محاسن الكلم في طبقات الحِكم: رُقي التراث العربي إلى الكونية


فئة :  قراءات في كتب

محاسن الكلم في طبقات الحِكم: رُقي التراث العربي إلى الكونية

 محاسن الكلم في طبقات الحِكم

رُقي التراث العربي إلى الكونية

قراءة في كتاب محمد الشيخ:

كتاب الحكمة العربية

دليل التراث العربي إلى العالمية


هذا كتاب في الحكمة العربية وتراثها، لكن ليس التراث المستهلك الذي قُتل بحثاً وتنقيباً، وإنّما هو ضرب من الكتابات الهامشية، حسبه يناقش ثنائية المركز/ الهامش. لا يهدف الكتاب إلى إعادة كتابة الثقافة العربية من جديد، بل يحاول أن يركز على ما نُسي منها وأُهمل، ولا يهتم بالفارابي وابن سينا وابن رشد وما تلاهم من الفلاسفة العرب والمسلمين، بل يفتض بكارة كتابات التوحيدي، والأصفهاني، وابن أبي أصيبعة، وفريد الدين العطار، والثعالبي، والشهرزوري... ألَا إنّ الكاتب يُهْدينا كتاباً في عشق الحكمة الكلاسيكية[1]، هدفه إنقاذها من أن تطالها يد النسيان وتدخل سجل الأرشيف، فقد بدا لنا مما بدا وتجلى، أنّ القارئ العربي، من شدة غربته عن هذا التراث ومن شدة دهشته، يلحظ أنّه تأليف في ما لم تكتبه حضارة من قبلُ أو بعدُ، وارتقى رُقياًّ يكاد يجعله من الأطروحات العالمية، بدل إذعانه لثقافة موحدة ووحيدة.

قد يظن قارئ نبيه أو باحث حصيف أنّ الكتاب يقوقع نفسه داخل قوقعة التراث، فيسجن نفسه فيه، ويكاد لا يخرج منه حتى يجد نفسه منجرّاً إليه من جديد، وقد يقول قائل إنّه كتاب في التراث لكن بمنظار الفكر الغربي، حسبه يحاول إعادة تأسيس مقولات الغرب الفلسفية والفكرية، من قبيل: الإنسان، والغير، والغربة، والصداقة، والموت... فيوطِّنها توطيناً داخل التراث ويدعي الأسبقية والأولوية العربية والإسلامية في الحديث عنها. بيْد أنّ الكاتب لا يشير إلى هذا، ولا يهدف إلى إحراز قصب السبق، أو يدعي المركزية والتقوقع الفكري والإيديولوجي. لا، إنّ الكاتب ينفض الغبار عن فكرٍ طواه النسيان والإهمال، حتى من بني جلدته، وعن كتبٍ نفيسة مازالت مستودعة في الخزائن وأصبحت اليوم أكلة للسوس، وفراشاً للتربة، حتى أصبح أنفس ما فيها فَارًّا من بين أيدينا. إنّه كتاب صُلحٍ بين التراث والقارئ لعله يجد هدايته فيه، ويعرف مقدار حاله ماضياً، ومقدار حاله حاضراً وهو الوريث المحظوظ، فكفاه عزّاً أن يكون وريثاً، فليست الحكمة في مدح الإرث، وإنّما الشأن في الثمار والإفادة منه.

في تبويب الكتاب

من شدة إعجابه بالتراث ولغته الراقية، يجعل الكاتب محتويات الكتاب على شاكلة الكتب القديمة، فجاء المحتوى على شاكلة كتاب لكل مفهوم من المفاهيم التي يطرقها التراث والحكمة العربية. قَسَّم الكاتب كتابه هذا إلى ثلاثة عشر كتاباً: كتاب الإنسان، والغير، والصداقة، والغربة، والانفراد، والحَرْفية، والحيرة، والحواس، والقراءة، والكتابة، والترجمة، والشهرة، والموت.

قد يلحظ القارئ أنّه يخطُّ كتابه استناداً إلى مفاهيم غربية طرقها فلاسفة ومفكرون غربيون، بيد أنّ القارئ الحصيف والنبيه لا يشك قيد أنملة في أنّ الكاتب لا يهدف إلى المقارنة الفجة، ولا إلى الأسبقية التي تسيطر أيما سيطرة على بعض مفكرينا وكُتابنا؛ أسبقية في التأليف والتبويب، وأولوية في التأسيس، جعلت من الفكر العربي والإسلامي سجين المقارنة، ورهين الكسل والاتكالية.

لا، إنّ الكاتب لا ينساق وراء العلية، ولا ينجرُّ إلى التهافت على الأولوية، بل يبتغي إحياء نسق مفاهيم التراث بما له وما عليه، رُبَّ فلاسفة ومتصوفة وفقهاء ومناطقة اتُّهم منهم من اتُّهم بالموالاة إلى اليونان، أو الركون إلى العقيدة، أو اتباع، بدل إبداع، طرق الحس على طرق العقل، فكانوا في نظرنا أو غيرنا مقلدين تابعين، بدل مبدعين مبتكرين.

في الإنسان والأُنس

يبدأ المؤلف بما يبدأ بكتاب الإنسان (ص.44)، "الإنسان بما هو إنسان أو"من حيث هو إنسان"، فإذا كانت الفلسفة الغربية قد استشكلت المفهوم ذاك وجعلته أعسر على التفسير والشرح والتصنيف، فإنّ الفكر العربي بكل تلاوينه طَرَق باب "الإنسان"، إما تقعيداً أو استشكالاً. فهذا الجاحظ يقول: "الناس على الناس أفهم، وإليهم أسكن"[2]، وهذا التوحيدي يقول بملء الفم: "الإنسان قد أشكل عليه الإنسان"[3]، فاستشكل بذلك الفهم واستسأل المعنى، وجعل من الإنسان محل تساؤل من قبيل: بمَ كان الإنسان إنساناً؟ ما سيماه التي يُستعلم بها أمره ويُستعرف؟ (ص.45)

وقد أُثقلت الكتابات التراثية بالتأليفات في مفهوم الإنسان، ليست الفلسفية فقط على شاكلة كتاب الكندي: مائية الإنسان، وتلميذه السرخسي: كتاب سيرة الإنسان، بل أيضًا التآليف الصوفية، نذكر منها ما خطه ابن عربي في كتاب الإنسان، والبيان في حقيقة الإنسان، ونسخة الأكوان في معرفة الإنسان، وكتاب مضاهاة الأكوان فيما يقابله من الإنسان، وكتاب الإنسان الكلي في معرفة العالم العلوي والسفلي، وكتاب الميزان في حقيقة الإنسان، وكتاب المناظرة بين الإنسان والحيوان.

لكن أول ما أشكل على حكماء العرب من شأن "الإنسان" اسمه: الاشتقاق، ولمَ سُمي "الإنسان" إنساناً؟ فكان أول مدخل لدراسة "الإنسان" مدخل الاشتقاق.

ذهب قوم من الأقوام وهم الكوفيون، إلى أنّ الإنسان سُمي "إنساناً" لنسيانه، واحتجوا على ذلك بقول العرب في تصغير اسم "الإنسان" "أُنيسان" وفي الجمع "أُناسي". وقد روي أنّ "الإنسان" من "النسيان" عن ابن عباس. فقد نُقل عنه أنّه قال: "إنّما سُمي إنساناً، لأنّه عُهد إليه فنسي" (ص.47).

