بين الجزئي والكلي ويثمنها عالياً، إلا أنَّ باننبرغ يلاحظ أنَّ هايدغر استعان بمفهوم «الموت» لتحويل حديث دلتاي عن العلاقة بين سياق الفرد الحياتي الخاص والسياق التاريخي العام في كلانيته إلى حديثٍ عن علاقة بين الوجود الجزئي في الحاضر والفهم الكامل للوجود في المستقبل، والذي يحدث اشتمالياً وجوانياً في قلب وعي الفرد بحد ذاته. بكلامٍ آخر، يحوِّل هايدغر معادلة دلتاي التفاعلية المتبادلة بين النسبوي والكوني إلى خطابٍ عن كونَنَة (universalization) النسبوية فقط؛ تلك النسبوية التي يتم إدراكها بواسطة تقابل الكائن الحاضر هنا والآن (Dasein) مع حقيقة الموت. يدرك باننبرغ بأنَّ ما يقود رؤية هايدغر هنا بشكلٍ خاص هو حديث دلتاي عن الاستيعاب التطوري للمعنى ضمن الإطار الضيق للحياة الخاصة للكائن المفرد فقط، متخلياً لبرهةٍ عن كلَّانية الحقيقة التاريخية للوجود بشكل عام. وباننبرغ يعتقد أنَّ تلك الرؤية الدلتاوية تبرر الاستنتاج أنَّ هايدغر أُخذَ كلياً بقول دلتاي: «على المرء أن ينتظر حتى انتهاء الحياة وحتى لحظة الموت كي يمسح الكل ويتثبت من العلاقة بين الكل والأجزاء. على المرء أن ينتظر حتى انتهاء التاريخ كي يحصل على، أو يحيط بــــ، كافة العناصر الضرورية لتقرير معنى هذا التاريخ»[65].

يعتقد باننبرغ أنه يمكننا في ضوء هذا أن نشرح بسهولة سبب عدم بدء هايدغر مرة أخرى من طرح سؤالٍ عن كلَّانية تاريخية تتجاوز الكائن البشري المفرد وسبب طرحه جانباً قناعة دلتاي الأخرى القائلة إنَّ «الكائن البشري الفرد يستلم المعنى المكوِّن لكلَّانيته فقط في العلاقة مع كلٍّ اشتمالي»[66]. في كتابه، اللاهوت وفلسفة العلم، يشرح باننبرغ سبب احتواء نصوص دلتاي لهاتين القناعتين المتناقضتين مَظهريّاً. فكتابات باننبرغ المبكرة تعطي انطباعاً بأنه اعتقد يوماً 1) أنَّ الفرد، أو الوحدة السيكولوجية-المادية المكونة للفرد، هي بالتعريف الموضوع المركزي للمعرفة وقاعدتها في العلوم الإنسانية، 2) وأنَّ «الحياة»، حتى في وحدتها الفطنة التي تجمع كافة الأفراد، «حقيقية فقط في الكائنات البشرية الفردية»[67]. بعد إدراكه لهذه الأسباب، يقدم باننبرغ قراءة لنصوص دلتاي اللاحقة. ينظر باننبرغ في آخر النصوص التي كتبها دلتاي، فيرى أنه يتجاوز حدود وجود الفرد ووحدته السيكولوجية-المادية ومن ثم يُقرُّ أنَّ الأفراد مجرد عناصر أو أجزاء في «فكرة كلَّانية الحياة التاريخية والاجتماعية». يدل هذا التحول، برأي باننبرغ، على تحوُّل دلتاي نفسه من دلتاي الفيلسوف السيكولوجي الشاب إلى دلتاي المحلِّل الهرمينوطيقي البالغ[68]. لا يحظى الانتباه لهذا التحول، برأي باننبرغ، بالموقع المركزي الذي يستحقه في قراءة مارتن هايدغر لنصوص فيلهلم دلتاي.

