قراءة نقدية في كتاب "الزحف غير المقدس، تأميم الدولة للدين"


فئة :  قراءات في كتب

قراءة نقدية في كتاب "الزحف غير المقدس، تأميم الدولة للدين"

صدر كتاب "الزحف غير المقدس، تأميم الدولة للدين"[1] للمفكر المصري الدكتور سيف الدين عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة عن دار الشروق الدولية، يتناول الكتاب معالم زحف الدولة الوطنية الحديثة تدريجيا للاستحواذ على الدين تطويعا له في خدمة السلطان وسعيا لتأبيد دعائم تلك السلطة في عقل المواطن.

لم يتطرق الباحث إلى ملف المواطنة التقليدي- بالرغم من أن الكتاب له عنوان فرعي "قراءة في دفاتر المواطنة المصرية"- الذي يتناول التمييز الطائفي الواقع على غير المسلمين في المجتمع المصري؛ فاختار ملف المواطن المصري ودينه في مواجهة الدولة التي يستفحل دورها ويتمدد، فكل المواطنين سواسية أمام الدولة، جميعهم يتعرض للقهر والقمع.

يفتتح الباحث دراسته بالفصل الأول بعنوان "مفهوم الدين قبل الزحف: رؤية حول مفهوم الدين الشامل" يبدأ الباحث بتعريف مفهوم "الدين الشامل"، ثم مفهوم "الدولة"، وينتهي بمفهوم "الزحف على الدين" وتأميمه. والدين وفقا لرأيه: "إيمان بالله يعمر دنيا الناس، وعقيدة تخلق حضارة، وعبادة تربي مجتمعا"[2]، ثم يستطرد قائلا: "الدين انطلاق للحياة والسلوك والتشريع، دون أن ينحصر في مجموعة من الكلمات والتقاليد والمظاهر الجامدة المتنافية التي تضمها الأوراق وتتناولها الشفاه....دين الحياة، دين للواقع"[3]. ووفقا لهذا التعريف فـ"إن حبس الدين في زوايا الصلاة وحبس الصلاة في أوقاتها بإغلاق المساجد ليس إلا تعبيرا يضاد معاني "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"، وحبس للدين في زوايا الصحف أو زاوية لكاتب أو صفحة دينية، هو حبس للدين وفاعلياته الممتدة في عقول وسلوك البشر"[4]، وهذا التعريف ليس غريب عن مثقف محسوب على تيار التجديد السياسي الإسلامي وقدم دراسات عديدة جادة في هذا المجال منها على سبيل المثال: "في النظرية السياسية من منظور إسلامي" و"التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر: رؤية إسلامية"، جاء تعريف الباحث للدين الشامل المدون في الكتاب فضفاضا؛ فلقد منح الباحث -المشغول بمراقبة زحف الدولة على الدين- مساحة شاسعة للدين فاستوعبت المجتمع والدولة والحضارة؛ فأصبح كل فعل سياسي اعتيادي محاولة من الدولة للاستيلاء على مساحة من الدين الشامل. فالدين شئنا أم أبينا هو مصدر من مصادر شرعية النظام السياسي لاعتبارات تتعلق بعجز الدولة المدنية عن استكمال مهام التحديث، والعجز عن القطع مع دور الدين كمصدر للشرعية في المجتمع، ولأن السيطرة على الدين واحتواءه تعني السيطرة على قلوب وعقول أتباعه، بالإضافة إلى أن الدين من وجهة نظر كاتب السطور هو البوابة التي تدخل منها أكثر التفسيرات تقدمية أو رجعية وفقا لطبيعة ومواقف القوى الاجتماعية، والسياسية القائمة على التفسير سواء المناوئة للنظام السياسي الحاكم أو المتوافقة معه، مما يتطلب أن تقف الدولة يقظة أمام مضمون الخطاب الديني الشائع نظرا لخطورة التفسيرات الرجعية على المجتمع ذاته وإمكانية ترجمتها إلى قوة تدميرية هائلة ودعم وعي هذا الخطاب ونقده وفقا لأولوياتها ولا يعارض كاتب السطور الباحث في رأيه عامة حول مدى صحة تأميم الدولة الوطنية للدين ولكنه يخالف الباحث في مدى شمولية الدين، ومساحته التي يفترضها، كما يرى أن هناك وضع استثنائي يعيشه المجتمع مثل: ظهور جماعات التطرف الديني يحتم على الدولة تبني سياسات تضمن حماية المجتمع من تلك الجماعات التي لم يتطرق لنقدها مؤلف الكتاب.

ثم ينتقل الباحث في الفصل الثاني المعنون بـ"مفهوم الدولة والبحث عن مواطنة جديدة" إلى تعريف مفهوم الدولة الوطنية، فيذكر أنها تختلف جذريًا عن الدولة في الغرب؛ فهي "الدولة المتألهة" صاحبة "السيادة المتوحدة المطلقة، حتى بدت الدولة ضمن مفهومها السيادي الواقف عند حدودها، والمتعلق بأهدابها، والمؤشر على مركزيتها الاستبدادية، الزاحفة على الفاعليات والمجالات والفضاءات، وبدت تمارس جملة من وظائفها: تتخلى عن بعضها ما كانت غُرما، وتتمسك بوظائفها ما كانت غُنما"[5] ويرى الباحث أن الدولة الوطنية المتألهة بالرغم من جبروتها الظاهر على المواطن والمجتمع، فإنها تتحول إلى كائن وديع أمام القوى الدولية دون مراعاة لحرج الدولة أمام مواطنيها الذين يعانون من الكبت والقمع فالعقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين نوع من "عقود الإذعان ((مواطنة المغارم)): (مواطن لا حقوق له ودولة لها كل الحقوق (استباحة المواطن والنظر إليه كمملوك))[6] ويبدو أن الباحث قد سيطرت عليه المفردات الدينية في مجال صياغة المفاهيم السياسية، فاستخدم مفردة "المتألهة" كتعبير عن توحد الدولة بالله، وهيمنتها على المجتمع، ومنافستها لله، فالباحث لا يزال يدور في فلك الدين الشامل الذي يتعرض لمنافسة حامية من الدولة وتنجح الدولة في انتزاع جزء عزيز وحيوي من مجال عمل الدين.

