قانون الندرة الوجودية والنماذج العليا للإنسان

فئة :  مقالات

قانون الندرة الوجودية والنماذج العليا للإنسان

قانون الندرة الوجودية والنماذج العليا للإنسان

لو أردنا إعادة تعريف الميتافيزيقيا، خلافًا لما ذهب إليه التعريف الكلاسيكي المتعارف عليه فلسفيًّا، على أنها دراسة الظواهر الغيبية أو ما وراء الظواهر والأشياء (جوهر الشيء والشيء في ذاته)، مترافقًا مع أسئلتها الوجودية الكبرى عن سبب وجود العالم وأصله، وعن موقع الإنسان وغايته فيه، ألا ننشئ هنا نظامًا عقليًّا لفهم العالم من قوى تفوق العقل والإنسان. ألا ننشىء قوى ميتافيزيقية تكون بمثابة نماذج عليا لتأسيس الوجود ومرجعيات شاملة ومركزية للحياة. وعليه، ألا يمكن للميتافيزيقيا أن تكون نظمًا عقلية ومركزيات مقدسة غادرت عوالمها العلوية إلى العوالم الأرضية، لكنها لم تغادر وظيفتها أو جوهرها في إعادة بلورتها لفهم العالم وموقع الإنسان فيه؟ ألا يمكننا القول إذن إن الإنسان لم يغادر الميتافيزيقيا وما زال حتى اليوم يخلق نماذج عليا تعلو على العالم المجرد لتطويعه وإخضاعه لصالح الإنسان؟ ألا يمكن أن تكون الميتافيزيقيا هي بنية تركيبية في أعماق الإنسان تحدد علاقته مع العالم والظواهر، وتهيء له أرضية خصبة للحماية والأمان، والقدرة المستمرة على توليد نماذج عليا في كل مرحلة زمنية عبر التاريخ؟

إذن فما هي النماذج العليا، وكيف يمكننا إعادة تعريف الميتافيزيقيا والمقدس؟

كان أفلاطون هو أول من قدم صياغة فلسفية منهجية، لما سأسميه بالنماذج العليا عند الإنسان عبر نظريته في عالم المثل، فكل الأشياء عند أفلاطون في عالمنا المحسوس هي مجرد انعكاسات أو ظلال لتلك المثل الخالدة: الخير، الجمال، العدالة، والموجودات برمتها.

هكذا نقل أفلاطون الحاجة الميتافيزيقية عند الإنسان من مستوى الأسطورة والدين، إلى مستوى فلسفي منظم، بعدما بلور فكرة البنية الميتافيزيقية للعقل الإنساني بوضوح.

إن البنية الميتافيزيقية هي ميل الإنسان في صميم جوهره وتكوينه إلى نزعة تتجاوز الظاهري والجزئي نحو المطلق، إلى عالم من المعنى وراء الظواهر، وتجسيد للمثل كصيغة نهائية وشاملة للوجود المادي والمتغير.

بهذا المعنى، تصبح البنية الميتافيزيقية هي حاجة أنطولوجية إلى المطلق؛ أي إطار أعلى يفسر وجود الفرد ويوجه أفعاله.

أما النماذج العليا، فهي الصور المثالية أو القيم المطلقة التي يسعى إليها الإنسان، والنابعة من أعماق تكوينه الميتافيزيقي، والتي تبدأ بمفاهيم مجردة إلى وقائع عملية تهندس حياة الأفراد والجماعات، وتتحكم في الرغبات ومسارات التفكير، أو تتبنى أنساقًا خطابية تكون بمثابة لاهوت أرضي يعد الإنسان بالمثالية والكمال في عصرنا الحديث.

إن النماذج العليا ليست مثلاً منفصلة في عالم مفارق كما عند أفلاطون، ولا عالمًا غيبيًّا ما ورائيًّا مستقلًّا كما في الأديان والأساطير. إنها حاجة أنطولوجية لها قواعدها وجذورها في التاريخ البشري، حاجة أنطولوجية متجددة يعيشها الإنسان في كل عصر، لكن تتبدل أشكالها ومقدساتها عبر التاريخ.

ومن هنا تصبح النماذج العليا آليات فوق معرفية تضبط إنتاج المعنى والشرعية في كل زمن، وإن كانت نشأة النماذج العليا كأشكال مفارقة ومثل ثابتة تسعى نحو مطلق مستقل بذاته، فإنها في عصرنا الحديث تصبح قواعد لتشغيل المطلق تتبدل حواملها من حوامل غيبية مفارقة إلى حوامل أرضية بشرية (إله، عقل، دولة، سوق، خوارزميات وحضارة رقمية)، وتبقى وظيفتها إحكام التناسق الوجودي بين ما نعرفه وما نريده وما نخشاه.