وهناك من اشتق اسم "الإنسان" من "الأنس"، أي من الظهور، عكس الجن الذي لا يُرى، أي "جُنَّ" عن الأبصار واختفى. وقال ابن قتيبة إنّ "الإنس" من الظهور وإدراك البشر إياهم، بينما "الجن" من "الاجتنان" بمعنى "الاستتار".

هذا وقد ذهب أهل الصوفية أبعد من ذلك في تأويلهم للفظ "الإنسان"، فاعتبر أغلبهم أنّه من "الأُنس" أي الاستئناس والأُلفة، وهو ما يروم إليه الشيخ الأكبر علّامة زمانه ابن عربي: "إنما سُمي الإنسان إنساناً لأنّ به حصل الأُنس لمراتب الكمال في الوجود. إذ لم يكن أحد يخلع عليه مراتب الوجود غير الإنسان، والألف والنون فيه زيادة مثل عمران"[4].

إنّما ما اعتبره ابن عربي أجلُّ ما يمكن أن يسند إلى الإنسان في هذا الباب، فهو الغاية من الوجود التي لا غاية بعدها، حسبنا هنا المكانة التي يتبوؤها الإنسان في الوجود باعتباره الغاية المثلى.

تعارضت الأنظار العربية في شأن "الإنسان"، فهناك من تستوقفه هشاشته وضعفه أيما وقفة تأملٍ وتدبرٍ، وهناك من يجعل منه ضرباً من الإنسان المتعالي أو "الإنسان الكامل" (ص.50). فقد تبين من الحكماء العرب من ذهب إلى مكمن الهشاشة الإنسانية، وتدبر فيها حتى جعلها الأصل المتمكن منه. فهذا الجاحظ يقول: "ليس لنا أن نكون... من الجاهلين بما عليه طبائع البشر، فإنّ أقواهم ضعيف، وأنشطهم سؤوم، وإن كانت حالات متفاوتة، فإنّ الضعف لهم شامل، وعليهم غالب"[5]. ولا يختلف التوحيدي في كثيرٍ عن الجاحظ، فالإنسان حسبه "مرة هادئاً ومرة صاخباً، ومرة قانعاً ومرة ساخطاً..."[6]. لكن ألطف وأظرف وأطرف ما قيل في هشاشة الإنسان ما قاله الراغب الأصفهاني: "صريع جوعة، وأسير شبعة، تنتنه العِرقة، وتؤلمه البقَّة، وتقتله الشرْقة"[7].

لا، ولا يجوز اعتبار تلك الهشاشة من صميم الضعف والتنكيل بصفات الإنسان، بل هي إلى الكمال أقرب، والعلو أصوب، فهو الكائن الذي لا يستقيم على حال في كل حال، والمخلوق الذي تراءت له مزايا الرفعة والسمو فكان لها أطلب، وهو من هذا وذاك لا يرضى بما هو عليه من حال، حتى يرقى المكان الذي يناسب مقامه باعتباره المفكر الأعظم، والمتكلم الأصوب، فصورة الإنسان فضلة عن القلب واللسان، وإنّ استحقاقه للفضل إنّما هو من جهة النطق والعقل. ومازال حكماء العرب يؤكدون صفة النطق حتى قال التوحيدي: "كلما كنت بالكلام أحذق، كنت بالإنسانية أحق"[8].

الإنسان وحده المُبين عند الجاحظ، ومعناه "الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي" (ص.59)، فالبيان تجاوز للكلام وارتقاء إلى مرتبة الفهم والتفاهم، حتى جعله ابن عربي، في هذا الباب، "مفتاح كون الوجود"[9]، فهو المعني بالوجود، والأقرب إليه من حبل الوريد، بل إنّه "روح العالم"، فلو أنّه فارق العالم مات العالم (ص.62). هذا وقد جعله الأصفهاني جمعاً لقوى العالم ومركباته وروحانياته وجسمانياته ومبدعاته ومكوناته، فالإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير.

في الغير والسوى

لم يكن حكماء العرب وفلاسفتهم مهووسين بالإنسان المفرد المتفرد، وبضرب من الذاتية الأنانية المنغلقة، بل أفردوا من مقولاتهم للذات الأخرى ما لا يعد ولا يحصى.

وقد جاءت كتاباتهم مشكَّلة ومتنوعة في الحديث عن الغير، فمنها ما ألحق الذات بالغير وجعلها إليه مسترقَّة، حتى تُفنى هويتها وتصبح تابعة ومُذابة في "إنِّية" الأنا الإذابة الكاملة (ص.96). ومنها المرتبة التبادلية، بما يؤدي إلى بطلان الهويتين معاً، فيصير الغير مستلحقاً للأنا، وتصير هذه الأخيرة مستلحقة للغير، حد أن تصير "الأنا" و"الغير" واحداً أحداً وما ثمة اثنان على الحقيقة: أنت أنا وأنا أنت، وإنّي في التحقيق لست سواك. وما تقول أنت؟ وما أقول أنا؟ كلانا واحد (ص.98). هنا "الذات "و"السوى" واحد، حتى قال الشاعر:

يا منـية المتمـنـي        أفنيتني بك عنك

أدنيتني منك حتى        ظننـت أنّك أنّـي

وأفرد فريد الدين العطار حكاية في هذا الباب، تنم عن مرتبة التذاوت والتوحد، فقال: "ما إن وقع أحد المعشوقين قضاءً وقدراً في الماء حتى أسرع عاشقه وألقى بنفسه في الماء، .. فسأل المعشوق العاشق: أيها الجاهل! إذا كنت قد سقطت أنا في هذا الماء الجاري، فلما ألقيتَ بنفسك في لجته؟ فقال: لقد ألقيت بنفسي في الماء لأّني لم أعرف نفسي من نفسك. فقد مضى وقت بلا ريب حتى أصبحت أنا أنت وأنت أنا وأصبحنا واحداً. فهل أنت أنا أم أنا أنت: فإلامَ الثنائية؟ فإما أنّني أنت أو أنّك أنا، أو أنّك أنت أنت، وعندما تكون أنت أنا وأنا أنت على الدوام يكون جسدانا واحداً والسلام. وإذا كانت الثنائية بيننا فالشرك قد أصابك، وإذا انمحت عنا الثنائية فالتوحد قد أدركك"[10].

يتحقق في كلتا الحالتين إما انمحاق "الغير" في "الذات" أو بالضد انطماس "الذات" في هذا الغير وانمحاء معالمها (ص.100). وقد تحقق من ذلك إما بروز "الأنا" بروزاً بادياً حد استرقاق "الغير"، فتكون الموجود الواحد الذي ليس بعده وجود إلا اعتباراً من مكانتها، أو نزعة صوفية ذوقية تروم التبادل والتلاحم حد فناء الهويتين معاً.

أمَا وأنّ بعضاً من الحكمة العربية قد انبرت إلى نفي "الغير" نفياً، أو جعله ذاتاً تتداخل مع "الأنا" في الحس والذوق والقلب حد الحلول، فإنّ جانباً آخر منها تجاوز المنزلتين معاً، وأسس لمنطق الاختلاف والتمايز والمباينة. وقد تنبه العديد من مفكري الإسلام إلى "فكر الاختلاف" الذي يحفظ حظ "الأنية" وحق "الهوية" ويرفض شبهة "السوية" (ص.101).

