قوة رأس المال الاجتماعي في زمن الثورات الترابطية: قراءة في كتاب "نهوض المجتمع المدني العالمي" لدون إيبرلي


فئة :  قراءات في كتب

قوة رأس المال الاجتماعي في زمن الثورات الترابطية: قراءة في كتاب "نهوض المجتمع المدني العالمي" لدون إيبرلي

قوة رأس المال الاجتماعي في زمن الثورات الترابطية:

قراءة في كتاب "نهوض المجتمع المدني العالمي" لدون إيبرلي

كثيرة هي الكتب التي تثير انتباهك منذ أول وهلة، عندما تسترق نظراتك تجاه أحد رفوف معارض الكتب أو المكتبات التي اعتدت زيارتها للاطلاع على جديد الساحة الثقافية والعلمية، خاصة تلك التي تستهويك بعناوينها المثيرة جدًا. ولكن ما إن تبدأ بتصفح الكتاب والاطلاع على محتواه، حتى تنطفئ فيك تلك الدهشة الأولى، وتعود أدراجك باحثًا عن كنز جديد يُشفي غليلك ويُلبي رغباتك المعرفية، ويجيب عن أسئلتك الآنية. وقليلة هي الكتب التي ما إن تبدأ في تصفحها وقراءتها، إلا وتجد نفسك منهمكًا في سبر أغوارها واكتشاف عوالمها مشمّرًا عن سواعدك المعرفية لكي تكتشف هذا الكنز الجديد. ينطبق الوصف الثاني على هذا الكتاب الذي بين أيدينا، رغم تحفظاتنا المعرفية عليه، إلا أنّه يمثل دراسة قيّمة تداخلت فيها المعارف البحثية الأكاديمية بالعمل الاجتماعي الواقعي، ثم بالبرامج السياسية المؤسساتية لكي تُتحِفنا بتكامل منهجي حول قضايا المجتمع المدني أو ما سمّيناه برأس المال الاجتماعي.

عَنون الباحث "دون إيبرلي" (Don Eberly)الكتاب - الذي قامت بترجمته عن دار الأهلية للنشر والتوزيع بالأردن، المترجمة "لميس فؤاد اليحيى" سنة 2011 - بعنوان عريض ومثير في الوقت نفسه، وهو : "نهوض المجتمع المدني العالمي، بناء المجتمعات والدول من أسفل إلى أعلى، الرحمة بوصفها أكثر صادرات أمريكا أهمية".وتكمن الإثارة في الشق الثالث من العنوان الذي وصف الرحمة كقيمة إنسانية محضة، بأنها القيمة الأكثر تصديرًا من طرف مؤسسات المجتمع المدني الأمريكية ذات الريادة في العالم.

ودون إيبرلي هو باحث أكاديمي ومتحدث في مجال المجتمع المدني، ومسؤول في العديد من المنظمات المدنية الدولية، ألّف وشارك في تأليف العديد من الكتب من ضمنها: "بناء مجتمع من المواطنين، المجتمع المدني في القرن الواحد والعشرين" (Building a Community of Citizens: Civil Society in the 21st Century ) و "روحالمجتمع المدني: الجمعيات التطوعية والقيمة العامة للعادات الأخلاقية" (The soul of civil society: voluntary associations and the public value of moral habits ) و"وعد أميركا : المجتمع المدني وتجديدالثقافة الأمريكية" (America's Promise: Civil Society and the Renewal of American Culture) و"استعادة المجتمع الصالح: رؤية جديدة للسياسة والثقافة" (Restoring the Good Society: A New Vision for Politics and Culture) ثم "قارئ المجتمع المدني الأساسي: مقالات كلاسيكية في النقاش الدائر حول المجتمع المدني الأمريكي" (The essential civil society reader: classic essays in the American civil society debate).

