لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟


فئة :  مقالات

لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟

لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟[1]

2- هل الإسلامويّة تيّار ينتمي إلى ما بعد الحداثة؟

د. وائل صالح

مقدّمات لابد منها

بداية يتوجّب علينا تعريف الحداثة وما بعد الحداثة بشكل موجز، فهي مفاهيم معقّدة بالنسبة إلى غير المتخصّصين. الغرض هنا فقط التبسيط، وذلك من أجل فهم أفضل للمقال.

ما هي الحداثة؟

الحداثة هي مفهوم لوصف الخصائص المشتركة للبلدان الأكثر تقدّما على صعيد التنمية التكنولوجيّة، السياسيّة، الاقتصاديّة والاجتماعيّة[2]. وترتبط الحداثة بالحقبة التاريخيّة التي بدأت في الغرب مع عصر النهضة الأوروبيّة، ومن أبرز سماتها تحقّق تحوّلات كبرى شكّلت انقلابا على خصائص المجتمع التقليدي في العصور الوسطى، إذ ظهرت معها الحياة المدنيّة، وولدت الرأسماليّة، كما ظهرت قيم الفرديّة والحريّات العامة والمساواة في الحقوق والديمقراطيّة، والأهم بروز الفكر العقلاني لأول مرّة في التاريخ الإنسانيّ بهذا الوضوح. ويرى ماكس فيبر أنّ عقلنة النشاطات الإنسانيّة كافة هي السمة الأساسيّة في الحداثة، "إذ تخلّصت كلّ مجالات النشاط الاجتماعي من وطأة الفكر التقليدي لتتبع في ما بعد منطقها العقلانيّ الخاص بها"[3].

 ترتبط الحداثة بالحقبة التاريخيّة التي بدأت في الغرب مع عصر النهضة الأوروبيّة، ومن أبرز سماتها تحقّق تحوّلات كبرى شكّلت انقلابا على خصائص المجتمع التقليدي في العصور الوسطى

ما بعد الحداثة

في مرحلة تالية من التطوّر الأوروبي، بدأت الانتقادات للحداثة (وللعقلانيّة بطبيعة الحال)، لتظهر اتجاهات جديدة أُطلق عليها «ما بعد الحداثة»، لتشكل تيّارا فكريّا يقوم على نقد المفاهيم الكونيّة للحداثة (التي تفترض وجود إنسان واحد في كل المجتمعات، يمكن فهمه بطريقة واحدة، وأن هناك مسارا عقلانيا واحدا للتطور هو الذي سلكته الحضارة الأوروبيّة، وبالتالي فعلى كل المجتمعات والحضارات أن تسلكه بغض النظر عن خصوصيتها)، ومثل الأخلاق الواحدة والحقيقة الواحدة والطبيعة البشريّة والعقل الواحد. وبدأ استبدال تلك المفاهيم بأخرى «ما بعد حداثية»، مثل التركيز على وجود قيم وخصائص ذاتية مميّزة سواء للإنسان أو للمجتمعات المختلفة، والنسبيّة المعرفيّة والأخلاقيّة، والتعدديّة الثقافيّة.

 

هل تقبل الإسلامويّة تعدّديّة ما بعد الحداثة؟

كيف للباحث والأكاديمي «ما بعد الحداثي» الذي ينكر وجود نظام عقلانيّ متسق أو حقيقة واحدة صحيحة ويؤمن بتعدّديّة الآراء ونسبيّتها، أن يتعاطف مع الإسلامويّة أو فكر حركات الإسلام السياسيّ من الإخوان إلى داعش؟ وكيف له أن يظن أن هذا الفكر ينطوي على أبعاد ما بعد حداثيّة؟ كيف للباحث والأكاديمي «ما بعد الحداثي»، الذي يلجأ في البحث إلى مناهج مثل تحليل الخطاب وتفكيك الظواهر والنصوص – بما فيها النصوص الدينيّة – وإمكانيّة القراءة المزدوجة لها، أن يتعاطف ويدافع عن الإسلامويّة، بانغلاقها الفكريّ وواحديّة تفسيرها للنصوص الدينيّة ولظواهر المجتمع؟

 بدأت الانتقادات للحداثة (وللعقلانيّة بطبيعة الحال)، لتظهر اتجاهات جديدة أُطلق عليها «ما بعد الحداثة»، لتشكل تيّارا فكريّا يقوم على نقد المفاهيم الكونيّة للحداثة

كان هذا هو السؤال الذي سيطر على تفكيري لمدة طويلة، حيث لاحظت أن بعض الباحثين الغربيّين «ما بعد الحداثيّين» يظنّون أنه بما أن الإسلاميّين ينتقدون الحداثة ومفاهيمها الخاصة بدور الدولة المركزيّ والهويّة الوطنيّة الواحدة الشاملة، فإنه يمكن اعتبارهم تيارًا ذا بُعد ما بعد حداثيّ، وأن هناك أرضيّة محتملة للعمل معا.