هذا التوحيدي يبدي مبدأ "الاختلاف بين الأشخاص" قائلاً: "قلما يُرى شخصان يتشاكلان في الظاهر إلا يتباينان في الباطن"[11]. شأن هذين الشخصين هو التشاكل والتشابه ظاهرياً، لكن منطق التباين والاختلاف يجد طريقه إليهما في كل حين، حتى يمكن القول إنّ التشابه لا يتحقق بالجملة وما هو إلا محض توهم. وفي ذلك نبَّه العامري إلى هذه المسألة قائلاً: "كلما كان الاشتباه أشد، كان الفرق ألطف". وهناك من قال بالاختلاف والمباينة حتى وإن بدا لهم من التوافق فهو وهم خادع، "فالناس في أصل جبلَّتهم وبدء خليقتهم وأول سننهم قد افترقوا مجتمعين، واجتمعوا متفرقين، واختلفوا مؤتلفين، وائتلفوا مختلفين، (...) وعقولهم متفاوتة عاملة، وآراؤهم سانحة"[12].

على أنّ تفصيل القول في الاختلاف وصل أوجه إلى الاختلاف الكوني مع الشاطبي حتى قال: "ما من متماثلين إلا وبينهما افتراق ولو في تعيينهما، كما إنّه ما من مختلفين إلا وبينهما مشابهة ولو في نفي سواهما عنهما"، ويضيف: "ولو فرض التماثل في كل وجه فهو نادر، ولا يعتد بمثله أن يكون معتبراً. والغالب المطرد اختلاف الدرهمين والدينارين ولو بجهة الكسب"[13].

في الصداقة والصديق

أما وقد اختلف العرب في أمر "الغير"، فإنّهم قد اختلفوا أيضًا في القريب أو "الصديق"، أو قُل جعلوا من مرتبة "الغير" القريب محل استشكال وبحث وتمحيص، حتى بدا لهم أنّ الحديث عن الصداقة على ضربين: نفي "الصديق" حتى وإن وُجد، فوجوده محض واقع ممكن ومُتخيل، ثم مرتبة الإثبات والثبوتية لدرجة المماهاة. فأما على جهة النفي فقد ائتلفوا في غياب الصديق حتى كادوا يقرون بالغربة والوحشة، فهذا التوحيدي يقول: "قبل كل شيء، ينبغي أن نثق بأنّه لا صديق، ولا من يتشبه بالصديق"[14]. بل لم يجدوا أدنى حرج في تشبيه "الصديق" بالكبريت الأحمر، والأبلق العقوق، والعنقاء المغرب، وهي كلها كنايات على أشياء لا تكون أبداً وتُطلب (ص.128)، حتى إذا سأل أحدهم ما الصديق؟ قيل: "اسم وضع على غير مسمى"، أو "اسم على غير معنى"[15]، وأنشأ ابن الجوزي يقول: "وأما الصديق فليس ثم، وأخ في الله كعنقاء مغرب، ومعارف يفتقدون أهل الخير ويعتقدون فيهم قد عدموا، وبقيت وحدي"[16].

هذا ولئن نفى هؤلاء وجود "الصديق"، فإنّهم يعنون بذلك الصديق الحقيق، الحريّ بها على وجه الاستحقاق، أما ما يسميه الناس "صديق" فهو على ضرب "الشبيه" أو"الصديق النظير"، حتى قال بعضهم حينما سئل "ألك صديق؟" فقال: "لا، ولكن أليف"، وقالت العرب قديما: "أبعد الناس سفراً من كان سفره في طلب صديق".

تلك منزلة الصداقة في الحكمة العربية وفي نفيها، فقد وجد "النفاة" أنّ الحديث عن "الصداقة" أقرب إلى المستحيل منه إلى الممكن، وأنّه حديث غير صحيح حتى وإن وُجد الصديق، فهو إلى الأليف أقرب، والتحقق أبعد، إذ أنّ الأمر عندهم أنّ القول في أمر "الصديق" سهل في المسمع، لكن تحققه صعب في المرأى (ص.131).

أما أولئك الذين أثبتوا أمر "الصداقة" فقد جعلوا منها صفة مخصوصة بالإنسان، حتى كاد "الصديق" يكون هو الذات بعينها، والنفس الغالبة على جهة الإيثار، حتى قال عنه الراغب الأصفهاني: "الصديق هو أنت بالنفس إلا أنّه غيرك بالشخص"[17]، و"نفس واحدة في أجساد متفرقة"[18]، فهذه على جهة الذات عينها، أما على جهة الإيثار، فسُئل أرسطو عن الصديق، فقال: صديقك من كان قلبه فيما يحب لنفسك كقلبك، إلا أنّه في غير جسمك"[19]. ويشرح صاحب صوان الحكمة، على لسان التوحيدي، قول المعلم الأول حينما سئل من الصديق؟ قال: "إنسان هو أنت، إلا أنّه بالشخص غيرك ! سئل أبو سليمان عن هذه الكلمة وقيل له: فسِّرها لنا فإنّها وإن كانت رشيقة فلسنا نظفر منها بحقيقة. فقال: (...) إنّما أشار بكلمته هذه إلى آخر درجات الموافقة التي يتصادق المتصادقان بها، أَلا ترى أنّ لهذه الموافقة أولاً، منه يبتدئانها، كذلك لها آخر ينتهيان إليه. وأول هذه الموافقة توحُّد، وآخرها وحدة. وكما أنّ الإنسان واحد بما هو إنسان، كذلك يصير بصديقه واحداً بما هو صديق، لأنّ العادتين تصيران عادة واحدة، والإرادتين تحولان إرادة واحدة(...)"[20]. ومن أحاديث الصداقة الطريفة والممتعة، نجد الشاعرين العربيين الكميت والطرمّاح تباينا في تصاحبهما وتصاحبا في تباينهما (ص.144)، ووجدا في صداقتهما الاختلاف والتباين حد التعصب، ثم التآلف والتآخي حد التماهي، فقد كان الكميت شيعياً من الغالية، وكان الطرمّاح خارجيّاً من الصفرية. وكان الكميت يتعصب لأهل الكوفة، وكان الطرمّاح يتعصب لأهل الشام. وبينهما مع ذلك من المخالطة ما لم يكن بين نفسين قط، ثم لم يجر بينهما صرم ولا جفوة ولا إعراض ولا شيء مما تدعو هذه الخصال إليه (ص.145).

في الغربة والوحشة

شرَّع الكتاب الرابع لاستشكال الغربة والترحال والوحشة، كيف لا والثقافة العربية الإسلامية كانت فيما مضى من الأيام الخوالي ثقافة ترحال مستمر. فهذا ابن عربي ظل يقاوم الاستقرار والسكون والتَّبلُّد، حتى كاد يردد عبارة توينبي على لسان دولوز: "الرُّحل هم المعمرون". وذاك ابن خلدون ملَّ مكان إقامته وخرج بحثاً عن العلم والمعرفة، وهذا ابن سبعين رُحِّل من سبتة وارتحل إلى بجاية، ثم المغرب ثم مكة، فكان سفره إلى الروح أقرب، وإلى الوحشة أدنى. ومازال الحكماء العرب يرتحلون ويسافرون حتى جعلوا من أمر الغربة موضوعاً حرياً بالدراسة والتنقيب.

استحب الأقدمون التغرب في طلب المعرفة، فكانت الأرض الواسعة ملاذهم، والصحراء الخالية طريقهم، فما كانوا إلا أقرب إلى الوحشة والنأي عن الأوطان، فمن حكماء العرب من سافر الكثير، لا يألف مكاناً إلا فارقه، جوالون هم كانوا على الدوام مذ أن كانوا، غرباء بغربة إرادية حد التيه. اختاروا السفر بلا إقامة والدوران بلا استيطان (ص.160). فهذا عبد الله الفرار كان لا يقر له بأرض قرار، قال عمرو بن عثمان المكي: "لقيته فيما بين قرى مصر بدور، فقلت له: "ما لي أراك لا تقر في مكان واحدٍ؟ فقال: "كيف يقر في مكان واحد من هو مطلوب؟" فقلت: "أَوَلست في قبضته في كل مكان؟ قال: "بلى، ولكن أخاف أن أستوطن الأوطان فيأخذني على غرة الاستيطان مع المغرورين".

