قراءة في كتاب "المرأة وصنع القرار في المغرب" للدكتور المختار الهراس


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب "المرأة وصنع القرار في المغرب"  للدكتور المختار الهراس

قراءة في كتاب "المرأة وصنع القرار في المغرب"([1])

للدكتور المختار الهراس([2])

إذا كانت وضعية المرأة في العالم العربي عامة، وفي المغرب خاصة، وضعية تتأرجح بين الاعتراف السياسي والثقافي في صيغته النخبوية، فإن الوضع الاجتماعي والاقتصادي يشكل أحد العراقيل المركزية أمام تمكينها من المساهمة في قضايا الشأن العام، ومن ثم المشاركة على قدم المساواة بالرجل في صناعة القرار السياسي بما هو المدخل الرئيس لبناء المجتمع المواطن.

ولعل "مشاركة المرأة السياسية، بأشكالها المباشرة وغير المباشرة، مؤشر أساسي من مؤشرات التطور الحضاري لأي مجتمع، لأن نهوض المرأة وكونها شريكا في صنع القرار، وتحملها المسؤولية في التغيير الاجتماعي، والتخلص من سمة التبعية على كافة الأصعدة، كل ذلك يعطي الوطن دفعة إلى الأمام، وزخما متسارعا نحو تحقيق خطط التنمية وإنجاز المزيد من التقدم للمجتمع ككل([3])".

في هذا السياق، تعزّزت المكتبة العربية بالعديد من الدراسات ذات الصلة، أخذت على عاتقها دراسة واقع المرأة وخلفيات ومرجعيات الإقصاء والتهميش الذي يطالها، ويهدد بالتالي مستقبل البلدان العربية، طالما أن بناء مجتمعات المواطنة ودول الحق والقانون لن يستقيم إلا بمساهمة كل المواطنين في أوراش التنمية التي يستحيل تحقيها إلا عبر مساهمة المرأة بدورها في قضايا الشأن العام، وخاصة على مستوى صنع القرار.

ضمن هذا الأفق تأتي دراسات وأبحاث عالم الاجتماع المغربي المختار الهراس، الذي يعد أحد الأسماء الفارقة في المشهد السوسيولوجي المغربي، والعربي على حد سواء. إنه من الدارسين المغاربة القلائل الذين انبروا إلى دراسة قضية المرأة في مختلف أبعادها، باعتباره أحد مؤسسي سوسيولوجيا الأسرة. وقد عرف بالعديد من المبادرات الفاعلة في ميدان السوسيولوجيا، مما أهله للمساهمة في التأسيس لمدرسة سوسيولوجية قائمة الذات، سواء من خلال إنتاجاته الفردية أو المشتركة مع زملائه من السوسيولوجيين المغاربة، إذ تكفي الإشارة إلى بعض مؤلفاته للدلالة على سبق تجربة الرجل في هذا المجال، فمن كتابه "الثقافة والخصوبة، دراسة في السلوك الإنجابي بالمغرب"([4])، و"المناهج الكيفية في العلوم الاجتماعية"([5])، و"المرأة وصنع القرار في المغرب"([6])، إلى غير ذلك من المقالات والدراسات التي شكلت على امتداد السنوات مراجع لا مندوحة عنها لكل طالب أو باحث أو مهتم. ينخرط المختار الهراس، بمؤلفه/ دراسته هذه، ضمن دائرة الاهتمام بموضوع المرأة التي أضحت هاجسا رئيسا في السنين الأخيرة من طرف الدارسين والفاعلين الاجتماعيين على اختلاف مواقعهم، الذين سعوا إلى ملامسة هذا الموضوع كل من موقع تخصصه، لم لا وموضوع المرأة أضحى كما يقول المؤلف: "محور جذب واستقطاب ونقطة تحول في مسار التنمية لمغرب الألفية الثالثة".([7])

قسم الباحث المختار الهراس فصول كتابه "المرأة وصنع القرار في المغرب" إلى الآتي:

- القسم الأول: صنع القرار في المجتمع المغربي: الإطار المفاهيمي والسياق المجتمعي

- القسم الثاني: صنع القرار في إطار أدوار علاقات النوع الاجتماعي

يتوزع كل من القسمين على قضايا متنوعة وغنية، تغري القارئ بمتابعة قراءة الدراسة من أولها إلى آخرها، ناهيك عن الملاحق التي ذيل بها المؤلف كتابه، ولائحة للمراجع باللغتين العربية والفرنسية.

