لا لشتم الأنبياء! نعم لنقد الانغلاقات التراثية


فئة :  مقالات

لا لشتم الأنبياء! نعم لنقد الانغلاقات التراثية

لا لشتم الأنبياء! نعم لنقد الانغلاقات التراثية

كنت قد حضرت مؤتمرا في روما بين 8-9 ديسمبر من العام المنصرم تحت عنوان:أصوات عقلانية لإصلاح الإسلام. وهو المؤتمر الذي جمع فريقا من المثقفين العرب في مواجهة نظرائهم الغربيين الأنغلوساكسونيين بالدرجة الأولى. وأعترف بأني استفدت منه كثيرا. وقد تحدثت عنه أكثر من مرة على صفحات "الشرق الأوسط" وسواها. ولكن أود هنا التحدث عن نقطة هامة لم أذكرها سابقا.أود تصحيح موقفي الذي فهم خطأ أو الذي فشلت في توضيحه داخل قاعة المؤتمر بسبب كثرة المتدخلين وقلة الوقت المتاح. التصحيح يخص نقطة محددة تماما: ألا وهي مطالبتي بالتصويت على قرار من قبل الأمم المتحدة يمنع نقد الأديان. في الواقع أني كنت أقصد منع شتم الأنبياء وليس نقد الأديان. وبالتالي فقد حصل سوء تفاهم فيما يخص هذه النقطة. أنا لست ضد الدراسة النقدية – التاريخية للتراثيات الدينية. لقد أمضيت حياتي في ذلك. ولكن هناك فرق بين النقد المسؤول والمضيء الذي يقوم به الاستشراق الأكاديمي للتراث الإسلامي مثلا، وبين مهاجمة الأديان على طريقة الشتم المقذع والصور الكاريكاتورية والاستفزاز المجاني.الشيء الذي كنت أريد قوله هو التالي: إن إهانة الرموز الكبرى للأديان من أمثال موسى وعيسى ومحمد وبوذا ...الخ ضار جدا وغير مقبول أبدا من الناحية الأخلاقية . فللأنبياء عظمتهم وقداستهم ومكانتهم. يضاف إلى ذلك أنه عمل غير مسؤول على الإطلاق. هل نريد قتل الناطور أم قطف العنب؟ يمكن أن نقدم عنهم دراسة نقدية تاريخية تحريرية ولكن ليس التشويه الكاريكاتوري أو الشتم. فالشتم البذيء غير النقد التاريخي الموضوعي ولا يمكن أن يشكل حلا لمشكلة التعصب الأصولي. على العكس فإنه بدلا من أن يضعفه يغذيه ويقويه جدا. يضاف إلى ذلك أنه يجرح مشاعر ملايين البشر دون أي حق ودون أي جدوى. وتنتج عن ذلك أحيانا ردود فعل هائجة يذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء. فبأي حق نفعل ذلك؟ ومن يستطيع أن يتحمل مثل هذه المسؤولية؟ وحتى في بلد علماني جدا ومستنير كفرنسا أثار فيلم مارتن سكورسيز "الإغراء الأخير للمسيح" ردود فعل عنيفة. فقد قامت مجموعة كاثوليكية متزمتة بحرق إحدى صالات السينما بشارع سان ميشيل الشهير الواقع في قلب باريس. ونتج عن التفجير إصابة ثلاثة عشر شخصا جروح أربعة منهم خطرة. وقد حصل ذلك ليلة 22 – 23 أكتوبر 1988. وكل ذلك لأن الفيلم قدم صورة بشرية جدا عن السيد المسيح. فقد زعم بأنه تعرض لإغراءات جنسية مثله في ذلك مثل بقية البشر، وبالأخص مع مريم المجدلية. وهذا مناقض تماما للصورة المثالية التقديسية المشكلة عن السيد المسيح والمترسخة في عقول ملايين المؤمنين على مدار القرون. فاعتبروا ذلك بمثابة تشويه متعمد لشخصيته أو محاولة خسيسة من قبل المخرج للنيل منه. وعندئذ لم يستطع الكاثوليكيون المتشددون أن يتحملوا ذلك.فقاموا بتفجير السينما وأرعبوا بقية الصالات وهددوها لكي لا تعرض الفيلم بدورها.فإذا كان ذلك قد حصل في فرنسا العلمانية التي شهدت كل الثورات الفكرية على مدار أربعة قرون، فما بالك إذن بالعالم الإسلامي حيث لم نشهد حتى الآن التنوير الفلسفي ولا حتى الإصلاح الديني على طريقة القرن السادس عشر؟ ولم نشهد العلمانية ولا الفلسفة الوضعية ولا حتى النقد التاريخي للنصوص المقدسة! ولم يظهر عندنا حتى الآن جون لوك ولا سبينوزا ولا فولتير ولا ديدرو ولا إرنست رينان ولا عشرات غيرهم.. وبالتالي فاستفزاز المؤمنين التقليديين عن طريق مهاجمة الأنبياء عملية لا أخلاقية بل ومبتذلة. يضاف إلى ذلك أنها خطرة جدا من الناحية السيكولوجية. فهي تخلخل التوازن النفسي لملايين البشر وتصدمهم في العمق. نقول ذلك وبخاصة أن أغلبية المسلمين فقراء ولم يبق لهم إلا إيمانهم لكي يستعصموا به أو يتكلوا عليه في أوقات الشدة والضيق والجوع...