لقد صدر هذا الكتاب عام 2008 في نسخته الأصلية، وشكّل حدثًا بارزًا لدى الباحثين والأكاديميين ورواد المجتمع المدني، وذلك بالنظر إلى خبرة مؤلفه، سواء أكاديميًا أم ميدانيًا، وهو الحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا، ومستشارًا بارزًا للمجتمع المدني في الوكالة الأمريكية للتنمية البشرية (USAID) وكبير المستشارين في العراق الذي شغل مناصب سياسية أخرى. إن كتاب " دون إيبرلي " الموثَّق بشكل جيد – كما يقول "أندرو ناتسيوس"، وهو مدير سابق للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية – هو واحد من أفضل دراسات إعادة تقييم كيفية نمو الدول اليوم، وما ينجح وما لا ينجح في المساعدات الخارجية، وأحدث الابتكارات في مجال تقويم المعونة. لقد كان من الممكن لهذا الكتاب أن يجعل أليكسيس دي توكفيل يبتسم. ويردف "هيرناندو دي سوتو"، وهو مؤلف الكتاب المثير للجدل "لغز رأس المال"بأن إيبرلي يجادل بوضوح وبإقناع في أن أشد مناصري العالم للقيم الأمريكية في السوق وسيادة القانون والديمقراطية هم فقراء العالم الثالث. أما البروفيسور في الاقتصاد السياسي العالمي "فرنسيس فوكوياما"، فقد أكد أن الكتاب يبين بوضوح أن إشكالية التنمية في الدول الفقيرة اليوم يجب أن تكون مدفوعة بعمليات محلية تشاركية.

إن كتاب "نهوض المجتمع المدني العالمي" - كما يوضح دون إيبرلي نفسه - مُعدّ ليصل إلى جمهور عام وواسع مهتم بالاتجاهات العالمية المؤثرة على مستقبل الحرية وعلى أسلوبنا في الحياة، وهو يحاول الإجابة على بعض الأسئلة، ومنها : هل تحرز قوى التقدم والقيم الديمقراطية انتصارًا؟ إن كان الأمر كذلك، فأين وكيف؟

إن قضايا التنمية وتحقيق الازدهار - وهي القضايا الجوهرية في هذا الكتاب- في الدول النامية الفقيرة، مازالت تشكل حجر الزاوية في وجه المؤسسات الدولية ومنظمّات المجتمع الدولي، ولدى القادة السياسيين والأكاديميين. وذلك لأن جل الجهود التقليدية التي سعت إلى تحقيق الازدهار في القرن العشرين، والتي بذلها نخبة من خبراء السياسية والبيروقراطيين قد باءت بالفشل، لذلك فإن الثقة في الحلول البيروقراطية اَخذة في التناقص لصالح تنامي الابتكارات المجتمعية من أسفل إلى أعلى من جانب مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات غير الربحية ومؤسسات الأعمال التجارية المتعددة.

وقد أسهمت الأطروحة البيروقراطية، على المستوى السياسي، منذ عقود في نشأة ودعم الاستبداد السياسي والاقتصادي وزرع الرعب في نفوس المواطنين، وبالتالي عدم القدرة على الإبداع والمساهمة في بناء مجتمعاتهم بالطريقة التي تتناسب وطموحاتهم السياسية وقدراتهم الاقتصادية. لذلك، فإن بناء دول ديمقراطية والحفاظ عليها يجب أن ينطوي على تشغيل المواطنين في مجتمعاتهم الخاصة، وتمتعهم بكامل حقوقهم السياسية وضمان حد أقصى من الشفافية والمساواة والحرية الفردية. وفي هذا السياق، فإن الديمقراطية لا يمكن أن تُؤسَس ببساطة عن طريق فرض الانتخابات في دول تبقى في حالة من التخلف وفي عالم ممانع ضد الأعراف والتقاليد الديمقراطية، لأن الديمقراطية الحقيقية غير ممكنة بدون مواطنين ديمقراطيين.

شكّل الانفجار المعلوماتي لوسائل الاتصال والتواصل الحديثة عاملاً قويًا في ظهور وتكاثر المنظمات غير الربحية والمنظمات غير الحكومية وآلاف المنظمات المدنية والمهنية والجماعات المناصرة والمترابطة فيما بينها عن طريق التكنولوجيا المتطورة - والتي سماها إيبرلي "بالثورة الترابطية" - والتي تقوم بترويج القيم الديمقراطية في شتى أنواع العالم. وبفضل العولمة، التي جعلت العالم أكثر قربًا وتشابكًا، فإن هذه القوة الخامسة، وهي مؤسسات المجتمع المدني المتنوعة أصبحت أكثر فاعلية وقوة في تركيز ودعم الحقوق والحريات والضغط على الحكومات والدول، وبناء برامج تشاركية بديلة منبثقة من خلال النظر للمجتمع ومشاكله بعيون أكثر واقعية وقُربًا وأكثر عُمقًا. إن هذه المنظمات غالبًا ما تستطيع التحرك أسرع وبكفاءة أكبر من الوكالات الحكومية المرهَقة بالبيروقراطية الثقيلة.