أمَا وأنّ الحكماء الأقدمين اهتموا بالغربة أيما اهتمام كتابة وفعلاً، فإنّهم أفردوا لها ما لا يعد ولا يحصى من المزايا والفضائل، فمن شأن الغربة أن تفتح الآفاق وتمد الآماد، وتطلع المرء على التجارب، فلولا التجارب لعميت المذاهب، حتى قال ابن قيم الجوزية: "وإنّما يعرف قدر (التجريب في الحياة) من اجتاز القفار واقتحم البحار وعرض له ما يعرض لسالك القفر وراكب البحر. ومن لم يسافر ولم يخرج عن وطن طبعه ومرباه، وما ألف عليه أصحابه وأهل زمانه، فهو بمعزل عن هذا"[21]. ومن فضائل الغربة ومزاياها أنّها إلى التسامح أقرب، وإلى الرزانة أدنى، "فالغريب تحتمل هفواته، وتغفر جناياته، لبعد داره، وشط مزاره، وحاجته واضطراره"[22].

إلا أنّ من الزهاد العرب من كان يجد أنّ الغربة الحقة هي الغربة "في" الوطن لا الغربة "عن" الوطن. وهم في ذلك لا يذمون الغربة بقدر ما يهجون الغربة داخل الأوطان، حتى ظنوا أنّ من كان إلى الوطن أبعد فهو إلى الألفة أقرب، وأما الغريب فهو من في غربته غريب. نقل التوحيدي عن أحد الشيوخ قوله: "لا توحشك الغربة ما أنست الكفاية، فإنّ الفقر أوحش من الغربة، والغنى آنس في غير الوطن". ولهذا قيل: "أوحش قرينك إن كان في إيحاشه أنسك، واهجر منزلك إذا نبت عنه نفسك". وقيل أيضاً: "أوحش قرينك إن كان في إيحاشه أنسك. إذا أيسرت فكل أهل لك، وإذا أعسرت فأنت غريب في قومك"[23]. وعلى ذلك يكون الغريب هو من فضل الغربة في موطنه، فلم يبارح مكاناً، ولا شق طريقاً، وهو في ذلك غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه، وأغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيداً في محل قربه، لأنّ غاية المجهود أن يسلو عن الموجود، ويغمض عن المشهود، ويغضي عن المعهود.

والحق أنّ أعظم وأجمل ما قاله حكماء العرب في شأن الغربة والغريب، ما أورده التوحيدي حيث قال: "سألتني أن أذكر لك الغريب ومحنه، وأصف لك الغربة وعجائبها (...) قد قيل: الغريب من جفاه الحبيب، وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب، بل الغريب من حاباه الشريب، بل الغريب من نودي من قريب، بل الغريب من هو في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحق نصيب (...).

يا هذا الغريب من إذا ذكر الحق هجر، وإذا دعا إلى الحق زجر، (...). يا رحمةً للغريب: طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب. الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله، وإذا نادى لم يُجب، وإذا هادى لم يُحب.

أيها السائل عن الغريب ومحنته: إلى ههنا بلغ وصفي في هذه الورقات (...) يا هذا أنت الغريب في معناك"[24].

في الانفراد والتوحد

تبينا أمر العرب وحكمائها في أمر الغربة، فكان حالهم مختلفاً في طلبها أو النفور منها. أما وقد اختلفوا في مسألة الغربة فقد تباينوا أيضًا في أمر الانفراد والتوحد. فهم في مذهب "العزلة" على مذهبين: كاره لها هارب منها، شأنه شأن الناس وشأن الناس شأنه، وقد استحب المخالطة وآثر الجماعة. ومحب لها كلف بها، وحداني العيش، لا يعدل بالوحدة شيئاً، طائر متوحش أنسه في الوحدة (ص.186).

على أنّ تأثرهم بالحكيم والمعلم الأول جعل بعضهم، وليس كلهم، يحنون إلى الأُنس والمآلفة، حتى وإن كان "لا خير في الناس فإنّه لا بد من الناس"، فالقوم لا بدّ لهم من المخالطة حتى تستقيم فضائلهم، وتنضج عفتهم، وتكبر مكانتهم، ذلك أنّ من لم يخالط الناس ولم يساكنهم في المدن لا تظهر فيه العفة ولا النجدة ولا السخاء ولا العدالة، بل تصير قواه وملكاته التي ركبت فيه باطلة، لأنّها لا تتوجه لا إلى خير ولا إلى شر. فإذا بطلت ولم تظهر أفعالها الخاصة بها صاروا بمنزلة الجمادات والموتى من الناس (ص.189). هذا مذهب كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، فالإنسان يتعلم الفضائل التي يساكن بها الناس، ويخالطهم، ويصبر على أذاهم ليصل بها إلى سعادات أخر، فكيف يعفُّ ويعدل ويسخو ويشجع من فارق الناس وتفرد عنهم وعدم الفضائل الخلقية (...)[25]

لا شأن للإنسان بالتفرد والعزلة، لأنّه لا يعمر الأرض، ولا ينحو مذهبًا في الأنس والاجتماع، حسبه الكائن المدني بطبعه، المفطور على جبلةٍ، والمسكون بغيرية، فلا إنسانية بالعزلة، إنّما الإنسانية جمعية.

وكما أنّ الكثير من العرب ألفوا الأنس والجمع ومطالعة الناس حتى وإن كانوا ما كانوا عليه، فإنّ بعضهم الآخر مدحوا الوحدة ووجدوا فيها ملذاتهم الحسية والروحية، فمنهم من طلبها حباً فيها، ومنهم من وجدها ضرورة حتى ينأى بنفسه عن شرور الناس وتبدل زمانهم. فهذا التوحيدي كان دائم الاشتكاء من زمانه، شديد الذم لعصره، حتى قال: "قد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النِّحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، مجتنفاً على الحيرة، محتملاً الأذى، يائساً من جميع ما ترى، متوقعاً لما لا بد من حلوله. فشمس العمر إلى شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص"[26]. ومازال حكماء العرب يطلبون الوحدة حتى وإن كانت عليهم بلية، وبالشر مقضية، فما وجدوا في الناس والأنس مزية، ومالهم عن العزلة من مفر أو مهرب، فقد تبدل الزمان بزمانٍ، وصار الوقت هارباً إلى الخاصة لا إلى العامة، "فهذا زمان وحشة، فالعاقل من اختار العزلة"[27]، فلا من مجيب ولا من قريب، وإذا جالست الناس وحدثتهم قالوا عنك أحمق، وإذا فارقتهم قالوا أخرق. ما أصعب الحصول على جليس، فتلك ضالة لا توجد، وما أعسر الأنس، فهو إلى المشقة أقرب، وإلى سكون النفس أبعد، فهذا فريد الدين العطار واصفاً وحدته: "ها أنذا أعاني آلامي وحيداً. وحينما أضع خبزي اليابس على مائدتي لا أجد إلا دمعي بلالاً، ولا أجد غير قلبي شواء... حسبي بلاغاً خبزي، وحسبي شرفاً قناعتي. إنّ الحق كنزي الذي لا يفنى، فكيف تأسرني منة؟ كيف أعبِّد قلبي لإنسان أو أتخذ أحداً سيداً؟ ما طمعت في طعام ظالم، ولا أهديت كتاباً من كتبي إلى غاشم. إنّما أمدح نور روحي. ولا غذاء لبدني إلا قوة هذا البدن. لشد ما حررت نفسي من الناس جميعاً"[28].