ويمكننا أن نقسم النماذج العليا إلى خمسة أنواع في تاريخ البشرية؛ ثلاثة منها يرتبط ارتباطا ًوثيقا ًبالبنية الميتافيزيقية المباشرة، وهي عبارة عن نماذج تسعى إلى المثالية والكمال في القوى المفارقة عن عالمنا، أو المطلقات المستقلة بذاتها. والحاجة إلى هذه القوى نشأت من تطور الوعي الإنساني ونمو الذكاء وارتباطه ارتباطاً وثيقاً بغريزة الخوف البدائية، فتبلورت حاجة الإنسان الوحيد المقذوف في العراء إلى الحماية من نموذج أعلى خارق ومنفصل عن عالمنا. وهنا نشأت أولى طقوس العبادات المتمثلة في الصلوات والأناشيد وتقديم القرابين، والكتابة، والرسوم المنقوشة على جدران الكهوف والمعابد. وتتلخص في ثلاث مراحل:

أولًا: الإنسان البدائي وعبادة قوى تفوق قدرته وتتمثل أمامه بشكل مباشر، كالشمس والقمر والنجوم. وبشكل غير مباشر، متمثلة في الظواهر الطبيعية، كالرعد والبرق، والكوارث الطبيعية.

ثانيًا: الآلهة والأساطير في إنسان الحضارات الأولى، وهنا أصبحت القوى المفارقة المتمثلة بالآلهة عبارة عن علة أولى للكون والإنسان وكل الظواهر الطبيعية، وأصبح الإنسان في علاقة مع هذه الآلهة التي أصبحت تتدخل في العالم الأرضي.

ثالثًا: الإنسان في الأديان التوحيدية، حيث اختزلت القوى المفارقة إلى إله واحد مستقل وغيبي وغير مدرك للحواس، وهو علة كل ما هو موجود، ومن ضمنها خلق الإنسان، وقصة آدم وحواء بوصفهما أول بشريين على هذه الأرض. من هنا بدأ النموذج الأعلى المفارق يأخذ طابعًا بشريًّا عندما صار ينظم حياة الإنسان ويجيب عن تساؤلاته الوجودية، والغاية من وجوده بوصفه كائنًا ماهويًّا ذا رسالة على هذه الأرض. وعليه أصبحت الأديان التوحيدية عبارة عن لاهوت كوني وأخلاقي.

أما النموذجان الأخيران، فيتمثلان في تجليات العقل الإنساني على هذه الأرض، بعد تطور العلم والمعرفة، والتكنولوجيا، واستبدال الإنسان بالآلة، حيث حلت محل الدين والآلهة والأساطير مفاهيم بشرية استبدلت القداسة والمطلق بقداسات أرضية، ومرجعيات إنسانية شمولية، تعد الإنسان بالأمان والراحة، وتحقق له فردوسه الموعود في هذا العالم.

ويمكننا تقسيمها إلى قسمين:

أولاً: الحداثة وقد استبدلت مقدس الإله والدين بالعقل، والحرية، والعلم، والدولة، والأيديولوجيات، والهوية.

ثانياً: في زمن العولمة، وقد تجسدت هذه الحاجة في قوة السوق والسلع الترفيهية والتكنولوجيا، والحضارة الرقمية.

إذن، فالإنسان يصنع نماذج عليا باستمرار عبر التاريخ، فكل عصر يخلق لنفسه نماذجه العليا، الخاصة التي تمنحه المعنى والاتجاه. وقد تتجلى هذه النماذج في صور مختلفة إله أو حداثة أو عقل، أو حتى خوارزميات وذكاء اصطناعي. فلا عصر بلا حامل أو نموذج أعلى، وكل انهيار في نموذج أعلى يعني ولادة آخر. بهذا تصبح النماذج العليا قوى ميتافيزيقية تؤسس للعالم البشري في كل زمان، وتمنح للتاريخ معناه، وللوعي حدوده ومساراته. ولا يمكننا أن نفهم النماذح العليا في سياقات تاريخية متصلة مع بعضها، بل من خلال انفصالها المطلق ووجودها في دوائر إبستيمية مغلقة تنتمي للعصر الذي تتواجد فيه وتعيد تشكيل مقدساته. لذا يمكننا أن ننظر إلى النماذج العليا في التاريخ البشري على أنها محاولة لإعادة تعريف المقدس الذي تعكسه البنية الميتافيزيقية المتغيرة للإنسان.

