"الإسلام الأخلاق والسياسة" لـمحمد أركون


فئة :  قراءات في كتب

"الإسلام الأخلاق والسياسة" لـمحمد أركون

يُعدّ كتاب "الإسلام الأخلاق والسياسة"[1] لمحمّد أركون من الكتب الجديرة بالعناية والاهتمام، لا سيما أنّه كُتب في سياق تفاعل هذا المفكّر الجزائريّ مع: "أعمال الندوة الدوليّة التي نظّمتها اليونسكو، بالتعاون مع رابطة الدعوة الإسلاميّة (طرابلس الغرب)، في باريس حول الموضوع التالي "الرؤية الأخلاقية والسياسية للإسلام"، وهي مشكلة تقع في صميم الأحداث الراهنة، وتخصّ مناطق عديدة من العالم، يسود فيها الدين الإسلاميّ. ولقد أثارت هذه المشكلة تبادلاً في وجهات النظر بين حوالي الثلاثين شخصيّة، ممّن ينتمون إلى الفلسفة والعلوم السياسيّة".[2]

فالواضح ممّا تقدّم، أنّ أركون طرح الأخلاق والسياسة في الإسلام في مناخ علميّ تميّز بحضور الرأي والرأي المخالف في نطاق محاورته لهذه الندوة العلميّة الدوليّة، لذلك فالكتاب برمّته هو ثمرة نقاش الأفكار والرؤى في شأن هذه القضيّة التي باتت تشغل بال المفكرين في الإسلاميات في مختلف أصقاع العالم، مثلما تدلّ على ذلك جنسيات المشاركين في فعاليات هذه الندوة العلميّة الدوليّة، ومن هذا المنطلق حرص هاشم صالح في هذه النسخة المترجمة لكتاب أركون - مدار اهتمامنا- على إرفاق محتوى البحث الأصليّ "الإسلام الأخلاق والسياسة" بملحق فيه مقاطع من الدراسات التي قدّمت في ندوة اليونسكو، والتي بعثت أركون على تأليف هذا الكتاب الذي يعتبر امتداداً للإشكاليات المطروحة في الملتقى العلمي السالف الذكر المنعقد في باريس بين 7و10دجنبر1982.

لقد رأى كتاب "الإسلام الأخلاق والسياسة" النور لأولّ مرّة في لغته الأصليّة الفرنسيّة بباريس في طبعة أولى أشرفت عليها منظمّة اليونسكو سنة ست وثمانين وتسعمائة وألف، ثمّ نقله – كما ذكرنا – هاشم صالح إلى اللّغة العربيّة في طبعة أولى مشتركة بين منظمّة اليونسكو ومركز الإنماء القومي بيروت- لبنان صدرت سنة تسعين وتسعمائة وألف. يحتوي هذا الكتاب المترجم على:

- مدخل من صفحة واحدة (صفحة رقم 3)

- مقدّمة تحتوي على 15 صفحة (من الصفحة 5 إلى الصفحة 20)

- أربعة فصول تمسح 149 صفحة (من الصفحة 21 إلى الصفحة 170) هي:

1.الفصل الأول: نظرية القيم القرآنية.

2.الفصل الثاني: دين ودولة ودنيا.

3.الفصل الثالث: الرؤى الأخلاقية والحسّ العملي العفوي والمباشر.

4.الفصل الرابع: الرؤى السياسية والتاريخ المحسوس.

- خاتمة تضمّ 18صفحة (من الصفحة 171 إلى الصفحة 189)

- ملحق قوامه 39 صفحة (من الصفحة191 إلى الصفحة 230)، وهو من إضافة المترجم. لذلك لن نبحث فيه عند قراءة الكتاب، لأنّه يحتوي على مقاطع لمفكرين آخرين اقتطعها هاشم صالح من ندوة اليونسكو بباريس التي ذكرنا.

- فهرس مواد الكتاب (صفحة واحدة رقم 231).

