لماذا يهاجر المواطن العربي؟


فئة :  مقالات

لماذا يهاجر المواطن العربي؟

لماذا يهاجر المواطن العربي؟

خالص جلبي

كانت القاضية الكنديَّة تنطق بكلمات واضحة بطيئة تكرّرها باللغتين الفرنسيَّة والإنكليزيَّة: أيُّها السيدات والسادة، نحن نعلم الرحلة الصعبة التي قطعتم، والأوطان الغالية التي فارقتم، طمعاً في مصير أفضل لتستقروا في هذا البلد الرائع. أيُّها الناس نحن فخورون بهذا الاستقطاب لثمانين إنساناً ينتمون إلى ما يزيد على ثلاثين جنسية. 

وتابعت: دخلتم هذه القاعة مهاجرين، وتخرجون منها مواطنين مثلي، لا أتميّز عنكم بشيء. الحقّ أقول لكم ادخلوا هذا البلد بسلام آمنين، واعتنقوا الدّين الذي به تؤمنون، وتنقلوا واعملوا في أيّ مكان تحبُّون، وادخلوه وغادروه في اللحظة التي ترغبون، تعلموا قول الحق والعمل به، ولا تخشوا في ذلك لومة لائم. علموا أولادكم ذلك، وعلموهم محاربة كلّ ألوان التمييز العنصري والجنسي، كونوا حريصين. 

وفي النهاية، ختمت القاضية خطبتها: والآن قوموا فليسلّم بعضكم على بعض، فقد أصبحتم بنعمة الله إخواناً. عندها لم يتمالك معظم مَن في القاعة عن إمساك دموعهم مبللة بذكريات مؤلمة من جمهوريات الخوف ودياسبورا التشرُّد. كان أكثرهم بكاءً عائلة فلسطينيَّة. كانت الخطبة تذكّر ببيعة الصحابة لرسول الله؟ 

هذا الكلام ليس دعاية للهجرة إلى كندا، فالناس يهرعون إليها من مشارق الأرض ومغاربها بأشدّ من جذب المغناطيس لبرادة الحديد بين قطبين: يأس من وطنٍ لم يبقَ فيه مكان للمواطنة، وأمل في وضع القدم في أرض الميعاد، يسبحون في تيَّار أطلنطي على ظهر مركب من ذهب، لينعموا ببلد يجمع بين سحر الطبيعة والنظام وكلّ الضمانات، تحتلُّ فيه كندا الرقم واحد في العالم بحسب إحصاءات الأمم المتحدة، على الرغم من برده الزمهرير في درجة حرارة قد تصل شتاءً إلى 63 تحت الصفر، لا يشعر مواطنوه بذلك البرد الذي يضرب مفاصل المواطنين العرب في شتاء الشرق الأوسط الدافئ؛ فالحضارة كما نرى لا تعرف الجغرافيا. 

لماذا يغادر الكندي بلده ويعود إليه في أيّ وقت يشاء، ومن دون تأشيرة؟ يعود هذا إلى مرسوم (الحريات والحقوق)، التي تُسلّم باليد كأوَّل وثيقة مع تهنئته على الجنسيَّة، تتضمَّن حقه في أن يغادر بلده كما يحلو له، فالوطن بيته، ومتى يُسأل الإنسان؟ وممَّن يأخذ إذناً بمغادرة بيته أو الإيواء إليه؟ أمَّا الحدود العربيَّة، فقد تحوَّلت إلى أسوار شاهقة لسجون كبيرة تحتجز مواطناً مسكيناً ويتيماً وأسيراً؟ 

ما معنى تأشيرة الخروج في البلاد العربيَّة؟ إنَّها مؤشر فاضح لمواطن مدانٍ سلفاً في سجن كبير يحتاج إلى تدقيق قبل مغادرة محبسه؛ للتأكد من أنَّه غير مطلوب للعدالة من دون عدالة، برسوم تقصم الظهر لدول تئنّ تحت العجز المالي تمدُّ يدها إلى آخر قرش من جيب مواطن مفلس! فمن اثنتين وعشرين دولة عربيَّة يتراجع النمو في سبع عشرة منها، في وقت يتضاعف فيه السكان مرَّتين بحسب كتاب (فخ العولمة)، في مطلع ألفيَّة لا مكان فيه للعرب، بحسب شهادة المؤرخ باول كينيدي. إنَّها أجراس إنذار مفزعة لأناس فقدوا حاسَّة السمع؟ 

عند بوابات الحدود العربيَّة تطلُّ سحنة موظف عابس كاره لعمله؛ فيتسارع نبض المواطن العربي مع تسليم الجواز، ويجفُّ ريقه متظاهراً بالابتسام، في سحنة صفراء لا تسرُّ المستقبلين، ثمَّ تبلغ القلوب الحناجر في انتظار عودة الجواز، أو تدور الأعين كالذي يغشى عليه من الموت عندما يتأخَّر الجواز، فلعل المواطن مطلوب لجهة أمنيَّة!

ما معنى تسرُّب الكفاءات وهرب رؤوس الأموال ونزف الأدمغة وصدور أفضل الكتب والمجلات تطبع بالحرف العربي في مكان لا يوجد فيه ناطق واحد باللسان العربي؟ إنَّها رواية بائسة عن وطن بلا دماغ! فهل يمكن لكائن ممسوخ من هذا النوع أن يعيش؟ 

يقول المثل القوقازي: من يفقد وطنه يفقد كلَّ شيء، من دون حبل سرّي ومشيمة ثقافيَّة، يمشي فوق أرض من دون جاذبيَّة، فقد التوازن الخلَّاق، مُكبَّاً هائماً على وجهه، هل يستوي هو ومن يمشي معاً على صراط مستقيم؟ في ورطة من نوع محيّر، فلا الشرق يعجبه ولا الغرب يسعده، يعيش نفسيَّاً في الأرض التي لا اسم لها. 

ما معنى تدفُّق المهاجرين العرب إلى كلّ أصقاع الأرض (يشكّلون 10% من سكان مونتريال في كندا)، وهم لا يعلمون؟ يحلمون بجنَّة أرضيَّة جديدة، بعد أن غادروا وطناً تحوَّل فيه بعضهم لبعض عدواً، بلجوء جوع إلى السويد وألمانيا، أو الاستعداد للزواج من أيَّة فتاة أجنبيَّة للقفز معها إلى المجهول هرباً من جمهوريات الخوف والجوع والبطالة، أو شراء جوازات سفر من الدومينيكان والأرجنتين بعشرات الآلاف من الدولارات من دون وجود، في تحصيل جنسيّات لعائلاتهم يأمنون بها على أنفسهم في الشرق المنكود؛ لعلّها تنفع يوماً إذا زلزلت الأرض زلزالها. 

لو فتحت السفارة الكنديَّة أبوابها لهجرة مفتوحة من دون شروط في أيَّة عاصمة عربيَّة لزحف إليها كلُّ إنسان بين أعمار السادسة عشرة والـستّين، كأنَّهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي، يقولون هذه فرصة لا تفوَّت؟ في فرار من سفينة تهوي في رحلة موجعة إلى قاع المحيط بأسرع من غرق التايتانك. 