على أنّ من مذهبي "الانفراد" هذين، إما اعتقاداً أو انتقاداً، مذهباً وسطاً. مذهب ينحو نحو الاعتدال والتوسط، ويطلب الخير أيما طلبٍ، وينفر من الشر نفوراً، فهذا الجوزي يؤكد على العزلة، لكن عن الشر لا عن الخير، فليس الانفراد في ذاته محبوبًا، ولكن لغاية يقصدها، ومذهب يبحث عنه، وهو اتقاء الشر. وفي تجنب الشر حكاية طريفة حكاها وهيب بن ورد أنّه قال لوهب بن منبه: "إنّي أريد أن أعتزل الناس"، فأجابه: "لا بد لك من الناس وللناس منك، لك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعاً، أعمى بصيراً، سكوتاً نطوقاً"[29]. ومازال بعضهم يدعو إلى هذا المذهب الوسط لما فيه من خيرٍ وفضائل، وحتى لا يكون للعزلة والانفراد شر على صاحبه، فقد روى شقيق بن إبراهيم عن الزاهد إبراهيم بن أدهم ما يلي: "أوصى إبراهيم بن أدهم قال: "عليك بالناس، وإياك من الناس، ولا بد من الناس، فإنّ الناس هم الناس، وليس الناس بالناس، ذهب الناس وبقي النسناس، وما أراهم بالناس وإنّما غمسوا في ماء الناس". قال إبراهيم: "أما قولي "عليك بالناس": بمجالسة العلماء، وأما قولي "وإياك والناس": إياك ومجالسة السفهاء، وأما قولي "لابد من الناس": لا بد من الصلوات الخمس والجمعة والحج والجهاد واتباع الجنائز والشراء والبيع ونحوه، وأما قولي "الناس هم الناس": الفقهاء والحكماء، وأما قولي "ليس الناس بالناس": أهل الأهواء والبدع، وأما قولي "ذهب الناس": ذهب النبي وأصحابه، وأما قولي "وبقي النسناس": يعني من يروي عنهم النبي وأصحابه، وأما قولي "وما أراهم بالناس إنّما هم غمسوا في ماء الناس": نحن وأمثالنا"[30].

في الحَيرة والدهشة

أمر العرب في مسألة الحيرة محير فعلاً، فقد انقسموا إلى قسمين اثنين: الأول يذمها ويجعلها في مراتب الشك والظن والقلق، ويترحل بحاله إلى مراتب أقرب إلى اليقين الذي تستقر عليه أسس المعرفة والعلم، فالغالب عليهم طلب اليقين الذي لا يتزحزح، وأن يعطوا من المعرفة ما آنسها من وحشة الفكر، لذلك كان مسارهم ترحالًا من يقين إلى يقين، حتى يبدو لهم بمثابة المنزلة الكبرى، وتصير المعرفة إلى يقين لا تشوبه شائبة ولا تعكره طلعة سؤال أو بهرجة شك.

أما الثاني فكان إلى الشك أقرب، والحيرة أدنى، وقلاقل الفكر أصوب، فما كانت تستقيم لديه مسارات المعرفة إلاّ بالظن، ولا كانت تستوي لديه الفكرة إلا بالسؤال المستفز، ولا كان يطلب العلم إلا بعلم مضاد. وعلى الرغم من أنّ بعض حكماء العرب حدثوا وحُدثوا وعاشوا الحيرة بكل تلاوينها، وأشكالها، إلا أنّهم لم يطالوها راغبين، بل مكرهين مضطرين، ولم يعيشوها مقتنعين، بل ناقمين ساخطين. فالأصل عندهم اليقين الموقن، ولا تعلو فوقه علية إلا إذا كانت فوقه يقينية.

وهم عامة وإن قالوا: لا يقين إلا بعد حيرة، فإنّهم استتبعوا الحيرة بأسوأ استتباع، وما فكروا فيها بأحق تفكير: إيمان في يقين، ولا إيمان في حيرة، وحيرة سرعان ما يعقبها يقين، ولا حيرة يكون لها أن تتصل وتستديم وتطول (ص.253).

كثير هم من ذموا الشك وجعلوا موطنه مسكن الوحشة، فسبحان من عرفنا ما في الحيرة من الذلة، وما في الشك من الوحشة، وما في اليقين من العز، وما في الإخلاص من الأُنس[31]. وبعدُ، فقد طلب العرب اليقين حتى قالوا: "من عقل أيقن"، وكأنّنا بنفس العربي دائمة التوق إلى سكون لا قلق بعده، وطمأنينة لا خطر بعدها، ويقين لا ريب فيه، واستيقان لا مرية فيه، يبحث عما من شأنه مجلبة الأنس ومصرفة القلق، مذهبة الوحشة ومُسكِنة النفس.

ومع ذلك، فإنّ الحيرة مثلما استبدت بالكثير من الثقافات لم تسلم منها الثقافة العربية، أي تلك الحيرة المتصلة الدائمة التي لا يستهدي فيها عقل بهادٍ، ولا يسترشد بمرشد، بل هو تائه ضال للطريق، حيرة لا تقر فيها النفس بقرار، ولا تنتهي إلى نهاية. كتب ابن عربي في كتابه عقلة المستوفز، أنّ العرب كانوا أشد تحيراً في مجال الفكر، "فكانت الحيرة في أهل الأفكار منا أكثر من الأمم، ومن تعب من الفكر وقف حيث تعب. فمنهم من وقف في التعطيل، ومنهم من وقف في القول بالعلل، ومنهم من وقف في التشبيه، ومنهم من وقف في الحيرة فقال: "لا أدري"، ومنهم من عثر على وجه الدليل فوقف عنده فكلَّ عنده"[32]. فما دام هناك فكر، فلا كشف ولا تعويل، فإنّ من شأن الحيرة أن تكون ملازمة له على الدوام، "وما دام الفكر موجوداً فمن المحال أن يطمئن ويسكن"[33].

وهذا فريد الدين العطار الذي خطَّ مقالة في حيرة العالم وأمره منها، "أمر العالم خليط من الحيرة والحسرة، بل إنّه حيرة في حيرة في حيرة، وكل أمر فيه لا بداية ولا نهاية، مما أصاب السالكين بالعجز والحيرة، والسابقون الذين جدُّوا في سلوك طريق وفي تعقب هذا الأمر في كل وقت أصيبت أرواحهم بالحسرة وسيطر عليهم العجز والحيرة"[34]. وفي أمر الحيرة والشك حكاية طريفة رواها أبو الحارث المحاسبي قائلاً: "عملت كتاباً في المعرفة وأعجبت به، فبينما أنا أنظره مستحسناً، إذ دخل علي شاب وسلَّم وقال: يا أبا عبد الله، هل المعرفة حق للحق على الخلق، أو عكسه؟ قلت: حق للحق على الخلق، قال: هو أولى أن يكشفها لمستحقيها. قلت: بل حق للخلق على الحق. قال: هو أعدل من أن يظلمهم. ثم سلَّم وخرج. فحرقت الكتاب وقلت: لا أتكلم في المعرفة بعدها أبداً"[35].

في القراءة والمطالعة

اشتهر الحكيم العربي بما اشتهر بالقراءة والمطالعة. حالهم حال المثال العربي: كان لا ينفك قلمه عن الكتابة، ولسانه عن المذاكرة، وفكره عن المطالعة. وما كان يقرأ وحسب، بل كان مدمناً على القراءة، لا يسأم ولا يمل، تجده في كل مرة يطالع كتاباً، أو ينظر فيه، أو يتأبطه، بل وينام معه حتى.