لابدّ من الإشارة في البداية إلى أنّ المدخل الموجود في مستهلّ الكتاب هو من وضع هاشم صالح مترجم هذا العمل الذي ألّفه أركون باللّغة الفرنسيّة؛ فالمدخل الذي بين أيدينا هو عبارة عن نصّ مصاحب يضيء النصّ الأصليّ وينزّله في سياقه الفكريّ والحضاري. وفضلاً عن ذلك، يبرّر هاشم صالح دواعي إغناء دراسة أركون حول "الإسلام والأخلاق والسياسة" بملحق تخيّر فيه صاحب الترجمة مقاطع من أبرز المداخلات المقدّمة في الندوة الدولية العلميّة المنعقدة بباريس في بداية دجنبر1982علماً بأنّ هذه المداخلات هي التي دفعت أركون إلى تأليف الكتاب والتفكير في مسألة الأخلاق والسياسة موصولة بالدين الإسلاميّ، وهذا ما نستشفّه من خطاب المدخل الذي يرشد القارئ إلى مراكز الاهتمام في الكتاب "ويجد القارئ، هنا، بعد الدراسة الشمولية المطوّلة التي كتبها محمّد أركون، مقاطع متفرّقة من الدراسات التي قدّمها المساهمون في الندوة، وشكّلت قاعدة أوّليّة للمناقشات. ومن خلال الدراسات والرؤية الشمولية التي بلورها أركون، تبرز إلى الضوء خطوط عريضة قادرة، على الرغم من كلّ الفروقات والاختلافات، على الإجابة عن الأسئلة المختلفة التي يطرحها الإسلام على نفسه وعلينا".[3]

يعتبر أركون في فاتحة المقدّمة، أنّ دراسة الرؤية الأخلاقية والسياسية للإسلام اليوم مهمّة علميّة من الصعوبة بمنزلة من جهة كونها: "تفترض القيام بعدّة تحريات أولية عن مكانة علم الأخلاق، وعلم السياسة في الفكر العربي الإسلامي منذ أصوله الأولى".[4] فهذا البحث التاريخي الأركيولوجي في البنى الأخلاقية والسياسية للإسلام، يقتضي تآزر جهود كثير من الباحثين اعتباراً للمدى الزمني الكبير الذي تشكلّت فيه هذه البنى وتطوّرت؛ أي من بداية التجربة الدينية في المدينة بعد بعثة النبيّ محمّد إلى عصرنا الحديث.