وتتلخص الأطروحة الرئيسة لهذا الكتاب في مساءلة مدى مساهمة المرأة المغربية في صنع القرار بكافة أنواعه: الأسري والمهني والسياسي والجمعوي....، من عدمه، متوسلا في ذلك منهجا قوامه الاستفادة من خلاصات العمل الميداني الذي تم القيام به في إطار هذه الدراسة، والذي وظفت فيه العديد من التقنيات الكيفية ذات الصلة بالبحث السوسيولوجي. ومن الأهمية بمكان، القول إنَّ المختار الهراس قد أسهم بمؤلفه هذا في فهم آليات صنع القرار والمعيقات التي تحول دون بلوغه مداه الأبعد.

بداية لابد من الإشارة إلى أن المؤلف يؤكد دوماً أن "المناهج الكيفية توفر المعلومات والتفاصيل حول المواضيع المدروسة ما لا توفره المناهج الكمية"([8])، ومن هذا المنطلق، سعى إلى توظيف تقنيتين كيفيتين في دراسته، ومن خلالهما تمت مناقشة وصياغة أهم القضايا المتعلقة بموضوع صناعة القرار، وهما: المقابلة نصف الموجهة ودراسة الحالة، دون أن يغفل الاستفادة من آراء المستجوبات، ومن الإحصائيات الرسمية وغير الرسمية ذات الصلة بمشاركة المرأة في صنع القرار بالمغرب على مختلف الأصعدة.

فمن خلال تبني المنهج الكيفي، يظل الباحث منسجما مع ذاته في تبنيه هذه النوعية من المناهج التي وظفها غير ما مرة في دراسة القضايا الاجتماعية، كما نجده في دراساته المتعددة يلح على التدقيق في الأدوات المنهجية وصياغة المفاهيم بشكل مدقق.

- تطور المشاركة النسائية في صناعة القرار بالمغرب ومحدداتها

لا يختلف اثنان، حول اتساع مدى مشاركة المرأة في العديد من القطاعات الاجتماعية والإدارية والاقتصادية والسياسية، وإن بدرجات متفاوتة، لكن وكما يؤكد على ذلك المؤلف، فهذه المشاركة وإن كانت محدودة بالنظر إلى اتساع رقعة المشاركة الذكورية، فهي تؤشر على تحول نوعي في المجتمع المغربي، سمته الأساسية الاتجاه نحو تقاسم المسؤولية في إدارة الشأن العام، كما أنها تعد مثالا بارزا في اتجاه وضع حد لعقود من التهميش طالت المرأة، إن في كينونتها أو تواجدها في الحياة الاجتماعية والأسرية، ويكفي النظر إلى معطيات التواجد النسائي في القطاع العام: الصحة والتعليم أو المجال الإعلامي...إلخ، لنتبين حقيقة هذا التحول الذي أشار إليه المؤلف في دراسته.

تظل المشاركة السياسية، أبرز مؤشر يقاس من خلاله الحضور البارز للمرأة، والتي جاءت في سياق إرساء ركائز الدولة الحديثة القائمة على مقتضيات التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ذلك أن العلاقة، كما أثبت ذلك العديد من الدارسين لقضايا المرأة، بين تعزيز دور المرأة في العملية الديمقراطية وتعزيز الديمقراطية ذاتها وطيدة للغاية، مثلما تعتبر هذه المشاركة أحد أهم رهانات آفاق التنمية في المغرب، من موقع الفاعل وليس من موقع المتفرج أو التابع، ولو أن هذه المشاركة لاتزال ضعيفة من حيث تمثيل المرأة ومشاركتها في الحياة السياسية إن في الانتخابات التشريعية أو المحلية، أو تمثيليتها في الأحزاب والنقابات.