كانت لذة العربي في المطالعة والمذاكرة وطلب العلم، تكاد لا تلفيه إلا عاشقاً للعلم، ويكاد يطلب العلم إلا للعلم، لا لشيء سواه (ص.331)، غايته هي العلم ذاته، وفي ذاته. فتجده لا يضيع ساعة إلا وهو يطالع، ولا يترجل إلا ومعه كتاب، ولا يسافر إلا وهو محمل بكتاب أو مجموعة كتب. يحكي إسحاق ابن إبراهيم الموصلي قائلاً: "قال لي الأصمعي: لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة قال لي: هل حملت معك شيئاً من كتبك؟" فقلت: "حملت منها ما خف حمله". فقال: "كم؟" فقلت: "ثمانية عشر صندوقاً". فقال: "هذا لما خففت، فلو ثقلت كم كنت تحمل؟" فقلت: "أضعافها". فجعل يتعجب"[36]. وهذا أبو العلاء الهمذاني كان ديدنه أن يسافر إلى بغداد وأصبهان مرات ماشياً يحمل كتبه على ظهره، بل من العرب من قرأ وهو يسافر. وكان منهم من سافر من أجل طلب العلم، أو حتى البحث عن نسخة كتاب، فطاف الدنيا وما عليها بغية علمٍ ينفع.

الحال أنّ حكماء العرب خلَّدوا طقوساً وتقاليد لا يشق لها غبار، فقد قرأ العرب في المأكل، وفي المنام، وقرأوا وهم مستلقون مضطجعون، فقد حُكي عن المأمون أنّه كان ينام والدفاتر حول فراشه، ينظر فيها متى انتبه من نومه وقبل أن ينام، وأضف قبله معاوية الذي كان ينام ثلث الليل ثم يقوم فيقعد ويحضر الدفاتر فيها سر الملوك وأخبارهم، وبعده كان الرشيد يسافر وهو محمل بالكتب إلا ما خف منها: ثمانية عشر صندوقاً فقط!

عجباً لهؤلاء العرب، كانوا مهووسين بالقراءة حد الإفراط، ولا تجد لهم الأعذار في ظروف القراءة وشروطها، فكل وقت وحين صالح للقراءة، حتى ابتكروا ما لا يخطر على بالٍ من وضعيات القراءة وظروفها. فقد كان منهم من يمل ويسأم من القراءة، فيداوي ضجر القراءة بالقراءة، ويستريح من القراءة بالقراءة، فتجده يغير الكتب والدفاتر التي كان منهمكاً فيها، بكتب أخرى يطالعها ويستمتع بها. يحكي العيدروس في كتابه النور السافر، يقول: "قال علامة العصر ومفتيه أحمد بن عبد الرحمن الناشري أبقاه الله تعالى: كان القاضي المشار إليه إذا سئم من القراءة والمطالعة استدعى بمقامات الحريري فيطالع فيها ويسميها طبق الحلوى !" (ص.348).

بلغ ولع العرب بالقراءة مبلغاً لم تكن له سوابق من قبل، إلى درجة أنّ بعضهم أصيب بالجنون من شدة القراءة والإعجاب بها والإقبال عليها، فهذا محمد بن الوليد النحوي التميمي، بلغ به حب كتاب سيبويه والشغف به حداً جعله يوصي، لما حضرته الوفاة، أن يدفن معه[37]. ومنهم من دخل مدارج الصوفية والزهد حتى جعل الكتب مطلبه وغايته، فهذا أبو محمد الزبيدي الأندلسي بلغ مبلغ الحب في القراءة لدرجة أنّه قال عن كتب الجاحظ، ذلك المجنون الآخر بالكتب، ما قاله: "رضيت من الجنة بكتب الجاحظ عوضاً عن نعيمها"[38].

ولم يكن حكماء العرب محبين للكتب جماعة، بل منهم من تخصص في قراءة كتب بعينها، أو علمٍ واحدٍ، فتجد الحكيم العربي يتأبط كتاباً واحداً لا يفارقه، فقد كان أبو محمد بن يحيى الأغماتي بارعاً في علوم اللغة ونحوها، حتى أنّه كان أعلم الناس بكتاب سيبويه، ومنهم من حفظه عن ظهر قلب فكان يقال: "قرأ فلان الكتاب" نسبة إلى كتاب سيبويه، حتى أنّ أبا مروان النحوي برع في علم اللسان، وارتقى ذروته، واعتلى درجته، فعكف على كتاب سيبويه ثمانية عشر عاماً لا يعرف سواه[39]. وهذا ابن بطلان يحكي عن أستاذه الحكيم أبي الفرج أنّه بقي عشرين سنة في تفسير كتاب ما بعد الطبيعة. والآخر عالم العقليات ركن الدين بن القوبع المالكي: "كان لا يخلّ بالمطالعة في كتاب الشفاء لابن سينا كل ليلة. قال ابن سيد الناس: فقلت له يوماً: "إلى متى تنظر في هذا الكتاب؟" فقال: "أريد أن أهتدي"[40]. وتكفينا هنا قصة الشيخ الرئيس ابن سينا مع كتاب ما بعد الطبيعة، إذ يحكي عن نفسه: "(...) ثم عدلت إلى العلم الإلهي، وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهم فيه، والتبس علي غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظاً. وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي وقلت: "هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه". وإذ أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في سوق الوراقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه. فعرضه عليّ فرددته رد متبرّم، معتقداً أن لا فائدة من هذا العلم. فقال لي: "اشتر من هذا فإنّه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم، وصاحبه محتاج إلى ثمنه"، واشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. ورجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته، فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنّه كان لي محفوظاً على ظهر قلب. وفرحت بذلك (...)[41].

في الكتابة والتقييد

لم يكتف العرب بالقراءة فقط، على حال أنّهم من حضارة "اقرأ"، بل دونوا وكتبوا ما قرأوه، فكان لهم باع كبير، ومخطوطات طويلة وعريضة في الكتابة. على أنّ مذهبهم في شأن الكتابة انقسم إلى شقين: منهم من رفض الكتابة كلية ولم يشغل نفسه بها، ومنهم من ألَّف ودوَّن، وماكف عن الكتابة ولا ندم (ص.378).

خذ بنا بداية إلى الموقف الأول. نجد هنا ممن رفض الكتابة رفضاً، وجعلها في المراتب الأدنى للعلم والمعرفة، وأعطى للصوت والتعبير واللسان القوة اللازمة، لأنّه على الفصاحة أقدر، والبيان أبلغ. فمنهم من "لم يكتب سوداء في بيضاء قط"، ومنهم من تبرم من الكتابة أشد التبرم ونسج حولها الطرائف والحكايات. يُروى أنّ صوفياً دخل على خِلّه فوجد عنده محبرة فقال له: "استر عورتك !". وقد كان الكثير من الحكماء من لم يُعرف له مصنف أو كتاب، وهم كُثر، فهذا مثلاً، لا حصرًا، ابن النديم، وأبو قاسم الزمخشري، وهو غير المعتزلي، والطوسي، والإمام الحافظ الذهبي، والنحوي معاد الهراء...

