قراءة في كتاب "الاستدلال والبناء: بحث في خصائص العقلية العلمية" للدكتور بناصر البعزاتي


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب "الاستدلال والبناء: بحث في خصائص العقلية العلمية" للدكتور بناصر البعزاتي

قراءة في كتاب "الاستدلال والبناء: بحث في خصائص العقلية العلمية"

للدكتور بناصر البعزاتي

تعد هذه السطور محاولة متواضعة لتقديم كتاب "الاستدلال والبناء: بحث في خصائص العقلية العلمية" للدكتور بناصر البعزاتي الصادر في طبعته الأولى عام 1999 عن دار الأمان والمركز الثقافي العربي. وكان هذا الكتاب في الأصل أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1997، تخصص المنطق والإبستمولوجيا وتاريخ العلوم، أنجزها المؤلف بإشراف من الدكتور سالم يفوت.

يضم هذا الكتاب حوالي 509 صفحة، ففضلا عن مقدمة وخاتمة وقائمة للمصطلحات ولائحة للمراجع، عمد المؤلف إلى تقسيم بحثه إلى ثلاثة أقسام؛ وذلك على النحو التالي:

القسم الأول: بداهة المقام؛

يتفرع عن هذا القسم إلى أربعة محاور جاءت على النحو التالي:

1) معيار المنطق الصوري؛

2) المنهج والممارسة؛

3) تمييز العلم؛

4) من المحلية إلى الكونية؛

القسم الثاني: النظرية والتجربة؛

ويتفرع هو الآخر إلى أربعة محاور:

1) في حياد التجربة؛

2) الاستقراء؛

3) التنبؤ والانتظار؛

4) الالتزام؛

القسم الثالث: بنائية الاستدلال العلمي؛

وقد قسمه الكاتب إلى خمسة محاور:

1) التقليد العلمي؛

2) الاختيار بين النظريات المتنافسة؛

3) استقلال وتفاعل؛

4) الاستدلال البناء؛

5) النقد والبناء؛

وكما يتضح من خلال العنوان، فإن الكتاب يتناول "خصائص العقلية العلمية"، ولا شك أن هذا الموضوع إذ يكتسي أهمية كبيرة جعلته يحتل مكانة مرموقة ضمن الأبحاث الإبستمولوجية في الوقت المعاصر؛ وذلك لما يبحث فيه من مواضيع شائكة ومتشعبة، ولربما هذا الأمر الذي جعل القضايا المطروحة في الكتاب تبدو "مبعثرة ومشتتة وغير منسجمة" (ص 17).

ويصرح الكاتب في المقدمة (ص 17) أنه تناول الموضوع تناولا بنائيا نقديا قريبا من تناول بياجي JEAN PIAGET ولورنتسن، فضلا عن استفادته من تولمن وهانس وكون وباشلار BACHELARD، حيث تسعى هذه المقاربة البنائية النقدية إلى محاولة بناء تصور للعقلية العلمية، تنطلق من نقد التصورات التقليدية وبالخصوص الوضعانية منها كما تجلت مع كارل بوبر KARL POPPER؛ ذلك أنها حددت خصائص العلم وحصرها في مفاهيم من قبيل الاستقراء والاستنباط والتحقق...إلخ، فضلا عن إغفالها عناصر تتدخل في بناء المعرفة العلمية من قبيل الخلفيات الثقافية والتداول والاقتباس. ومن جهة ثانية، رفض الكاتب التصورات اللاوضعانية للعقلية العلمية التي نشأت منذ ستينيات القرن الماضي على أنقاض الوضعانية.

فإذا كانت الوضعانية قد اهتمت بنقاء وصرامة العلم ومنطقيته، فإن اللاوضعانية قد ركزت على الخيال والحدس والمسائل الشخصية في العلم، بل أكثر من ذلك أن بعض الاتجاهات اللاوضعانية المتطرفة (كما هو الشأن لبول فيرابند PAUL FEYERABEND مثلا) قد ذهبت إلى حد وصف العلم ونعته بـ "اللاعقلية"، وبالتالي إسقاطه في "مزالق مقامية"، وجعله صادرا عن الأهواء الذاتية.