ما الذي يجعل البنية الميتافيزيقية عند الإنسان تخلق نماذجها العليا؟

علينا أن نعرف قبل كل شيء أن النماذج العليا المتولدة من البنية الميتافيزيقية، لا تخضع للصيرورة أو للتحولات في جوهرها، لكنها نتاج زمانها وعصرها. وكل عصر من العصور يأخذ طابع نماذجه العليا، وخصائصها وصفاتها، ويكون معبرا ًعن روحها وحركتها. والنماذج العليا هي روح العصر الذي تسري فيه منذ انبثاقها حتى أفولها. لكن ما هو الثابت الميتافيزيقي الذي يجعل النماذج العليا في حالة استمرار وولادة دائمة؟

أولاً: وعي الإنسان المستمر بأنه مركز العالم والكون، وأن الطبيعة وكل ما فيها من موجودات مسخر لخدمته.

ثانياً: التناقض بين الذات والموضوع، والتناقض الذي يحياه الإنسان بين وعيه بمصيره المادي المحتوم بالفناء، وحاجته الروحية التي تسعى إلى الخلود والمثالية والكمال في عالم يعتريه النقص وعدم الفهم.

ثالثاً: قانون الندرة الوجودية، وقد استعرت مفهوم الندرة من علم الاقتصاد، فالندرة الاقتصادية هي الفجوة بين الموارد المحدودة والطلبات غير المحدودة؛ أي امتلاك البشر لرغبات وحاجات غير محدودة في عالم محدود الموارد؛ لأن المجتمع البشري لا يملك الموارد الإنتاجية الكافية لتلبية كل حاجات ورغبات أفراده، وعندما تكون السلعة نادرة؛ أي إن الطلب عليها أكبر من عرضها، فإن سعرها يرتفع طبيعيًا، وندرة السلعة تنبع من الأهمية التي يمنحها المستهلكين لتلك السلعة.

من هنا يمكننا تعريف الندرة الوجودية بأنها نقص وجودي دائم ومرافق للإنسان، فالإنسان موجود ناقص يفتقر دائما ًإلى شيء جوهري يضمن له الانسجام مع ذاته والعالم، وهذا النقص يتجلى في صورة رغبة دائمة إلى مطلق يعوض هشاشته. إذن فالندرة الوجودية هي فقر بنيوي يعيشه الإنسان نتيجة وعيه بالفناء واللايقين والحاجة إلى المعنى، والإنسان لا يملك أبداً ما يكفيه لتسوية معضلاته الكبرى، كالموت، والألم، والمصير، ومعنى الحياة. فوجوده مؤقت وزائل ومعارفه ناقصة وملتبسة، وقيمه بحاجة إلى سند مطلق. لذا، يمكننا القول أيضاً إن الندرة الوجودية هي ثابت أنطولوجي لنقص الإنسان وهشاشته الوجودية أمام غموض العالم وقوى المجهول التي تهدده، وهو ما يجعل الإنسان يولد نماذج عليا ومطلقات جديدة في كل زمن.

وهذا ما يجعل الإنسان كائنًا ماهويًّا ووجوده يتجه باستمرار إلى الماهية.

عن الميتافيزيقيا الحديثة وموت الذات

تجد الذات نفسها في الحالة المركبة بين نفسها، والعلاقة التي تربطها بالعالم الخارجي بنماذجه العليا، من أنظمة سلطوية، ومعارف، ونسق خطاب، وقيم وأخلاق محددة سلفاً للإنسان. ليست الذات بريئة مادام يعاد تشكيلها والتلاعب بها من قبل السلطة والتاريخ والثقافة، والبيئة، والظروف الاجتماعية. وليس الإنسان جوهرًا ثابتًا، أو له طبيعة بشرية تحدد ماهيته. الإنسان هو ما يتشكل في كل مرة، وهو ما سيكونه دائماً، وليس ما كانه أو يكونه الآن، أليس هذا ما ذهب به فوكو وسارتر في تعريفهما للذات والإنسان؟ الذات المحضة والبريئة هي موت الذات أو اللاذات. أما الإنسان كينونة مرنة انزلاقية لا تعرف الثبات أو الاستقرار. هناك دائما ًمدخلات ومخرجات العالم. صيرورة في الفكر والوعي تصنع من الإنسان كائنا ًماهويا ًيبحث عن المعنى، ويسبغ تصوراته ورؤاه عن الوجود، ليصبح الوجود برمته تجليا ًللفكرة التي ألبسها الإنسان للعالم أو سجنه بها. هكذا يغتصب الإنسان العالم ويمزقه، لا من أجل رغبة مادية محضة، بل من أجل غريزة روحية أو ميتافيزيقية ملحة.