بالرغم من الاختلافات الجدية المذكورة في الأعلى بين طروحات باننبرغ وهايدغر، من جهة، وطروحات دلتاي، من جهة أخرى، يمكن للمرء أن يقول بشكلٍ مشروع إنَّ ما يسميه دلتاي «خبرة» و«تعبير» و«فهم» هو ما يتحدث عنه باننبرغ في مشروعه تحت تسمية «الكشف/الانكشاف بصفته تاريخ» ويتحدث عنه هايدغر في كتابه، الكينونة والزمان، بمفردات «تاريخ» و«كشف-ذات» و«ترَقُّب». يتحدث هايدغر عن عملية فهم الكائن الحاضر هنا والآن لما كانت الكينونة عليه في الماضي وماهي عليه في الحاضر وما يمكن أن تصير عليه في المستقبل من خلال التلاقي التاريخي للكائن الحاضر هنا والآن (Dasein) مع حقيقة الحياة، أو حتى مع حقيقة نهاية الحياة (الموت). أما باننبرغ، فيتحدث عن الفهم البشري للماضي والحاضر والمستقبل من خلال التلاقي التاريخي للإنسان مع حقيقة الله. بتشديدهما على نمط المعرفة العلاقاتي الذي يقدِّم تفاعلاً تاريخياً تبادلياً بين الذات الجوّانية والحياة البرّانية، يعكس كل من باننبرغ وهايدغر انتقاداً حاداً لاستغلال العلوم الحديثة للادعاءات الميتافيزيقية في خدمة دعم السعي الحماسي للهيمنة على المواضيع المدروسة بواسطة منهجية فهم عقلية تقوم على إقصاء ورفض التفاعل التبادلي بين الذاتي والموضوعي. بالرغم من أنَّ فهم باننبرغ للفكرة المركزية في الميتافيزيقية الإغريقية العتيقة يختلف عن كيفية فهم هايدغر لتلك الميتافيزيقيا، إلا أن كليهما يكشف اتفاقاً مبدئيَّاً مع اعتقاد هانز-جورج غادامر أنَّ الميتافيزيقيا الإغريقية تعتبر «الحوار جوهر المعرفة وليس عملية الهيمنة على الموضوعيات، والتي يتم فهمها على أنها تنتج عن ذاتويَّة ذات سيادة؛ تلك الهيمنة التي تشكل نصر العلوم الحديثة الذي قاد، بمعنى محدّد، إلى نهاية الميتافيزيقيا»[69]. وبالتالي، فإنَّ كلَّاً من اللاهوتي والفيلسوف يحاولان أن يكفّرا عن الميتافيزيقيا ويبررانها بمساعدة مفاهيم استعاراها من فيلهلم دلتاي. وإذا كان الفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع الشهير، والمعاصر لدلتاي، ماكس فيبر (Max Weber)، قد قال بأنَّ كل السبل المؤدية إلى عقلنة الدراسات الدينية يجب أن تمر عبر تحرير فهم الأديان للعالم (أو للحياة بمفردات دلتاي) من كافة المفاهيم الميتافيزيقية السحرية (بالألمانية Entzauberung، وبالإنجليزية Disenchantment)، فإنَّ كلَّاً من هايدغر وباننبرغ على حد سواء يحاول، في الواقع، أن يحرِّر الفكر الديني والإنساني عموماً من السحر، ولكن ليس عبر التخلص من الميتافيزيقا، وإنما عبر تَرخَنَة (historizing) المفاهيم الميتافيزيقية وهَرمَنَتها (hermeneuticizing).

