لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟([1]) 3ـ هل الإسلامويّة هي الإسلام أم هي التيّار المتغلّب إعلاميّا؟


فئة :  مقالات

لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟([1])  3ـ هل الإسلامويّة هي الإسلام أم هي التيّار المتغلّب إعلاميّا؟

لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟([1])

3ـ هل الإسلامويّة هي الإسلام أم هي التيّار المتغلّب إعلاميّا؟

د. وائل صالح

 

تقديم

يواصل الباحث في شؤون الإسلام السياسيّ المقيم في الغرب دكتور وائل صالح سلسلة مقالاته العشرة لـ«أصوات أونلاين» عن أسباب تعاطف جزء لا يستهان به من الأكاديميا الغربيّة مع الإسلام السياسيّ أو الإسلامويّة؛ لكنه في هذه المقالة يفجر نقطتين بالغتي الأهمية:

النقطة الأولى: أن تيارات أكاديميّة غربيّة تطابق بين الإسلام كدِين وبين الجماعات الإسلامويّة، وتعتبر الأخيرة هي الممثل الوحيد للإسلام، متجاهلة تيّارات أخرى مهمّة على الساحة الإسلاميّة، كتيّار التصوّف وتيّار التجديد العقلي…إلخ.

النقطة الثانية: أنه من المدهش مطابقة بعض هؤلاء الأكاديميّين الغربيّين بين الإسلام، وبين الإخوان تحديداً، ويلاحظ أن تيّارات متعارضة تعارضًا كليًّا تتفق على هذه الفكرة، فكيف يصل تيّار الاستشراق في قسمه الاستعماري الذي تمثله أسماء مثل برنارد لويس إلى نفس النتيجة التي يتبنّاها تيّار ما بعد الكولونياليّة الرّامي إلى فهم صحيح للمستعمرات السابقة يزيح الركام الخاطئ الذي زرعته الدوائر الإمبريالية القديمة والحديثة؟

اعتاد البعض من الباحثين في الغرب على التعامل مع «الإسلامويّة» - أي فكر جماعات الإسلام السياسي- على أنها الإسلام نفسه دون انتباه للحقيقة البسيطة التي تقول إن الإسلامويّة ليست إلا نوعاً من فهم التديّن، حديثا وهامشيّا، بالرغم من قوة تنظيمه وتصدّره المشهد الإعلاميّ، خصوصا في مرحلة ما قبل الربيع العربي.

فالإسلامويّة هي رؤية شموليّة حركيّة للدّين تعتقد أن هناك نموذجاً معدًّا مسبقًا يجب على المسلم اتباعه في كل مناحي الحياة وغير مسموح له بغير هذا النموذج، الذين هم كبشر هم واضعوه في الحقيقة، ولكن يُلبسونه رداء القداسة ليحلّ مع الزمن محلّ الدّين نفسه عند البعض.

بالإضافة إلى التيّار الاستشراقي الذي يمثّله «برنارد لويس»، والذي يرى أن الإسلام دين سياسيّ بطبيعته، يرى البعض ممن ينتمون إلى تيّار «ما بعد الكولونياليّة»، وهو تيّار يهتم بمحاولة فهم مجتمعات المستعمرات السابقة، والذي ينادي بأن يترك العرب والمسلمين يعبّرون عن أنفسهم بأنفسهم دون الحكم عليهم بالمنظور الثقافيّ والفلسفيّ الغربيّ -وهذا أمر في حدّ ذاته لا غبار عليه- هذا البعض يعتبر -بشكل مباشر أو غير مباشر- أن تيّار وحركة الإسلامويّة هي الممثل الوحيد لتلك الثقافة وذلك الدّين، وبالتالي لا يتردّد هذا التيّار في التبنّي المطلق لبعض مقولات الإسلاميّين، واعتبارها من أسس الإسلام ذاته كدين.

على سبيل المثال يتبنى «طلال أسد» ما تذهب إليه حركات الإسلام السياسي من أن الفصل بين الدين والسلطة هو معيار غربي ونتاج فريد لتاريخ الحضارة الغربيّة، لا يتماشى مع خصوصيّة الإسلام.

وينظر «وائل حلاق» في كتابه «الدولة المستحيلة» لما يذهب إليه الإسلامويون من استحالة تحقيق طموحهم بإنشاء دولة على هياكل ومبادئ الدولة المدنيّة الحديثة بدعوى أنها تتعارض مع أخلاقيّة الرؤية الإسلاميّة للوجود والمجتمع الإنساني نفسه.

بيرجا أم الغنوشي

أما المثال الأكثر فجاجة، فهو ما قاله الباحث الفرنسي فرنسوا بيرجا في شهادة له أمام البرلمان الفرنسي مدافعا عن الإسلامويّين، حين قال: «إن المسلم الجيّد في نظر الغربيّين هو المسلم الذي ترك إسلامه[2] (أي المسلم غير الإسلاموي). في مواجهة هذه الحالة من التبنّي من بعض الباحثين الغربيّين لبعض مسلّمات حركات الإسلام السياسيّ»، ظهرت مزحة في الوسط الأكاديمي الغربي الناقد تقول: «إذا كنت لا تعرف «بيرجا» و«الغنوشي» وحضرت لهما مؤتمراً مشتركاً، فمن الصعب أن تميّز بينهما، وإن أرغمتك الظروف على حتميّة تحديد من هو الغنوشي من بين الاثنين، لَتخيلـتَ أنّ فرنسوا بيرجا لا يمكن إلا أن يكون هو راشد الغنوشي، فهو أكثر إسلامويّة في خطابه من الغنوشي نفسه».