يضاف إلى ذلك أنه لا يقدم ولا يؤخر فيما يخص عملية التحرير الفكري. بلى إنه يؤخر جدا ويضر بقضية التنوير في العالم العربي. إنه يعطي أعداءها المتزمتين سلاحا فعالا لمحاربتها والقضاء عليها بسهولة. علاوة على ذلك فإنه يظهرها وكأنها تبني وجودها على الشتم والاستهزاء والسخرية لا على البحث العلمي الجاد والرصين.هل من داع للقول بأن شخصية النبي محمد أكبر من أن تصل إلى كعبها أو تنال منها مثل هذه المحاولات الاستفزازية الرخيصة؟ وهي محاولات تقوم بها بعض المجلات والجرائد التافهة لكي تلفت إليها الانتباه وتثبت وجودها وتحظى ببعض الشهرة والتغطية الإعلامية.

لهذا السبب دعوت نظراءنا الغربيين إلى منع المتطرفين في الغرب من تشويه صورة الأنبياء بشكل مقذع وبالأخص النبي محمد عليه الصلاة والسلام. إذا كانوا يريدون مساعدتنا على إنجاح الإصلاح والتنوير في العالم العربي والإسلامي كله فهناك طرق أخرى غير ذلك.هناك طرق أشرف وأنبل بكثير. من بين هذه الطرق ترجمة أعمال المستشرقين الكبار إلى اللغة العربية. فهي أعمال تضيء التراث الإسلامي بشكل لا مثيل له عن طريق تطبيق المنهجية التاريخية - النقدية على التراث كله. وذلك على غرار ما فعله علماء أوروبا بالنسبة للمسيحية. هناك مؤلفات هامة جدا صدرت بالانكليزية والفرنسية والألمانية عن تراثنا ولكن لا أحد في العالم العربي يعرفها أو حتى سمع بها. إنها تعطي صورة تاريخية مضيئة عن السيرة النبوية والقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والشريعة والفقه الخ..إن مجرد ترجمتها إلى العربية يعني تقديم أكبر خدمة لقضية التنوير والإصلاح في العالم العربي. فالكتب السائدة عندنا عن هذه المواضيع الحساسة تقليدية أكثر من اللزوم بل وتبجيلية لا تاريخية. وهي التي تغذي الخيال الملتهب للأصوليين. وبالتالي فترجمة هذه المؤلفات الاستشراقية الكبرى ونشرها في العالم العربي على أوسع نطاق هي التي ستحررنا من التصورات المتزمتة والاستلابية واللاتاريخية الظلامية عن التراث الديني.مثل هذا العمل إذا ما تم سيكون أفضل بكثير وأنجع من عمليات الاستفزاز المجانية المتهورة التي تقوم بها بعض الجماعات الغربية المتطرفة بشكل فج وبدون أي إحساس بالمسؤولية. وأقصد بذلك الصور الكاريكاتورية والأفلام السينمائية التافهة وتمزيق القرآن الكريم على رؤوس الأشهاد الخ..هذه أعمال سخيفة تضر بقضية التنوير والإصلاح أشد الضرر.إنها تقدم سلاحا فعالا لخصومها الأشداء لكي يهاجموها ويقضوا عليها بسهولة. هذا كل ما قصدته في المؤتمر فيما يخص هذه النقطة. ولكني لم أتمكن من شرح موقفي بشكل جيد.فأنا لا أدعو الأمم المتحدة إلى قمع حرية الفكر إذ أدعو إلى منع شتم الأنبياء! ولا أعرف كيف فهم موقفي بشكل خاطئ من قبل بعض الزملاء العرب قبل الغربيين. أعتقد أني لم أشرحه بشكل جيد كما ذكرت آنفا. وبالتالي فالحق عليّ في الواقع لا عليهم. للحق والإنصاف ينبغي الاعتراف بأن رئيس المؤتمر الباحث الانكليزي ستيفن أولف تفهم موقفي تماما ووافق عليه.