وممّا يزيد عسر الخوض في مثل هذا الموضوع الشائك ندرة المؤلفات العلميّة التي تعالج القضيّة المطروحة مُستأنسة بجديد مكاسب علوم الإنسان والمجتمع، لاسيّما أنّ المؤتمر المذكور الذي نظمّته اليونسكو، أوضح بجلاء "محدوديّة علم الإسلاميات الكلاسيكية (أي الاستشراق) عموماً من الناحيتين المنهجيّة والمفهوميّة."[5] وهذا ما حمل أركون على تحديث الرؤية والمنهج في مقاربة مشكلة الأخلاق والسياسة في الإسلام. فعلم الإسلاميات التقليدي أفلس في التصدّي لهذا الموضوع، عندما أسقط من اعتباره ظاهرتين في غاية الأهميّة أدّتا إلى تغيير الساحة الفكرية والمشهد العقلي اجتماعيّاً وثقافيّاً، وهما ظهور علوم الإنسان والمجتمع والانقلابات الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسية التي شهدتها المجتمعات العربية الإسلامية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص. فلا يخفى أنّ بروز مناهج جديدة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية ساهم إلى حدّ كبير في زحزحة "حدود المعرفة عن مساراتها التقليدية"[6]، ومن ثمّ في انبثاق تساؤلات جديدة مدارها على الإنسان والمجتمع والتاريخ والمعنى. هذا علاوة على الوضع الديمغرافي الجديد الذي تعيشه المجتمعات العربيّة الإسلاميّة، ذلك أنّ أغلبية السكان تتراوح أعمارهم بين سنة وخمس وثلاثين سنة، ممّا يعني تعاظم حاجياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. فهذا الشباب جدير بالاهتمام أثناء معالجة مسألتي الأخلاق والسياسة في الإسلام اليوم، لأنّه جزء مهمّ في تناول العلاقة بين السياسي والأخلاقي في المجتمعات المسلمة الراهنة. هكذا ينزّل أركون دراسته في صميم الإسلام اليومي المعيش بكلّ جذوره المحلية وتشكّلاته التاريخيّة الملموسة، بعيداً عن تناول القضيّة نظرياً من زاوية إسلام المبادئ الذي يريد أن يرضي الحركات الإسلاموية والأوساط المحافظة في آن واحد.[7] لذلك، يحاول أركون في هذه المقدّمة الإجابة عن جملة من الأسئلة المفاتيح من قبيل كيف نفهم الموضوع؟ وهل ينبغي الاقتصار على عرض الرؤى النظرية التقليدية التي ميّزت تعامل الفكر الإسلامي مع القضية المطروحة على طاولة النقاش؟ هل من الضروري توسعة دائرة البحث حتّى تشمل الرؤية المشتركة للمسلمين بخصوص المصادر "الموضوعية"، وعلى رأسها القرآن والشريعة؛ فالنصوص الشائعة لدى كلّ الطوائف مثل كتاب: "نهج البلاغة" المنسوب إلى علي بن أبي طالب وشرحه الطويل الضخم لابن أبي الحديد؟ وهل يمكن الاكتفاء برؤية واحدة في معالجة هذا الموضوع تعتبر نفسها إسلاميّة خالصة دون غيرها من الرؤى؟ وماهي المكانة التي ينبغي أن نعطيها للعوامل الاجتماعية والتاريخية التي نهضت بدور رئيس في تشكل الأفكار الأخلاقيّة والسياسية وفي تطوّرها منذ القرن الهجري الأوّل إلى يومنا هذا؟.

إنّ هذه الأسئلة المهمّة هي اللبنات التي أقام عليها أركون سائر فصول كتابه، والتي وجّهت مسار الدراسة ونتائجها، لذلك لا نستغرب أن تستحوذ المقدّمة وحدها على خمس عشرة صفحة، إذ رسم فيها الباحث الخطوط الكبيرة لعمله، مثلما حدّد زوجين من المفاهيم المفاتيح المبنيّة عليهما "دراسته الاستكشافية"[8] لهذا الإشكال المعرفي في الفكر الإسلاميّ المعاصر على حدّ عبارته. ولمّا كان المفهومان الزوجان من الأهمية بمكان في بحث أركون ارتأينا من باب الفائدة التوقّف عندهما:

1- العقل/ الخيال، العقلانية/ المتخيّل: الأدبيات الأخلاقية والسياسية ذات المنبع الإسلامي قائمة على رأي مسبق يفترض وجود عقلانية مطلقة وعقل محض يحكمان الأوامر الموجهة إلى الإنسان العاقل، ممّا يعني غياب الخيال والمتخيّل في بناء النصوص الدينية التي تستهدف الإنسان المسلم. وهذا الخطأ وقعت فيه الدراسات الاستشراقية التي قلّما تحدثت عن الخيال والمتخيّل بوصفهما مرتبطين منطقيّاً بمفهوم العقلانية عندما نقلت النصوص الإسلاميّة إلى اللّغات الأوروبية الحديثة، ذلك أنّ الخيال والمتخيّل لا يقلاّن أهميّة عن مفهومي العقل والعقلانيّة إن لم نقل هما ركنان ركينان في بناء النصوص الدينية وفهمها. ومن هذه الناحية، لا يمكن إقصاء الخيال والمتخيّل الدينيّ على وجه الخصوص من مجال الدراسة العلميّة، فقد أثبتت العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة المعاصرة قيام أسباب وأنساب بين الخيال والعقل، ممّا يعني أنّ الحدود بين العالمين رقيقة وربّما واهية أحياناً. وعليه، لابدّ أن يقتحم الفكر الإسلامي المعاصر حرم المتخيّل الدينيّ بكلّ علميّة وجرأة نقديّة.