وبالمقابل، فإن النقاش الكبير المرتبط بالمعونات الخارجية - والذي استعرضه إيبرلي بشكل مستفيض- وبرامج المساعدات الحكومية الموجهة إلى العالم النامي مازال حاضرًا بقوة ويطرح إشكالاً سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. فإذا كان الكاتب يشيد بالمساعدات الأمريكية المقدمة إلى العديد من الدول النامية المتزايدة، إلا أن السؤال يبقى في جدوى هذه المساعدات في دول فاسدة سياسيًا تحكمها أنظمة ديكتاتورية فاشلة ذات اقتصاد منهار وفقر اجتماعي مذقع. إن فكرة تحديث المساعدات الخارجية التي اقترحها إيبرلي عن طريق ايصال هذه المعونات إلى مؤسسات المجتمع المدني والشركات الخاصة والعامة عبر شراكات مضبوطة وقائمة على المحاسبة والمتابعة، تبقى دون جدوى في دول الربيع الاقتصادي والسياسي التي تبتكر السلطة الحاكمة من داخلها أشكال جديدة للاستبداد المنظّم المنتشر في جل القطاعات، سواء العامة أو الخاصة.

إن رأس المال الموجود أصلاً في الدول الفقيرة أو السائرة في طريق النمو يفوق بشكل كبير قيمة المساعدات الخارجية مجتمعة، لكن هذه الثروة تبقى محصورة في الاقتصادات السرية لهذه الدول التي تتم إدارتها بشكل سيء. لذلك، فإن هذه المساعدات إذا لم تواكبها عملية دعم النظام الديمقراطي المؤسساتي المرتكز على مبادئ الحق والقانون، لن تكون إلا دعمًا لاستمرار الأوضاع كما هي عليه دون تغيير حقيقي. وقد خلص الباحث "بيل إسترلي" في كتابه "مذهب الرجل الأبيض" إلى الأمر ذاته عندما اعتبر أن إنفاق 2.3 تريليون دولار مساعدات عبر العقود الخمسة الأخيرة، إنما جعل إفريقيا تتمرغ في ركود مستمر، لذلك فإن نشطاء العالم الغني يطيلون أمد الكابوس الحقيقي للفقر.

وضمن أبرز المواضيع حساسية - التي خصص لها " إيبرلي" فصلاً خاصًا بعنوان: "الصراع أم التعاون، الدين والمجتمع المدني الديمقراطي"-يبرز موضوع الدين والثقافة كعوامل رئيسة مؤثرة في الشؤون الوطنية والإقليمية المرتبطة بتطور الأنظمة السياسية وبالتنمية الاقتصادية، خصوصًا في دول الشرق الأوسط واَسيا. فمن جهة، إن معظم الصراعات الإقليمية والدولية والحروب الأهلية في العالم اليوم يلعب فيها عامل الدين المهيج الرئيس للصراعات، كما يمكن أن يكون له الدور الرئيس في حل النزاعات نفسها. ومن جهة ثانية، فإن معظم المشاريع التنموية ذات الطابع المدني إلى جانب المنظمات الإنسانية التي تساعد في حل المعضلات والكوارث الإنسانية - كسوء التغذية والأمراض المزمنة والاضطهاد - كلها أعمال قائمة على أساس ديني. ولذلك، فإن الدين والثقافة كعوامل تصورية واجتماعية واقعية كانت ومازالت عوامل مساعدة على تكثيف الجهود المدنية ونشر السلم الاجتماعي، وبناء مؤسسات ديمقراطية ضاغطة.

