لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟


فئة :  مقالات

لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟

لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟[1]

خاتمة

وائل صالح

 

تناولنا في سلسلة المقالات التي نختتمها اليوم، الأصول والمبادئ التي تأسّس عليها ذلك الاتجاه في الأكاديميا الغربيّة، والذي يغلب عليه التعاطف مع “الإسلامويّة”؛ أي فكر الحركات الإسلاميّة، وبيّنا أن هذا التعاطف مؤسّس منذ عقود على أفكار خاطئة عن جماعة الإخوان بالأساس، ولكنها أصبحت من المسلّمات في اللّاوعي الجمعي لهؤلاء الأكاديميّين في الجامعات ومراكز البحث الغربيّة.

في المقال الثاني، “هل الإسلامويّة لاهوت تحرير أم تكفير؟” على سبيل المثال، أوضحنا المقارنات المهمّة والاختلافات الجذريّة الواضحة التي لم يضعها بعض الباحثين الغربيّين في اعتبارهم عند تشبيه حركات الإسلامويّة بحركات لاهوت التحرير ذات التوجه المدني التحرّري التي وقفت مع الفقراء بحق في أمريكا اللاتينيّة؛ لنستنتج أن الطبيعة الفكريّة الخاصة للتطور السياسيّ للحركات الإسلامويّة في بلادنا قد أنتجت في واقع الأمر فكرًا دينيًّا رجعياً غير تقدميّ كما يدّعي هؤلاء الباحثون الغربيّون المتعاطفون مع الإسلامويّة في الأكاديميا الغربيّة.

وفي المقال الثالث، هل الإسلامويّة تيّار ينتمي إلى ما بعد الحداثة؟ فكّكنا ونقدنا مسوّغات الباحثين الغربيّين «ما بعد الحداثيّين» الذين يظنون أنه بما أن الإسلاميّين ينتقدون الحداثة ومفاهيمها الخاصة بدور الدولة المركزي والهوية الوطنية الواحدة الشاملة، فإنه يمكن اعتبارهم تيّارا ذا بُعد ما بعد حداثي، بينما الحقيقة أن الحداثة هي حركة فكريّة مدفوعة بالقيم الفلسفيّة، وليس بالقيم الثيوقراطيّة الدينيّة كما هو الحال مع الإسلامويّة التي لا تقبل بالطبع تعدّدية ما بعد الحداثة.

في المقال الرابع، هل الإسلامويّة هي الإسلام أو هى التيّار المتغلّب إعلاميّا؟ بيّنا مدى الخطأ الذي تقع فيه الأكاديميّة الغربيّة التي تطابق بين الإسلام كدين، وبين الجماعات الإسلامويّة، وتعتبر الأخيرة هي الممثل الوحيد للإسلام، متجاهلة تيّارات أخرى مهمّة على السّاحة الإسلاميّة، كتيّار التصوّف وتيار التجديد العقلي …إلخ.

وكان من المدهش مطابقة بعض هؤلاء الأكاديميّين الغربيّين بين الإسلام، وبين الإخوان تحديداً، وأوضحنا كيف أن تيّارات متعارضة تعارضا كليّا تتفق على هذه الفكرة، فكيف يصل تيار الاستشراق، في قسمه الاستعماري الذي تمثله أسماء مثل برنارد لويس، إلى نفس النتيجة التي يتبنّاها تيّار ما بعد الكولونياليّة، الرامي إلى فهم صحيح للمستعمرات السابقة يزيح الركام الخاطئ الذي زرعته الدوائر الإمبريالية القديمة والحديثة.

في المقال الخامس، هل فصل الدين عن الدولة هو خصوصية مسيحيّة، بينما المزج بينهما هو من خصوصيّة الإسلام؟ أوضحنا أن فصل الدّين عن الدولة ليس خصوصيّة مسيحيّة، كما أن المزج بينهما ليس خصوصيّة الإسلام كما يدّعي بعض المتعاطفين من الأكاديميا الغربيّة مع الإسلاموية، فالتطوّرات الجذرية (الاقتصاديّة/الاجتماعيّة/الفكريّة) هي التي فرضت العلمانيّة فرضًا على الكنيسة في السياق الغربي، بينما في المقابل، لم تتعرض البلاد ذات الأغلبيّة المسلمة بعد، للتأثيرات الجذرية للتطورات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة بالقدر الكافي لتتطوّر في نفس الاتجاه، وإن بطريقة تعكس خصوصيّة تجربتها الثقافيّة والحضاريّة.

في المقال السادس، فندنا آراء من يقول إن تحليل النصوص التأسيسيّة لفهم ممارسات ومخيّلة الإسلاميّين هو اختزال لواقعهم. إن هؤلاء لا يستخدمون نهجًا تفرضه الظاهرة الإسلامويّة وطبيعتها على الباحث، بقدر ما يعملون على اختزال ظاهرة الإسلامويّة القائمة على نصوص مؤسّسة لها كرؤية للعالم في عدد قليل من المقابلات [المخطط لها بعناية] مع بعض قياداتها التي تتعمد استخدام «خطاب مصطنع» موجه للغرب تحديدا بهدف كسب تعاطفه وتأييده السياسي.