والحال أنّ هؤلاء الذين تبرموا من الكتابة والتدوين إنّما كانوا يذمون تدوين المعرفة والعلم في الجلود والأوراق، ويفضلون البلاغة اللسانية والفصاحة البيانية، والتعبير والمناظرة حد الحفظ. فعلى ما للكتابة من أهمية في التدوين وحفظ الأفكار من الضياع أو النسيان، إلا أنّها تقتل الفكرة وتجمدها، فقد بدا مما بدا لهم أنّ الكتابة في ظاهرها تشريف، وأنّ باطنها للفكر تجميد. فتُفقد الكلام رونقه، وتُذهب جماله، وتحنطه حتى يذبل. يحكي التوحيدي في هذا السياق حكاية الصاحب بن عباد من حبه للسجع حد الحمقة، فكان أن أورد ما يلي: "قال ابن عباد لشيخ من خراسان في شيء ما جرى: "والله لولا شيء لقطّعتك تقطيعاً، وبضّعتك تبضيعاً، ووزعتك توزيعاً، ومزعتك تمزيعاً، وجزّعتك تجزيعاً، وأدخلتك في حر أمك. ثم وقف وقفة وقال: "جميعاً". على ما في هذه الحكاية من جمال لغة وحسن بديعٍ، ورونق بيان، إلا أنّ قراءتها ومطالعتها في الكتاب لا يشفي الغليل إذا ما قارناها بالمعاينة المباشرة، في ذلك قال أبوحيان: "ومِلح هذه الحكاية ينتثر في الكتابة، وبهاؤها ينقص بالرواية دون مشاهدة الحال، وسماع اللفظ، وملاحة الشكل في التحرك والتثني، والترنح والتهادي، ومدّ اليد وليّ العنق، وهز الرأس والأكتاف، واستعمال جميع الأعضاء والمفاصل"[42].

والعرب الممتنعون عن الكتابة هم على مذهب الحكيم سقراط، الذي كان يرفض التدوين، فكان من رأيه ألا تستودع الحكمة الصحف والقراطيس تنزيهًا لها عن ذلك. فالحكمة طاهرة مقدسة، والجلود والأوراق وما تلاها دنسة مدنسة، فلا ينبغي أن تُستودع إلا في الأنفس الحية. قال له تلميذه طيماتوس مرة: "لمَ لا تدعني أدوّن ما أسمع منك من الحكمة؟" فقال له: "ما أوثقك بجلود البهائم الميتة، وأزهدك في الخواص الحية ! هب أنّ إنساناً لقيك في الطريق فسألك عن شيء من العلم، هل كان يحسن بك أن تحيله على الرجوع إلى منزلك، والنظر في كتبك؟ فإن كان لا يحسن فالزم الحفظ".

وفي التنظير لمسألة تفضيل اللسان على التدوين، يخرج علينا العلامة الجاحظ بنظرية عميقة، محاولاً فهم لماذا تقدم "اللفظ" و"الصوت" على "الخط" و"الكتابة". فلاحظ أنّ للمسألة صلةً بمعنيي "الحضور" و"الغياب"، وأنّه تحت دافع الحاجة العملية، وتراتبية الأحوج فالأحوج، حدث تفضيل للحاجات الحاضرة المستعجلة على الحاجات الغائبة، فقال: "لما أن كانت حاجات الناس بالحضرة أكثر من حاجاتهم في سائر الأماكن، وكانت الحاجة إلى بيان اللسان حاجة دائمة واكدة، وراهنة ثابتة، وكانت الحاجة إلى بيان القلم أمراً يكون في الغيبة وعند النائبة –إلا ما خصت به الدواوين- فإنّ لسان القلم هناك أبسط، وأثره أعمّ، فلذلك قدموا اللسان على القلم"[43].

أما الموقف الثاني فنجد الجاحظ أقرب إليه، فقد رأى أنّ مخاطبة الناس بالمكتوب أنجع من مشافهتهم، فقال: "على أنّ قراءة الكتب أبلغ في إرشادهم من تلاقيهم، إذ كان مع التلاقي يكثر التظالم، وتُفرط النصرة، وتشتد الحمية. وعند المواجهة يُفرط حب الغلبة، وشهوة المباهاة والرياسة، مع الاستحياء من الرجوع، والأنفة من الخضوع. وعن جميع ذلك تحدث الضغائن، ويظهر التباين. وإذا كانت القلوب على هذه الصفة وهذه الحلية، امتنعت عن المعرفة، وعُميت عن الدلالة. وليست في الكتب علة تمنع من درك البغية، وإصابة الحجة، لأنّ المتوحد بقراءتها، والمتفرد بفهم معانيها، لا يباهي نفسه، ولا يغالب عقله"[44].

وفي ذلك ما علل به ابن الجوزي من أنّ الأفكار والخواطر تطير مثل الطيور، وتنسى وتمحى من الذاكرة، "ثم تُعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكي لا يُنسى (...) وكم خطر لي شيء، فأتشاغل عن إثباته فيذهب، فأتأسف عليه، ورأيت لنفسي أنّني كلما فتحت بصر التفكر سنح له من عجائب الغيب ما لم يكن في حسابه، فانثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه. فجعلت هذا الكتاب قيداً لصيد الخاطر (...)"[45].

ومن العرب من انشغل أيما انشغال بالتأليف والكتاب حتى أنّ أوراق تصانيفه ومؤلفاته تعادل أيام عمره كاملاً. فهذا ابن جرير حصل بعض تلاميذه على مصنفاته أيام حياته منذ أن بلغ الحلم إلى أن توفيَ وهو ابن ست وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته فصار منها على كل يوم أربع عشرة ورقة (ص.418). وذاك ابن حزم الأندلسي، الذي ذكر عنه ابنه أنّ مؤلفاته من فقه وحديث وأصول وملل ونِحل وغير ذلك من التاريخ والأدب والرد على المعترضين، نحو أربعمائة مجلد، تشتمل على ثمانين ألف ورقة تقريباً. وفي ذلك ما ذكر السيوطي عن أستاذه ابن مسعود البرعمي، فقال: "وأما تصانيفه في العلوم العقلية فلا تحصى، بحيث إنّي سألته أن يسمي لي جميعها لأكتبها في ترجمته"، فقال: "لا أقدر على ذلك". قال: "ولي مؤلفات كثيرة نسيتها فلا أعرف الآن أسماءها وأكثرها مختصرات"[46]. ورث السيوطي عن أستاذه التأليف والكتابة، حيث شرع في التصنيف وهو ابن السابعة عشرة من عمره. وقد عدَّ له المستشرق بروكلمان أربعمائة وخمسة عشر كتاباً مصنفاً ما بين مطبوع ومخطوط، وذكر له جميل العظم ما يربو عن خمسمائة وستة وسبعين مؤلفاً ما بين كتب ورسائل ومقامات، حتى أنّ تلميذه ابن إياس عَدّ له في تاريخه ستمائة مؤلف (ص.420)، فكانت بذلك حياته كلها تصانيف وكتابة وتأليف، حال لسانه يقول: "حياتي كتبي، وكتبي حياتي". وفي أمر التصانيف الكثيرة والمتنوعة حكاية طريفة عن الكاتب حمزة بن الحسن الأصبهاني، ذكره القفطي فقال: ولكثرة تصانيفه وخوضه في كل نوع من أنواع العلم سمّاه جهلة أصبهان "بائع الهذيان"[47].