وتبقى العلاقة الجدلية بين الدين والحريات جد معقدة ومتشابكة في دول لم تحسم بعد بشكل جوهري في كُنه هذه العلاقة، ومن ثم ضبط عمليات البناء الديمقراطي القوية. ويجادل الكاتب بشكل مستفيض في هذا الموضوع الحسّاس – على غرار العمليات الإرهابية التي تعرضت لها أمريكا وغزوها للعراق – محاولاً فهم العامل الديني في السياق العربي الإسلامي، ثم بناء أنموذج معرفي وسياسي، وإن كانت هذه المحاولة مجرد عملية إسقاط لمراحل بناء النظام الديمقراطي الأمريكي، القائم على أساس ديني علماني في السياق العراقي بالتحديد. لذلك كانت عملية البناء الديمقراطي في العراق – يؤكد إيبرلي- فاشلة، لأن العلمانية هي قيمة إيجابية عند الأمريكيين، تمثل مجموعة من القيم الديمقراطية كالتسامح والتعددية وحرية التعبير والتجمعوحقوق الأقليات، واعتبار الدين مسألة شخصية لها حيزها الطبيعي داخل المجتمع، إلا أنها لدى العرب والمسلمين تُفهم بشكل سلبي جدًا، بل يُنظر لها مهددًا للإسلام والمسلمين. وفي مرحلة الاكتشاف التي خاضها الكاتب ككبير المستشارين في العراق في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، فوجئ بأن أكثر المسلمين تدينًا وحماسًا قد درسوا الفلسفة السياسية، وقرأوا لكل من أرسطو وأفلاطون وماديسون وجيفرسون، وأن العديد منهم كان له وعيه الإسلامي الخاص للتفريق بين الدين والمجتمع المدني، وحماية الدين من انتهاكات الدولة التي غالبًا ما تقع في ظل الأنظمة الثيوقراطية. إن تفكيرهم – يؤكد دون إيبرلي – لم يكن بعيدًا عن مبادئ دستور أمريكا ذاته، والذي كما أكده مؤسسه "جون ادامز" قد "وضع لشعب ذي أخلاق ودين، وهو غير ملائم لمن سواه".

وبما أن المواقف تجاه القواعد الأساسية للمجتمع، مثل حياة العقل ودور المعرفة ومكان العقل والوحي والحرية والتعددية والفرد والمجتمع والعمل والسعي من أجل تحقيق الربح، جميعها مشكلة بعمق بواسطة الدين، لذلك فإن القوة الأكثر محورية - يؤكد إيبرلي - في المرحلة القادمة من تنمية العالمين العربي والإسلامي، ستكون هي الإسلام. ويقيم مقارنة في كيفية تطور كل من الدين والعلم ومساهمتهما في نجاح الحضارة الغربية ووضعهما في العالم الإسلاميّ، إذ يؤكد أن الثقافة المسيحية عرفت عصورها المظلمة عندما كان كل من العلم والدين والوحي والعقل في صراع حقيقي، بينما كان كل من الدين والدولة مرتبطين بشكل وثيق، وهي الحالة نفسها التي تعيشها جل الدول الإسلامية اليوم.

يطرح الكاتب في مراحل متقدمة من الكتاب، وتبعًا لنقاش الدين والديمقراطية، سؤالاً محوريًا حول مدى توافق كل من الإسلام والمجتمع المدني الديمقراطي في عصر ما بعد الحداثة الذي يفرض على أتباع الديانة الإسلامية تطويع دينهم، لكي يرافق تطورات العصر. وبالرغم من أن السؤال قد يبدو بديهيًا وبسيطًا للباحثين المنشغلين بالفكر الديني والسياسي، إلا أنه بالنسبة للمفكرالغربي الذي يحاول فهم سياقات تطور الفكر الإسلامي المعاصر هو سؤال منطقي ومؤسس للعلاقة المستقبلية مع إنتاجات الفكر الإنساني عامة. لقد استوعب الكاتب أن الإسلام اليوم بعيد كل البعد عن أن يكون وحدة متراصة متناغمة كليًا، وعلى عكس الطائفة الكاثوليكية أو حتى البروتستانتية في الولايات المتحدة الأمريكية، فليس هناك تسلسل هرمي أو مكان مركزي للسلطة. لذلك، فإن التحدي الأكثر أساسية بالنسبة لمسؤولي السياسات والمؤسسات الأمريكية التي تتمنى أن تجذب الإسلام إلى المشاركة والانفتاح على القيم الغربية هو معرفة من تجذب. ويقيم إيبرلي مقارنة بين المجتمع المدني الإسلامي والمجتمع المدني كما يتبناه الغرب، إذ في الوقت الذي تستلزم المفاهيم الغربية للمجتمع المدني وجود مؤسسات غير حكومية متنوعة قوية بما يكفي لموازنة الدولة، لكنها في الوقت نفسه لا تمنع الدولة من أداء دورها حارسًا للسلام ومحكمًا بين المصالح الكبرى.