يهدف هايدغر وباننبرغ، كلٌّ من وجهة نظره الخاصة، إذن، للدفاع عن أهمية دور الميتافيزيقيا في العلوم الإنسانية ويحققان ذلك بمساعدة فهم دلتاي للطبيعة الهرمينوطيقية لعمليتي المعرفة والفهم في تلك العلوم. يحقق هايدغر هذا الغرض من خلال اقتراح مفهوم «الكائن» (Being) كمفهوم مفتاحي في عملية فهم الحقيقة في كلَّانيتها. في حين أنَّ باننبرغ يحقق هذا من خلال اقتراح «الله» كمفهومٍ قاعدي في مسار الفهم المذكور. كل من الباحثَينِ يتحدث عن علاقة مفهومه المُقترَح بحقيقة التاريخ بلغةٍ تذكرنا بتوصيف دلتاي لعملية المعرفة في قلب التاريخ بأنها مسار «دائري، انعكاسي وهرمنيوطيقي» (circular, reflexive and hermeneutical)[70]. علينا القول هنا إنَّ فهم دلتاي المذكور يتبدى بشكلٍ أوضح في فهم هايدغر للإنسان، وهو لا ينطبق كلياً على فكر باننبرغ. فباننبرغ لا يتبنى انتباه دلتاي للتقدم التاريخي واعتباره ظَهورَة «اللهاث نحو هدفٍ ما» أو تعبيراً عن شكلٍ علاقاتي من أشكال التلاقي التاريخي. مع ذلك، وكما سيتوضح من تحليلي لفكره فيما يتبع، ما انفك باننبرغ يجد مساحةً ملحوظةً في سياق خطابه عن لاهوت التاريخ لفكرة «السير قـــُدُماً نحو هدفٍ يتم تقريره من خارج التاريخ بحد ذاته»، وما انفك يحتضن هرمينوطيقا للتاريخ تتأسَّسُ بشكلٍ أكثر أهمية على فكرة الانكشاف الأخروي (الإسكاتولوجي) لحقيقة الله في كلَّانيتها (والتي يستوحيها من حديث دلتاي عن انكشاف حقيقة الحياة في كلَّانيتها التاريخية). هل يجعل هذا من باننبرغ باحثاً ينتمي للمدرسة التتريخائية (historicism)؟ يستحق هذا السؤال انتباهاً خاصاً ودراسة كاملة قائمة في ذاتها غير هذه الدراسة. النقطة المتعلقة بدراستي هذه هي أنَّ باننبرغ يقوم بتطوير اهتمامه بالقاعدية الأبستمولوجية لعملية المعرفة في سياق التاريخ من زاوية انتباهه الشديد للعلاقة بين فكرة الحقيقة في كلَّانيتها وبين الجزئيات والخصوصيات التاريخية.

أمرٌ أخيرٌ أود الإشارة إليه في ما يتعلق بفكر فيلهلم دلتاي هو أنه من النادر أن نلحظ في الفكر المذكور أيَّ استعمالٍ لمفهوم «الترقُّب» (anticipation)، والذي يحضر باستمرار في سلَّتَي مفردات ومصطلحات كل من هايدغر وباننبرغ على حد سواء. إلا أنَّ المفهوم الأقرب في معناه لمفهوم «ترقُّب»، الذي أمكنني أن أكتشفه في سلة مفردات ومصطلحات دلتاي، هو مصطلح «تطوُّر» (development). يستخدم دلتاي مصطلح «تطوُّر» بمعناه الضعيف وليس القوي، إذ لا يعني به «تقدماً» (progress) بالمعنى التاريخاني للكلمة، وإنما يعني به، كما يلاحظ ثيودور بلانتينغا (Theodore Plantinga)، «أنَّ الحاضر ممتلئٌ بالماضي ويحمل المستقبل في طياته»[71]. تشبه فكرة حملِ بذور المستقبل المجهول في تربة الحاضر المعلوم في معناها ودلالاتها ما يقوله هايدغر وباننبرغ حين يتحدثان عن مفهوم «التــرقُّب»، والذي يقصدان به أنَّ انكشاف الذات الحاضر يترقَّبُ المستقبل بصفته تحقُّقاً (actualization) لمعرفة الحقيقة في كلَّانيتها. وباننبرغ، بالتحديد، لا يعتبر الخبرات الإنسانية التاريخية خبرات تقدمية أبستمولوجياً بالدرجة الأولى، وإنما خبرات ذات طبيعة ارتجاعية بالجوهر (retrospective). في تلك الخبرات، لا يصل الإنسان إلى معرفة انكشاف الحقيقة من خلال عملية استذكارٍ أو إعادة استحضارٍ للماضي في قلب الحاضر، وإنما يفهم الإنسان التلاقي مع الحقيقة في الحاضر من زاوية نقطةٍ مُرتقَبَة تكمن في المستقبل الذي لم يكتمل بعد. تصبح تلك النقطة المرتقـــَبَة متاحةً للإنسان العارِف بواسطة قيامه بعملية تفسير ارتجاعية (retsrospective) تعود للماضي وتفسره بطريقة الخطف خلفاً في ضوء الحاضر المتبدِّل والدائم التبدُّل.

