ما هو الاجتماع؟ الشرط الكافي للوجود ومنطق اشتغال الأفعال الاجتماعية


فئة :  مقالات

ما هو الاجتماع؟ الشرط الكافي للوجود ومنطق اشتغال الأفعال الاجتماعية

ما هو الاجتماع؟

الشرط الكافي للوجود ومنطق اشتغال الأفعال الاجتماعية

 

مقدمة

يعتبر البحث في كيفية اجتماع الناس، ليس من التجمع والتراكم، وإنما من الفعل والتفاعل، من الأمور التي يجب أن يهتم بها كل باحث اجتماعي. كيف يلتقي الناس وتتشكل تلك التمظهرات العادية وغير العادية، اليومية غير الملفتة للانتباه، من سكن وغذاء وتبضع وملبس، إلى غير ذلك من الأفعال المعهودة التي نقوم بها حتى دون أن نفكر في فعلها، وكذلك غير المعتادة مثل الزواج وتكوين أسرة، أو الانتماء إلى جمعية أو كيفية اختيار وظيفة؛ ثم تلك التي تراكمت بالتنشئة مثل الطقوس والمعتقدات، والتي تنتج قيما تحدد المواقف والسلوك والتصرفات، لنصل إلى التعاقدية المستدامة بالقوانين الملزمة والمساطير، وأخيرا المنحرفة نحو الجنوح والجريمة.

هذه الأفعال التي تعتبر اجتماعية، حتى وإن تخللها الاقتصادي أو الديني أو السياسي، هي ما يحاول علم الاجتماع البحث فيه بمقاربة علمية صارمة، وليس بالتأمل الفكري والفلسفي أو التلميح الفني والأدبي.

خمسة أفعال هي ما يجب الوعي السوسيولوجي استحضاره عندما يريد فحص ظاهرة اجتماعية، الحياة اليومية؛ لأنها المختبر الأول للأفعال الاجتماعية مهما بدت عادية ومكرورة وتافهة. كيف نلبس وكيف نطبخ وكيف نذهب إلى الأسواق وكيف نحيي الناس، والأقوال في الشارع، من تحية أو سباب أو غيره؛ كل ذلك ليس شيئا لا يجب الالتفات إليه، بل هو التفاعل العفوي الذي من جهة يملك صبغة الآنية واللحظية ليفيد اقتناص التلقائية، ومن جهة أخرى يملك قاعا تاريخيا نضج واستضمر ليوجه ممارساتنا دون وعي.

الفعل الثاني على عكس ذلك، هو اللحظات الإرادية، والتي تملك غاية وقصدية وعقلانية مثل اختيار الشريك أو الانتماء لحزب أو المساومة في تبضع.

أما الثالث، فهو غير المعتاد والكثيف الدلالة مثل الطقوس والعادات ولحظات المرور من حالة إلى أخرى من سن إلى آخر، من وضع إلى آخر، هي لحظات تتكثف فيها الأفعال وتزدحم وتمتلئ بالرمز والإيحاء لتخبر عن الفروق والحدود والهويات وما يكون بالتربية والتنشئة، مثل المعتقد والتدين والمعايير الأخلاقية والقيمية العامة.

أما الرابع، وهو التعاقدي الذي يشكل المستويات العليا من الوعي ومن الدفاع عن المصالح المشتركة والفردية، بالقوانين والمساطر المنظمة للأفعال، والتي يمكن الاحتكام إليها عند النزاع، هو عالم القوانين الذي يشكل مدخلا مهما لفهم وتحليل الفعل الاجتماعي الملائم.

أخيرا، يأتي الفعل الذي يخرج عن المعتاد، ولا يأبه للقيم والمعايير، وقد يصبح لا اجتماعيا، فعل الجنوح والعنف والجريمة.

هذه المجالات تحيط بالفعل الاجتماعي وتسهم في صناعته، وللبحث فيها صنع علم هو علم الاجتماع يطمح ليتجاوز المقاربات قبل علمية، ليشيد معارف صارمة تتوخى القطع النسبي مع الحس المشترك، ومع باقي الأشكال المعرفية التي تتخذ المجتمع لها موضوعا.

I- ما هو العلم؟

وضعنا السؤال بصيغة الجمع قصدا؛ لأن العلم المخصوص نعرفه بالعودة إلى قواعده ومناهجه وبراهينه، في حين أن ما نقصده هنا هو الاسم نفسه الذي يحيل إلى أمور مخصوصة به وأخرى كثيرة ومتجاورة، وحتى متعارضة أحيانا.