المواطن العربي لا يتمتَّع اليوم بأيَّة حصانة، بما فيها الحاكم على رأس الهرم الاجتماعي، فلا ضمانة لأيّ إنسان أو لأيّ شيء في أيّ مكان أو زمان، في إحساس بالدوار، من دون أمل في معرفة الاتجاهات، معرضاً لهجوم أيّ حيوان ضارٍ، في غابة تتشابك فيها الأكواع، في وطن تفوح منه رائحة القلة والذلة، ويتنفس فيه الإنسان مع جزيئات الهواء أجهزة الأمن؟ مواطن بلا وطن، ليس عنده قوت يومه، غير آمنٍ على عياله، لا يعرف ماذا يحمل له المستقبل الأسود من هموم، خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا، يعيش ثقافة ميتة ودَّعت نبض الحياة، يعيش كي لا يعيش، لا يمرُّ يوم إلا والذي بعده شرٌّ منه، في رحلة تردٍّ لا تعرف التوقف، في حجم مشاكل أكبر من التطويق فوق مستوى من بيده القرار والحل، يتخرَّج فيه الطالب الجامعي من دون أمل في مرتب يوفر له سقفاً يظله، أو يمنحه إمكانيَّة بناء عائلة ينجب فيها أطفالاً سعداء يثقون بأنفسهم وبالحياة، في مجتمع يمشي باتجاه كارثة محققة! لقد أصبح وضعنا مهزلةً للعالمين، في حجم النكتة من دون أن يضحك أحد. أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون؟

لقد عاش جيلنا كلاً من الوهم القومي الثوري وحمَّى الحركات الإسلاميَّة، وانتهى إلى إفلاس الاثنين، في مؤشرات حادَّة إلى أنَّ حالة المريض تزداد سوءاً واختلاطاً من دون دلائل انفراج في الأزمة، لينشأ جيل (الصدمة) أخطر ما فيه شعوره بأنَّ العلم لا قيمة له، ولا يدفع مسغبة الجوع، في وقت تدفع فيه أرحام الجامعات شباباً عاطلين إلى شوارع مكتظة بالفقراء. 

ليس غريباً أن ينشأ تيار أشدُّ من المكنسة الكهربائيَّة، يشفط كلَّ العقول والأموال في تيار أطلسي أقوى من ظاهرة النينو باتجاه ديمقراطيات تضخ أكسجين الحياة، وتوديع ثقافة استبداد تعيش عصر بيعة الخليفة العباسي الواثق بالله لشعب وُلِدَ أخرس يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيَّاً؟ من يستطيع الهرب من الأوضاع يبحث عن الخلاص الفردي بين ركَّاب سفينة يتخاطفون أطواق النجاة، يلقي أحدهم بنفسه في اليم وهو مليم، فإن لم يهلك هو ماتت ذراريه في بطن الحوت الرأسمالي ما لم يكن من قوم يونس، أو غرق في لجج ثقافة غربيَّة تضرب سفينتنا الغارقة بموج كالجبال. ليس أمامنا للنجاة في طوفان الحداثة إلا الانطلاق بمشروع بناء سفينة نوح من الفكر جديدة، ولكنَّ المشكلة ببساطة أنَّ نوحاً لا يعيش بين ظهرانينا، ونواجه مشاكلنا بخطب وأدعية من العصر المملوكي ودول الطوائف، وعقولنا مبرمجة في متاهات فئران التجربة، في قبضة مسلمات لا فكاك منها، نحتاج إلى ولادة جديدة من رحم امرأة عجوز عقيم في انتظار استنساخ أسطوري. 

لقد تحوَّل الوطن، في أحسن أحواله، في عين المهاجر، إلى وقت قصير للاستجمام مع كلّ مغامرة الدخول المحفوفة بالخطر، للتمتع بطقس جميل لا فضل فيه للجهد البشري، واستعادة ذكريات الطفولة. يعيش الفرد أجمل لحظاته في الطائرة إلى الوطن، وعند الخروج منه، عندما يكتشف بمرارة أنَّه لا يستحق أكثر من إجازة، فلقد كان في ما سبق وطناً، قد يتمنَّى أن يدفن فيه، لا أن يعيش فيه بحال!

اجتمعتُ بعائلة مهاجرة كنديَّة أنفقت عليها حكومتها بسخاء ورجعت بأعظم شهادة جامعيَّة، فلما رجعت إلى الوطن كانت المفاجأة أكبر من الصاعقة؛ فغادرت البلد بعد عدّة سنوات في حالة ذهول، وقد تبخَّرت من رؤوسها الأحلام الورديَّة، وتركت خلفها الشهادات الكبيرة للوطن؛ فهي تتكسب عيشها اليوم في محلٍّ لبيع ملابس الأطفال، في شهادة صاعقة عن مصير العلم في الوطن العربي الكبير. 

فلسفة الهجرة

اجتمعت بصديقي «أبو محمد»، وهو يعمل في إصلاح الحدائق، فأخبرني بعزمه مغادرةَ الوطن إلى أمريكا بعد أن انتظر التأشيرة ثماني سنوات. أحزنني بعض الشيء وصوله إلى هذا القرار، ولكن أَهي مشكلة هذا الرجل فقط، أم هي أزمة وطن واختناق ثقافة، بعد أن تحوَّل الوطن إلى طائرة مخطوفة، والمواطن إلى رهينة، والمستقبل إلى نفق مسدود؟ 

المشكلة الأولى في الذين هجروا الوطن ليست واحدة؛ بل ثلاث؛ فالذين ذهبوا إلى الغرب أصبحت حياتهم لا تعرف الهدوء، فقد دخلت الزوبعة إلى حياتهم إلى أجل غير مسمى، ولعلّها ستبقى ترافقهم مثل الحمَّى المالطيَّة حتى نزع الروح. يقول المثل الشركسي: من يخسر وطنه يخسر كلَّ شيء، حتى يجد وطناً جديداً لن يكون وطناً. 

عندما عُرِض على فيرنر هايزنبرغ، الدماغ الفيزيائي، وصاحب نظريَّة الارتياب في ميكانيكا الكم، الهجرةَ إلى أمريكا كان جوابه: إنَّه قرار يجب أن يُحسم في عمر مبكر؛ فمن نشأ في ثقافة بعينها حتى عمر معين تصبح تلك البيئة له أكثر الأوساط تأثراً وتأثيراً فيه. كان جوابه: سأرجع إلى ألمانيا حتى إذا انهدمت المدن الألمانيَّة قمت بتربية جيل ما بعد الكارثة. وهو الذي حصل عندما دشّن معهد (ماكس بلانك) في فروع لا نهاية لها من العلوم.  

المشكلة الثانية أنَّ من هاجر بلده واحتكّ بالحضارات الأخرى يصل إلى وضع لا يُحسد عليه، فلا الشرق يعجبه، ولا الغرب يسعده؛ فهو نفسياً في الأرض التي لا اسم لها. 

ومن أجمل ما قرأت، نقلاً عن مهاجر ألماني، ما معناه أنَّ الذي يرى وطنه جميلاً فهو لا يفهم الحياة، ومن شعر بالغربة في الهجرة فهو غير ناضج، ولكن من شعر بالغربة في كلّ العالم فهو المواطن الصالح. يقصد بهذا أنَّ وجودنا في الأرض كله يقوم على التوقيت والإعارة، وأنَّنا نحن البشر من التراب وإليه نعود. وهذا يقرب إلى وعينا صدى تلك الجملة العميقة التي نطقها المسيح عليه السلام: مملكتي ليست من هذا العالم. إنَّهم يعيشون العالم السفلي وحلمهم معلق في عالم لم يولد بعد. 

