ماهية المدرسة النقدية في علم الاجتماع المعاصر


فئة :  مقالات

ماهية المدرسة النقدية في علم الاجتماع المعاصر

ماهية المدرسة النقدية في علم الاجتماع المعاصر

يرى معظم رواد مدرسة فرانكفورت النقدية، وفي مقدمتهم هابرماس Jurgen Habermas، أن علم الاجتماع مشروع نقدي، نشأ عن الثورة المزدوجة، وهي الثورة السياسية في فرنسا، والاقتصادية في إنكلترا، فهو نقد لتأثير الرأسمالية في البشر وعزلتهم، ولصناعة الإعلام فيهم، وتكوين الإنسان المتوجه خارجياً، كما يسميه ريسمان David Riesman في كتابه الجماهير المنعزلة، أو الإنسان ذو البعد الواحد لهربرت ماركيوز Herbert Marcuse([1]).

وبشكل عام، نجد أن ”المدرسة النقدية“ في علم الاجتماع المعاصر - التي يشكل مفكرو مدرسة فرانكفورت أحد أهم منظريها - تعتبر من أهم المدارس في علم الاجتماع المعاصر، حيث ظهرت هذه المدرسة نتيجةً لبروز مجموعة من المتغيرات والتحولات الواقعية السريعة التي مرت بها المجتمعات الغربية المعاصرة على الصعيد (الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتكنولوجي)، فانعكست هذه التحولات إيجاباً وسلباً على الواقع الاجتماعي فأردته في أزمة حقيقية؛ لأن الجانب الإيجابي انحصر تأثيره ومردوده على فئة قليلة من فئات المجتمع. أما الجانب السلبي، فكان لتأثيره النصيب الأكبر الذي انعكس على شريحة واسعة من أفراد المجتمع، فعاشوا أزمة هذا الواقع بكل تجلياته.

وفي جانب آخر، نجد أن هذه المدرسة قد ظهرت أيضاً كرد فعل طبيعي ومباشر على نتائج عملية التنظير السوسيولوجي لفهم وتفسير المجتمع، التي أفرزتها النظريات الكلاسيكية لعلم الاجتماع بفرعيه المحافظ والراديكالي، حيث وجدت المدرسة النقدية المعاصرة أن تنظير هذه الأنساق قد عجز عن تفسير الواقع الاجتماعي تفسيراً موضوعياً، بالإضافة إلى عدم قدرته على إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات والأزمات التي تتفاقم بداخله([2]). وذلك يعود للسببين التاليين: حيث يعود السبب الأول لقصور الأدوات المنهجية والتحليلية والتصورية لبعض الأنساق النظرية في تفسيرها للواقع الاجتماعي "تفسيراً مقنعاً على المستوى (السوسيولوجي المحدود) أو المستوى (الاجتماعي العام)"([3]). أما الثاني فينحصر في الدور الإيديولوجي الذي لعبته هذه الأنساق النظرية، حيث ظهر هذا الدور من خلال التحالف الذي أبرمته تلك النظريات مع النظام القائم من أجل دعم عملية استقرار وتوازن المجتمع؛ وذلك تحقيقاً لمصالح الفئة المسيطرة على هذا الواقع.

رداً على المتغيرات السابقة للواقع الراهن، ظهرت على الساحة الفكرية لعلم الاجتماع مجموعة من علماء الاجتماع المعاصرين الذين اتصف فكرهم بأنه فكر نقدي يرمي إلى التغيير والثورة على الأوضاع الراهنة، بهدف تصحيح الأخطاء التي وقعت بها النظريات الاجتماعية التقليدية، وأيضاً بهدف تخليصها من الأزمة الراهنة التي تعتريها نتيجة لتعدد الاتجاهات والإيديولوجيات التي تتحكم بنظرتها وفهمها للواقع الاجتماعي، بالإضافة إلى السعي من أجل إضفاء روح النزعة الإنسانية على العلوم الاجتماعية، التي افتقدتها في ظل فلسفة الاتجاه الوضعي الذي اتُخذ كمبدأ أساسي لدراسة الواقع الاجتماعي من قبل العديد من النظريات الاجتماعية المعاصرة، التي نظرت إلى الإنسان على أنه شيء يمكن دراسته، كما تدرس الظواهر الأخرى في العلوم الطبيعية من أجل الوصول إلى قوانين ثابتة تحكم توجهاته وعلاقاته الاجتماعية. لذلك تمثل هذه المدرسة "اختياراً بديلاً ثالثاً بعد الوضعية والتأويلية* في معاني المنهجية"([4]). وترجع بدايات ظهور هذه المدرسة كاتجاه نقدي في علم الاجتماع ”علم الاجتماع النقدي“ إلى كارل ماركس Karl Marx مؤسس النظرية الماركسية، بالإضافة إلى الأعمال التي قدمتها الماركسية المحدثة من خلال روادها جورج لوكاش George Lukacs وأنطونيو غرامشي Antonio Gramsci.