2- المنهجيّة التقدميّة/ التراجعيّة: يرى أركون أنّ المنهجيّة التقدميّة المسترفدة من قبل الباحثين المحترفين المختصين في البحوث العلميّة في مجال الإسلاميات من مناهج العلوم الحديثة تواجه اليوم منهجيّة تراجعيّة قائمة على الهيمنة المطلقة للأيديولوجيات المناضلة، وهي منهجيّة في ظاهرها تقدميّة، لأنّها تدعي قدرتها على معالجة قضايا المجتمعات الإسلاميّة الراهنة بروح تواكب المتغيّرات الحالية. بيد أنّها في الباطن تستعيد مقولات الماضي وتنطلق من وجود استمراريّة عقائديّة للإسلام الأوّليّ في حياة المجتمعات النامية الراهنة. والدراسات الموصولة في الفكر العربي والإسلامي بهذه المنهجيّة العقيمة لا تنتج سوى "مؤلفات عن الإسلام والدولة ذات رواج تجاري وحماسة عاطفية خالية من أيّ روح علميّة أو ابتكاريّة أصيلة"[9] على حدّ تعبير أركون. فعلى أساس ما سبق، يعدّ الباحث الجزائري عمله هذا أوّل دراسة تجمع بين الجانب الوصفي المُحايد والجانب التحليليّ التفسيريّ، وتحاول دراسة المواقع العقائديّة لمختلف الفرق في الإسلام دراسة تاريخيّة معمّقة. وهكذا يسعى أركون إلى: "إخراج هذه المسائل الحساسة والهامة من دائرة اللامفكّر فيه أو المستحيل التفكير فيه، لكي تصبح موضوعاً قابلاً للدرس والتحليل والتفكير. لقد حذفت هذه المسائل من ساحة الفكر العربي الإسلامي بواسطة الأرثوذكسية الاتباعية والسلطة السياسية المتحالفة معها".[10]

خصّص أركون الفصل الأوّل (من الصفحة21 إلى الصفحة 44) لتناول "نظريّة القيم القرآنيّة"، حتّى نفهم الاستخدام الكثيف الذي يتعرّض له القرآن اليوم في كامل العالم الإسلامي.

ويرى الباحث أنّ الاكتفاء برصد الحضور المهيمن للنصّ القرآنيّ في المجتمعات الإسلاميّة لا يعطي أكله إلاّ إذا تساءلنا "عن ماهية العبارات القرآنية التي هيمنت على الرؤية الإسلامية للعالم منذ تجليات الوحي في مكة والمدينة"[11] علاوة على التساؤل عن نوعية العبارات القرآنية (أو الآيات) التي تعود في حضورها الحالي إلى المستجدات التاريخية والأوساط الاجتماعية-الثقافية الجديدة. فعلى هذا النحو، يعمل أركون على استصفاء "النظرية الأخلاقية القرآنية التي وجّهت حتى يومنا هذا ممارسة كلّ الفكر العربي- الإسلامي طيلة تاريخه الطويل".[12]

يذهب أركون إلى أنّ الخطاب القرآنيّ استخدم العديد من الأساليب البلاغية والأدبية لإعلاء مجموعة من القيم من جهة أولى وللحطّ من قيم أخرى من جهة ثانية. لذا، فالقرآن خطاب متجذّر في تاريخ متحرّك ومحسوس، ومن ثمّ فنقده للقيمة هو نقد جدليّ، لأنّه واجه معارضين ناشطين يرفضون رؤيته للعالم، والتاريخ، والشخص البشري. فالقرآن يستخدم أربعة معايير، ليرسم الحدود الفاصلة بين أنواع السلوك الإيجابية المتواشجة مع نظامه القيمي، ذلك أنّ المعايير الأربعة (أسماء اللّه الحسنى- الشهادة - الأمة، المؤمنون- الشرع، الأمر) قائمة على ضرب من الترابط والتكامل يحدّد "المحورية الأخلاقية القرآنيّة".