العلم هو ما يعلم بحق الإحاطة والتدقيق المتجاوز للرأي والمعتقد، والذي يحتاط أن يتأثر بالأهواء والوهم وتبدل الأحوال، وفحص المزالق والأخطاء، وهو بذلك اجتهاد عقلي وتجريبي بالمعنى العام لتتبع القابل للملاحظة من الوقائع والمعارف. ورغم ذلك، فهو كأي نشاط إنساني واجتماعي يختلف من أسلوب إلى آخر إلى حدود إمكانية التحدث عن رأي العلماء والجماعات العلمية في تحديد معنى العلم. وهو ما يفرض الإنصات إلى التجارب المختلفة لهؤلاء.

إن ما نحاول الحديث عنه في هذه العجالة هو روح العلم، بمعنى ما يجعل من معرفة ما علما، وبدونه لا يكون ذلك. كيف ينشأ؟ وكيف يشتغل؟ ومع ماذا يتجاور من المعارف؟ سواء في العلوم المجردة من رياضيات ومنطق، أو من علوم تجريبية من فيزياء وعلوم اجتماعية.

يمكن أن نبدأ بالحديث عن مستويات ثلاثة في حياة الممارسة العلمية: مستوى الممارسة المباشرة والتابعة لتلبية حاجات عملية يمكن أن تكون ذهنية، والمستوى المعياري الذي يحاول فيه العلم التقعيد لذاته من أجل حفظه ومن أجل التعلم والتقدم، ثم المستوى الثالث عندما يتأمل العلم نشاطه علميا.

اشتغل العلم في البدايات كضبط دقيق لما هو عملي بالقياسات والكيفيات، وغالبا باعتقاد بوجود خصائص حقيقية في الأشياء تعتبر ثابتة يجب البحث عنها واستعمالها. ومن أجل حفظ تلك المعارف الثمينة بدأ التصنيف والترتيب والتقعيد تسهيلا أيضا للتعلم والارتقاء بها بالنقد والتجاوز. وتعتبر هذه المرحلة مهمة؛ لأنها هي التي ستبني المتن الذي ستشتغل عليه المعرفة التي ستتخذ النشاط العلمي موضوعا لها. هذه المرحلة الأولى اعتمدت التصانيف، إما لجمع أعمال السابقين الذين لم يلتفتوا لأعمالهم. أو لتصحيح أخطاء الاستعمال اليومي لأمور تعتبر بديهية، وهي ليست كذلك، أو للبحث عن الثابت في ثنايا المتحول، أو لتسهيل سبل المبتدئين.

في المرحلة الثالثة، ستطرح إشكالات كبرى مثل علاقة الخاص بالعام، وعلاقة العلم بما قبل العلم، أو علاقة الذات بالموضوع في العلوم الإنسانية خاصة.

- علاقة العام بالخاص

على الرغم من كون العلم لا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كان عاما، فقد أثبت تاريخ العلم أن التعميم في غالب الحالات نسبي ومؤقت؛ فلكل اشتغال علمي مجال مخصوص تصح فيه القضايا والخروج عن ذلك المجال يستدعي فروضا أخرى وقضايا جديدة. ومن هنا أهمية التعريف الدقيق للمجال المفحوص و فتح الأقواس من أجل عدم الحسم والاستعداد لاستقبال المستجد من المعطيات والفهم. يمكن للخاص أن يصعد نحو التعميم، كما يمكن للعام أن يفرض أسئلة لم تستطع التفكير فيها الحالات الخاصة، ومتى بقينا عند الحدين ضعنا فيهما. في الاجتماع دوما هناك نواة وهوامش خاصة، ومحيط إنساني عام، الأمر الذي يستدعي معرفة شاملة ومحيطة بكيفية اشتغال المخصوص ميدانيا والمشترك ذهنيا وقيميا وثقافيا وانفعاليا وعاطفة. العام مرتبط بالمشترك الذهني مثل ربط الأشياء في علاقات تجاور تعاقبي أو تزامني، أو تشابه في الشكل أو الكم أو الكيف، أو البحث في الأسباب والنتائج وفق المبادئ التجريبية الشهيرة.