لكن ما الذي يجعل الإنسان كائنًا ماهويًا يبحث عن معنى؟

إنها البنية الميتافيزيقية التي تجعله يخلق نماذج عليا للحياة. البنية الميتافيزيقية هي جزء أساسي وجوهري في تكوين الإنسان الحديث في التاريخ البشري، فمذ قام الإنسان بتطوير وسائل الإنتاج وتطويع الطبيعة لصالحه، وخلق التجمعات الصغيرة ما قبل الحضارية، أصبح هذا الكائن أكثر ذكاءً، يندهش، ويفكر، ويسأل، ويذهب إلى ما وراء الظواهر بحيرته ورعبه. وما الرسوم التي نقشها الإنسان على جدران الكهوف إلا دليل على تشكل البنية الميتافيزيقية والكينونة الماهوية لديه.

البنية الميتافيزيقية في رواية حي بن يقظان

والبنية الميتافيزيقية يمكننا أن نجدها بشكل واضح ومؤثر في رواية حي بن يقظان لابن طفيل. فالطفل الذي يتربى في جزيرة معزولة مع حيوانات الغابة، يكون منشغلاً في بادئ الأمر بتلبية غزائزه الجسدية والبيولوجية وصراعه مع الطبيعة، لكن ما إن يكبر حتى يتشكل لديه سؤال المعرفة والوعي، والبحث عن المعنى. فتبدأ رحلة حي بن يقظان عندما يخلق لغته الخاصة، ويصنف العالم وظواهره من خلال أفكاره وإدراكه الحسي، لينطلق إلى الدهشة وسؤال المعرفة والبحث عن الحقيقة عن طريق تأملاته ووعيه الذي ينمو بسرعة قياسية تجعله يجد الله ويتوحد معه بعد رحلة البحث الطويلة. الله بوصفه الغاية النهائية لوجود الإنسان ومعناه على هذه الأرض.

كتبت رواية حي بن يقظان بلسان عربي إسلامي، لكنها أيضا جسدت لنا رحلة الإنسان الأول وبحثه عن المعنى عن طريق خلق الآلهة من ظواهر الطبيعة المرعبة التي جعلته واقعًا في دوامة من الرعب والحيرة والشك والتساؤل، كذلك إنسان الحضارات الأولى الذي جعل مركزيته ومعنى حياته متصل بآلهة عديدة، فحولته إلى شاعر ومفكر ورسام، وصولا ًإلى الديانات السماوية التوحيدية التي اختصرت الآلهة إلى إله واحد ترتبط به الحقيقة المطلقة وقصة الخلق الدينية التي نعرفها اليوم.

قد يظن البعض أن تقدم العلم وتطوره قد حرر الإنسان من التفكير الغيبي والخرافي، بعد أن فسر الظواهر الطبيعية والكونية تفسيرًا علميًّا ومنطقيًّا يخضع لنظريات الفيزياء والعلوم الحديثة، فجعل من العقل البشري مجرد آلة للمنطق تعتمد على التجربة والاستقراء والاستدلال والبرهان، وتنقذه من الزلات والأخطاء المنطقية.

إلا أن تفكير الإنسان لم يحظ بذلك التطور الخارق والهائل الذي يساعده على التحرر تماما من الخرافة والمعجزة، هناك ميل في العقل البشري حتى وقتنا الراهن إلى اللامنطق، وتوق إلى معجزات خارقة تنقذ الإنسان من رتابة الواقع والمنطق والتكرار.

آلهة الحداثة والحضارة الرقمية

إن الحاجة لخلق نماذج عليا هي جزء من البنية الميتافيزيقية للإنسان، فالإنسان الذي استبدل عبادة الظواهر الطبيعية بالآلهة، والذي استبدل الآلهة بالإله الواحد، ثم بالدين واللاهوت، هو نفسه الذي جعل العقل إلهًا والعلم دينًا. فالحداثة استبدلت قداسة الدين والآلهة بقداسات أخرى تمثلت في العقل، والتاريخ، والدولة، والهوية، والإيديولوجية، حلت محل الديانات وجعلت منها مركزيات مقدسة ومرجعيات في ذاتها، حتى النظم العلمانية والليبرالية، وقوة السوق، والسلع، والعولمة، وعوالم الإنترنت الافتراضية هي نماذج عليا انبثقت من البنية الميتافيزيقية للإنسان في عصرنا الحديث، واستكمالاً لطريقه القديم في استنطاق العالم الصامت وخلقه من المخيلة.