«الإسلامويّة» ليست الإسلام

هؤلاء اللذين يعتبرون أن «الإسلامويّة» هي الإسلام، يرتكبون خطأين أساسيّين:

الخطأ الأوّل:

أنهم يتجاهلون التيّارات الأخرى العديدة في الإسلام، ويختزلون الإسلام في فكر حركات الإسلام السياسيّ المعاصرة، تماماً كما يفعل الإسلامويّون، فبالإضافة إلى «الإسلامويّة» (التي تعتقد في تبعيّة السياسة للدّين بشكل تام)، يتضمن الفكر الإسلاميّ المعاصر تيّارات أخرى مثل «الإصلاحيّة المسلمة» التي يمثلها على سبيل المثال فكر الأزهر وعموم الفكر الإسلامي التوفيقي الذي يتراوح بين استقلاليّة السياسة أو تبعيّتها النسبيّة للدّين، ولكنه في كل الأحوال لا يضع السياسة في قلب المشروع الإسلامي كالإسلامويّة. أما التيّار الثالث المهم، فهو تيّار «الإنسانويّة المسلمة» التي يمثلها مفكّرون مستنيرون قد لا تكون أفكارهم منتشرة كالإسلامويّة المتشدّدة أو الفكر الوسطي المعتدل، ولكنها قد تصنع مستقبل المجتمعات الإسلاميّة كفكر محمد أركون على سبيل المثال وغيره من المجدّدين الذين يؤمنون بالاستقلال التام للسياسيّ عن الدينيّ، وهي التيّارات الثلاثة التي فصّلتُ في شرح أفكارها والفروق بينها في كتابي المنشور عام 2017 «مفهوم الدولة في الفكر المصري المعاصر: الاستمراريّة والقطيعة في علاقة الدين بالسياسة»[3].

الخطأ الثاني:

الذي يقع فيه بعض الأكاديميّين الغربيين، خاصة تيار ما بعد الكولونياليّة، فعبّرت عنه الباحثة «غاياتري سبيفاك» في مقالتها «هل بمقدور التابع أن يتكلم؟»[4] (1988) بقولها إنه بالرغم من أنّ منظّري هذا التيّار يرغبون في إسماع صوت المستعمرات السابقة للعالم، ينتهي بهم الأمر بارتكاب ما هو معاكس لمقصدهم تماماً؛ وذلك بخلق وضع تعتمد فيه هذه المجتمعات على بعض هؤلاء الباحثين الغربيّين للحديث نيابة عنهم، بدلاً من السماح لهم بالتكلم عن أنفسهم مباشرة، كأن هؤلاء كُتبَ عليهم أن يتكلم عنهم غيرهم مع الاستعمار وبعده. وبالإضافة إلى ذلك، يلاحظ أن هذا التيار بين الأكاديميين الغربيين يـتعامل بتعميمات متسرّعة، وكأن التيّارات والفرق والجماعات المختلفة في مجتمعات ما بعد الاستعمار هي كيان واحد لا تعدّد فيه، رغم أنهم يعرفون من مجتمعاتهم الغربيّة أن تعدّد الجماعات داخل النسيج الدينيّ الواحد هو القاعدة وليس العكس.

وفي حالة الإسلام، يمكننا القول بأن تيّار ما بعد الكوليناليّة قد اختار الإسلامويّة كتعبير عن الإسلام ربما لأنها نوع من الفهم للتدّين الإسلامي الذي يردّد ما يتوقع الباحث سماعه واعتاده عن الإسلام بشكل مسبق، ونتيجة للتأثير الكبير لهذا التيار في الغرب.

لقد وصل الأمر لدرجة أن من ينتقد الإسلامويّة من المسلمين المخلصين في الغرب يتم وصفه من بعض المتعاطفين من غير المسلمين في الأكاديميا الغربية بأنه واقع بدوره تحت تأثير الإسلاموفوبيا. في هذا الإطار، تم إصدار كتاب ينمي ذلك الاتجاه يحمل العنوان التالي «الإسلاموفوبيا في البلاد ذات الأغلبية المسلمة»، وعندما تتصفح الكتاب تجد خلطًا مريباً بين الإسلام والإسلامويّة يصل حد الهذيان الفكري، عندما يتهم الكتاب الدولة والمجتمع في بلاد عربيّة، مثل مصر بلد الأزهر الشريف وقِبلة العالم السنّي بالإسلاموفوبيا لمجرّد أنها تعادي جماعات العنف المتطرف والمنغلق أو جماعات الولاء العابر لحدود الدولة الوطنيّة كجماعة الإخوان.[5]

مراجع

[1] نشر هذا المقال أوّلا ضمن سلسلة المقالات الصادرة على موقع أصوات أونلاين.

[2] DAECH: François Burgat, dir de recherche CNRS شاهد بداية من الدقيقة 21: 10

[3] Wael Saleh, La conception de l’État dans la pensée égyptienne contemporaine. Continuités et ruptures dans l’interprétation des liens entre religion et politique, L’Harmattan, Collection Comprendre le Moyen-Orient, 2017

[4] Can the Subaltern Speak? in Cary Nelson and Larry Grossberg, eds. Marxism and the interpretation of Culture (1988).

[5] Enes Bayrakli et Farid Hafez, Islamophobia in Muslim majority Societies, Abingdon-on-Thames, Routledge, 2018, 218 p.