إشكالية القطيعة

تعد القطائع في المطلق أساس تقدم المعارف العلمية، وفي كل دقائق الأمور والقضايا. لكن تبقى أمور أخرى مثل الاستلهام والتحفيز والاقتباس لا قطائع فيها، إذ يمكن لفكرة قديمة وأحيانا خارج المجال الذي نشتغل فيه أن تنير وترشد نحو الأفضل من الأسئلة وحتى من الأجوبة. روح العلم ليست فيه قطائع فهو مبني على منطق الإرث والبناء على ما سبق، وإن اختلفت المقاربات والأساليب. لكن منطق العلم المتخصص يحتاج إلى قطائع من أجل التقدم من جهة، ومن أجل القطع مع ما ليس علما من المعارف من جهة أخرى.

علاقة الذات بالموضوع

هي الإشكالية المركزية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، والتي أنتجت المقاربتين الوضعية والفهمية، واللتين وإن بدتا متعارضتين فهما تنبئان فحسب عن وجهي العملة في الفعل الإنساني؛ الوجه القابل للقياس، والوجه الفاعل الحر الذي يستدعي الفهم والتأويل. الموضوعية في العلوم الاجتماعية اجتهاد من أجل أخذ المسافة من الانفعال والعاطفة والتورط في الدفاع عن موقف دون آخر. الموضوعية هي تجاوز العفوية اليومية والموضوعية الوضعية الساذجة نحو اعتبار موضوعية الذوات كفاعلين اجتماعيين هم صلب موضوع الباحث الاجتماعي. بذلك، تصبح الموضوعية هي الأخذ بعين الاعتبار مقاصد ومصالح الفاعلين كما في مفاوضات نقابية.

- العلم صناعة اجتماعية

غالبا ما ننسى أن المعرفة فعل اجتماعي كجميع الأفعال، فيه التفاعل والصيرورات، وفيه تتجلى آثار المناخ، ثم المؤسسة والقوانين والمساطر والأعراف. في المجتمعات التقليدية تخصص الجماعة أفرادا أو جماعات صغرى تتفرغ للمعرفة مثل السحرة والزوايا، وبعد ذلك المدارس والجوامع والكنائس، وبعدها الجامعات. غير أن فعل المعرفة، حتى وإن اعتبر في الغالب خاصا وأرقى نظرا لارتباطه بالخبرة والقواعد والتعلم، فهو يملك خاصيات الفعل اليومي الاعتيادي. نلاحظ الأشياء ونتعرف عليها ونحاول حصر طبائعها ونشتغل بها ومعها وفق ذلك، المختلف هو أننا في المعارف المعيارية نملك عدة نظرية ومفاهيم وأدوات تساعدنا على حسن الفهم والتحليل والمسائلة، لتصبح المعارف المنتجة تختلف عن المألوف، كثيرا من نتحدث عن تفاحة نيوتن وننسى أنه تساءل ولماذا لا يسقط القمر؟ وكثيرا ما نتحدث عن نسبية أنشتين وننسى إطلاقية سرعة الضوء كسر أرقه. كما يحلو لنا الحديث عن اعتبار الوقائع أشياء عند دوركهايم ونغفل مناخ الفلسفة الوضعية ومحاربة المعارف قبل علمية منذ أوغسط كونط.

لا يفكر العلماء كما يفكر الناس فحسب، بل ويستعملون الآليات الذهنية نفسها في إنتاج الكائنات العلمية وتقعيدها من أجل تمريرها إلى الآخرين، ومرة أخرى بنفس آليات تمرير المهارات في الأسرة والمهن، لكن بمعيارية أدق ومتفق عليها من طرف المجتمع العالم. للعالم إذا حياتان، تلك التي يعيش كل الناس، والتي يعيشها في المجتمع العلمي، وربما بأسلوب مختلف ومغاير؛ حياة الانتباه وشد الوعي وحياة الانفعال والعاطفة والرأي والحوار.

تتكرس المعرفة العلمية بالتخصص والمعيارية والتعلم وطول المدة، لكنها كأي فعل اجتماعي توجد في رهانات حتى وإن لم تفكر لها وعيا، فتصبح في مجالات وأهداف غير علمية، وربما استغلت ريعيا في سوق السلع الرمزية أو العملية، وقد يكون ريعا قويا وحاسما يمر للأجيال اللاحقة، مثل الشرف السلالي أو البركة في المنطق السحري. ومن هنا أهمية فحص البعد الرمزي للمعرفة وللعلم، طقوسها وسلطتها وهيبتها وأساطيرها، بل وحتى انحرافاتها نحو ما ليس معرفة ولا علما مثل الشعوذة والتأثير الجماهيري والحرب.