إنَّه قرار مصيري، ولكن تبقى معاناة أفضل من المعاناة في وطن تحوَّل إلى سجن كبير، من دون أمل في الإفراج عنه مثل حكم الإعدام المؤجل. 

وما زلت أتذكر يوم (13) كانون الثاني/ يناير (1975م)، وأنا في طريقي مهاجراً إلى ألمانيا الغربيَّة (قبل الاتحاد الألماني وسقوط جدار برلين عام 1989م)، عندما نشبت معركة حامية الوطيس بين اثنين من الركاب على المقاعد. وفي الليلة الأخيرة قبل مغادرة البلاد كانت ليلة الفندق مرعبة في بيروت بين قرقعة الصنادل الخشبية، وصراخ مغنية مجنونة قد استولت على حواس صاحب الفندق فسهر على صوتها حتى مطلع الفجر. 

وعندما تجاوزت الحدود السوريَّة (السجن الكبير) خررت لله ساجداً على نعمة الحريَّة. وكانت هذه آخر ذكرياتي من العالم العربي (رجعت إلى سورية بعد سبعة عشر عاماً، فكانت مدمَّرة سبعة عشر ضعفاً!)، فودَّعت حضارة الصخب والفوضى والخوف وتلوث الحواس رؤية وسماعاً وشمَّاً، وهبطت مطار نورمبرغ الألماني لأستقبل حضارة النظافة والنظام والأمن. 

والمشكلة الثالثة أنَّ قرار الهجرة يُعدُّ من أصعب وأخطر القرارات في حياة الإنسان، ولعلّه يكون طريقاً باتجاه واحد. ومشكلة الغرباء أنَّهم يبقون غرباء لفترة طويلة، وقد تدوم هذه الغربة مدى الحياة. لذا على من يتخذ قرار الهجرة أن يتذكَّر ثلاثة أمور: أولاً أنَّه قرار لا يتعلق به وحده؛ بل بذريَّته من بعده (كما حصل معي، فقد رسا مصيري بين المغرب وكندا وجزء بين الأعراب وبناتي وأحفادي في كندا)، ثانياً أنَّه قد يكون هجرة بغير عودة، وثالثاً أن يتذكَّر قول الفيلسوف ديكارت: إنَّ من يكثر التنقل يصبح غريباً في بلده. 

وأرجع إلى صديقي (أبو محمد) قلت له: ما دفعك إلى الهجرة؟ قال لي: أمورنا تمشي إلى الخلف، وحياتي انتهت، وأنا أريد مستقبلاً لأولادي. 

الهجرة ظاهرة كونيَّة مثل الوحي، فكما أوحى الله إلى أنبيائه روحاً من أمره، كذلك أوحى إلى (النحل) أن اتخذي من الجبال بيوتاً، وأوحى إلى (أم موسى) أن أرضعيه. كلٌّ بطريقته الخاصَّة. كذلك القول في الهجرة، فلا يهاجر الإنسان فحسب؛ بل سمك السلمون والنحل والطيور والفراشات أيضاً. ويهاجر الرجل والمرأة إلى عش جديد لتوليد عائلة جديدة. فهذا قانون وجودي. 

الطيور تهاجر تبحث عن الحب. وسمك السلمون يهاجر في ملحمة رائعة من نهر فرايزر في كندا ليقطع رحلة عشرة آلاف كيلومتر حتى المحيط. وتغادر الفراشات (الملكة) شمال أمريكا، لتصل إلى أمريكا الجنوبيَّة، فتتبدل خلقاً من بعد خلق، ولكنَّ هجرة الإنسان غير هجرة السمك والطيور فهي حركة ثقافيَّة. 

وبحسب فيلسوف التنوير الألماني (كانط)، كانت الهجرات تأريخاً للاضطهاد السياسي، من خلال الانشقاق المتتابع في الجماعات الإنسانيَّة، وبذلك زحف الإنسان في الأرض من شرق أفريقيا حتى جنوب أمريكا في رحلة امتدَّت على مدار (200) ألف سنة. فكان الاضطهاد في طرفٍ منه خيراً في انتشار الإنسان في الأرض. ونعرف اليوم أنَّ هجرات الجنس البشري عبرت مضيق بهرنجر قبل (12) ألف سنة، وتابعت زحفها حتى مضيق ماجلان وأرض النار. 

وبحسب المؤرخ البريطاني توينبي، في كتابه (مختصر دراسة التاريخ)، الهجرة صيرورة تنطبق أيضاً على الأنبياء من خلال قانون (الاعتزال والعودة). وبذلك هاجرت البوذيَّة من نيبال في الهند واستقرَّت في الصين. وتركت المسيحيَّة فلسطين وزحفت إلى روما.

وفي مسيرة ماوتسي دونج مشى معه مئة ألف من أتباعه إلى شمال الصين ما عرف بـ (المسيرة الكبرى). بعد أن اجتاز عشرات الأنهار وسبع سلاسل من قمم الجبال؛ لينشئ جمهوريته الأولى في (ينان) بأربعة آلاف إنسان. بعد أن قُتِلَ أكثرهم على يد الكومنتانغ (أو هكذا تزعم الأسطورة، فمعظمها بني على الكذب والمبالغة والنفخ في شخصيَّة الزعيم أنَّه من سلالة الإله، كما في أساطير الشيعة عن نقاوة الدم النبوي في أسطورة البطنين عند الحوثيين). 

والسؤال: ما الذي يدفع الإنسان إلى الهجرة؛ فيترك مراتع الطفولة، وأحبَّ الأماكن إلى قلبه، كما وصف ذلك الرسول، وهو يُجبر على مغادرة مكَّة عندما ائتمروا على قتله وتفريق دمه بين القبائل؟ 

إنَّ شعور الفراق الأبدي، الذي استولى على (هرقل)، كان حزيناً وهو يغادر دمشق بعد الفتح الإسلامي. يقول: «وداعاً يا دمشق...، وداعاً لا لقاء بعده»، وهي الجملة نفسها التي يكرّرها اليوم طالبو اللجوء السياسي من بلاد الشام إلى الأرجنتين والدومينيكان والسويد وألمانيا. قد يُحمل نعش أحدهم إلى الوطن كما حصل مع نزار قباني فيُدفن فيه، أو يلتهمه البحر وهو مليم، ولكنَّ الوطن لم يعد وطناً للحياة بحال، فهو وطن الأحياء الأموات، والموتى فيه يدفنون. 

لماذا قال إبراهيم -عليه السلام- هذه الجملة: إنّي مهاجر إلى ربي؟ 

يُعَدُّ إبراهيم -عليه السلام- المهاجر الأكبر؛ فهو الذي ترك بلاد الرافدين، ووفرة المياه، وخضرة النيل، ليأوي إلى وادٍ غير ذي زرع عند بيته المحرَّم؛ فالصحارى مع الحريَّة أطيب من الاستبداد مع الجنان. وهناك أقام القواعد من البيت في بيئة صعبة هو وإسماعيل، وهما يبسطان أكفَّ الضراعة: ربَّنا تقبَّل منا. وهناك دعا ألَّا يجعل في ذريته من يعبد الأوثان. كان هذا بعد النقاش المرير مع النمرود في العراق، الذي زعم أنَّه يحيي ويميت، وبعد نجاته من النار فكانت برداً وسلاماً عليه، وبعد أن واجه فرعون مصر الذي طمع في زوجته الجميلة سارة. ترك كلَّ ذلك خلف ظهره ليأمن على ذريته في وادٍ غير ذي زرع؛ لأنَّ أعظم زرع هو الإنسان في مناخ الحريَّة. ومع الديكتاتوريَّة لا أمان ولا ضمان لأيّ شيء. وفي جوّ الاستبداد تُقتل الحياة قتلاً. كما قتل حزب البعث الإنسان والزمان والمكان.