وأكبر دليل على تأييدي لحرية الفكر أني دعوت الدول الغربية إلى عدم ترك جالياتنا هناك فريسة للتعليم الأصولي الذي يبثه الإخوان المسلمون والسلفيون في أوساطها عن الدين. ينبغي على دول الغرب المتقدمة أن تنشر التعليم التاريخي الحديث عن الدين الإسلامي في أوساط هذه الجاليات العربية والإسلامية التي تعيش عندها وإلا فلن نصل إلى أي حل لمشكلة التطرف والفهم الخاطئ للإسلام الحنيف ورسالته السامية.ينبغي تدريس الإسلام بشكل عقلاني تاريخي حديث، تماما كما تُدرس المسيحية في المعهد الكاثوليكي في باريس أو في كليات اللاهوت البروتستانتية في ستراسبورغ وسواها.هناك التعليم الحديث للدين/ وهناك التعليم القديم الراسخ الجذور، والمعركة بينهما سوف تندلع قريبا في العالم العربي والإسلامي كله. بل هي مندلعة منذ الآن.

المسألة إذن ثقافية والمعركة بالدرجة الأولى فكرية. إذا لم نربح المعركة الفكرية التنويرية ضد الماضي المتحجر فإننا لن نربح المعركة السياسية يوما ما. ولهذا السبب بالذات تحول الربيع العربي إلى خريف أصولي.

أخيرا كنت قد تحدثت أكثر من مرة عن تجربتي الشخصية مع التنوير الأوروبي منذ أن وطأت قدماي الأرض الفرنسية بتاريخ 8.10.1976. لولا إقامتي المطولة في فرنسا لما استطعت التخلص من تربيتي الدينية التقليدية ولما تحررت من تصوراتي التراثية الانغلاقية التي غُرست في ذهني منذ نعومة أظافري.وأقصد بالانغلاقات التراثية هنا تلك الأفكار المسبقة، الطائفية والمذهبية، التي تربينا عليها في طفولتنا الأولى.وهذه الأفكار القروسطية ينبغي التخلص منها بأي شكل لكي نستطيع معانقة العصر ومصالحة الإسلام مع الحداثة.ثم لكي نستطيع تحقيق الوحدة الوطنية أيضا وتحاشي الآثار المدمرة للحروب الأهلية. باختصار شديد: لولا التجربة الأوروبية (أو الحياة الطويلة في باريس) لما عرفت أن هناك تفسيرا آخر للدين غير التفسير الأصولي الانغلاقي القديم الذي يهيمن على العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه. لهذا السبب كان اكتشافي لفلاسفة التنوير الأوروبي أكبر حدث في حياتي. هذا بالإضافة إلى اكتشاف أركون بالطبع وعبد الوهاب المؤدب وجوزيف فان ايس وآخرين .