وهكذا يستخلص الأستاذ بناصر البعزاتي أن الاتجاهات اللاوضعانية تتميز بالنسبانية الفوضوية أو النسبانية الجذرية؛ ذلك أنها وإن قامت كرد فعل على تطرف التصورات الوضعانية، فإنها سقطت في تطرف آخر، يتمثل في "الإقرارات الجزافية" من جهة، وفي الأحكام المرتجلة حول العقلية العلمية من جهة ثانية.

وتبعا لذلك، يسعى المؤلف إلى الخوض في تأسيس وبناء تصور جديد للعقلية العلمية، أراد له أن يكون أقوى وأشد صلابة من التصورات السابقة، تصورا يقوم على "فتوحات تاريخ العلم والعلم المعرفي ونظرية الاستدلال"، وبالتالي فكتاب "الاستدلال والبناء، بحث في خصائص العقلية العلمية" يسعى إلى أن يكون مساهمة مثمرة وإضافة نوعية وعلمية في الحقل الإبستمولوجي في الزمن المعاصر، هذا الأخير الذي ينشغل أصلا بمشكلة طبيعة النظرية العلمية والآليات التي تتأسس عليها.

ولتقديم الخلفيات الأساسية التي يقف عليها هذا التصور بشكل يقرب القارئ للخوض أكثر في فهمه والإحاطة به، فإننا نقترح التوقف على بعض القضايا المطروحة في هذا الكتاب، مع الإشارة إلى أن أهمية الكتاب واختلاف مواضيعه لا تغني عنه هذه الورقة التقديمية التي يطبعها الاقتضاب والاختصار.

يتطرق المؤلف في القسم الأول إلى عدد من التصورات التي اهتمت بالدرس الإبستمولوجي والمنطقي للمعرفة العلمية خلال النصف الأول من القرن العشرين، وبالتالي يذهب الكاتب إلى نقد التصور الاستنباطي للعلم، كما تشكل مع كارل بوبر وناجل وهمبل، حيث يؤكد هذا الاتجاه أن "بناء النظرية العلمية خاضع لبنية استنباطية" (الصفحة: 23)، ومن تم يجعلون الاستنباط خاصية جوهرية للنظرية العلمية.

إن الكاتب وإن كان يسلم بأهمية الاستنباط داخل النظرية العلمية، فإنه مع ذلك يبقى هذا التصور محل نقاش ويعتريه النقص؛ ذلك أن التصور الاستنباطي للنظرية العلمية لا يراعي دينامية العمل العلمي ولا الملابسات المقامية التي نشأ فيها، وبالتالي فإن هذا التصور لا يقدم فهما واضحا لطبيعة النشاط العلمي، كما أنه لا يقدم تصورا ملائما وسليما للعقلية العلمية.

وعرض المؤلف في القسم الثاني من الكتاب التصور التجرباني للعقلية العلمية ومدى تهافتها؛ وذلك عن طريق نقده لآلية الاستقراء من الناحية المنطقية والإبستمولوجية، الشيء الذي أدى به إلى دحض التصور الاستقراءاني للمعرفة العلمية، كما أنه قام بتوجيه سهام النقد للتصور اللاستقراءاني، الأمر الذي أدى به في نهاية المطاف إلى رفضه لهذا التصور؛ وذلك لسبب وجيه يتمثل في عجزه عن تقديم بديل للاستقراء، فضلا عن إهماله دور التداعي والتمثيل في تأسيس العقلية والمعرفة العلميتين، وبالتالي فإن الكاتب خلص إلى أنه:

1) لا وجود لملاحظة مباشرة مجردة من كل "قصدية مؤطرة"، أو بلا تأطير نظري للعلم، ذلك أن ما يعطي للملاحظة صفة العلمية هو "الانتباه إلى مجرياتها. بيد أن الانتباه عملية تتضمن اختيارا وانتقاء واختزالا وتأويلا. فلا يلاحظ المرء عادة ما لا يكون بصدد البحث عنه، إلا إذا كانت ملاحظة سطحية لا تثير الذهن. أما الوقوف عند دقائق الظواهر الملاحظة، فإنه يتطلب تركيزا من نوع خاص؛ أي يتطلب نشاطا عقليا مركزا" (الصفحة: 164)

2) لا وجود لتجربة نقية في العلم، إذ إن التجربة نفسها تنطلق من النظرية، أو تكون مؤطرة نظريا، كما أن العلم لا ينطلق من "فراغ ثقافي"، ولكنه عبارة عن جملة من "المسلمات المضمرة"، وبالتالي فهذا "الخزان العلمي، المكتسب عبر التاريخ، هو الذي يبلور التجربة ويخطط لها ويضعها في العملية البنائية تلك" (الصفحة: 188)، وبالتالي فإنه "وبمجرد أن نقر بأن التجربة مشروطة بالمقام المفهومي والأداتي، فإننا نقر حتما بأنها تنتمي إلى إطار نظري محدد، منه تستقي قيمتها الدلالية والمعرفية" (الصفحة: 190).