المعرفة فعل اجتماعي يلاحظ ويفحص ويقاس، وتضبط حدوده ووظائفه من هندسة وتدبير كحلقة وسطى بين المعرفة والمجتمع من جهة، والتعلمات من جهة أخرى؛ أدوات المعرفة العامية والعلمية.

يشتغل الذكاء الطبيعي بنوع من الترميق مستمدا أدواته من المتاح الذهني والطبيعي، ومن المعايير الاجتماعية ومن القواعد المكتسبة. وكل ذلك بغية العملية والملاءمة سواء على مستوى التفاعل في الحياة اليومية أم على مستوى الانسجام الذهني، أو حتى بناء النظريات والمفاهيم في المعرفة العالمة، أم على مستوى تتبع الصيرورات وعلاقة الأسباب بالنتائج والكشف عن الخفي في المعرفة السوسيولوجية.

ماذا تفعل السوسيولوجيا معرفيا؟

نلاحظ كما يلاحظ أي فاعل اجتماعي، ونقارن كما يقارن، ونبحث عن التوازن والتماسك، لكننا نأخذ المسافة من العزو الذي ليس سوى بناء واقع خيالي على الواقع الذي يجب أن نصل إليه. العزو هو سرعة الجواب الذهني من أجل الوصول إلى الوهم المريح، ولو باستعمال آليات تبدو متماسكة مثل الملاحظة والمقارنة، ثم وصم المختلف. والسوسيولوجيا متعددة المناهج والتقنيات من أجل تجاوز الواقع الخيالي نحو المسك بالمحددات الفعلية لاشتغال الفعل الاجتماعي بإعادة الأخلاق والدين والتميز إلى السياق و القوة، اقتصادية أو ثقافية.

الذكاء السوسيولوجي ذكاء قراءة وقياس وكتابة وتأمل وتأويل؛ الذي يميز السوسيولوجي قدرته على القراءة، وليس أي قراءة، بل قراءة تأويل ونقد. المجتمع نص كبير تارة يأخذ صيغة المفرد وأخرى صيغة الجمع، تارة صيغة البنية وأخرى صيغة الفعل. دون إغفال العلاقات وشبكاتها والتفاعل. من هذه الزاوية، نحاول فهم علاقة الكم بالكيف.

في الفلسفة اليونانية لم تكن الرياضيات تتدخل في التحليلات الميتافيزيقة، بل وحتى الفيزيقية والأخلاقية التي يمكن اعتبارها فروعا للفلسفة الأولى فحسب. وكان المنطق الصوري والجدل أسياد المناهج. وبذلك تبدت المعلفة التي عدت علما نوعا من الإنشاء الترميقي التصنيف الحاذق في رد الفروع إلى الأصول، واقتباس الأرض من السماء. والعمل الدؤوب على التنسيق بين الوجود والمعرفة والقيم أخلاقا وجمالا وحقيقة.

كانت المعرفة جد طموحة وجد صورية، بل ومغامرة بقياس الغائب على الشاهد. لقد كان البراديجم السائد يحتقر الأرض ومعارف الأرض.

ولم ينتبه لضرورة التجاوز إلا عند الضرورة والحاجة الواقعية والتقنية، لما دخلت الحداثة وأصبحت الهندسة هي الدقة والقياس، الهندسة ليست علما بالنصوص والحجاج.

لقد ولدت السوسيولوجيا من رحم الهندسة، وليس من رحم الفلسفة، غير أن طبيعة موضوعها فرض عليها الانتباه إلى دقة أخرى لا تقل أهمية هي الفهم والتفهم والتأويل.