وعالج أركون في الفصل الثاني (من الصفحة 45 إلى الصفحة 81) إشكالية الأخلاق في الإسلام انطلاقاً من مفاهيم ثلاثة (دين، دولة، دنيا) كانت محلّ جدال وتدارس بين رجالات الفكر الإسلامي منذ ظهور القرآن وتجربة المدينة، إذ كان الاشتغال بهذه المفاهيم صادراً في أغلب الأحوال عن وجهة نظر أخلاقية على نحو ما فعل الماوردي في كتاب "أدب الدنيا والدين"، أو عن وجهة نظر الفلسفة السياسية على غرار ما أنجزه الفارابي في مصنّفه "مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة".

يذهب أركون إلى أنّ تناول هذه المفاهيم لابدّ أن يكون موصولاً ببرهان علميّ مداره على تحليل الروابط العميقة بين الدين والدولة والدنيا في الإسلام من منطلق وضع الاعتبارات الموضوعية بعين الاعتبار، مثل الصراع بين البشر والنزاع المسلّح من أجل السلطة وتحقيق المصالح، وذلك بنزع القداسة عن الشخصيات الدينية التي تعامل معها الفكر الإسلامي بنزعة مثالية خاصة في تجربة المدينة. فمؤسسة الخلافة مثلاً التي قدّسها الفقهاء تاريخيّاً ليس لها في الواقع الممارس أيّة قداسة، وهذا ما بيّنه علي عبد الرازق من ذي قبل، لكن ليس بالقدر نفسه من العمق والتحليل الذي يعد أركون القارئ بإنجازه؛ فالذي بلور هذه المفاهيم في الإسلام السياسي ليست القيم الدينية المطلقة المقدسة التي يدافع عنها أصحاب الفكر الإسلامي التقليدي، بل عوامل موضوعيّة فاعلة من إنتاج فاعلين اجتماعيين بلورها الباحث الجزائري على هذا النحو:

1- نزعات التضامن التقليدية أو العصبيات

2- تجربة المدينة

3- نموذج المدينة

4- الدولة

5- العلماء (الفقهاء-رجال الدين)

أمّا في الفصل الثالث (من الصفحة 83 إلى الصفحة 126)، فقد اهتمّ محمد أركون بمسألة "الرؤى الأخلاقية والحسّ العلمي العفوي والمباشر" مُؤكّداً في البداية ما حصل في الفكر الحديث من تطوّرين أساسيين كان لهما بالغ الأثر في تناول قضية الأخلاق والقيم. فالتطوّر الأول موصول بزوال التفكير الأخلاقي التقليدي بسبب ظهور علوم كالإبستيمولوجيا وعلم الكينونة (الأنطولوجيا) وعلم الاجتماع وعلم النفس وخاصة علم الأنثربولوجيا أحدثت قطيعة معرفيّة مع نمط التفكير التقليدي القائم في العموم على منزع إيمانيّ تمجيديّ وبعد أسطوريّ في معالجة مسألة الأخلاق والقيم الدينية، سواء تعلّق الأمر بالقرآن أو بشخصيّة الرسول وآل البيت والصحابة. وفي ما يتعلّق بالأخلاق الدينية لم يعد لها اليد العليا على العلوم والاكتشافات المعرفيّة، بل "يجيء الحكم الأخلاقي في نهاية المطاف (إذا صحّ له أن يتدخل)، لكي يعتمد على نوعية المعارف المتجمّعة، بواسطة البحث العلمي بشكل عام، فيدرسها ويستخرج منها المحصّلة النهائية"[13] على حدّ تعبير أركون.