وتبعا لهذه الاعتبارات يخلص الكاتب إلى التأكيد أن التصور الاستقراءاني قد فشل في تحقيق أهدافه التي سعى إليها منذ البداية، وبالتالي يصل في نهاية هذا القسم إلى أنه من الممكن "الإقرار بأن الاستقراء، منطقا ومنهجا، كما تتصوره الوضعانية، غير بناء. ولذلك يجب مغادرة التجربانية الوضعانية" (الصفحة: 210).

إلى جانب رفضه الاستقراء والاستنباط باعتبارهما بمثابة "المنتهى الأقصى للعمليات التعقلية التي لا تتحقق في الممارسة العملية" (الصفحة: 413)، فإن الأستاذ بناصر البعزاتي يذهب في القسم الثالث إلى رفض التصور الفوضوي كما يتجلى مع فييرابند Feyerabend بالخصوص، هذا الأخير الذي تبنى مفهوما بديلا عن الاستقراء والاستنباط، يتمثل في مفهوم "مضاد-الاستقراء" كآلية للنشاط العلمي، وبالتالي يذهب الكاتب إلى القول إنه "ليس "مضاد-الاستقراء" مفهوما يعبر عن آلية تلقائية أو منطقية للاستدلال، بل هو حد لغوي اصطنعه فيرابند لتبرير مناداته بالفوضى.. وبما أن التجربة تكشف عن انتظام معين في الطبيعة، فلا يمكن أن يكون الفكر العلمي فوضى عشوائية. وبذلك لا مكان لما يسميه فيرابند "مضاد-الاستقراء" في الفاعلية العلمية" (ص: 411-412).

وتبعا لذلك، يرى الكاتب أن التعقل العلمي لا يرتكز لا على الاستنباط ولا على الاستقراء ولا على مفهوم "مضاد-الاستقراء"، ولكن الاستدلال العلمي هو استدلال "استكشافي- تمثيلي"؛ ذلك "إن التعقل يشتغل بمناسبة إدراك ظاهرة أو فكرة أو علاقة ما، فيطبق عليها فكرة سابقة، فهو تعقل يختبر الأمور حالة بحالة، ويقيس الحالة الجديدة على حالات سابقة" (ص: 413)، وبخلاف الاستنباط والاستقراء فإن "التعقل التمثيلي آلية منفتحة على خصوصيات المقام، وحصيلة نشاطها تقبل المراجعة وإعادة البلورة" (ص: 416).

مجمل القول إذن، إن صاحب "الاستدلال والبناء، بحث في خصائص العقلية العلمية" وخلافا للتصورات الأخرى التي ذكرناها آنفا (الوضعانية واللاوضعانية)، يرى أن الآلية التي تؤسس للبحث العلمي تتمثل بالأساس في "الاستكشاف التمثيلي"، وبالتالي فإن المنهج الذي يجب استخدامه في النشاط العلمي هو منهج استكشافي تمثيلي واستنباطي.

في الأخير، فإننا لا نزعم اطلاقا أن هذا التقديم المجمل يلم بكل قضايا ومحاور هذا العمل العلمي الغني والمفيد، بل هو مجرد محاولة متواضعة لتقديم فكرة عامة عن الكتاب، وبالتالي فإن غناه وتنوع مضامينه وتحليلاته تجعل أي محاولة في تقديمه يكتسيها العوز والنقص، وبالتالي فلا مانع يمنع القارئ المغربي خاصة والعربي عامة من قراءة هذا العمل الذي يعود لأحد أعمدة الفكر العربي والإسلامي المعاصر، الأستاذ الفاضل الغني عن التعريف بناصر البعزاتي الذي تتلمذ على يد الأستاذ سالم يفوت، هذا الأخير الذي بدوره تتلمذ على يد المفكر الكبير الأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري، صاحب رباعية "نقد العقل العربي".