ولتفنيد ونقض مقولة أن الإسلامويّة تيار ذو بُعد ما بعد حداثي، والذي يتبناه أيضاً بعض من قابلتهم في الأكاديميّات الغربيّة، من المهم أن نلاحظ:

أوّلا، أن ما بعد الحداثة هي ردّة فعل من داخل الحداثة، في حين أن الإسلام السياسيّ هو ردّة فعل من خارجها أساساً، بل إن فكر جماعات الإسلام السياسيّ يرفض الحداثة، ويدعو إلى النكوص عنها، لا إلى تجاوزها كما فعل أنصار ما بعد الحداثة.

ثانيا، يرى أستاذ الفلسفة السياسيّة الجزائري «علي قايدي»[4] أنه لا يمكن للخطاب القائم على يقين طبيعتُهُ ثيوقراطيّة دينيّة أن يحتوي على خطاب يؤمن بنسبيّة الحقيقة وتعدّديّتها مثل خطاب ما بعد الحداثة. ويتّفق عبد الرحيم لامشيشي مع هذا الرأي الناقض لاعتبار الإسلامويّة كتيار ذي بعد ما بعد حداثي، موضحا أن الإسلامويّة تسعى إلى تصفية قيم الحداثة الإيجابيّة، وليس لتصويب بعض مثالبها.

ثالثا، بانتقادهم العواقب السلبيّة المجتمعيّة والسياسيّة للحداثة، يطالب ما بعد الحداثيون بمزيد من الحرية والاستقلاليّة الفرديّة عن السلطات التي تجسّد قيَم الحداثة «العقلانيّة»، وهو مطلب مناقض لما يطمح إليه الإسلاميّون بانتقادهم للحداثة؛ فالإسلاميّون يريدون حريّة فرديّة واستقلاليّة أقل بكثير ممّا تقدمه الحداثة.

 فكر جماعات الإسلام السياسيّ يرفض الحداثة، ويدعو إلى النكوص عنها، لا إلى تجاوزها كما فعل أنصار ما بعد الحداثة

ورابعا، أن ما بعد الحداثيّين يروْن أن العلمانيّة اليعقوبية الجمهوريّة (كما يتم تطبيقها في فرنسا لتصل لحد الحظر على المواطنين إظهار انتمائهم الدّيني في الأماكن العامة) هي عمل ضد حريّة الاعتقاد والضمير. إن ما بعد الحداثيّين لا يطمحون ولا يطالبون بالاستئصال التام للدّيني من الفضاء العام. أمّا الإسلامويّة، فهي تتغذى كليّا على دمج الدينيّ والسياسيّ بهدف المصادرة الكليّة للفضاء العام، وقصرها على أنفسهم دون غيرهم.

 ما بعد الحداثة هي حركة فكريّة مدفوعة بالقيم الفلسفيّة وليس بالقيم الثيوقراطيّة الدينيّة كما هو الحال مع الإسلام السياسيّ

وأخيراً، ما بعد الحداثة هي حركة فكريّة مدفوعة بالقيم الفلسفيّة وليس بالقيم الثيوقراطيّة الدينيّة كما هو الحال مع الإسلام السياسيّ. ويرى كلود جيفري أن النقاش حول ما بعد الحداثة كمؤشّر على أزمة في الحداثة هو إشكاليّة غربيّة وأوروبيّة تحديدا. أما الإسلامويّون، فيتّخذون من نقد ما بعد الحداثيّين للحداثة منطلقاً لرفض الحداثة بمجملها ولتنمية مشاعر التمترس على هويتهم الدينيّة الخاصّة، باعتبارها أعلى من هويّات غيرهم، لا باعتبارها هويّة ضمن هويّات عديدة لها قيمتها بالنسبة إلى أصحابها، والأهم هو ما تولّده هذه الطريقة في التفكير من نرجسيّة ثقافيّة ونزعة أصوليّة تسعى فقط لدغدغة مشاعر تيّارات شعبويّة تبرّر استمرار الخصومة مع الحداثة كما يقول محمد سبيلا ومحمد السيد سعيد.

 

[1] نشر هذا المقال أوّلا ضمن سلسلة المقالات الصادرة على موقع أصوات أونلاين.

[2] Blandier, 1982, p283

الرجاء الرجوع إلى تعريف الحداثة على موقع مؤمنون بلا حدود.

[3] دورتيه، ج. ف. (2011). معجم العلوم الإنسانيّة. (جورج كتورة، مترجم). (ط.2). أبو ظبي-الإمارات العربيّة المتّحدة، بيروت- لبنان: كلمة ومجد المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع. ص ص 335-336

[4] [3] K. ALI (2012). L’islam politique, est-il postmoderniste ? (III),

http://kabyleuniversel.com/2012/07/07/lislam-politique-est-il-postmoderniste-iii/