"البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي" لفريد الأنصاري


فئة :  قراءات في كتب

"البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي" لفريد الأنصاري

قراءة في كتاب: "البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي"لفريد الأنصاري


كتاب "البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي" للمفكر المغربي الراحل فريد الأنصاري (توفي في نونبر 2009) واحد من الإسهامات المهمة في مجال دراسة الحركات الإسلامية الحديثة والمعاصرة، إذ يكشف بطريقة منهجيّة كثيراً من المعطيات والشواهد حول نماذج التفكير عند هذه الحركات، وينير زوايا عديدة معتمة في بنية خطابها وسلوكها الدعوي (الديني) والسياسي على السواء.

وأهمية هذا الكتاب لا تنبع فقط من قوة وجرأة الأفكار التي يطرحها، بل أيضاً من موقع مؤلفه: فريد الأنصاري داخل المجال التداولي الإسلامي (الأصولي)؛ فالرجل أحد رموز الدعوة الإسلامية في المغرب، وشهرته طبقت الآفاق، باعتباره مفكراً إسلامياً ناقداً لا يشق له غبار.

الإشكالية التي يطرحها الكتاب ـ كما يتضح من عنوانه ـ هي علاقة السياسي بالدعوي في مشروع الحركة الإسلامية (مشروع "التجديد الإسلامي")، وهي الإشكالية المحورية التي تخترق بنية ومسارات العمل الإسلامي المعاصر، فكرياً وحركياً، ليس في المغرب وحده، وإنما في كل أنحاء العالم العربي.

أمّا الفكرة المركزية التي يدور حولها الكتاب، فتتحدّد في أنّ ظاهرة "التضخم السياسي" لدى الحركات الإسلامية، وتعريفها: طلب "السلطان" قبل "القرآن" و"الدولة" قبل "الدين"، ومن ثم حصر العمل الإسلامي في الشأن السياسي، أفقدت هذه الحركات طبيعتها الدعوية التي هي أصل وجودها وشرط تميزها وفرادتها (أصبحت السياسة هي الأصل والدعوة هي الفرع وليس العكس)، وحوّلتها إلى "مجرد أحزاب ذات نَفَس إسلامي" لا تختلف في تفاصيل بنائها وتكوينها عن غيرها من التنظيمات الحزبية والسياسية ذات المراجع الأيديولوجية الدنيوية.

بسبب حساسية الموضوع، وغياب الاستعداد النفسي والفكري لتقبّل النقد الذاتي لدى معظم قيادات الحركات الإسلامية ومنظريها، جرّ هذا التصور على صاحبه كثيراً من المتاعب، وزجّ به في أتون التجريح الشخصي من قبل بعض المندفعين من أبناء التيار الإسلامي، الذين رأوا فيه هجوماً مبطناً على "شمولية" المشروع الإسلامي، الذي يجب أن يماهي بين الدين والسياسة، وذلك على الرغم من وجاهة الأدلة والأسانيد النقلية (النصوص الشرعية) والعقلية (الاجتهادات الفقهية) والموضوعية (شواهد الواقع)، التي ظلّ المؤلف يستحضرها ويحشدها في كل صفحة من صفحات الكتاب لدعم أطروحته في نقد ونقض ادعاءات الإسلاميين المغاربة، والإسلاميين عموماً، سواء من أصحاب "الاختيار السياسي المشارك" (الحركات الإسلامية المعتدلة)، أو من أصحاب "الاختيار السياسي الصدامي" (الحركات الإسلامية الجهادية)، وبيان الأخطاء التي دفعتهم إلى الانحراف عن الصراط "الدعوي" والانزلاق بعيداً عن أصول تجديد الدين ـ منهجاً وممارسة ـ كونه هو الغاية الأساسية التي ينبغي أن ينصرف إليها جهدهم، وجهد كل مشروع إسلامي يعمل من أجل استعادة فكرة / مثال الإسلام، هذه الأصول التي تحددها "الرسالة القرآنية" (أو البيان الدعوي/القرآني) التي يركز عليها المؤلف، وهي ميدان خبرته، ويفيض في شرح دلالاتها بكل ما تنطوي عليه من تفرعات وهوامش تغطي مناحي الحياة الإنسانية كافة.

الكتاب، فضلاً عن كونه مراجعة نقدية مركزة لجانب أساسي من "المفاهيم" و"التصورات" و"المناهج" التي تتبناها الحركات الإسلامية، ودعوة إلى إعمال مبدأ "المحاسبة" (النقد الذاتي)، لتصحيح مسار العمل الإسلامي في المغرب وفي الدول العربية والعودة به إلى جادة الصواب الشرعي؛ أي إلى مواقعه الطهرانية الأولى: التربوية والدعوية، هو أيضاً رؤية استشرافية لما يمكن أن تتكبده المجتمعات الإسلامية والإسلام نفسه من خسائر حضارية إضافية، إذا استمرت الحركات الإسلامية على نهجها الاندفاعي في "تحزيب الإسلام"، ولم تتغير.

والحقيقة أنّ الأنصاري كان بعيد النظر في تحفظاته وفي تحليلاته الافتراضية، فكثير من عناصر نقده تحقق فعلاً في الواقع بعد الثورات العربية (التهافت على السلطة الذي أبداه الإسلاميون بمجرد أن لاح لهم ضوء في النفق، دون الالتفات إلى اعتبارات الكفاية والجدارة)، وما كتبه قبل أكثر من عقد من الزمن (أنجز الكتاب في العام 2000 وصدر في العام 2003) عن مشكلة "الافتتان بالوسائل عن الغايات" لدى الحركات الإسلامية رأيناه جميعاً متجسّداً في حساباتها وفي سلوكها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وتحديداً في مصر مع تجربة حكم جماعة الإخوان المسلمين (يونيو 2012 ــ يوليو 2013) التي انتهت مجرياتها على نحو مؤسف، ليس فقط بسبب توترات / تعقيدات الحالة الثورية، والتآمر الخارجي (اتحاد العسكر وقوى "الثورة المضادة" مع أطراف إقليمية ودولية لإسقاط الرئيس محمد مرسي)، وهي بالتأكيد عوامل كان لها دور فاعل في سقوط حكم الجماعة، ولكن أيضاً لفداحة الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها خلال سنة حكمها، والتي تحكّم، في جزء كبير منها، هاجس الاندفاع وراء "السلطان" قبل "القرآن"، وتغليب "الدنيا" على "الدين"، وتقديم "السياسي" على "الدعوي"، فكانت الخسارة النهائية مزدوجة: إذ في وقت واحد، وبالدرجة نفسها، ضيّعت الحركة الإسلامية الأقدم في التاريخ العربي الحديث والمعاصر رهانها في "السياسة" كما ضيّعته في "الدعوة".


بيانات الكتاب:

العنوان: البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي

المؤلف: الدكتور فريد الأنصاري

عدد الصفحات: 191 صفحة

الناشر: ألوان مغربية ـ مكناس (سلسلة "اخترت لكم"، العدد 19)

تاريخ النشر: 2003