 لقد غاب عن الباحث أن الدولة الوطنية تمثل استمرارًا تاريخيًا للدولة المركزية وثقافتها التي نفذت عبر طبقات جيولوجية زمنية كان العصر الإسلامي طبقة أساسية منها وركن أصيل في بنيتها القائمة على استبداد الدولة وضعف المجتمع المدني وإضعافه.

ثم يرصد الباحث في الفصل المعنون بـ"مفهوم الزحف على الدين وتأميمه (الزحف غير المقدس) مفهوم الزحف غير المقدس على الدين عبر رصد المساحات الدينية التي جارت عليها الدولة؛ مفسرا ذلك الزحف بسببين هما "الخوف من أن تخرج فاعليات من تحت يد الدولة أو أن تخرج عن رقابتها وهيمنتها والخوف من أن تشارك فاعليات ذات مساحة، زاحفة على حياض السلطة، فتظهر عناصر قصور السلطة والدولة، في تعاملها مع المواطن"[7].

يقول الباحث في معرض حديثه عن جماعة الإخوان المسلمين: "وعُدت جماعة مهمة تمثل قوى سياسية لا يمكن إنكارها (الإخوان المسلمون) جماعة محجوبة الشرعية ورأت الدولة أي نشاط منها في مقام التجريم والتأثيم"[8]، وجماعة الإخوان المسلمين نموذج لمحنة الإسلام في عالم السياسة حيث تختلط أوراق الدعوي بالسياسي وينتج عن ذلك توظيف للدين الشامل في خدمة سياسة نسبية تشوه الدين وتدفعه للانخراط في لعبة سياسية خبيثة، فكل القوى السياسية الحاكمة والمعارضة تستغل الدين في لعبة السياسة وإن استقوت تلك القوى بتفسيرات وتأويلات دينية متنوعة.

تنزع رؤية الباحث في هذا الكتاب دوما لعدم التركيز على واقع الحركات الإسلامية، وتأثيرها السلبي على حركة الدين في مجتمع الدولة الوطنية فعلى سبيل المثال يري الباحث أن فكرة الحسبة: "صودرت لمصلحة ممثل الدولة(النائب العام) في القيام على دعاوي الحسبة[9]، في حين يرى أنها عملية تدريبية للمواطن ضمن حماية "المثالية الدينية" وقد قدر الدين أن هذا الأمر يجب ألا يقتصر على الدولة-السلطة، بحسبان أن ذلك يتعلق بحق المجتمع والنظام العام"[10] وسقط من ذاكرة المؤلف أن جماعات التطرف الديني سلطوا سيف الحسبة على العديد من المفكرين وأصحاب الرأي، وأن الحسبة اليوم أصبحت أداة لتقويض حرية الفكر ما استدعى تدخل حاسم من الدولة لعدم تكرار تلك المأساة التي كان المفكر نصر حامد أبو زيد أبرز ضحاياها .

لم يلتفت الباحث إلى التحالف غير المقدس الذي ضم الدولة الوطنية مع جماعات الإسلام السياسي منذ سبعينيات القرن الماضي وأن الدولة الوطنية بسطت مساحة الدين في المجتمع ثم عادت فقبضت عليه وفقا لقواعد اللعبة السياسية وضروراتها وتوازناتها.

وفي الخاتمة التي حملت عنوان: "مستقبل المواطنة المصرية في علاقتها بالدين والسلطة بين الإصلاح الضال وثقافة السفينة" ينتقد الباحث بشدة ممارسات الدولة المصرية المتعنتة في ملف المواطنة وإهمالها حقوق المواطن مطالبا الجميع بالاحتماء بثقافة السفينة من أمواج البحر المتلاطمة مختتما كتابه بعبارة للمستشار طارق البشري، حيث قال:

"ومتى صار الشعب أفرادا فقد صار الحاكم فردا، لزوال التكوينات الضاغطة؛ ولأنه لا توجد وقتها إلا وحدة الانتماء الأعم التي تتشخص فيه بذاته منفردا عما عداه"

في نهاية المطاف، يبدو أن المواطن العربي هو ضحية كل زحف مقدس للدين على السياسة، وكل زحف غير مقدس للسياسة على الدين، وهو الطرف الأضعف في معادلة الدولة والدين والمجتمع.


[1] سيف الدين عبد الفتاح، تأميم الدولة للدين: الزحف غير المقدس: قراءة في دفاتر المواطنة المصرية، دار الشروق الدولية، القاهرة، 2005

[2] المرجع السابق، ص 14

[3] المرجع السابق، ص 14

[4] المرجع السابق، ص 15

[5] المرجع السابق، ص 20

[6] المرجع السابق، ص 36

[7] المرجع السابق، ص 25

[8] المرجع السابق، ص 26

[9] المرجع السابق، ص 32

[10] المرجع السابق، ص 32