II- في قوانين الاجتماع

قلما نبحث في الاجتماع كفعل منه ينشأ المجتمع. نهتم كثيرا بالمجتمع كاسم وأفعال اجتماعية متفرقة، ونغفل فعل الاجتماع نفسه وكيفية تماسكه وبقائه. وكذلك فعل تفسخ الاجتماع واضمحلاله. وربما كان من المفيد البدء بما ليس اجتماعا. في نقطة صفر الاجتماع والجماعة، ماذا يوجد هناك؟ يكون الجواب التبسيطي الذي يبدو بديهيا، لا شيء طبعا، غير أن الأمر ليس بتلك السهولة. فعندما لا يوجد اجتماع أو عندما يضمحل ويتشتت التجمع تلقائيا أو عنوة، أو عندما نكون بصدد خلاء لا بشر فيه ولا شجر، هناك دوما شيء ما يهيأ في الخفاء أو في العلن في مكان ما وزمان ما. هناك فكرة الاجتماع لمجموعة من الناس تحدوهم رغبة وحاجة اللقاء، والالتفاف حول أشياء وأمور تجمع ما. هذه الفكرة قد تكون ثقافية رمزية تبرر فعل الاجتماع وتخفي البواعث الطارئة الملحة المرتبطة بالمتاح الطبيعي والرغبة في البقاء.

هناك الحاجة إلى الاجتماع، ومتى لا توجد لا يوجد، ومع الحاجة يوجد الانفعال والعاطفة والرغبة في اللقاء والتواصل نحو التجاور والتفاعل. هناك الفكرة أولا، وهي التي يجب فحصها.

تتكون الفكرة من إمكان الاجتماع والرغبة فيه، ولا ندري من يسبق من؟ الماء والأرض الخصبة، وغير ذلك...ثم الإمكان الاجتماعي العاطفي و الديمغرافي والأمني، ثم الإمكان الثقافي، الانتماء وبناء الهوية بالطقس واللغة والحكاية المؤصلة.

والإمكانات كلها لا تشتغل دون الخبر والتواصل اللذين يعززان على خلق تشبيك علاقات هي مادة الاجتماع.

الإمكانات والخبر والتواصل هي أصل الاجتماع، ليس الجينيالوجي وإنما المنطقي.

العود إذا إلى معنى الخبر والبحث في منطق مضمونه وتواتره هو بحث في كيفية حدوث الوقائع وصيروراتها، وهو الموضوع الرئيس للعلم الأم الذي هو التاريخ. الخبر الشفهي أم الكتابي، الفردي أم الجماعي. من أين أتى الخبر؟ ومن أذاعه؟ وماذا يقصد به؟ ومن توصل به؟ ثم كيف توصل؟ وكيف استعمل؟

هي أسئلة ليست حول الخبر في حد ذاته هل هو صحيح أم لا، وهي مهمة المؤرخ، وإنما الخبر الذي يؤدي إلى الاجتماع أو التفسخ، إلى اللقاء أو الفراق وهي منطلقات الاجتماع.

لا يمكن أن نجتمع إذا لم نكن في فراق ما. من أين يأتي الفاعلون؟ وما مقاصدهم؟ وما هي المعايير التي تتحكم في اللقاء؟ وأين كانوا قبل الاجتماع؟ وما هي المتغيرات المستقلة والتابعة؟ المعلنة وغير المعلنة؟ لن نفهم عوامل اللقاء دون فحص عوامل الفراق والاختلاف، الحقيقي الذي يوجه ضمنيا والوهمي الذي يعزز ظاهريا. ما معنى الوحدة والعزلة فردية كانت أم جماعية؟ إرادية كانت أم قهرية؟ وهل المتفرد غير مجتمع؟

حتى وإن بدا الاندماج مسيطرا في فعل الاجتماع، فالاختلاف هو الأصل، الاختلاف تغير وصيرورة وخضوع ضروري للزمن العام، ومقاومته تختلف من فعل إلى آخر. الكيف هنا كم والكم كيف، لا ننتظر تحول الكم إلى كيف كما في المنطق الجدلي، وهو منطق جد عام لا يراعي الفروقات الطفيفة والدقيقة. كل فعل في حد ذاته حتى وإن فحصنا تواتره فهو لا يتكرر. القياس صنع من أجل فهم الثابت من الأشياء والفعل الاجتماعي ليس ثابتا، وإن قسنا يجب أن تكون مظاهر ومؤشرات الفعل المقاس كثيرة ومركبة حتى نحيط بالأوصاف. الهوية وهم في الاجتماع، وهم ضروري للفعل الاجتماعي من أجل التلاحم والتآزر، لكن خطورته تتجلى في امكانية تسربه إلى الباحث.