في هذا السياق، يشير المؤلف إلى أنه أمام هذا الوضع انبرت الحركات النسائية للدفاع عن مطلب حق المرأة في تدبير الشأن العام، وتصحيح الاختلال القائم في هذا المجال، من خلال مناداتها بإستراتيجية تدعو إلى اتخاذ إجراءات ملموسة على أرض الواقع.

وقد تعزز دور الحركة النسائية في إبراز قيم المواطنة، كإحدى الشعارات الكبرى لبروز الذات النسائية كفاعل مؤثر في السياسات العمومية، وفي المجال العام وتؤكد الباحثة نانسي أن الفضاء العام سيتحول تدريجيا لصالح تملك النساء له عبر التعبير عن مطالبهن بشكل متساو وفيه إنصاف، وإن اتخذ أبعادا راديكالية.([9])

- "الكوطا" مطلب الحركات النسائية وخلفياتها

تعد قضية "الكوطا"، أو العمل بنظام الحصيص أو المحاصصة، من بين أهم القضايا التي اشتغلت عليها الحركات النسائية بالمغرب، كإجراء استنهاضي لواقع المرأة، ذلك أن هذا النظام يعد من أهم الآليات التي تدعم المشاركة السياسية للمرأة، من خلال تحديد نسبتهن في المناصب القيادية واتخاذ القرارات وتنفيذها إبان الانتخابات بمختلف أنواعها. وقد بررت هذه الحركات هذا المطلب بكونه تمييزا "إيجابيا" وانتقالا عبر "لا مساواة مؤقتة"، إلى مساواة فعلية بين الجنسين، اقتداء بالتجارب الديمقراطية العريقة، خاصة بعد مصادقة المغرب على الاتفاقيات الدولية الخاصة بالمرأة، وإعلانه العمل على تفعيل مقررات بيكين سنة 1995، ومن ثم ملاءمة ترسانته القانونية (مدونة الشغل، القانون الجنائي والمسطرة الجنائية ....) لصالح إرساء مبدأ المساواة وإنصاف المرأة، تماشيا مع مختلف المواثيق الدولية الصادرة في الموضوع، وقد أورد المؤلف مثلا لما تتمتع به المرأة في الاتفاقيات الدولية من حقوق، حيث تشير الاتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للنساء لسنة 1950 في المادة 2 إلى أنه: "للنساء الأهلية أن تنتخب الهيئات بالاقتراع العام، والمنشأة بمقتضى التشريع الوطني بشروط تساوي بينهن وبين الرجال دون تمييز"، ناهيك عن سياسات أخرى قام بها المغرب، والتي تنحو منحى ترسيخ المساواة بين الجنسين. يقول المختار الهراس عن التغيرات التي مست الأطر القانونية إنها: "واكبت التحولات التي عرفها المجتمع والأسرة في المغرب...بل وصارت في العديد من المجالات بمثابة قاطرة تجر الأسرة والمجتمع نحو المزيد من التغير والتنمية".([10])

وعلى الرغم من أهمية مطلب الحركات النسائية المتعلق بالكوطا، فإن الباحث يعتبره متعارضا مع مبدأ آخر، وهو مبدأ المساواة في الفرص، باعتباره أحد أهم أسس البناء الديموقراطي، مقدما في ذلك تبريرات تنم عن إلمامه وتتبعه لمتطلبات المشاركة السياسية للمرأة على قدم المساواة مع الرجل، معتبراً أن الفضاء العام قد عرف "تحولا نوعيا واقتحاما للمجال السياسي الذي كان إلى وقت قريب مغلق بالنسبة إلى المرأة"([11])، خاصة وأن هذه الأخيرة أضحت شريكا أساسيا في تحقيق أهداف التنمية ومساهما فعالا في تطوير النسيج المجتمعي، ومن الجدير التنبيه إلى أن ضعف تواجد المرأة في المجال السياسي يؤثر بشكل جدلي على المجال الجمعوي، ومن ثم على فعالية المجتمع المدني، رغم تنامي الدور الذي صارت عليه سيرورة بناء المجتمع الحديث وضمان مشاركة المرأة في توطيد أركان التنمية الاجتماعية، ومهما يكن من واقع المرأة مغربيا على مستوى صنع القرار، فقد سجلت العشريتان الأخيرتان حضورا قويا للنساء كما ونوعا في صناعة القرار على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية، وهي كما يلي:

أ- المحددات الاجتماعية:

يمر المغرب كغيره من البلدان العربية بتحولات جذرية متسارعة، تعمل على تغيير البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهذا المجتمع، وتؤثر على مختلف الأطراف الفاعلة فيه، وإن بدرجات متفاوتة؛ فارتفاع أعداد السكان صاحبه تطور قطاعات اقتصادية جديدة، وتوسع دائرة الاستفادة من الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم، وتوالي الهجرة المتزايدة نحو التجمعات الحضرية والتي شكلت فيها الإناث حضورا قويا. وقد سارت هذه العوامل في تساوق مع انفتاح النظام السياسي على القيم الكونية في مجال توسيع مجال المشاركة للمواطنين من كلا الجنسين، عبر خطوات تشجع الشراكات مع الفاعلين في المجتمع، وتركيز جهود الدولة على تشييد البنيات الأساسية، كما كان لزاما على مكونات المجتمع مواكبة كافة الخطوات التي قام بها المجتمع الدولي للنهوض بأوضاع النساء كشريك لا محيد عنه في تحقيق التنمية المستدامة، مما كرس حضور المرأة في المشهد العام وعلى كافة الأصعدة، باعتباره حضوراً محورياً بالرغم من العراقيل المرتبطة بالذهنية الذكورية والثقافة التقليدانية.

ب- المحددات القانونية والتشريعية

شكل إقرار مدونة الأسرة، حدثا بارزا من خلال التغييرات المهمة التي تضمنتها عبر إعطاء المرأة أدوارا محورية، داخل التركيبة الأسرية بالتساوي مع الرجل، وهو تطور يعتبره الباحث المختار الهراس "تحولا تاريخيا على صعيد النضال من أجل إقرار حقوق المرأة والطفل وضمان التماسك الأسري"([12])، خاصة وأن أهمية المدونة التي تعد قانونا جديدا للأسرة المغربية تكمن في تنصيصها على مجموعة من المقتضيات ذات الارتباط ببناء أسرة حديثة فردية وجماعية تهم المرأة والرجل والطفل على السواء. لكن بالرغم من المقتضيات القانونية الإيجابية التي تعززت بفضل دستور المملكة، والتي تنص صراحة على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات دون التمييز للون أو جنس أو دين، يؤكد المؤلف أن: "الدستور المغربي، وإن كان يحبل بالعديد من الإيجابيات في هذا الشأن، فالمشاركة السياسية النسائية على أرض الواقع تصطدم بعدة تحديات ليس أبرزها اختزال حق المرأة في العملية الانتخابية كناخبة، بينما ظلت حقوقها كمرشحة مغيبة، ذلك أن الأحزاب السياسية كانت تركز على البعد الكمي للمشاركة النسائية، باعتبارها مشتلا انتخابيا رقميا ليس إلا، مما انعكس على حضورها في المؤسسات المنتخبة، ومن تم تهميش مشاركتها في السباق نحو مراكز صنع القرار الجماعي والسياسي"([13])، الأمر الذي يجعلها لم تحصل سياسيا على تمثيل تعكس من خلاله تقلها النسبي في التعداد السكاني.

- تطور البنية الأسرية بالمغرب وسياقاتها الثقافية والتربوية والاقتصادية

شهد المجتمع المغربي في العقود الأخيرة، العديد من التحولات التي مست بنية الأسرة والعلاقة بين أفرادها، مخلخلة بذلك النموذج التقليدي الأبوي الذي يتميز بالامتداد وبتمركز سلطة الأب بصفته رب الأسرة، وبالرغم من أن هذه الأخيرة قد اكتسبت في المقابل طابعا نوويا وأحاديا، إلا أن النموذج السابق احتفظ بنوع من الاستمرارية. ومن بين أهم التحولات المهمة التي أبرزها الباحث في سياق التحولات الاجتماعية والديموغرافية التي عرفها المغرب، نجد تغير سن الزواج واعتماد أسلوب التفاوض الدال على التواصل والسماح بقدر من الاستقلال الذاتي للأطفال، مع متابعة لأنشطتهم، ومع ذلك يستخلص أن الاستقلال الذاتي ظل نسبيا مع استمرار تأثير قيم الأسرة التقليدية.