وهاجر فتية أهل الكهف فراراً من الاضطهاد السياسي ومعهم كلبهم، فبيئة مدمّرة من هذا النوع لا تطيقها الكلاب. وفرَّ موسى -عليه السلام- بدوره من جو الحضارة الفرعونيَّة المقيت، التي اعتاد أهلها أكل البصل والثوم مع الإهانة والإذلال، إلى صحراء مدين ليتزوج هناك ويعيش، ولم يرجع إلى مصر إلا برسالة، ولم يكن له أن يعيش قطُّ في بلد يرفع القبور لأشخاص فانين على هيئة أهرامات تناطح السحاب في مناخ ميت مميت من الديكتاتوريَّة. 

قد يكون موسى نجح قديماً في الهجرة بشعب كامل يشقُّ بعصاه البحر، فكان كلُّ فرق كالطود العظيم. ولكنَّ مشكلة الهجرة اليوم أنَّها تتحوَّل إلى قضيَّة دوليَّة بترحيل أفراد من الفلسطينيين من بيت لحم في ربيع (2002) في ظروف الانتفاضة، أو فرار ملايين السوريين على وجوههم من براميل بشار الكيماوي؛ فلا يمكن لشعب أن يهاجر أو يهجَّر بكامله ولو أراد أو أُرِيد له، ولكن من يهاجر في العادة رغبة وليس رعباً هم زبدة القوم وأكثرهم فعاليَّة؛ فيتبخرون في سماء الرأسماليَّة مثل الماء، ومن بقي في الأسفل كان مثل طحل القهوة، ممَّن كُتب عليه الشقاء والبلاء والغباء. 

وجرت العادة على أنَّ أكبر الهجرات جاءت بأفضل النتائج؛ فمع طوفان نوح تطهَّرت الأرض، ومع هجرة نبي الرحمة انبثق نور الإسلام في الأرض، ومع هجرة البوذيَّة من الهند تغيَّر الشرق الأقصى، ومع هجرة الحواريين إلى روما تنصَّرت روما، ومع هجرة كولمبوس تقرَّر مصير الغرب، وانقلبت محاور التاريخ، وانتقلت الحضارة من المتوسط إلى الأطلنطي.

أنواع الهجرة

الهجرة ثلاثة أنواع: من جمهوريات الخوف والبطالة، أو بالانسحاب الاجتماعي، أو بالانتحار بـ «كاسيتات» الوعاظ الجدد.

الهجرة ليست لكلّ الناس، ولا يمكن ولو اشتهوها. ولا ينجح في الولوج إليها إلا من آثر الفرار من بلده حتى يلج الجمل في سم الخياط. ولو فتحت السفارة الكنديَّة أو الأستراليَّة أبوابها في عاصمة عربيَّة من دون قيود لهرع إليها الشباب في طوابير كجراد منتشر مهطعين إلى الداعي. ومن قفز فنجح في الوصول إلى جنَّة المهجر لم يرجع إلى بلده إلا زائراً يتمتَّع بلحظات السعادة مرَّتين: على متن الطائرة (قبل دخول) الوطن و(بعد الخروج) منه، بعد أن يكتوي أياماً في جحيمه. وإذا احتاج إلى إنجاز أمر دار في حلقات البيروقراطيَّة مثل الحمار في الرحى. ويكون مثله مثل من غادر الجنَّة إلى جهنم، واكتوى بالنيران بعد أن ودَّع الجنَّة ورضوان. 

الهجرة ثلاثة أنواع: أوَّلها الهجرة إلى الخارج في أيَّ اتجاه مثل انفجار قنبلة عنقوديَّة، وحالة هرب في جوٍّ من الفزع الأكبر في كلّ مفاصل المجتمع وشرائحه على نحو طردي، فكلما زاد وعي المواطن ازداد هربه من جمهوريات تجمَّدت في مربَّعات الخوف والبطالة، وتوقَّف الزمن فيها عند كافور الإخشيدي. فهي قفزة في الزمن تزيد على (500 عام)، في مجتمع يتثاءب، وهو يقلّب قصص السندباد. وإنَّ يوماً فيها كألف سنة ممَّا تعدُّون. 

أمَّا النوع الثاني، فهو من لم يهاجر إلى الخارج؛ بل هاجر بحركة عكسيَّة إلى الداخل، فانسحب من المجتمع، وفتح كتاب النبات، وحفظ وظائف الحشائش جيداً، وأدَّاها ببراعة في مجتمع ودَّع العقل وحريَّة التعبير إلى أجل غير مسمَّى حفاظاً على حياته ورزق عياله من غيلان الغابة. 

وهناك هجرة ثالثة انتحاراً بالمسبحة على قرع صنج الصوفيَّة، أو على صراخ «كاسيتات» التيَّارات المتشدّدة من الوعاظ الجدد الذين يجيدون حديث السحرة، وحقن الوعي بمواد مصلبة تنفع في نشفان الدماغ، كما يحقن الأطباء مريء المصابين بنزف الدوالي. 

إنَّ حالة الاختناق ونقص أكسجين الحريَّة هذه الأيام في العالم العربي تشكّل طاعوناً جديداً، فهي تحزم العقل بحفاضات الأطفال، أو تودع العقل في القوالب الصينيَّة للمحافظة على الدماغ بحالة صبي بريء يحملق في الأوضاع ببلاهة، ويحمد الله على أنَّ المعتقلات فيها بضعة آلاف فقط.

 وإذا كان العقل قد اختنق في الداخل، فليس أمام الصحافة العربيَّة إلا أن تهاجر ولو إلى بلاد الواق واق، فتطبع حرف الضاد في جزر يخيّم عليها الضباب؛ حيث لا يوجد أحد يفكُّ الخطَّ العربي، وتوزَّع في اليابان حيث العربيَّة غريبة عليهم بقدر غرابة اللغة اليابانيَّة علينا. 

إنَّ هجرة البشر وسمك السلمون وأعشاش النحل كلها تخضع لقوانين مثل الطفو في الفيزياء، والحلقة البنزينيَّة في الكيمياء العضويَّة، والنسبيَّة في الكون، والكوانتوم في ميكانيكا الكم. فالأجسام تسقط إلى الأرض ولا ترتفع إلى السماء، والضوء يمشي بسرعة (300) ألف كم في الثانية، والناس يفرّونُ من ظلمات العهد السياسي إلى ضوء الحريَّة وأكسجين الفكر... فيتنفَّسون. 

وبهذا كانت الهجرة مأساة أمَّة ونهاية ثقافة إلى حين. 