يلعب «الترقُّب» بالنسبة إلى باننبرغ نفس الدور الذي يلعبه «التطور» بالنسبة إلى دلتاي، حيث إنَّ المفهوم الأول مثل المفهوم الثاني يدلَّان على حالة السعي نحو كلَّانية مستقبلية مجهولة. مع ذلك، وفي الوقت الذي يرفض فيه دلتاي أن يلاحظ أيةَ علاقةٍ مُجديَةٍ بين الكلَّانية المستقبلية وأيِّ شكلٍ من أشكال القيادة الماورائية أو الحضور الماورائي للتاريخ، فإنَّ باننبرغ يمنح هذا السعي بالذات نحو الكلَّانية المستقبلية للحقيقة مكانة مركزيّة وتحكميَّة ويعتبرها إطاراً لاهوتيَّاً-إسكاتولوجيَّاً ناظماً، وهو بهذا يزاوج ما بين فكرة التطور التاريخي، من جهة، والفهم الميتافيزيقي لمسارِ عمالةٍ إلهية تختلف عن العمالة البشرية، وإن لم تكن تحل محلها، من جهة أخرى. أحد أهم الشروحات لهذا التزويج في فكر باننبرغ يظهر في إيمانه بالشرعية المعرفية للميتافيزيقيا، وخاصة ميتافيزيقيا فكرة الله، وأهميتها للمعرفة، وكذلك تأكيده على الصلة الوثيقة لفكرة المصدر الإلهي (arche) بالعلوم الإنسانية، أو على الأقل بالفلسفة. لا شكَّ بأنَّ قناعة باننبرغ حول هذه المسألة تعاكس قناعة دلتاي، والتي، كما يلاحظ بلانتينغا، «تمثل إظهاراً لمقاربة [دلتاي] الحازمة الاختبارية (empirical) للعلوم، والتي تطرد الفكر الميتافيزيقي ولا تسمح بأيِّ التماسٍ وتوقٍ للكائناتِ الماورائيَّة أو لتأثيرها» في سياق المعرفة بأيِّ شكلٍ من الأشكال[72].

من المثير للانتباه هنا أنَّ هايدغر يتبنى طرحاً معاكساً، فهو يوظِّف بشكلٍ إيجابي رفض دلتاي للميتافيزيقيا في مشروعه الفلسفي بغرضِ تبيانِ قاعدية فكرة الكائن والكينونة. من الواضح في كتاباته وقوف هايدغر إلى جانب باننبرغ في اعترافه بأهمية بحث دلتاي عن تطوير ميتافيزيقيا مُعدَّلة ومعادة الهيكَلَة (reconstructed) (حتى وإن لم يكن هذا غرض دلتاي الصريح والواعي). مع ذلك، فإنَّ هايدغر يبدي استعداداً لتأييد باننبرغ هنا، فقط وحصرياً، على قاعدة التشديد على مفهوم «الكائن» وفي خدمته، وليس على قاعدة اشتراكه مع باننبرغ في تشديد الأخير على فكر الله. يفسِّر هذا لنا الاختلاف والتمايز بين تقدير وتثمين المفكِريَن، اللاهوتي والفيلسوف، لمشروع دلتاي الفكري، ويبين لنا سبب اختلاف تقديريهما لانتقاد دلتاي للميتافيزيقيا وموضوعها الناظم.

[1] - Dilthey, Selected Writings, Vol. 7, pp. 130-166, في Rickman, W. Dilthey, Selected Writings, pp. 177-207

[2] - نفسه، 7.1 (ص. 177).

[3] - نفسه، 7.1 (ص. 178).

[4] - نفسه، 7.2 (ص. 179). يتابع دلتاي قائلاً «إنَّ يقينيّة تلك المعرفة الشائعة عن الحياة لهي أعظم من الفَرديّات، ففي المعرفة الشائعة، تُلغي وجهات النظر الفردية بعضها البعض ويصبح عدد الحالات التي يتأسَّس عليها الاستدلال كبيراً. من ناحية أخرى، نعرف مصدر المعرفة الشائعة بشكلٍ أقل من قدرتنا على معرفة مصدر المعارف الفردية».

[5] - نفسه، 7.4 (ص. 180-181).

[6] - نفسه، ص. 7.5 (ص. 181).