وعلى النقيض من ذلك، يرى أن المفهوم الإسلامي للمجتمع قد يقدم هوية مستقلة عن السلطة المركزية لكنها برغم ذلك، تعزز الشخص بإحكام في وحدة اجتماعية فرعية ضيّقة. وقد يكون مجتمعًا مدنيًا يقاوم السلطة المركزية، لكنه مع ذلك يقيّد الحرية الفردية. إن قراءة التاريخ الإسلامي في علاقته بالسلطة السياسية على ضوء المصادر التشريعية التي تؤطره، يكشف لنا فعلاً أن تجربة إنشاء مجتمع مدني ديمقراطي لم تحض بالنجاح، بل لم يتم التفكير فيها حتى من لدن الإصلاحيين الدينيين ورواد نقد السلطة الحاكمة. لقد كانت للعوائق التاريخية في فهم النص التشريعي في علاقته بتقبل القيم الكونية الدور الأساسي في عدم قدرة تحرير العقل من براثن التاريخانية التي ضخّمت الموروث الديني على حساب حرية الأفراد والمجتمعات.

ويبين دون إيبرلي في موطن اَخر، كيف يكون المجتمع المدني حجر الأساس لبناء الدول الديمقراطية في باب مفصل بعنوان : "المجتمع المدني وبناء الدولة، وتطلعات مستقبلية للدمقرطة". فمن غير الممكن، يؤكد إيبرلي، بناء ديمقراطيات قابلة للحياة من أعلى إلى أسفل أو من الخارج إلى الداخل. وبدلاً من ذلك، فإنه يجب تعزيز العادات والمهارات والتطلعات الديمقراطية داخل المجتمعات لدعم المؤسسات الرسمية للديمقراطية. وكما يقول أليكسيس دي توكتفيل، فإن "الجمعيات التطوعية هي المدارس الصغيرة للمواطنة"، مما يعني أن الجمعيات التطوعية للمجتمع المدني هي التي توفر للأفراد الفرصة، لأن يمارسوا في حياتهم اليومية قيم التعاون وعادات الثقة والاحترام المتبادل، وبالتالي بناء مجتمع متماسك من القيم الديمقراطية. وبالعكس، فإن الاندفاع نحو ديمقراطية رسمية بشكل صوري هيكلي بدون عناصر القيم المجتمعية الديمقراطية التي ذكرنا، سوف يخلق فعليًا حيزًا ومكانًا لعناصر غير ديمقراطية للدخول والسيطرة على العملية الديمقراطية، وبالتالي تطويعها لأهداف غير ديمقراطية بالأساس. وعندما يتم إدخال الديمقراطية بشكل مفاجئ، فإن أول القوى التي ستدخل الحيز الذي أنشئ حديثًا هي تلك التي نجحت في البقاء تحت نير القمع، عندما كان المجتمع المدني مخنوقًا، وهذا يعني في كثير من الحالات – خصوصًا في الحالة العربية والإسلامية- الجماعات والأحزاب الدينية.