أمّا التطوّر الثاني، فمرتبط بإمكانيّة التقويم الأخلاقي ذاتها نظراً إلى تشعّب المعرفة العلمية النقدية وتوسّعها توسّعاً كبيراً اليوم، ذلك أنّ للعقلانيّة أنماطاً كثيرة فبأيّها نأخذ؟ وكذا الأمر بالنسبة إلى المضامين الوضعيّة، فعلى أيّها نعتمد كي نحدّد مبدأ أخلاقياً أو قيميّاً؟ ومن ثمّ هل بوسعنا أن نصنّف الأخلاق على أساس: أخلاق صحيحة وأخلاق غير صحيحة؟

يرى أركون أنّ مثل هذه الأسئلة تدفعنا إلى تأسيس "علم ما فوق الأخلاق"؛ أي علم يدرس كلّ الأنظمة الأخلاقية المختلفة من نقطة خارجها، لكي نفهم وجوه تشابهها ومظاهر اختلافها وآليات اشتغالها. لذلك يعتبر أركون أنّ المقاربة التاريخية والفلسفية التي سيتوخّاها في هذا المضمار لدراسة مسألة الأخلاق في الإسلام لا يمكن أن تسمح لأيّ موقف عقائديّ دوغمائيّ أن يتدخّل فيها أو يسيّج مدار اشتغالها، مشيراً إلى أنّ الفكر الإسلامي الكلاسيكي كان أكثر جديّة من الفكر الإسلامي المعاصر في التعامل مع قضية الأخلاق في الإسلام.

نظر أركون في إشكالية الرؤى الأخلاقية الأساسية في الإسلام في بادئ الأمر من زاوية تاريخ الأفكار وتحليل الخطاب على الشاكلة الألسنية الحديثة. ثمّ عمّق الدراسة بتوسّل المنهجيّة السوسيولوجية في أحدث تطورات علم الاجتماع، فقاده البحث إلى الوقوف على نتيجة مهمّة مفادها انقسام المجتمع الإسلامي إلى حدّ الآن إلى قسمين، الأوّل تسيطر عليه الدولة المركزية، والثاني لا تتحكّم فيه هذه الدولة، لذلك استمر في تطبيق الأخلاق والأعراف السائدة قبل الإسلام، على خلاف القسم الأوّل الذي كان يطبّق الشريعة الإسلامية بما تنطوي عليه من إكراهات ولوازم أخلاقيّة فعليه لم يبسط الإسلام قوانينه وأخلاقه مثلما "يتوهّم السذج"[14] بعبارة أـركون على كلّ مناطق المجتمع ونواحيه لذا ما يزال هذا الوضع مستمّراً حتّى أيامنا هذه.

أمّا الفصل الأخير (من الصفحة 127إلى الصفحة 170)، فقد خصّصه محمد أركون للاعتناء بقضية الرؤى السياسية والتاريخ المحسوس في الإسلام مركّزاً على المُتخيّل الإسلامي الذي رسم هذه الرؤى السياسية منذ تجربة المدينة، واصطنع لها مفاهيم، مثل الشريعة والسياسة والملك والعدل والخلافة والإمامة؛ ممّا جعل تجربة الحكم في المدينة نموذجيّة مثالية خارج نطاق التاريخ الملموس، فتحوّلت إلى مثال مقدّس ينبغي استعادته. على حين أنّ الواقع يعتبر هذه التجربة الإنسانية قائمة على اجتهادات نسبية ومعطيات تاريخيّة مادية فرضت في التعامل معها أخلاقاً محكومة بالمنفعة وبالمصلحة السياسية قبل أيّ اعتبار دينيّ غيبيّ مفارق. إنّ الأمل بتحقيق العدالة المثالية مثلما يتصور الضمير الإسلامي وجودها في تجربة الحكم الأولى في المدينة، استغلّه بعض رجال الدين والسياسيين الطامعين في السلطة لتحريك الجماهير والزجّ بهم في الصراع حول النفوذ المادي والسياسي، لذلك يقترح أركون أن تدرس الرؤى السياسية في الإسلام من منظور "علم اجتماع الأمل"[15] المنوط به بيان كيفية تشكل الحلم بهذه الأخلاق السياسية لدى مختلف طبقات المجتمع الإسلامي في جميع العصور في صورة أخلاق "المهدي المنتظر" الذي يصلح الكون ويستعيد تجربة النبي في المدينة، ممّا ساهم في نشأة وعي أسطوري متخيّل عن الأخلاق السياسية في الإسلام، وهذا الوعي يكذّبه التاريخ الموضوعي بطبيعة الحال.