الخبر وحيثياته؛ الرواية الشفهية والوثيقة، وسائل إثبات صحة الخبر، ووسائل فحص كيفية اشتغال الاجتماع، بالملاحظة والمقارنة وجمع كل ما يمكن أن يفصح عن منطق اشتغال الفعل الاجتماعي ميدانيا وفق رؤيا ما نريد البحث فيه؛ لأن البحث في الاجتماع ليس سوى البحث في جانب من جوانبه، وفق نظر نسبي يبحث عن الإثبات أو النفي. البحث الاجتماعي تجريبي مرن يتغير ونحن في الطريق كأي خطة رياضية.

ما قبل اللقاء ومعنى التوحد والغربة وعدم الاتصال بقيم الجماعات وليس الجماعة يدخل ضمن الخيال السوسيولوجي الذي يحاول تفسير الوقائع التي تبدو أحداثا فردية بالعودة إلى ملفات فيها العام غير الواعي وحتى الخاص النشط بأجندات ومساطر.

وعندما نجتمع يأتي التفاعل بالدم والصداقة والحب والكراهية والمصلحة والمنافسة والحسد والصراع والهجوم والدفاع...

نحن نتفاعل بقيم الأسرة ومصلحتها، والفردية داخلها، ثم نكون صداقات بالجوار والزمالة والمؤسسة؛ نحب البعض ونكره البعض كبحث عن أمن عاطفي يعطي التوازن للذات المقدرة من أجل التواصل في العيش... ثم تأتي الفئات الاجتماعية التي تتخذ لها قيما ومبادئ معلنة وغير معلنة من أجل المعارك اليومية والموسمية والطارئة... فتتكون من أجل كل ذلك ملكات تصبح عادات متحكمة نتوهم كونها أصلية وأصيلة.

ملفات إذن، توضع أمام الباحث حتى يكون أمام وعي بما يبحث عنه وفيه.

من أجل ذلك، لا نبحث في الآخر فقط بصيغة الغائب والجمع، وهو المعتاد، بل والبحث في أنا بصيغة المفرد المتكلم، والتوقع والانتظار والأمل وخيبة الأمل، بالصدق وبالكذب...

فحص أماكن اللقاء يكون جد مساعد، أماكن مثل الأسواق والساحات والمحاكم ...

وفحص بدايات التلاقي وصيروراتها ومآلاتها، وكذلك طقوس اللقاء من مواسم واحتفال. هذا الاقتصاد الخبري بكل تجلياته، الخبر كخبر صرف، ثم ما يلحق به من انفعال ووجدان يساعد على التلاقي والألفة والاندماج والتماسك بحثا عن الحماية والأمن وتلبية الحاجات الضرورية والثانوية. وعن الاعتراف حبا وطقسا وعرفا.

غير أن فعل اللقاء كأي فعل له إمكانات جيدة وأخرى سيئة، وقد تكتمل وقد تكون ناقصة، بل يمكن أن تنحرف لتؤدي وظائف لم تهيأ لها أصلا كتعريف، أو عندما يتم اللقاء إثر أخبار غير كافية أو خاطئة أو مغرضة، بل ومن اللقاءات ما هو باثولوجي منحرف وجانح.

لكل اجتماع إنساني متغيرات مستقلة منها:

- كل اجتماع أسرة أو عائلة أو جماعة أو قبيلة أو مؤسسة أو مقاولة أو حزب أو دولة أو تحالف دول أو ثقافة عامة أو حضارة؛ لكل ذلك قانون خاص لا يشبه قانون اجتماع بشري آخر. ولو في جغرافيا مماثلة أو مناخ طبيعي وثقافي مماثل. يبدو هذا القانون بديهيا وواضحا، وهو ليس كذلك؛ لأن ما يترتب عنه في الوعي واللاوعي في الاجتماع هو الأهم، سواء على مستوى التمثل أم التدبير أم العادة والمؤسسات.

هذا القانون الذي يبني الاجتماع يولد قبله، ولا يجب فهم لفظ القانون هنا بالمدلول المتعارف والمرتبط بالتعاقد الاجتماعي، القانون هنا يحمل دلالتين: الشرط الكافي للوجود ومنطق الاشتغال. كل اجتماع لا يكون ضرورة الوجود، إلا إذا اجتمعت فيه وله حيثيات حول علة وجود. كما أن هذا الوجود يملك منطقا خاصا به يتميز عن وجود آخر. هو لا يوجد قبل الاجتماع فحسب، بل ويستمر بشكل أو بآخر، بنفس الصورة أو في صور أخرى، بنفس الزخم أو بأكثر أو أقل. بذلك، لا يمكن فهم فعل الاجتماع دون العودة إلى التاريخ والصيرورات. تاريخ الانطلاق، وحتى ما قبله والأساطير المؤسسة، والتاريخ المشابه مقارنة؛ لأن ما توجد عليه الجماعة الآن قد تأسس له منذ ربما العهود الغابرة. ضعفا أو قوة أو هجوما أو دفاعا، وجودا فعليا أو تبريريا واستعمالا.