إذا كان المبدأ الأساسي وراء الدمقرطة هو فكرة إعطاء تعبير أكمل للإرادة الشعبية لجعل المواطنين يتمتعون باستقلالية ذاتية أكثر، وجعل الحكومات أكثر استجابة للرأي السائد، فإن الحرية – كما يبين إيبرلي- لا يتم استخدامها دائما لتحقيق التطور والعيش في سلام ويتساءل : "ماذا لو كانت الحرية تجعل من الممكن أكثر، حتى أن تحظى أيديولوجيات الكراهية السامة المنتشرة جدًا في الشرق الأوسط اليوم بأرضية أوسع؟" يسترسل الكاتب في تبيان الخط غير المستقيم لنتائج الحرية شرق الأوسطية على مسار الديمقراطية في المنطقة، ويستشهد ببعض رواد المدرسة الواقعية، مثل " ريتشارد هاس"الذي يشكك في إمكانية حدوث انتقال سلس نحو الديمقراطية السلمية التي تقبل بالتعدد وبالاختلاف. فبالوسائل الديمقراطية – يؤكد هاس – اكتسب حزب الله قوة في لبنان، وبواسطة صناديق الاقتراع سجلت حماس نصرًا انتخابيًا في غزة والضفة الغربية، وفي إيران أسست الثورة الإسلامية دولة متشددة على أساس ولاية الفقيه، ما أدّى إلى جعل العملية السلمية في الشرق الأوسط مشكوكًا فيها.

لقد تقوّت هذه الشكوك والمخاوف الغربية مجددًا بقدوم الربيع الديمقراطي الذي حمل التيارات الإسلامية إلى سدة الحكم بطرق ديمقراطية عبر صناديق الاقتراع، مما جعل جل حركات الإسلام السياسي المعاصرة - المتوحد إيديولوجيًا والمختلفة ظاهريًا- تُمتحَن سياسيًا وبترقب شديد من طرف الأنظمة الغربية الخائفة على تحالفاتها الاستراتيجية في المنطقة. لكن يبدو، ونحن نتحدث عن طرق جديدة للدمقرطة في المنطقة، أن الغرب، أخص أمريكا وحلفاءها، لم يمنح فسحة واسعة لمسلسل نشوء ديمقراطيات ناشئة في المنطقة، بل تدخل في أكثر من بلد لتوجيه مسار الثورة بمعية حلفائه الإقليميين والدوليين، سواء بواسطة دعم ثورات مضادة كما حدث في مصر أو عن طريق دعم الأحزاب التقليدية بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة للإطاحة بالحكومات الإسلامية كما يحدث في تونس. هذا الأمر يجعلنا نشك دائمًا في نوايا المنتظم الدولي حيال دعم تقرير شعوب المنطقة في الديمقراطية التي ترضاها مناسبة لتطلعاتها السياسية والثقافية والدينية. إن تجربة أمريكا في الشرق الأوسط في السنين الأخيرة، تُبيّن أنها مستعدة لدعم حتى القوى غير الديمقراطية والديكتاتورية على أن تضمن استمرار الاستقرار السياسي بالطرق التي تريد. وهنا تكمن تحفظاتنا التي ذكرناها في البداية على خط تحرير هذا الكتاب، إذ فيما تسهم منظّمات المجتمع المدني العالمي فعلاً في دعم حقوق الإنسان وتعزيز الحريات وتنمية المشاريع المجتمعية الناشئة – ومنها المنظمات الأمريكية الرائدة في هذا المجال- إلا أن توجهات السياسات الخارجية للدول العظمى تنحو منحًا مغايرًا تمامًا، بل تصبح في كثير من الأحيان عائقًا في طريق الأهداف النبيلة لجمعيات المجتمع المدني.

إن مسار إنشاء ديمقراطيات فعالة - ونزعم أن هذا الكتاب يسهم بشكل مهم في إثراء هذا النقاش خصوصًا في الدول العربية الإسلامية - يتطلب إنشاء مؤسسات سياسية قادرة على الاعتماد على نفسها، ومتجذّرة بشكل آمن في سيادة القانون، تتيح للحريات السياسية والاقتصادية الازدهار، ثم تنمية المواطنين الديمقراطيين القادرين على حمل ثقل مسؤولية الحرية ومتطلباتها على أرض الواقع. إنّ هذا المؤلف الغني جدًا بالمعارف النظرية والتطبيقية، يعد مرجعًا مهمًا للباحثين في مجال عمل المجتمع المدني ودوره في إنشاء مجتمع ديمقراطي مؤسساتي في زمن الثورات التي تعرفها العلوم والمعارف الحديثة ووسائل المواصلات والاتصالات الحديثة.