[7] - Dilthey, ``The Prudence through Which the Mind-Structured World is Given,'' in Selected Writings, Vol. 7, pp. 130-166, في Rickman, W. Dilthey, Selected Writings, pp. 177-207, 2 (p. 186).

[8] - نفسه، 7.2 (ص. 188).

[9] - نفسه، 7.3 (ص. 190).

[10] - H.P. Rickman (ed.), Meaning in History: W. Dilthey's Thoughts on History and Society, (London: George Allen & Unwin LTD. 1961), p. 160.

[11] - Dilthey, Selected Writings, Vol. ?. II, pp. 172-173.

[12] - Dilthey, ``Historical Knowledge,'' in Selected Writings, Vol. 7, pp. 130-166

[13] - Makkreel, Dilthey, Philosopher of the Human Studies, p. 54

[14] - المصدر نفسه، ص. 55

[15] - نفسه، ص. 312 (ص. 306-314)

[16] - نفسه، ص. 53

[17] - يلاحظ ماكرييل بشكل خاص مقطعاً في نصوص دلتاي، حيث يقول الأخير بشكل صريح إنه يرفض كانط. ويشدد ماكرييل بأنَّ انتقاد دلتاي للتفكير التتريخائي يتناسب مع الفكر التقليدي لمدرسة جماليات التاريخ (aesthetic of history) والتي أسسها كانط نفسه. يعتقد ماكرييل أنَّ التقارب بين دلتاي وكانط فيما يتعلق بجماليات التاريخ يمكن اكتشافه من خلال الدراسة الدقيقة والممحِّصَة لكتاب كانط، نقد للعقل المحض. وهو يدّعي أن ذاك التقارب لم تتم ملاحظته، بل تم تهميشه، لأنَّ الباحثين ركزوا بصورة أحاديّة على كتابَي كانط النقديين الأولين وتركوا كتابه النقدي الثالث حول العقل المحض دون أن يلمسوه: Makkreel, Dilthey: Philosopher of Human Studies, pp. 21-22 (pp. 17-25).. حول العلاقة بين دلتاي وكانط، انظر: Bambach, Heidegger, Dilthey and the Crisis of Historicism, pp. 142-160 ff. ولا واحدٌ من الباحثَين اللذين يدعمان التقارب بين كانط ودلتاي سيُقرُّ، مع ذلك، بوجود تشابهٍ بينهما فيما يتعلق بفهم الزمن/التاريخ. وحتماً فإنهما لن يقترحا أن دلتاي تبنّى فهم كانط للزمن.

[18] - يعتقد شارلز بامباخ أنَّ دلتاي يتبع في موقفه هذا الفلاسفة الألمان التتريخيون، مثل رانكه ودرويسن وسافيني، والذين انتقدوا، كلاً بدوره، الأبعاد الميتافيزيقية في فلسفة الروح عند هيغل: Bambach, Heidegger, Dilthey and the Crisis of Historicism, p. 136 ff. حول علاقة دلتاي بالمدرسة التتريخائية، انظر أيضاً: Elisabeth Paczkowska-Lagowska, ``The Humanities in Search of Philosophy: Wilhelm Dilthey and Historical School,'' in Reports on Philosophy, 6 (1982), pp. 1-16.

[19] - Bambach, Heidegger, Dilthey and the Crisis of Historicism, p. 137. هناك فلاسفة، من ضمنهم بامباخ نفسه، يناقشون بأنَّ موقف دلتاي المناهض للميتافيزيقيا يعبِّر عن فكرٍ إيجابي بطبيعته. حول هذه الإيجابية، انظر، على سبيل المثال: Jürgen Habermas, Knowledge and Human Interests, Jeremy J. Shapiro (trans.), (London: Heineman Educational, 1978).

[20] - Owensby, Dilthey and the Narrative of History, p. 159 (pp. 159-171).

[21] - نفسه، ص. 160، 167

[22] - Bambach, Heidegger, Dilthey and the Crisis of Historicism, p. 140.