ويعد تمثل الاجتماع لماضيه المورفولوجي والثقافي مفتاح فهم ثوابته ومنطق اشتغاله. وحتى إن تغيرت الإمكانات الإيكولوجية والمادية، وحتى الاقتصادية تبقى الإمكانات الهوياتية تفعل فعلها عبر قنوات كثيرة ومعقدة من شفهية ومكتوبة وطقسية.

من كل ما سبق، يعتبر تحليل مضامين الأخبار الحالية والمتنقلة عبر الأجيال وكيفية استعمالها واستثمارها وتحويلها وتحويرها أمرا ذا أهمية منهجية قصوى، ويصبح التاريخ المستعمل أهم من الأحداث نفسها.

من حيث المكان، فالثوابت لا توجد في الاجتماع مباشرة، إن وجد بعضه فهو محيل إلى أصل ومصدر يهب الدلالة الأولى، ومن ثمة أهمية المواسم الكبرى...

بعد قانوني الزمن والمكان هناك قانون ثالث، وهو قانون علاقة المركز بالمحيط؛ لكل محيط مركز، وكل مركز محيط، هناك ضرورة منهجية للتتبع الدقيق لتشكل المراكز وتحولها...

ما يحدث في الاجتماع والمجتمع والجماعة والمجتمع في أي بقعة يجب أن يستحضر فضل مركز ما في ذلك، سواء على مستوى السوق أو الولاء الرمزي والثقافي، أو الاستعمال ومنطق انتشار ا لأفكار والخبر. وما يصدق على الاجتماع الكبير يصدق على الاجتماع الصغير، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في الحجم، وحتى الفروقات التي قد تأتي متناقضة مع منطق الفعل الاجتماعي الكبير.

القرى تملك مدنا مركزية، ومجموعة الأسر تملك عائلة أو أسرة مركزية، وحتى مجموعة الأفراد تملك فردا مؤثرا...

هكذا يمكن أن نلخص قوانين الاجتماع، وتكون اشتغال الأفعال الاجتماعية:

1- القانون الأول: لكل اجتماع قانون خاص به، يتكون به ويشتغل وفقه...ما نحن به وعليه، وما لسنا عليه...

2- القانون الثاني: هذا القانون وجد قبل الاجتماع زمنا وربما مكانا..

3- القانون الثالث: القانون الخاص بالاجتماع يخضع لانتشار الخبر وتمثله واستعماله..

4- القانون الرابع: قانون علاقة المركز بالمحيط..

5- القانون الخامس: يشكل القانون الخاص بأي اجتماع الخلفية الواعية أو غير الواعية لسلوكه، وهو طاقة ومنطق حركتها..

6- القانون السادس: لهذا القانون شكل ومادة يمكن قياس بعض جوانبها، ويمكن فهم وتأويل التفاعل، العوامل والآثار..

7- القانون السابع: البحث عن مادة الاجتماع في:

- الدم مثل النسب والمصاهرة والولاء؛

- ثم كل العوامل غير الواعية من محفزات مادية ورمزية من عادات وطقوس ورموز؛

- ثم المعززات الواعية، تعاقدية مثل الأعراف والقوانين والمساطر...

- ثم فحص الرهانات من مخاوف ومصالح...

خلاصة

إن البحث العلمي في المجتمع يستدعي توازيا مستمرا في التفكير في النظريات والمفاهيم والإجراءات المنهجية والتأمل الابستمولوجي في روح العلم ومنطقه من جهة، والفحص المستمر لأشكال الاجتماع البشري والتفاعل الباني لها والعامل على استمرارها أو المنحرف الذي قد يهدمها؛ ذلك هو قدر البحث الاجتماعي المزدوج الفعل باستمرار عكسا على مجالات معرفية أخرى مثل الفلسفة والأدب والفنون.