إن البنية الميتافيزيقية تجعل الإنسان مركز العالم ومحوره، بنية تعمل على تشكيل الإنسان ووعيه وفق النماذج العليا التي يخلقها هو عندما يعي وجوده الماهوي وكينونته المتغيرة، وبحثه الدائم عن المعنى.

العالم كرمز أو استعارة

حتى لو تم إبعاد الإنسان عن مركزية العالم، وتحطيم هذه المركزية ونسفها كليًا، ستبقى تلك اللغة التي تربطه بعناصر الوجود الخارجي، اللغة بكل ما تحويه من سلطة وأنظمة قمعية وعوالم متخيلة وآلهة، اللغة بوصفها القاعدة التي تتأسس وتنطلق منها كل النماذج العليا ستبقى أساس كل نظام ميتافيزيقي. وسيبقى الإنسان ذلك الكائن المجازي الذي يحيا بالرموز والاستعارات، ولا يفهم العالم إلا بوصفه رمزاً أو استعارة.

عالم بلا إنسان أو رتوش

إن الميتافيزيقيا تحفر في بنية الإنسان وتكوينه، وهي متجددة ومتغيرة في كل زمان ومكان. يخلق الإنسان باستمرار مطلقًا جديدًا ليحتمي به من فراغ الوجود أو من العالم المجرد. وهذا الخلق لا يأتي إلا من حاجة البنية نفسها إلى نموذج أعلى، إلى معنى متجاوز، إلى قوة تحميه من العدم، وتعده بفردوس سماوي أو أرضي.

ما يتغير عبر الزمن ليس الميتافيزقيا في جوهرها وبنيتها، بل في أشكالها وأقنعتها، من الإله إلى الدولة، ومن العقل إلى العولمة الرقمية، ومن وسائل التواصل الاجتماعي إلى الذكاء الاصطناعي والآلة.

ربما على الإنسان في عصرنا الحديث أن يعيد التفكير مجددًا بما يستحق أن يعاش بجدارة، أن يتأمل ذاته بعيدًا عن الضجيج الفارغ والأوهام، لماذا لا يعيد الإنسان المكانة القديمة للعالم الصامت والمجرد، فلا بأس من رياضة روحية بين فترة وأخرى يعود فيها إلى حضن الطبيعة الأم، تلك الطبيعة الحزينة الصماء التي غادرها منذ زمن طويل جدًّا. أن يغلق الإنسان جميع أجهزته الإلكترونية، ووسائل تواصله واتصاله مع العالم ويتوحد مع صمته. أن يخرج إلى الجبال والغابات والأنهار، يمشي لساعات طوال، يمارس هواية الزراعة والاعتناء بالحيوانات، يستلقي تحت أشعة الشمس أو يستنشق الهواء النقي تحت السماء الصافية، متأملاً الطبيعة ومستنطقًا صمتها ورهبة جمالها، ذلك الجمال يجعله أبدياً ويرفعه لمرتبة الوجود اللامتناهي، فيكون داخل الزمن وخارجه في اللحظة ذاتها. لكنه يشعر بطول النهار وامتداد الزمن العميق في داخله ذلك الزمن الذي أصبح هشًّا ولا قيمة له، ومتسارعاً بطريقة مرعبة مع تطور الحضارة والتكنولوجيا.

تقف البشرية اليوم على أعتاب أفولها، وفي الوقت نفسه تعمل الطبيعة كقوة طاردة لمركزية الإنسان عن هذا العالم بالحروب والكوارث والأمراض. العالم المشوه بالمخيلة والمسجون خلف جدران العقل. العالم الذي بدأ ذات زمان مجردًا، صامتًا وبريئًا، وبلا إنسان، ها هو يحن إلى منبعه وأصوله القديمة. إلى ظواهر لم تدركها الحواس، وألوان لا تراها بالعين. إلى تلك الأصوات التي لم تسمع أبدًا. إلى كل ما هو جميل ومحتجب بين الغياب والعدم.