إلا أن المدرسة النقدية المعاصرة بدأت تكتسب شهرتها بشكل واضح بين المدارس الأخرى لعلم الاجتماع من خلال الإسهامات النقدية التي قدمها رواد مدرسة فرانكفورت في سبيل تحليل ونقد "ظاهرة "الوعي الغائب" أو ما يسمى ”بالاستلاب الفكري“ التي شكلت آنذاك نقطة البدء لمعظم الاتجاهات النقدية، كما أنها كانت محور تحليل الحركات الراديكالية التي انتشرت في المجتمع الرأسمالي الغربي"([5]).

جسّدت مدرسة فرانكفورت مقولاتها النظرية من خلال ”النظرية النقدية للمجتمع“ التي اعُتبرت بمثابة مدخل للعلوم الاجتماعية يعتمد على أعمال كل من كارل ماركس وسيغموند فرويد. وتستهدف هذه النظرية نقد وتحليل المجتمع، وبذلك تكون في جوهرها نظرية تقييمية معارضة للعقائد المذهبية مثل ” الوضعية “ التي ترى بأن العلوم الاجتماعية ينبغي أن تكون متحررة من التقييم. ففي مقابل ما تراه الوضعية حول ماذا يكون، فإن النظرية النقدية تطرح الموقف المثالي ما ينبغي أن يكون([6]). بهذا، نجد أن النظرية النقدية سعت إلى إقامة الصلة بين العلوم الاجتماعية والفلسفة بهدف تحويل الفلسفة إلى نظرية اجتماعية تستند إلى أسس جدلية تأملية. "بعيداً عن نطاق الإيديولوجيا المسيطرة لكي تخلق لنفسها فضاءً يتم فيه إنتاج معرفة مقاومة ومضادة للهيمنة تزعزع أركان علاقات السيطرة المادية والرمزية الجائرة"([7]).

كما سعت المدرسة النقدية في علم الاجتماع المعاصر أيضاً إلى تفعيل دورها النقدي في الجانب الأكاديمي لعلم الاجتماع المعاصر؛ أي إنها اتجهت إلى "نقد العلم ذاته، فبدأت بتفنيد نظرياته ومفاهيمه ومناهجه وبحوثه. بالإضافة إلى تحليل تطور علم الاجتماع وكيفية ارتباطه بالأبنية التاريخية والاجتماعية بهدف تشخيص أزمته واقتراح الأساليب الممكنة لتصحيح مساره ليتخطى أزمته"([8])، ويعتبر رايت ميلز Wright Mills، وألفن جولدنر Alvin Gouldner من أهم من قام بهذه المهمة بغية إعطاء بدائل نظرية ومنهجية للخروج من الأزمة التي يعاني منها علم الاجتماع المعاصر.

يندرج تحت لواء هذه المدرسة آراء بعض المنظرين النقديين الذين تبنوا قضايا ومشاكل مجتمعات العالم الثالث، وبالأخص قضايا وحركات التحرر الوطني لمقاومة الاستعمار، بالإضافة إلى المشاكل الناجمة عن الاستعمار والتبعية الأجنبية، وفي مقدمتهم فرانز فانون Franz Fanon الذي حاول توضيح الممارسات السلبية واللاإنسانية التي يمارسها المستعمِر وما ينتج عنها من آثار سلبية (اجتماعية، الاقتصادية، النفسية) على البناء الاجتماعي للمجتمع المستعمَر، كما سعى أيضاً إلى التنظير للقوى الاجتماعية التي سيوكل إليها مهمة النضال ضد الاستعمار الغاشم للحصول على الاستقلال والتحرر الوطني من أجل بناء المجتمع الإنساني واستعادت الحقوق المسلوبة.