كانت القاضية الكنديَّة تقول في مهرجان توزيع الجنسيَّة على (85) مواطناً من (38) دولة: «إنَّنا نعلم أنَّكم ودَّعتم أوطاناً تحبونها ولكنَّكم تركتموها وراءكم ظهرياً بسبب ميثاق الحريَّة عندنا». ثمَّ تقوم بتسليم ميثاق الحريات بنقاطه العشر مع بطاقة الجنسيَّة الكنديَّة. وعندما ترك (لوط) سدوم وعمورية قال له الله: «ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون». فالوطن حينما يتحوَّل إلى سجن يجب أن يُغادَر. ومن لا يفعل فأولئك مأواهم جهنمُّ وساءت مصيراً. لقد حضَّ القرآن على الهجرة ولعن القاعدين؛ لأنَّه يعلم أنَّ الفتنة أشدُّ من القتل، والظلم يفسد الشيم، والاستبداد يُحوّل الإنسان إلى مهرّج، والسيد إلى عبد، والمخبر السري إلى زعيم يتصدَّر القوم، ورجل الاستخبارات إلى قاضٍ في مصائر الناس. ووظيفة (المعلم) في فرع الأمن ليس فقط أنَّه يتجسَّس على الأمَّة بجهاز من الديناصورات اللاحمة تدبُّ في أزقة مهملة لم تصلح منذ عهد الاستعمار، يمشي فيها مواطن حافٍ بأسمال، بل هو يقرّر من يدخل الجامعة، وأيَّ وظيفة يستحق، وأيَّ منصب يتقلد، ومن يفتح الدكان، ويشتري العقار. 

إنَّ الطواغيت إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزَّة أهلها أذلة وكذلك يفعلون. 

وكما يحدث في انتشار الأوبئة، لا يخطر في بال أحد أن يجاور أو يعيش في مستنقع ينقل إليه الملاريا، أو التهاب الدماغ النومي بذبابة التسي تسي، أو حيث تزحف أفاعي الأناكوندا فتبتلعه. كذلك لا يخطر في بال أحد أن يفضّل المكث في بيئة عشَّش فيها الإرهاب مثل أعشاش الدبابير. واستقرَّ فيها الظلم كمرض الكوليرا المتوطّن في الهند. ونمت الديكتاتوريَّة كشجرة باسقة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنَّه رؤوس الشياطين. 

العرب يهاجرون من كلّ حدب وصوب، وإلى كلّ مكان، وبأيَّة شروط، ولو كانت أشبه بحياة الجرذان في مجاري المدن. فليس كلُّ من هاجر أصبح ثرياً. ومن لم يهاجر حدثته نفسه بالهجرة. ومن يرى المهاجر يقول يا ليت لي مثل ما أوتي قارون إنَّه لذو حظ عظيم. والبنت التي تُزوَّج حسبُها جنسيتها، فمن كانت أوربيَّة أو أمريكيَّة تهافت عليها الخطاب، وغلا مهرها في سوق الزواج. ولا يوجد مواطن عربي لم يفكّر في الهجرة أو حاولها ولو كان مليونيراً، أو رئيس فرع استخبارات، أو جنرالاً في الجيش، أو مدير مستشفى لا ينقصه المال أو الوجاهة؛ لأنَّ سبب الهجرة هنا يتجاوز المال والنفوذ إلى شعور عدم الأمن، واضمحلال الأمَّة في ظروف البؤس والاختناق السياسي، وأنَّ الإنسان منسي في مربَّع الزمن. 

وعندما اعتدى ابن حاكم مصر عمرو بن العاص على ابن القبطي في السباق بغير حق، ركب القبطي ظهر الجمل يخبُّ به الصحارى مدَّة شهر كامل إلى الخليفة عمر بن الخطاب يشكو الظلم، بسبب موجة الوعي والتحرُّر التي أطلقها الإسلام في قلوب الناس، ولشعور القبطي العميق بأنَّ لطمة (الكف) وضربة (السيف) أمران متلاحقان، وهي مسألة وقت لا أكثر، في مجتمع تمَّ اختراق كرامة الإنسان فيه. فقد صفَّ الناس جميعاً (على الدور). وهذا يطول المواطن الميت، كما يصل إلى رئيس فرع المخابرات الذي يعذب المواطن. والمرض عندما يضرب بيئة ما لا يسأل عن الهويَّة العقائديَّة. والكوليرا أو الحُمَّى الشوكيَّة عندما تدخل بدن المصاب لا تقول له أَأنت شيعي أم شيوعي؟ وكلُّ ما تبحث عنه هو شروط الاستعداد للإصابة. ومن هنا رأى القرآن أنَّ من حبس نفساً واحدة فكأنّما حبس الناس جميعاً. وهذا الذي حوَّل الوطن إلى سجن كبير. وهذا هو فرق الغابة عن المجتمع الإنساني، فعندما تفترس اللبوة الجاموس لا يعتبر القطيع أنَّها مسألة تدعو إلى القلق. ولكنَّ المجتمع الإنساني يرى أنَّ الثور الأحمر عندما يُؤكل فقد جاء دور بقية الثيران. ولو أنَّ الغرب يشتغل بهذا المنطق ما شنَّت أمريكا حربها على أفغانستان بدعوى أنَّ من قُتِلَ في (11) أيلول/ سبتمبر عدد زهيد يُقتل أكثر منه في شهر واحد في حوادث الطرقات. وهذا هو الفرق بين كيف يفكّر العرب، وكيف يفكّر الغرب. فالعربي يرى أنَّ اعتقال المئات أمر عادي، ولكنَّه إذا وصل إلى ثلاثة ملايين فربما فكَّر! ربما فكَّر! ألا ساء ما يحكمون. 

وعندما يُجهِّز المسؤولون ورجال الاستخبارات أولادهم للهرب من الوطن بأسرع من الجرذان عندما تغرق سفينة، فسببه شعورهم الواضح والحاد بأنَّه لا ضمانة لأيّ شيء أو لأيّ إنسان في أيّ مكان أو زمان، وهو منطق قرآني: من هتك حرمة واحدة في مجتمع، وتمَّ اختراق القانون فيه، فلا نجاة لأحد، وعندما يمشي مجرم قاتل في قرية ولم يُقبض عليه معناه خطر الموت لكلّ أهل القرية، ومن قتل نفساً فكأنَّما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنَّما أحيا الناس جميعاً. فهذا هو مغزى قصة صراع ابنَي آدم في القرآن، ولم يكن ليرويها من باب الترفيه والتسلية. 

إنَّ الهجرة إلى الغرب تحوَّلت إلى نعمة الانفكاك في الزمن من العبوديَّة العربيَّة بعد أن تحوَّل المواطنون إلى أقنان من دون سلاسل. ومن كُتِبَ عليه الشقاء في الداخل يحمد التقنيَّة الغربيَّة التي مكَّنته من التواصل، فأصبح الناس بنعمة الإنترنت إخواناً، وتملصوا من قبضة ثقافة ميتة أُصيبت بالصمل الجيفي، كما تفعل الجثث المتخشبة، فأصبحوا يستنشقون الحريَّة بأنفاس إلكترونيَّة، كي يعيش الضمير في القرن الحادي والعشرين، ويدع العرب في القرن الثاني عشر.

إنَّها لا تزيد على قلب بسيط للأرقام. والعرب أمَّة أمَّية تفخر بالأميَّة، فإذا انقلبت الأرقام عند مواطن أمّي فلن يحدث شيء؛ لأنَّهم أصلاً يمشون إلى الخلف مقلوبة رؤوسهم من دون أن يشعر أحد بالدوار. 