[23] - Dilthey, Selected Writings, Vol. 5, وكذلك Bambach, Heidegger, Dilthey and the Crisis of Historicism, p. 163

[24] - Bambach, Heidegger, Dilthey and the Crisis of Historicism, p. 168

[25] - يعتقد ثيودور كيزل بأنَّ دلتاي لا يشمل «كشف» ضمن حزمة مفرداته المفتاحية. واحدة من المعالم الدالة على غياب تلك المفردة، برأي كيزل، هي أنَّ دلتاي لا يسأل «كيف تكشف الحياة (تظهر) ذاتها؟»، بل يسأل عوضاً عن ذلك «كيف تقدم الحياة ذاتها بشكلٍ وضعي موضوعي؟»: Theodore Kisiel, Heidegger's Way of Thought: Critical and Interpretative Signposts, (New York & London: Continuum, 2002), p. 93.

[26] - Dilthey, Selected Writings, Vol. 7.I.4، وكذلك Rickman, W. Dilthey, Selected Writings, p. 176.

[27] - Heidegger, Being and Time, II.5, p. 450 (PG. 398).

[28] - المصدر نفسه، 5.II، ص. 450 (ص. 398 بالترجمة الإنكليزية).

[29] - Istev?n M. Fehér, ``Phenomenology, Hermeneutics, Lebensphilosphie: Heidegger's Confrontation with Husserl, Dilthey and Jaspers,'' in Reading Heidegger from the Start: Essays in His Earliest Thought, Theodore Kisiel and John Van Buren (eds.,), (Albany: State University of New York Press, 1994), pp. 73-90, p. 73

[30] - المصدر نفسه، ص. 87

[31] - نفسه، ص. 88. يشير فيهير هنا إلى أنَّ هايدغر انتقد اعتماد فلسفة الحياة على فهمٍ للعقلانية مستعارٍ من فكرٍ مضاد، بدل تطويرها لمفهومٍ من عندياتها عن العقلانية؛ أي مفهومٍ يتناسق مع موضوعها الأساس ويعكسه.

[32] - Theodore Kisiel, Heidegger's Way of Thought: Critical and Interpretative Signposts, pp. 12-13

[33] - نفسه، ص. 27

[34] - نفسه، ص. 92

[35] - نفسه، ص. 93

[36] - David Couzens Hoy, ``Heidegger and the Hermeneutic Turn,'' in The Cambridge Companion to Heidegger, Charles B. Guignon (ed.,), (Cambridge; Cambridge University Press, 1998), pp. 170-194, p. 172

[37] - نفسه، ص. 176

[38] - Heidegger, Being and Time, I.1, nt. Ii, p. 73 (PG. 47). «بالرغم من إدراك دلتاي للمشاكل التي تتعلق بالطريق الذي عبّده ورؤيته للاتجاهات التي ينبغي على عمله أن يأخذها كي يكتمل، إلا أنه فشل مع ذلك في تحقيق اختراقٍ لأية مشكلة من تلك المشاكل الحاسمة أو في الوصول لأية حلٍّ لتلك الجوانب التي كانت صحيحة منهجياً».

[39] - المصدر نفسه، 1.I، ص. 73 (ص. 47).

[40] - نفسه، I6، ص. 249 (ص. 205)

[41] - نفسه، I6، ص. 253 (ص. 209)

[42] - نفسه، II1، هامش vi، ص. 293 (ص. 249).

[43] - Pannenberg, ``Hermeneutic and Universal History,'' Paul J. Achtmeier (trans.s), in History and Hermeneutics, R.W. Funk (ed.,), (Tübingen: J.C. B. Mohr (Paul Siebeck)/ New York: harper & Row Publishers, INC. 1967), pp. 122-152, p. 124 (PG. 92)

[44] - المصدر نفسه، ص. 125 (ص. 93 بالنسخة الإنكليزية).

[45] - نفسه، ص. 126 (ص. 94)

[46] - نفسه، ص. 129 (ص. 98). باننبرغ هنا يستشهد بأفكار من: Dilthey, Selected Writings, Vol. 7, p. 278

[47] - نفسه، ص. 131 (ص. 100).

[48] - Pannenberg, ``Theological Appropriation of Scientific Understanding: Response to Hefner, Wicken, Eaves and Tipler,'' in Beginning with the End: God, Science and Wolfhart Pannenberg, C.R. Albright & J. Haugen (eds.,), (Chicago & La Salle, Ill: Open Court, 1997), pp. 427-443, p. 429

[49] - Pannenberg, Theology and the Philosophy of Science, Francis McDonagh (trans.,), (Philadelphia: Westminster Press, 1976), pp. 77-78

[50] - المصدر نفسه، ص. 429

[51] - Pannenberg, ``Hermeneutic and Universal History,'' p. 132 (PG. 101).