تأسيساً على ما سبق، تجدر الإشارة المرجعية إلى وضعية المرأة في سياق صنع القرار والمشاركة الفاعلة في الشأن العام، إلى ضرورة دراسة العوامل المحددة لتعزيز قدرة المرأة على اتخاذ القرار، حيث نجد من بين أهمها: المستوى التعليمي والمهني اللذين لعبا دورا كبيرا في تعزيز التواصل وتكثيفه بين الجنسين، وفي امتلاك قدرة واسعة على اتخاذ القرارات التي تهم مصير الأسرة عامة، وشخص المرأة بصفة خاصة.

وبالاستناد إلى بعض الدراسات والأبحاث المنجزة في هذا المجال، أكد الباحث في مؤلفه، أن تواجد النساء في العمل خارج البيت لم يفض إلى مشاركة حقيقية للمرأة المغربية كقوة عمل وازنة كما كان مأمولا، خاصة أمام استمرار الذهنية الذكورية التي تقزم فضاء المرأة المفضل في بيتها، وهي ذهنية لم تستمر فقط بالحضور، بل تطورت بشكل ينم عن ممانعة ثقافية للتغيير، حيث ما يزال البعض يعتبر المرأة لا تجيد سوى مهن محددة كبعض أعمال الخدمة الاجتماعية، أضف إلى ذلك أن دور الآباء لم يرق إلى مستوى المساعدة الحقيقية لعملها المأجور، الذي استمر النظر إليه كعمل يتناقض مع دور المرأة كزوجة وربة بيت.

في هذا السياق، لعب الموروث الاجتماعي ومنظومة القيم والمعتقدات والاتجاهات المؤثرة في السلوك، دورا كبيرا في تكريس النظرة الدونية لعمل المرأة، وفق نفس القيم الذكورية، باعتبار مكانها الطبيعي هو البيت، بينما المقتضيات الخارجية تظل من اختصاص الرجل، وهو ما عمق من تهميش النساء وإبعادهن بكل السبل عن المشاركة في صناعة القرار أسريا كان أو مهنيا. إلا أنه وعلى الرغم من سيادة العقلية الذكورية، فالتطور الذي حصل في المجتمع، أدى، كما يورد الباحث في كتابه، إلى ما سماه بـ "تأنيث" العديد من القطاعات الاقتصادية العمومية والخاصة، وتنامي المشاركة النسائية في أنشطة الجمعيات التنموية المحلية والحقل المدني بشكل عام، الذي ظل ولعقود طويلة حكرا على الرجل الذي عمل وما يزال على إقصاء المرأة من المشاركة في التفكير والتخطيط والتقرير.

ثقافة النوع الاجتماعي ودورها في صناعة القرار بالنسبة إلى المرأة

عرفت ثقافة النوع الاجتماعي بالمغرب تطورا ملموسا، إذ تحولت من كونها أداة لجمع المعطيات الإحصائية ذات الصلة بالجنس إلى مقاربة معرفية وإبستمولوجية، كما يؤكد على ذلك المختار الهراس. والنوع الاجتماعي في أبسط معانيه، يعني النظر إلى المرأة كفرد في المجتمع له دور قائم بذاته، وبالتالي فهي وفق هذا المنظور شريكة للرجل، لا على أساس كونها أنثى لها خاصيات فيزيولوجية وجسمانية معينة، وهي الخصائص التي يتم توظيفها في الغالب الأعم لاستبعاد المرأة من تولي المناصب، حيث ينعكس هذا الأمر على علاقة المرأة بصنع القرار، بل على أساس حقها في المواطنة الكاملة، خاصة وأن كل الفاعلين التنمويين أصبحوا يقرون بحقيقة محورية مفاده أن لا تنمية بدون مشاركة واسعة للمرأة. لكن وبالنظر للثقافة الذكورية السائدة، لم تستطع المرأة ولوج المسؤولية والقرار، اللهم بعض الاستثناءات، غالبا ما تكون نتاج مجهودات شخصية للمرأة ذاتها.