لماذا يجب أن يهاجر الإنسان؟

اجتمعتُ برجل أصولي أعرفه منذ أيام الطفولة، وفوجئت بأنَّه على وشك الفرار إلى كندا بعائلة كبيرة مكوَّنة من خمسة عشر نفراً. بما يكفل له راتباً كريماً ممَّا تقدّمه الحكومة الكنديَّة للأطفال يزيد على راتب ثلاثة وزراء في جمهوريات الخوف والبطالة. لم يكن الرجل يشكو من ضيق ذات اليد، ولم يكن ملاحقاً سياسياً، بل هو منغمس في بيئة منغلقة أشدّ من انغلاق عقله بمرَّات. ولا يزيد فهمه في السياسة على فهم فلاح في رياضيات التفاضل والتكامل، أو نجار في علوم الذرة والفضاء. ويعتقد جازماً بأنَّه يعيش في بيئة أقرب إلى مجتمع الصحابة. مع كلّ هذا، فرَّ من رغد العيش ومجتمع الفضيلة إلى بيئة يَعدّها (جاهليَّة) تشمّر نساؤها عن فخذ، ولا يُسمح فيها بأذان، ولا يدرّس في مدارسها واعظ أيَّة ديانة. اتصل الرجل بي بعد فترة، وقال لي: تصوَّر أنَّ ابنتي تفرش لها معلمتها سجادة الصلاة، وأنَّها تمشي في الشارع العام وهي مغطاة الوجه. قلت له: إنَّ كندا بلد متسامح مع كلّ القادمين، سواء من غطَّى وجهه أم كشف عورته، سواء صلى أم كفر. وعناية الدولة بالمجانين لا تقلُّ عن عنايتها بالعقلاء. ولكنَّ سؤالي إليك: لماذا هربت إلى دار الكفر، ولم تلجأ إلى دار الإسلام مثل السودان مثلاً؟ اضطرب الرجل ولم تسعفه الكلمات؛ قلت له سأريحك أنا بالإجابة: إنَّها (الضمانات) يا صاحبي، ولاسيما أنك تفرُّ بثروتك حيث يبحث رأس المال عن الأمان أكثر من الديانة. 

وروى أحدهم لزوجتي، وهو يؤدي القسم لنيل الجنسيَّة الكنديَّة أنَّه كان في حيرة من أمره بين (ديمقراطيَّة كافرة) يؤدي قسم الطاعة لحكومتها، وبين مجتمع ينعم فيه بالضمانات من كلّ لون ضدّ المرض والشيخوخة والبطالة، وينام قرير العين من دون خوف من رجال المخابرات. قال لقد دمعت عيني وأنا أسمع ما تقوله القاضية؛ لأنَّها ذكَّرتني بقيم تمنيتها لوطني الذي هربت منه. 

إنَّ مشكلة (الدوغمائي) أنَّه يقع في التناقض من دون أن يشعر به. كمن يمشي على رأسه من دون أن يحسَّ بالدوار. 

واليوم يفرُّ (المتشدّدون) إلى بلاد مثل: بريطانيا، والسويد، وكندا، وألمانيا، هي في نظرهم قمَّة التحلل والإباحيَّة ووطن الكفر. ويرفضون أن يعيشوا في بلاد الإسلام مثل اليمن السعيد، أو تحت قباب القيروان، وإلى جانب الأزهر الشريف، أو عند العتبات المقدَّسة في العراق. 

إنَّهم يرفضون كلَّ العالم الإسلامي، ويوجهون وجوههم شطر الغرب، فلماذا؟ 

إنَّ الهجرة تخضع لقانون ساحق ماحق يعمل تحت أبصارنا كلَّ يوم، سواء في الفيزياء أم منطق الطير أو ولادة الحضارات، سواء أدركناه أم خفي علينا.

في الفيزياء ينزاح الماء بين وسطين مختلفي التركيز يفصل بينهما غشاء نصف نفوذي باتجاه الوسط الأكثر تركيزاً بالأيونات. وفي قوانين المياه المستطرقة إذا اتصلت أوساط مختلفة الحجوم فإنَّ الماء يتحرَّك، حتى يحدث السواء في الارتفاع. وبرادة الحديد تنجذب حول القطب المغناطيسي تحت قانون الاستقطاب. وطيور السنونو تغادر بحثاً عن الحبّ والدفء. وشلالات نياغارا تتدفق من علٍ فتولد الكهرباء في مولدات التشغيل. والعقول تفرُّ، حيث كرامة العلماء ومراكز البحث. والمال يطير بجناحين من يورو ودولار حيث الأمان والنمو. فهذه قوانين وجوديَّة لا علاقة لها باختيار وتفكير، بل هي تشفط العقول والأموال والكفاءات بأشدّ من تيار النينو الأطلسي، فتنهض أمم وتزول أخرى. 

وعندما يمتنع على الناس إمكانيَّة ممارسة العيش المشترك يتشظى المجتمع ويبدأ الفرار في ثلاثة اتجاهات: من أسعفه الحظ فقفز إلى الخارج ونجا. ومن انسحب (اجتماعياً) إلى الداخل، فمارس هجرة داخليَّة كما تفعل القطة بإخفاء صغارها. أو من انتحر بمسبحة المتصوّفة أو كهوف تورا بورا. 

والسؤال الكبير: لماذا يفرُّ الإنسان من وطنه؟ لماذا نزح موسى بشعب كامل؟ لماذا فرَّ أصحاب الكهف فاستبدلوا بالفراش اللين برودة الكهف؟ وفضلوا أن يهرب الكلب معهم فلا يعيش في مجتمع لا أمان فيه للكلاب. 

إنَّه كلام ليس للتسويق، ففي أيام الحاكم بأمر الله الفاطمي تمَّ تدشين مذبحة جماعيَّة للكلاب، فقد قُتل في يوم واحد ثلاثون ألف كلب. ونام أهل القاهرة من دون صوت كلب واحد يزعجهم. 

وفي عهد ماوتسي تونغ جاءت التعليمات بالتخلص من العصافير والأعشاب والشجر. فهرع الناس ضرباً بالصنج والطناجر يفزعون الطيور فلا تستطيع الوقوف على غصن، حتى ماتت إعياءً. وتمَّ تسخير كلّ المعارضين السياسيين، لينكبوا على الأرض، فينتزعوا بأظفارهم كلَّ أعشاب الأرض. وتمَّ قطع ملايين الشجر من أجل إيقاد أفران لا تنطفئ لإنتاج الفولاذ، بدعوى اللحاق بأمريكا في خمس سنوات. فأُهمِلت الزراعة إكراماً لتعليمات الطاغية، ومات في ثلاث سنوات ثلاثون مليوناً من الأنام. 

لماذا هاجر إبراهيم وحده، وموسى بشعب كامل، ومجموعة من أصحاب الكهف، وهرب لوط، فقال له الله: ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون. لماذا دشَّن نوح لأهل بيته سفينة تقلهم إلى الأرض الجديدة فلم يبقِ على الأرض من الكافرين ديَّارا؟ 

إنَّ القرآن يضع فلسفة محدَّدة لقانون الهجرة، وهي إمَّا إلى مجتمع لا استضعاف فيه، وإمَّا بناء مجتمع لا أثر للاستضعاف فيه. وأهميَّة هذه النقلة أنَّها مضاعفة التأثير؛ فهي حركة تحرُّر للجنس البشري من دون توقف، كما فهم ذلك الفيلسوف كانط من أنَّ استعمار الأرض تمَّ من خلال هجرة الناس المضطهدين (المستضعفين). وفي المقابل، إنَّ هذه المجتمعات أطلقت قوَّة لا مثيل لها من طاقة تحرير الشعوب التي فارقتها، كما انفجرت الثورة الفرنسيَّة تأثراً بالثورة الأمريكيَّة. وفي آية الهجرة بُعدان: (سعة) بالتحرُّر من ضيق الأرض والرزق والعقيدة إلى رحابة الأرض وسعة الرزق والتسامح الديني، وهي (مراغماً)؛ أي قوَّة تجبر المجرمين وترغم أنوفهم بتغيير مسلكهم تجاه شعوبهم من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. فحركة الهجرة تُعدّ بذلك نواة التغيير غير المباشرة والمعكوسة ضدّ أماكن اضطهاد الناس، فهي ضرورية سواء طلبها الناس أم فرُّوا إليها.