[52] - نفسه، ص. 134 (ص. 102-103). يعتقد باننبرغ أن هناك فرقاً كبيراً يكمن في هذا بين رودلف بولتمان (Rudolf Bultmann) ودلتاي فيما يتعلق برؤاهما المركزي-بشرية. باننبرغ شخصياً يأخذ التفاعل التبادلي (correlation) خطوة للأمام بالقول إنَّ اللجوء إلى تساؤلٍ باتجاهين وحده الكفيل بجعل هرمنيوطيقا الخاص جزءاً من معنى الحقيقة الكلي التاريخي العام (ص. 134 (ص. 103)).

[53] - Pannenberg, Theology and the Philosophy of Science, p. 79

[54] - نفسه، ص. 79

[55] - Pannenberg, ``Hermeneutic and Universal History,'' p. 137 (PG. 106). في مكانٍ آخر، يقول باننبرغ أنه يتبنى هذا الاعتقاد لأنه يسلط الأضواء على حقيقة أنَّ «كافة الشهادات والتفسيرات التاريخية تتمتع بمقارباتها الخاصة وهي نسبية بطبيعتها»: Pannenberg, Systematic Theology, G. W. Bromiley (trans.,), (Grand Rapids: W.B. Eerdmans Publishing Company/ Edinburgh: T&T Clark, 1998), Vol. 3, p. 155.

[56] - Pannenberg, ``Hermeneutic and Universal History,'' p. 150 (PG. 120).

[57] - Pannenberg, ``On Historical and Theological Hermeneutics,'' in Basic Questions in Theology, (London: SCM Press, ltd. 1970), Vol. 1, pp. 137-181, p. 141.

[58] - نفسه، ص ص. 156-157

[59] - نفسه، ص. 162

[60] - نفسه، ص. 171

[61] - نفسه، ص. 175

[62] - نفسه، ص. 176.

[63] - Dilthey, ``the Categories of life,'' in Selected Writings, Vol. 7, pp. 228-245، وكذلك Rickman, W. Dilthey, Selected Writings, pp. 231-245, p. 236.

[64] - Theodore Kisiel, Heidegger's Way of Thought, p. 91.

[65] - Pannenberg, ``On Historical and Theological Hermeneutic,'' p. 163، مستشهداً من Dilthey, Selected Writings, Vol. 7, p. 233.

[66] - Pannenberg, ``On Historical and Theological hermeneutic,'' p. 164. مع ذلك، يعترف باننبرغ بتعديل إيجابي لفكر دلتاي في رؤية هايدغر عن الإنسان الذي يتوصل إلى فهمٍ للمعنى الكلي لحياته الفردية في المستقبل: «لقد حرر تركيز هايدغر على المستقبل، في الواقع، الخلاصة الموثوقة لتحليل دلتاي للتاريخانية من مطبات الفهم التتريخاني للتاريخ بصفته إدعاءً يتعلق بتأثيرات تنبع عن قوى» (ص. 166). مع ذلك، لم يلبث باننبرغ يعترض على إشراك هايدغر للمستقبلية بتوقع الموت (ص. 167 ومابعدها).

[67] - Pannenberg, Theology and the Philosophy of Science, p. 75.

[68] - نفسه، ص. 77. «الوحدة المجردة للسيكولوجيا العامة»، يقول باننبرغ، «تم استبداله الآن بوحدة فعلية للبشرية في تاريخها، بوحدة للسياق التاريخي والاجتماعي الذي يشكل الفرد جزءاً ضرورياً منه».

[69] - Gadamer, The Beginning of Philosophy, pp. 69-70. من أشهر محاولات إنهاء دور الميتافيزيقيا في العلوم الإنسانية والدراسات الدينية على حد سواء في العالم الأكاديمي الألماني في القرن العشرين محاولة الفيلسوف وعالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر.

[70] - Bambach, Heidegger, Dilthey and the Crisis of Historicism, p. 167, ft. 122

[71] - Plantinga, Historical Understanding in the Thought of Wilhelm Dilthey, p. 127

[72] - نفسه، ص. 127-128