قراءة في كتاب الباحثة والمؤرخة صوفي بسيس: "المأزق المزدوج؛ الكونية في مواجهة الأصوليتين الدينية والتجارية"( )


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب الباحثة والمؤرخة صوفي بسيس:  "المأزق المزدوج؛ الكونية في مواجهة الأصوليتين الدينية والتجارية"( )

تقدم المؤرخة والباحثة صوفي بسيس في كتابها الجديد "المأزق المزدوج. الكوني في مواجهة الأصوليتين الدينية والتجارية" قراءة للتناحر الطائفي في العالم العربي-الإسلامي في سياق الليبرالية الجديدة الحالية، وهي القضايا التي خبرتها بشكل مألوف[1]. تحلل الباحثة هذه الظواهر المعقدة باهتمام بالغ مع تحديد القرائن السياقية، وضرب المثل مع الاعتماد على العديد من المصادر التاريخية والصحفية.

يوضح عنوان الكتاب الأطروحة المركزية لهذا العمل: الإسلام السياسي لا يشكل رد فعل هوياتي ضد الليبرالية الاقتصادية، على العكس من ذلك، إنه يتوافق معها بشكل جيد للغاية. هاتان الأصوليتان؛ الدينية والتجارية، نتاج لما بعد الحداثة، تتعارضان مع الكونية الديمقراطية؛ لأنهما تختزلان المواطنين في الحالة الأولى في مرجعيات هويتهم، وفي الحالة الثانية في دورهم كمستهلكين.

بتوضيح الأطروحة المركزية، ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام؛ يشير كل قسم من الكتاب إلى أبعاد اشتغال الديناميات الهوياتية والتجارية في العالم العربي-الإسلامي.

في القسم الأول من الكتاب الموسوم بـ "زمن الشذوذ" تبرز المؤرخة صوفي بسيس أرقام عدد السكان، وتعرض ديموغرافيا في ارتفاع مهول أمام طلبات السوق، لتفسر خلق كتلة جماهيرية خاملة من وجهة النظر السوسيو-اقتصادية، كتلة جماهيرية حساسة ومتأثرة بالمواعظ والخطب الدينية.

وبتشجيع من سياسات الولادة الدينية من كل طرف، فإن الانفجار السكاني الحالي يتناغم تماماً مع الاقتصاد الليبرالي الجديد الذي ترى خطاباته المدعومة في كل فرد مستهلك فعلي.

وإذا كان المذهب الليبرالي الجديد يتميز بتوحيد سياسات الإنتاج، فإن آثاره الاجتماعية والاقتصادية تختلف من الشمال إلى الجنوب، لتخلق هوة اقتصادية أولا وثقافية ثانيا.

وتصر الباحثة على هذا العبور، وهذه الحاجة لخلق تغيير بواسطة الخطابات لتحويل الحدود الاقتصادية والاجتماعية أولا، إلى حدود ثقافية معيشة من وجهة نظر الهويات من قبل الشعوب، سواء في الغرب أو في الشرق؛ فالهويات تتعرض للتشيؤ، ويُنظر إليها باعتبارها بنيات مُشكّلة للفرد والجسد الجماعي. هذه القراءة الهوياتية للاختلاف بين الشمال والجنوب هي إحدى تجليات التوتر القائم بين التجانس-التنافر الذي يدمغ السياق العالمي الحالي.[2] تركز الباحثة صوفي بسيس على دول الشرق الأوسط لتبرهن بأية طريقة استطاع العالم العربي-الإسلامي تماماً أن يخلط الخطاب حول الهوية مع الاقتصاد الليبرالي الجديد.

في القسم الثاني الموسوم بـ "ثورات وثورات مضادة" يتم تحليل دواليب المواجهات بين المطالب الديمقراطية والتيار الديني المحافظ، حيث أولت الباحثة صوفي بسيس أهمية خاصة لتداخل السياسة مع الدين باستغلال السياسة للدين واستخدامه كأداة، وهي استراتيجية مستخدمة منذ حقبة ما بعد النبوة، لكنها ليست غريبة على حركات التحرر الشعبية والأنظمة الاستبدادية التي ظهرت بعد الاستقلال، بل أيضاً استراتيجية قائمة في التقليد الفكري العربي في القرن العشرين، فالإسلام باعتباره دينا، ينتقل بالتالي إلى نظام مرجعي وطني وحضاري لجميع سكان الأراضي العربية.