نحن نفكر لماذا تنصبُّ على رؤوسنا المصائب؟ ولكنَّ المشكلة تشبه قصة جحا، فلو ناقش العرب جميعاً ما سيحدث فإنَّنا مثل مَن لا يملك في جيبه دولاراً ويريد دخول أسواق الأسهم للمضاربة بأسهم شركة نورتيل أو نوكيا. 

نحن نشبه تلك الغنائم التي وضعت الألوية الرومانيَّة يدها عليها في العالم القديم، وكانت جاهزة لأيّ نهَّاب خارجي أو مافيا داخليَّة، وهي تتفق مع الرؤية الكونيَّة لابن خلدون عن عمر الدول، وكيف أنَّها تستمرُّ في البقاء، ليس لقوة ذاتيَّة فيها بل لانتفاء الطالب. 

وأمريكا اليوم هي روما الجديدة، ونحن لا نزيد على أشياء مُسخَّرة تلعب بنا ما تشاء، فقد تنصب (قرضاي) جديد في العراق فيحكم كاتبغا المغولي بدلاً من هولاكو. وقد تستبدل جنرالاً جديداً في أرض الحمدانيين، أو قد تضع الزير أبو ليلى المهلهل بدل درَّة المتقين، أو أمنحوتب بديلاً لـ بيبي الثاني، أو تمدّ يدها إلى بلاد التركمان فترفع تركمان باشي، الذي غيَّر التاريخ فوضع اسمه واسم أمه بدل أبريل وحزيران، وصفّق مجلس القرود له خشعاً على ركبهم نصف ساعة يستعطفونه أن يبقي على رقابهم إلى يوم القيامة، كما خرجت الملايين في استقالة عبد الناصر تطلب منه أن يتابع القيادة بعد أن رسب في الامتحان. 

إنَّها أمور لا تحدث إلا عندنا، ولكن من يمشي على رأسه يخسر رأسه ورجليه معاً. 

إنَّ الوثنية مرض عجيب، حلّله، منذ عام (1562)، أتيين دي لابواسييه، فعَدّه مرضاً إنسانياً مثل القراد الذي يضرب قبائل النحل فلا يبقي قفيراً ولا عسلاً.

وقف جحا يوماً بين أصحابه وقال: أنا جاهز بكلّ الشروط للزواج من ابنة السلطان. قالوا: حسناً يا جحا، وما الذي يمنعك من الزواج؟ قال: بقي شرط واحد لم يكتمل. قالوا: وما هو؟ قال إن ترضى ابنة السلطان الزواج بي.

قانون الهجرة والعودة 

إنَّ التأمل الكوني مفيد. والسياق التاريخي يسعف في فهم المرحلة التاريخيَّة التي يمرُّ بها مجتمع ما كي نخرج من قبضة (التشاؤم والتفاؤل)، كما انتبه إلى ذلك ابن خلدون، حينما رأى التشيخ والانحطاط الكوني يلفُّ بقبضته سماوات العالم الإسلامي. وكما انتبه لينين إلى جموع الفقراء الفوضويَّة في شوارع بطرسبرغ، فأدرك بحدس لم يخب أنَّها لحظة انفجار الثورة. ولم يكن أحد يعلم أنَّ الشارع العربي المحتقن سوف ينفجر في ربيع (2011م). لكنَّ قانون الثورة أنَّها لا تنفجر بالظلم أو الفقر، فلقد عاشت أمم لا حصر لها أحقاباً متطاولة وهي تزدرد الذلَّ يومياً وتُساق بالسُّوط. وحكمتها أسر شتى؛ فحكم آل رومانوف ثلاثة قرون، ودام حكم المماليك خمسة قرون. وحكم شعوباً عظيمة صعاليك أو مجانين مثل الحاكم بأمر الله الفاطمي، الذي أصدر أمره بإعدام كلاب القاهرة، فقتل في يوم واحد ثلاثين ألف كلب في مذبحة عارمة. أو (قراقوش)، الذي وصف حكمه الكتاب الكوميدي (الفافوش في أحكام قراقوش)، حتى جاء من أعطى الجماهير (وعي الثورة). فـ(وعي) الفقر أهمُّ من (الفقر)، كما يشير إلى ذلك عالم الاجتماع العراقي علي الوردي. 

إنَّ السياق التاريخي يفتح أعيننا على حقائق مبشرة، فالذين فرُّوا من ضيق أوربا وتعصُّبها إلى سعة أمريكا وحريتها هم الذين محوا أوروبا من الخارطة السياسيَّة كقوَّة أولى. واليوم تستوعب أوروبا الدرس وتبني نفسها بحريَّة ومن دون تعصب على النموذج الأمريكي. وتبني (الولايات المتحدة الأوروبيَّة)، ويحلق (اليورو) إلى الغمام ليس على أساس أن ألمانيا فوق الجميع، بل ألمانيا مثل الجميع. ولم توحدها هذه المرَّة مدافع نابليون أو مدرَّعات هتلر، بل يتَّحدون بكلمة السواء، فلا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله. وهي تجربة بشريَّة تمرُّ أمام أعيننا ونحن عنها معرضون. 

وعندما فرَّ محمَّد من مكَّة ثاني اثنين إذ هما في الغار، عاد و(أرغم) قريشاً، ووحَّد الجزيرة العربيَّة، وبنى للعرب مجداً، وغيَّر مجرى التاريخ. إنَّها لحظات تاريخيَّة ومصيريَّة تغيّر مصير الأفراد قطعاً. 

ويخبرنا التاريخ بأنَّ بوذا هرب من نيبال إلى الصين، فانتشرت دعوته بشكل أفضل وأوسع. كما أنَّ رحلة ماوتسي تونغ إلى ذُرا الجبال في شمال الصين في رحلة سبعة آلاف كيلومتر وموت (97%) ممَّن كان معه غيَّرت مصير الصين. وهجرة حواريي المسيح قلبت مصير روما. ومن هروب علماء القسطنطينيَّة بعد اجتياح العثمانيين القسطنطينيَّة زرعت بذور النهضة الأوروبيَّة. أمَّا نزوح (الهوجنوت) البروتستانت الفرنسيين من الاضطهاد الديني إلى ألمانيا، فدفع الرأسماليَّة الحديثة إلى الظهور، كما قرَّر ذلك عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في كتابه (روح الرأسماليَّة والأخلاق البروتستانتيَّة)، فحيث وُجِدَ البروتستانت ظهرت المصانع ونشط العمل وقوي الكسب وتحرَّرت روح المبادرة. واليوم تمسك أمريكا بالعالم، ومن يمسك أمريكا هم البروتستانت البيض (الواسب wasp) وليس اليهود.