في المقال السابع، عندما يبرر فريق من باحثي الأكاديميا الغربية العنف الذي تمارسه الإسلامويّة، بينّا أن إعطاء كل العوامل وزنها النسبيّ هو أمر ضروري لفهم أفضل لظاهرة التطرّف التي تؤدّي إلى العنف - كذبا - باسم الإسلام، كما أشرنا إلى خطورة وقوع الكثير من الباحثين الغربيّين في فخ تبييض عنف حركات الإسلامويّة، حيث يبرّئون نمط التديّن المنغلق والمتشدّد الذي يتربى عليه أعضاء هذه الجماعات، من تفسير انتقالهم السريع لممارسة العنف ضد الآخرين، كما ينكرون تمامًا دور النص الإيديولوجي المؤسّس والمسوّغ للعنف، مثل كتب سيد قطب والمودودي وفرج عبد السلام … وغيرها، ويحصرون أسباب عنف هذه الحركات فقط في التهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي – وهى عوامل ذات تأثير بالفعل – باعتبارها وحدها العوامل المنشأة لهذا العنف.

في المقال الثامن، هل هي رد فعل على الغزو الثقافي الغربي؟ أوضحنا أن الهويّة عند حركات الإسلامويّة قائمة قبل كل شيء في مواجهة “الآخر” داخل الوطن؛ أي المسلم غير المنضوي تحت فكر تلك الحركات، وليس كبديل لهوية المستعمر الغربي السابق أو العدو الحالي، كما يدعي بعض المتعاطفين في الأكاديميّة الغربيّة مع الإسلامويّة. وبما أن مفهوم الهوية لا يمكن فصله عن مفهوم الآخر الذي تستمد الهوية شرعيتها منه، فإننا بينا في هذا المقال كيف أن أكثر نماذج “الآخر” كراهية في أيديولوجيا حركات الإسلاموية هو المسلم غير المنتمي لهذه الحركات وفكرها، وليس الآخر الغربي أو الآخر المغاير في الدين – لأن وجود المسلم الرافض للفكر السياسي لتلك الحركات في حد ذاته يشكك في أساس فكرهم السياسي، وهو أن “الإسلام هو الإسلاموية”.

في المقال التاسع، هل تتوافق الإسلاموية مع المواطنة والعيش المشترك؟ أوضحنا أنه بعيدا عن الدور الروحيّ الذي يلعبه الدّين في حياة الفرد والمجتمع، فإن الشروط الرئيسيّة لتوفير بيئة سياسيّة تناقش الشأن العام وتسودها القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك، توجّب تفريغ الفضاء الدولتي من الديني والعقدي، فالدولة لا يجب عليها في نفس الوقت أن تتديّن ولا أن تعادي الدين. وفي الفضاء العام يجب أن تحصر المنافسة بين الفاعلين السياسيين على من يدير الدولة بشكل أفضل في إطار دولة تنموية وإخراج الدّين من مجالات المنافسة والصّراعات السياسيّة. في هذا الفضاء العام، يكون للحركات والقوى السياسيّة الحق في اختيار وتبنّي المرجعيّة والإطار الأخلاقي، سواء أكان دينيًا أو أيديولوجيّا، لكن لا ينبغي فرض تقديسها على الآخرين، أو منعهم من نقدها باسم الدّين. فضاء عام سياسيّ لا تعزل فيه الآليّة السياسيّة للديمقراطيّة (صندوق الاقتراع) عن معاييرها وشروطها السياسيّة والفلسفيّة الكامنة وراءها، والتي من دونها لا يمكن للديمقراطيّة أن توجد. شرعيّة الحكم يجب أن تكون قائمة وفقط على شرعيّة الإنجاز. وأن ما اتفق الناس عليه لتنظيم شؤون حياتهم هو المصدر الوحيد للتشريع. تلك المعايير هي وحدها التي تستطيع ضمان القيم الأساسيّة للمواطنة والعيش المشترك، وهي تتعارض كليا مع النصوص المؤسّسة لفكر حركات الإسلاموية.

في المقال العاشر، هل نعيش مرحلة “ما بعد الإسلاموية” أم “نهاية الإسلاموية” فصلنا المؤشرات التي تدلّ على أن مصير حركات الإسلامويّة هو موتها وليس تطوّرها لنسخة أكثر تقبّلا للحداثة الاجتماعيّة – السياسيّة. وبيّنا أن هذا الموت لا يعني الاختفاء الفوري أو الاندثار التام للإسلامويّة ولكن يعني أن التأثير الذي كان لديها قبل الربيع العربي لن يعود أبداً كما كان.

هو نوع من الموت الإكلينيكي يجعل الإسلاموية لا تغادر أبداً نطاق الهامش وكلما استعادت الدولة الوطنيّة قوتها ومكانتها ودورها كلما اضمحلّت الإسلامويّة، لتصل إلى درجة الخروج التام من مشهد التأثير.

مما سبق، يتضح أن المقولات التي يعتمد عليها المتعاطفون مع الإسلامويّة من باحثي الأكاديميا الغربيّة هي مقولات غير صحيحة وغير مبنيّة على قراءة صحيحة لحركات الإسلاموية وفكرها المسيس.

ومما لا شك فيه، أن تلك المقولات المغلوطة، والتي تحوّلت بمرور الوقت إلى مسلّمات غير مطروحة للنقاش وإعادة النظر، وهي مسلّمات تصب في صالح حركات الإسلام السياسيّ؛ لأنها تدفع تلقائياً، ليس فقط نحو قبول هذه الحركات دون إدراك مخاطر فكرها وسلوكها العنيف، ولكن أيضاً لأن هذا التبرير الأكاديمي المتسرّع يقدّم التبرير “العلمي” لإقدام بعض المؤسّسات السياسيّة، بل الدول الغربية للتعاون مع هذه الحركات.

[1] نشر هذا المقال أوّلا ضمن سلسلة المقالات الصادرة على موقع أصوات أونلاين.