أخيراً محّض أركون الخاتمة، لتناول مسألة الإسلام اليوم بمعزل عن الرؤية الإسلامية المرتكزة على قاعدة الأخلاقية القرآنية وتجربة حكم محمّد في المدينة وعن الرؤية الفلسفية الجامعة بين ميراث الفلسفة الأفلاطونية والأرسطوطاليسية والأفلاطونية الجديدة، لذلك فإعادة التفكير في الإسلام اليوم لا بدّ أن تتجاوز هاتين الرؤيتين آخذة بعين الاعتبار ضرورة التساؤل عن هذه النقاط الخمس:

- المكانة المعرفية للوحي

- الشروط التي تمت فيها عملية نقل الوحي وإبلاغه

- الشروط التي تمت فيه عملية تأويل الوحي وتفسيره

- شروط تلقي الوحي واستقباله من قبل القراء أو المؤمنين

- الترابط الجدلي يبن الوحي والحقيقة والتاريخ

ويعتبر أركون أنّ الفكر الإسلامي ما يزال تقليدياً محافظاً غير مواكب للتطورات الطارئة على المجتمعات المسلمة، ممّا يجعله عاجزاً عن مقاربة المسألة السياسية والأخلاقية في الإسلام، لأنّه لم يبحث عن مكانة الإسلام اليوم بوصفه نظاماً من العقائد والتصورات والمعارف في معركة العلم والحداثة والتقدّم الحضاري الذي يصنعه فعل الإنسان في الكون، لذلك لابدّ من إخضاع الأخلاق والسياسة في الإسلام إلى الدرس العلميّ المعاصر حتّى نكتشف المقاييس الحقيقية التي شكلت القيم الأخلاقية والسياسية في الإسلام منذ تجربة الحكم في المدينة إلى أيامنا هذه.


[1]- محمد أركون: الإسلام الأخلاق والسياسة، ترجمة هاشم صالح، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، منشورات مركز الإنماء القومي، 1990

[2]- نفسه، ص 3

[3]- نفسه، ص 3

[4]- نفسه، ص 5

[5]- نفسه، ص 5

[6]- نفسه، ص 5

[7]- يعرض أركون إلى المناخ العام الذي يحكم العلاقات بين المفكّرين والباحثين الإسلاميين، فيقول: "في مثل هذا المناخ من المجادلة الحادة والخصومة العنيفة، نجد بعض الباحثين مجبرين على التزام الحذر الشديد من الناحية الفكرية والمنهجية. فهم يقدّمون بعض التنازلات لوجهة النظر الإسلامية، ويخفّفون من استخدام منهجيتهم التاريخانية التي سيطرت في بيئات الاستشراق منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. أمّا بعضهم الآخر، فيلتزم بالوصف البارد والعرض الحيادي التام لمبادئ الإسلام الأزلي كما لو أنّ المسألة الحقيقية المطروحة هي مسألة إسلام المبادئ. وليست بالأحرى مسألة المُعاش الإسلامي اليومي بكل جذوره المحلية وتشكلاته التاريخية المحسوسة. إنّهم يريدون أن ينجوا بجلودهم، فلا يجلبوا عليهم سخط الحركات الإسلاموية والأوساط المحافظة وينتج عن ذلك فراغ ثقافي كبير وطلب علمي هائل على موضوع غني ومثير للشهية. ويشعر الباحث أحياناً بالمرارة والألم لعدم القدرة على الخوض في مناقشة فكرية سليمة في مثل هذا الجو، بل إنّ هذه المناقشات تتحول إلى عقبات تحول دون انتشار المعرفة العلمية الخاصة بالإسلام" (ص 6)

[8]- نفسه، ص 8

[9]- محمد أركون: الإسلام الأخلاق والسياسة، سبق ذكره، ص 13

[10]- نفسه، ص 18

[11]- نفسه، ص 21

[12]- نفسه، ص 21

[13]- نفسه، ص 83

[14]- نفسه، ص 115

[15]- نفسه، ص 128