أمَّا لينين فقد هاجر إلى أوروبا، ثم عاد بقطار ألماني مغلق إلى روسيا، وكان سبباً في إطلاق ديناصور الشيوعيَّة إلى الغابة الرأسماليَّة مثل فيلم جوراسيك بارك. واليوم تُلقى تماثيل لينين في مستودعات البلى. 

والقرآن يذكر أنَّ الهجرة تفضي إلى (السعة) وإلى شيء آخر اختلف حول معناه المفسرون (مراغماً كثيراً)، وهو مذكور قبل (السعة)، فما هو المراغم؟ 

 إنَّ الناس تهاجر عندما تصبح الحياة لا تطاق، والبدو يرتحلون عندما تضنُّ الأرض بخيراتها، والطيور تطير، حيث الحبُّ الهضيم بعيداً من الصيادين، ويفرُّ البشر إلى مواطن الحريَّة، ويطير المال حيث الأمان والاستقرار السياسي، وتطير العقول، حيث تجد الإمكانيات والتشجيع. ولم يكن لأحمد زويل أن يأخذ جائزة نوبل في تحطيم وحدة الزمن لو بقي يقوم بتجاربه في صعيد مصر أو مخابر القاهرة. فهذه قوانين مثل الانحلال والتفاعل في الكيمياء وتوازن الحموضة والقلويَّة في الفيزيولوجيا. 

وعندما أسمع في محطة فضائيَّة من مفكّر أنَّه يتعجب كيف أنَّ بوش يأخذ أوامره من اللوبي الصهيوني، وأنَّ هذا عيب لا يليق برئيس دولة كبيرة، فأنا أتعجَّب من تعجُّبه؛ لأنَّه أمّيٌّ في القوانين الاجتماعيَّة، ولأنَّ بوش لا يتلقى الأوامر بل يعطيها، ولأنَّ مفكرنا العربي مازال يعيش عصر الفقيه الحصفكي. والعيب ليس في الفقيه ولكن في نكوص مفكّرنا إلى غير عصره، فذلك مبدع وصديقنا مقلد. 

يبدو أنَّ الشعوب العربيَّة مصابة بمرض خطير هو فقد قدرة (تقرير المصير). ولمَّا تحدث أوسفالد شبنجلر في كتابه (أفول الغرب) عن الألوية الرومانيَّة، التي استولت على مقدرات العالم القديم، على الرغم من سوء تسليحها وتدريبها، قال: «إنَّها كانت غنائم وأسلاب جاهزة لأيّ مغامر». وأمريكا تفعل اليوم ما فعلته روما من قبل؛ أي أنَّ مشكلة الانحطاط الداخلي هي التي تؤهّب لقدوم اليانكي وسطوة إسرائيل. 

«وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون». 

والآن تولد دولة فلسطينيَّة بمقاييس الاستخبارات الأمريكيَّة ليولد جنين مُشوَّه، كما وُلِدت دول عربيَّة من قبل بأخطاء ولاديَّة فاحشة من صغر الدماغ والمنغوليَّة وخلع الكتف والاختناق بنقص الأكسجين على يد قابلات من الأطلنطي بأسماء مثل: سايكس بيكو، وتنيت، وبخرائط من نموذج خارطة الطريق. 

هل هناك أمل في بحر الظلمات هذا؟ 

في تقديري نعم، ومن ثلاث جهات غير متوقعة: (الأولى): أنَّ قانون التاريخ يقضي بأنّ الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض. هكذا هلكت النازيَّة، ودُمّرت الفاشيَّة، وماتت الشيوعيَّة بين أهلها وهم يلطمون الخدود، ويشقُّون الجيوب من الشيوعيين الصارمين. وما هي من الظالمين ببعيد.

 وأوضاع العالم العربي هي مثل جثة سليمان الميتة، وما تحتاج إليه هو دابة الأرض التي تأكل منسأته كي يخرَّ فيتبين لجماهير الشعب العربي أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. ومن يعرف (أين) هو يعرف إلى (أين) يتوجَّه؟

(الثانية) أنَّ قانون (الصلاح والفساد) ينصُّ على أنَّ الصالحين يرثون الأرض. «ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنَّ الأرض يرثها عبادي الصالحون». والصالحون ليسوا المنتسبين إلى الثقافة الإسلاميَّة فحسب؛ بل هم من صلح لتولي المهمَّة. واليابانيون اليوم (أصلح) من العرب. ولم يكن للألمان أن يحققوا فوزاً خرافياً ضدَّ فرق رياضيَّة شتَّى لولا طبيعة التراص الداخلي في الفريق الرياضي الألماني الذي يعمل بروح الفريق. إنَّها الحرب الصاعقة التي شنتها مدرعات غودريان في الجبهة الفرنسيَّة، وهي هنا على أرض الملعب ليس بدبابة؛ بل كرة تتقاذفها الأقدام. وما يفرق الماس عن الكربون هو طبيعة تراص ذرات الكربون الداخليَّة وهندستها الخاصَّة. وشركة (دايو) في كوريا الجنوبيَّة تنتج اليوم تلفزيونات وسيارات تبيعها برخص وإتقان للعالم أجمع. 

أمَّا القانون (الثالث)، فهو مشتق من كلمة (المراغم)؛ فالجالية العربيَّة الإسلاميَّة المهاجرة ما زال خطيبها في مسجد مونتريال يخطب الخطب العدوانيَّة العنصريَّة، ويستدعي ربَّاً يثير الحروب في الأرض، ويثير حرباً بلاغيَّة حول جسد المرأة، في حديث أقرب إلى حديث السحرة، مذكّراً بخطيب العصر العباسي أيام المقتدر بالله. ولكنَّ بقية الأجيال تنتقل تدريجياً إلى المعاصرة، على الرغم من غيظ الأهل من أنَّ أخلاق الأولاد تبدَّلت، وهي ليست كذلك، بل (الأولاد) كسروا شرنقة التقليد إلى فضاء العصر. ومن صلب الحاليين سيخرج جيل (مرغماً) وكاسراً إرادة الجبارين في الشرق بشكل أو بآخر من الضغوط ومن خلال ثورة الاتصالات والإعلام والمعلومات التي كسرت الجغرافيا، ومعها نسفت الرقابة نسفاً. على الرغم من حسرة رجال الأمن، وهم يقلبون أيديهم على ما أنفقوا من أحكام إغلاق عقل المواطن.

وبهذه الحركة، سوف يخرج المجتمع من ليل التاريخ، وتعود الحياة إلى مواطن ودَّع الحياة منذ أيام كافور الإخشيدي. وينهض المجتمع من حضن فقهاء العصر العباسي الذين حوَّلوا الدين إلى مسألة تطويل اللحية ولباس المرأة. 

قانون (العودة) هذا يطبّقه سمك السلمون، فيرجع بعد قطعه مسافة عشرة آلاف كيلومتر من المحيط إلى النهر وعكس التيار محاطاً بالدببة المفترسة الكنديَّة على طول الشطآن، حتى يصل إلى موطنه الأوَّل. ويعود النبي بعد اعتزاله بطاقةٍ روحيَّةٍ إلى قلب المجتمع. وإذا جنّ فيلسوف مثل (نيشته)، فقد تموت أفكاره في أيامه لتبعث بعد أكثر من مائة سنة على يد (فوكوياما)، وهو يصدر كتابه الجديد عن الإنسان الجديد بعد ثورة التقنية البيولوجيَّة.