ومع ذلك، يؤكد الهراس في كتابه أن ثمة تطورا ملموسا سمح للمرأة بولوج الحقل الاقتصادي والتنموي عامة، رغم سيادة منطق يجتهد باستمرار في إبعادها من دوائر القرار بمبررات أبعد ما تكون عقلانية ومنطقية.

لكن ماذا عن خصائص المشاركة النسائية في صنع القرار؟ وما هي القيمة المضافة لشخصها من خلال هذه المشاركة؟

يقر المؤلف أن هناك اختلافا في مشاركة النساء في صنع القرار عن تلك التي تميز الرجال، وإذا كان يُنظر إلى المرأة دائما على أنها الأضعف في شتى نواحي الحياة، فإن الضرورة تقتضي التصدي لهذا الموروث التقليدي الراسخ في الأذهان، وهي مهمة ملقاة على كل الفاعلين، خاصة وأن المواطنة المجتمعية تقتضي لزوما مشاركة المرأة في مختلف قضايا الشأن العام.

إن لمن شأن توسيع دائرة المشاركة النسائية مساعدة المرأة على اكتساب حصانة فكرية وثقافية وتعزيز مكانتها في المجتمع، وإغناء لشخصيتها وصقل لمواهبها وقدراتها الفكرية، بالإضافة إلى تعزيز وتوظيف طاقات المجتمع كاملة ومدخراته في سبيل تحقيق التنمية الشاملة.

يقول المؤلف في هذا الأفق: "لقد أحدث خروج المرأة للعمل ومشاركتها في صنع القرار رجة قوية في الحياة الاجتماعية "([14])، موضحا من خلال كتابه حجم التأثير النسوي على مجمل الحياة العامة، ذلك أن عمل المرأة ومشاركتها الرجل في التدبير الاقتصادي للأسرة، منحها إمكانية المساهمة في صنع القرار داخل الأسرة ماديا واجتماعيا، كما فرض على المجتمع تغيير النظرة إليها كونها مجرد ربة بيت تنحصر مهمتها الوحيدة في تربية النشء.

ولئن كان العمل الاقتصادي محددا في تغيير هذه النظرة، فالمرأة ذاتها، وبالنظر إلى التحولات الجارية في المجتمع، لم تعد راضية عن وضعيتها ككائن مستبعد من دوائر القرار، بل أصبحت على وعي تام بضرورة "إعادة النظر في علاقة السلطة التي تجمعها بالرجل/ الزوج"، كعنصر يتيح لها إمكانية ترسيخ تفاعلها مع المجتمع، مع ما يعني ذلك من الاستقلالية وإثبات الذات، كما يقول المؤلف.

عوائق مشاركة المرأة في صنع القرار

في غياب وعي المرأة بحاجاتها ومصالحها واستعدادها للتضحية، لن تتمكن من صنع قرارها بنفسها، حتى لو توفرت لها كافة الظروف المشجعة على المشاركة، لما لهذا الأمر من علاقة بطبيعة الموروث الاجتماعي ومنظومة القيم بالمجتمع التي تتبلور من خلال التنشئة الاجتماعية التي تتلقاها المرأة في مسار حياتها.

وأكيد أن من بين المعيقات التي ساقها الباحث في هذا الكتاب والمرتبطة بالأسرة، نجد غياب الدعم الأسري أو التشجيع من قبل الرجل للمرأة على المشاركة في القرار، خاصة لما تتعارض هذه المشاركة مع الاتجاه العام للأسرة.

إن انتفاء الديمقراطية الداخلية في فضاءات الأنشطة الاقتصادية، يكرس جوّا عاما من شأنه استبعاد المرأة من ولوج مناصب القرار لارتباط ذلك بعقلية ذكورية صرفة تنظر إلى المرأة ككائن ضعيف يفتقد المهارة والكفاءة، وعلى الرغم من أهمية دور المرأة في الحياة السياسية الذي يكسبها احتراما لمواطنتها وثقتها بقدرتها على الفعل والتغيير، والمكانة التي أضحت عليها في المجال السياسي، فما تزال هناك عدة عوائق تحول دون مشاركتها بشكل فاعل وواسع في المشروع السياسي، ليس أبرزها الضعف الواضح على مستوى الممارسة السياسية والخبرة الميدانية في هذا المجال، أي غياب رصيد موجه للنساء في العمل السياسي، ناهيك عن تمثلهن لبعض الممارسات الاقصائية تجاه بعضهن البعض، وهو الأمر الذي يحول دون امتلاكهن قوة ضغط داخل الكيانات السياسية والنقابية والجمعوية.