وعلى الرغم، من إجماع مفكري المدرسة النقدية على نقد الواقع الاجتماعي، والجانب الأكاديمي لعلم الاجتماع. إلا أن لكل مفكر منهم أسلوبه الخاص في ممارسته لنقده من منطلق القاعدة النظرية الابستمولوجية* التي تقول: حضور كل الأجزاء في الكل على الرغم من اختلافها في أسلوب ومناقشة الفكرة الرئيسية، ففي المدرسة الفكرية يمارس التعدد داخل الوحدة ولمجرد الحديث عن المدرسة يكون الصعيد المجهري ”micro“ هو المقصود؛ أي جزء خاص محدد من المعرفة العلمية الحديثة وهو ما نشير إليه بالمدرسة النقدية([9])؛ أي إن كل مفكري المدرسة النقدية اهتموا بنقد الوضع القائم في المجتمع من خلال نقد النظريات الاجتماعية التقليدية والمعاصرة التي تقوم على تثبيت هذا الوضع؛ وذلك كل بطريقته وأسلوبه المميز، من خلال الإجماع والعمل على تأسيس نظرية نقدية للمجتمع ذات أسس نظرية ومنهجية تتمتع بالقدرة الكافية من المرونة والكفاءة لكي تقوم بدورها البناء في نقد المجتمع للارتقاء به نحو الأفضل لتحقيق إنسانية الإنسان المهدورة بإطار المجتمعات الرأسمالية التكنولوجيا، هذا التنوع الغني والإثراء الكبير لأفكار مفكريها جعلها من المدارس الاجتماعية المميزة على الصعيد الأكاديمي لعلم الاجتماع بشكل عام والمعاصر بشكل خاص.

([1]) عبد القادر عرابي: المناهج الكيفية في العلوم الاجتماعية، دار الفكر العربي، دمشق، ط1، 2007، ص(24).

([2]) حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر (دراسة تحليلية- نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة)، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص(11).

([3]) السيد الحسيني: نحو نظرية اجتماعية نقدية، دار النهضة العربية، بيروت، 1985، ص(148).

* يُعرَف علم الاجتماع التأويلي بأنه التحليل المنظم للأفعال الاجتماعية ذات القيمة من خلال الملاحظة التفصيلية المباشرة للأفراد في ظروفهم الطبيعية بهدف الوصول إلى فهم وتأويل الكيفية التي يصنع بها الناس حياتهم الاجتماعية ويحافظون عليها.

([4]) عز الدين أبو الخير كزابر: مقدمة في أصول فقه العلوم الاجتماعية والإنسانية – دراسة تحليلية نقدية للأصول الغربية لعلوم الاجتماع والإنسانيات من منظور إسلامي، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 2008، ص(487).

([5]) أحمد مجدي حجازي: علم اجتماع الأزمة (تحليل نقدي للنظرية الاجتماعية في مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة)، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998، ص(156).

([6]) ميشيل مان: موسوعة العلوم الاجتماعية، ترجمة: عادل مختار الهواري– سعد عبد العزيز مصلوح، مكتبة الفلاح، بيروت، 1994، ص(160).

([7]) شارلين هس- باتريشيا ليفي: البحوث الكيفية في العلوم الاجتماعية، ترجمة: هناء الجوهري، مراجعة وتقديم: محمد الجوهري، المركز القومي للترجمة، القاهرة، سلسلة العلوم الاجتماعية للباحثين، العدد: 1783، ط1، 2011، ص(88).

([8]) أحمد زايد: علم الاجتماع (النظريات الكلاسيكية والنقدية)، دار المعارف، القاهرة، 1984، ص(290).

* فرع من فروع الفلسفة الذي يهتم بالمعرفة، والكلمة مشتقة من اللفظين الإغريقيين: Epistem معرفة، وLogos علم، وتعنى بالدراسة النقدية لمبادئ العلوم المختلفة، وفروضها، ونتائجها، وتحديد أصلها المنطقي وقيمتها الموضوعية، من حيث شروط إمكانها في مجال الحياة الاجتماعية، وبالقواعد التي تتعلق بإنشاء معطياتها والتي ترتبط بالموضوعية، وبالمسافة بين الباحث والوقائع المعاينة، والتي تتعلق بنقد المخارج والإيديولوجيات ومقاييس البراهين. ويعد ماكس هوركهايمر أحد مؤسسي مدرسة فرانكفورت من أهم من تناول فلسفة التنوير عند كانط برؤية ابستمولوجية، ورأى في هذه الفلسفة اتجاهاً لم يكتسب امتداده الاجتماعي.

([9]) عبد الله إبراهيم: الاتجاهات والمدارس في علم الاجتماع (دراسة في فلسفة العلم الابستمولوجيا)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2005، ص(17).