إن المرجعية الدينية، باعتبارها نسيجا هوياتيا مشتركا، ممتزجة في البداية مع المشروع الحداثي وتُستخدم كمصدر نهائي للشرعية من أجل تحرير هذه البلدان من الديكتاتوريات الحاكمة. هذا الاختيار للهوية، الذي قام به دوماً المثقفون المسلمون، يحمل بين ثناياه "الإغراء الكلياني" وعززته السياسات الغربية الاستعمارية. في فكرة الهوية العربية-الإسلامية الشمولية يتشكل إسلام تجاري يطالب به أصحاب المشاريع الاقتصادية الإسلاموية، وذلك باستخدام الليبرالية الاقتصادية لتعزيز إيديولوجيا الإسلاموية السياسية.

أما بالنسبة إلى الثورات العربية، تميز الباحثة صوفي بسيس بين مرحلتين: مرحلة ما قبل الأنظمة الديكتاتورية، حيث تذرع الحجاج الجدلي الديني بمشروع حداثي ذي نمط ماركسي ومرحلة ما بعد الديكتاتوريات، استعاد فيها الحجاج الجدلي الديني الأسس الإيديولوجية المحافظة بإحداث انشقاق بين المحافظين الدينيين والعلمانيين. وساهم بروز الحركات الدينية الشمولية في صعود وتنامي التيار الديني المحافظ؛ فالإسلام العقائدي المتشدد العابر للأوطان يتعارض مع أنماط الإسلام المحلي، ويقدم هوية متجانسة تتجاوز الحدود الجغرافية وترغم أيضاً سكان الأراضي العربية على إعادة النظر في علاقتهم بالدولة القومية. ما وراء مختلف الحركات السياسية والدينية، ما زال قائماً في الوطن العربي-الإسلامي، حيث التناقض بين المطالبة بسياسة ديمقراطية جماعية والقيود المفروضة على حرية الأخلاق على المستوى الفردي.

في الفصل الأخير من كتاب صوفي بسيس "المأزق المزدوج. الكوني في مواجهة الأصوليتين الدينية والتجارية" تقدم المؤرخة تحليلا خطابيا للمواقف السياسية التي اتخذها الغرب بصدد الثورات العربية وصعود الأصوليات الدينية، وفق استنتاجات واضحة لا لبس فيها: سياسات اليسار كما هو الشأن لسياسات اليمين تُسهم في إبراز رؤية هوياتية لسكان الجنوب الذين يتم اختزالهم في الآخر. ويصبح هذا الآخر العربي-المسلم فئة اجتماعية، تارة تتعرض للتمييز بسبب اختلافها فتتولد العنصرية، وتارة يتم تمجيدها باسم التعددية الثقافية. هذه الأحكام السياسية تمنع أي تفكير نقدي بشأن الإسلام، فيتم نعت الغرب بسهولة جداً على أنه كاره للإسلام.

في مواجهة خطر التمييز والمفاضلة تسلط المؤرخة صوفي بسيس الضوء على ضرورة إعادة تأريخ وإعادة تحديد سياق الإسلام الذي يُختزل اليوم في قطب هويته الوحيدة. في هذا المعنى، ترفض الباحثة استخدام مفهوم الإسلام المعتدل الذي يدين مسارات وطرائق التعبير خارج الإطار الديني. هذه الفئة لا يدعمها الغرب إلا من أجل تحديد كل حركة تتفق مع المصالح الغربية، وبشكل عام مع مبادئ السوق النيوليبرالي.

الأصوليات الدينية والتجارية، التي تتعارض مع المشروع الكوني للحداثة، هي نتيجة لتراث فكري غربي وشرقي ولسياق عالمي، حيث تميل الصراعات ذات الطابع الثقافي إلى حجب المواجهات بين المهيمن والمهيمن عليهم. هذه الأطروحة التي تحتوي على عناصر للقيام بقراءة مادية وماركسية للأحداث لم تعمل الباحثة صوفي بسيس سوى على رسم معالمها والقارئ على التخمين بفرضياتها. ومع ذلك، يجد القارئ في ثنايا هذا الكتاب مفاتيح قراءة وثيقة الصلة بالموضوع وواضحة لفهم حرائق الهويات واشتعالها في الوطن العربي-الإسلامي: تحديد سياق الإيديولوجيات التي تعيد إدراج الحركات الإسلامية في تاريخها وعلاقاتها مع الغرب وعمل تفكيكي لبعض الفئات الفكرية (على سبيل المثال: الإسلام المعتدل) الذي يعزز استخدامه ويقوي القراءات الهوياتية للوقائع الاجتماعية الراهنة.

[1] على سبيل المثال كتاب "الغرب والآخرون. تاريخ تفوق". صوفي بسيس 2003

[2] لتفسير هذه الدينامية تحيلنا الباحثة صوفي بسيس على كتاب الأنثربولوجي أرجن أبادوري "بعد الكولونيالية. الأبعاد الثقافية للعولمة"

البحث في الوسم
صوفي

مقالات ذات صلة

المزيد