وهو ما يرجع، كما سبق الذكر، إلى مشمول القيم والمعتقدات والعادات والتقاليد السائدة التي تحول دون امتلاك موقع خاص بالمرأة، ومن ثم المساهمة في صناعة القرار على مستوى العمل، ويتجلى ذلك في العالم القروي على وجه الخصوص، حيث "تتخلى المرأة عن المطالبة بحقها في الإرث حفاظا على الموروث العائلي".([15])

عموماً، يمكن اعتبار العوائق التي تحول دون مشاركة المرأة في صناعة القرار، بأنها ذات طابع ثقافي وبنيوي، ولو أن وتيرة التغير الاجتماعي أفضت خلال السنوات الأخيرة إلى تنامي فرص تحقيق النساء عامة لاستقلاليتهن الذاتية.

وهكذا رغم التحولات التي مست خلية الأسرة بوصفها الخلية الأساس للمجتمع والفاعل في إعادة الانتاج والتنشئة، فإن طبيعة الموروث المجتمعي الراسخ في الذهن، ما يزال يمنح الأفضلية للرجل في اتخاذ القرارات الحاسمة، حتى تلك التي تهم المرأة ذاتها، مما يجعلنا وجها لوجه أمام تحدي تحقيق نموذج الحداثة السياسية في المغرب السياسي؟

تأسيساً على ما سبق، أصبح العمل الجمعوي والسياسي والاقتصادي، يحظى بدور كبير في التصدي لكافة أشكال الإقصاء التي تمس المرأة وفي فسح المجال أمامها للتغيير والمبادرة إلى الفعل والتغيير، ومن ثم المشاركة في صنع القرار كمؤشر مهم من بين مؤشرات التنمية في أي مجتمع، يؤمن بقدرتها في أن تكون شريكا حقيقيا للرجل في تدبير الشأن العام بكافة تعبيراته.

الشيء المؤكد، ختاما، هو أن كتاب المختار الهراس يعتبر إسهاما قيماً في فهم آليات صنع القرار في مختلف المجالات، ورصد المعيقات، بمقاربة جديدة لقضايا المرأة والأسرة والمجتمع، تبتعد كليا عن المواقف الجاهزة والنمطية اتجاه واقع المرأة في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والمدني.

[1]- مجلة ذوات العدد 45

[2]- المختار الهراس، المرأة وصنع القرار في المغرب، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع "مجد"، ببيروت سنة 2008، عدد الصفحات: 142 صفحة من الحجم المتوسط..

[3]- هيفاء زنكنة، المرأة والمشاركة السياسية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة، شؤون سياسية(4)، بيروت، لبنان، 2011، ص، 14

[4]- المختار الهراس وإدريس بنسعيد: الثقافة والخصوبة، دراسة في السلوك الإنجابي بالمغرب، دار الطليعة بيروت.

[5]- المختار الهراس، "تنسيق"، المناهج الكيفية في العلوم الاجتماعية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، سلسلة ندوات ومناظرات، الدار البيضاء.

[6]- المختار الهراس، المرأة وصنع القرار في المغرب، عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع "مجد"، ببيروت سنة 2008

[7]- نفسه ص 11

[8]- نفسه، ص 14

[9] Nancy Fraser, le féminisme en mouvements: des années 1960 à l’ère néolibérale, la découverte, collection, politique et société, Paris,2012,p,54

[10]- المختار الهراس، المرأة وصنع القرار في المغرب، مرجع سبق ذكره ص 46

[11]- نفسه ص 27

[12]- المختار الهراس، المرأة وصنع القرار في المغرب، مرجع سبق ذكره ص 42

[13]- نفسه ص 43

[14]- المختار الهراس، المرأة وصنع القرار في المغرب، مرجع سبق ذكره، ص 90

[15]- المرجع نفسه