في الترجمة والتفسير

العرب في دلالة لفظ "الترجمة" على مذهبين اثنين: منهم من ذهب إلى أنّها هي بنفسها كلمة معربة. ومنهم من بحث لها عن أصل في العربية ذاتها (ص.517). لكن الثقافة العربية الكلاسيكية تجاوزت مسألة الأصل وتعدتها إلى النظر في حرفة الترجمة أو صنعتها (ص.518). فقد بدا لهم أنّ الأمر ليس بالهيّن والسهل، وأنّه موجة عالية لا يتجاوزها إلا الحصيف النبيه، المتمكن من أصول اللغة وحروفها، وهو بهذا وذاك يدخل لُجة البحر بما له وما عليه، فما كان ممن اقتحم مغامرة الترجمة إلا وقلنا له: "هل ركبت البحر؟" استصعاباً لما فيها (ص.519)، واستغلاقاً لمضامينها، والتباساً لمعانيها.

أمَا إنّ العرب قد استشكلوا الترجمة جملةً وتفصيلاً، فذاك كان هو الأصل في ركوبهم إياها، فهذا الجاحظ يؤكد على استعصاء أمرها، بل استحالته في ترجمة الشعر، "والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوِّل تقطّع نظمه وبطل وزنه، وذهب حسنه وسقط موضع التعجب، كالكلام المنثور"[48]. وبالمثل يعرض أبو سليمان السجستاني مسألة استحالة ترجمة شعر هوميروس قائلاً: "وقد نقل اصطفن شيئًا من أشعاره من اللغة اليونانية إلى العربية. ومعلوم أنّ أكثر رونق الشعر ومائه يذهب عنه (في) النقل، وجلّ معانيه يتداخله الخلل عند تغيير ديباجته"[49].

أما من جهة الإمكان فقد كانت مسألة الترجمة أول ما بدأه علماء الكلام، فوضعوا الاصطلاح ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفاً لكل خلف، وقدوة لكل تابع. ولذلك قالوا: الجوهر والعرض، وأيسَ وليس، وفرقوا بين البطلان والتلاشي، وذكروا الهذية والهوية والماهية وأشباه ذلك[50].

وحتى إن كان العرب قد استشكلوا أمر الترجمة وجعلوه في مصاف الاستحالة والعسر، فإنّهم رأوا في إسحق بن حنين النموذج الأرقى والمعيار الأسمى في الترجمة الجيدة، فكانوا لها ناقلين، معتمدين عليها في نقولهم ومؤلفاتهم. بيد أنّ الحس الترجمي الذي جناه إسحق بن حنين جعله في كل مرة يعاود النظر في ترجماته وينقدها نقداً، فقد قال في ترجمته لكتاب في الفِرَق لجالينوس: "ترجمته وأنا شاب (...) من نسخة خطية مشوهة، ثم لما بلغت الأربعين من عمري طلب إليَّ تلميذي حبيش أن أصلحها بعد أن كنت قد جمعت قدراً من المخطوطات اليونانية، وعند ذلك رتبت هذه بحيث نسقت منها نسخة صحيحة قارنتها بالنص السرياني ثم صححتها. وتلك عادتي التي اتبعتها في كل ما ترجمته"[51]. هذا وقد كان الرجل واعياً بأهمية الترجمة عن اللغة الأصل وسماها "الترجمة من الرأس"، واعتبر أنّها "أبلغ" و"أنّ الأمر يكون فيها أكثر انتظاماً".

وكان أن وضعوا "معايير" للترجمة واشترطوها بمجموعة شروط كثيرة:

منها إتقان اللغة المنقول عنها إتقاناً (ص.526). فهذا حنين بن إسحاق عُرف عنه أنّه أحكم اللسان اليوناني إحكاماً لا مزيد عليه. ثم إتقان اللغة المنقول إليها، حتى وإن كانت لغته الأم، فقد رُوي عن حنين بن إسحاق أنّه تعلم اللغة العربية عن سيبويه، بل عن الخليل، وأنّه صنف في اللغة العربية تصانيف كثيرة وحسنة. حتى قال عنه ابن جلجل: "كان عالماً بلسان العرب، فصيحاً باللسان اليوناني جداً، بارعاً في اللسانين بلاغة بلغ بها تمييز اللسانين"[52].

أما ثالث هذه الشروط فهو المعرفة بالثقافة المنقول عنها. فقد كان حنين بن إسحاق عارفاً بعلوم اليونان مطلعاً على فنونهم، حتى أنّه لم يوجد شيء من كتب جالينوس إلا وهي بنقل حنين أو بإصلاحه لما نقل غيره، حتى قال عنه ابن أبي أصيبعة: "وإنّما ذلك لفصاحته وبلاغته، ولمعرفته أيضًا بآراء جالينوس، ولتمهره فيها"[53].

هذا وقد قسَّم العرب مسألة الترجمة إلى مدرستين اثنتين: الأولى هي مدرسة الترجمة الحرفية، والتي كانت تنقل الكلمات والمعاني حرفاً حرفاً، مخافة التحريف والزيادة والنقصان، فكان المترجم يأتي بكلمة من اللغة اليونانية، ويأتي بنظير لها في العربية فيثبتها، وهذه الطريقة تبدو رديئة لوجهين: أحدهما، أنّه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل كل كلمات اليونانية، ولهذا وقعت الكثير من الكلمات اليونانية على حالها في اللغة العربية. الثاني، أنّ خواص التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة أخرى دائماً، وأيضًا يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في كل اللغات (ص.532).

الطريق الثاني في التعريب: طريق إسحق بن حنين والجوهري، وحاله أن يأتي بالجملة فيحصل معناها في ذهنه ويعبِّر عنها في اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواء ساوت الألفاظُ الألفاظَ أم خالفتها (ص.532).

ومازال العرب يراجعون الترجمات تلو الترجمات فشككوا في بعضها، وفي رطانتها، وطغيان الركاكة والعُجمة عليها، نتيجة النقل الحرفي غير الملمّ بتلابيب المعنى واختلافه من لغة إلى أخرى، حتى اهتدوا إلى ترجمات أقرب إلى بلاغة اللغة العربية وفصاحتها وذلاقتها، وأجود في الدلالة والمعنى، ومثلُ ذلك تعريب عبارة أرسطو حول الصديق: "الصديق آخر هو هو". وأحسوا بالرطانة التعبيرية، فما كان منهم إلا أن استأنفوا تعريب التعريف، بالتجويد والتحسين والإبداع، حتى خرجت علينا ما يقارب العشرين عبارة لمقولة المعلم الأول: "الصديق آخر هو أنت"، أو "الصديق هو أنت إلا أنّه غيرك"، أو "الصديق آخر هو أنت، إلا أنّه غيرك بالشخص"، بل منهم من غيَّر العبارة الأرسطية على جملتها مبدعاً عبارة تساير وتوافق اللغة العربية في بنيتها وتركيبها ودلالتها فقيل: "قيل لبعض الحكماء: ما الأصدقاء؟ قال: نفس واحدة في أجساد متفرقة"، أو "قيل لبعضهم: صف لنا الصديق، قال: أنت هو وهو أنت إلا أنّكما جسمان بينكما روح".

ومازالت الترجمة تثير من الإشكالات والتساؤلات التي حازها العرب بالتحليل والتفسير تارة، أو بالاعتراض والنقد تارة أخرى، وهم في هذه أو تلك كانوا مشبعين بالحس الترجمي على اختلاف طرقه، وتشعب سبله ومناهجه، بل وحتى أولئك الذين اعترضوا عليها إنّما كانوا يؤسسون لها من داخل اللغة العربية لا من خارجها، فكانوا ينقدون الترجمة الحرفية التي ذابت في اللغة اليونانية أو السريانية أيما ذوبان وانصهار. فهذا أبو سعيد السيرافي النحوي وأبو بشر متّى المنطقي يناظران بعضهما بعضًا حول مسألة الترجمة والنقل واللغة: "أنت إذًا لست تدعونا إلى علم المنطق، وإنّما تدعو إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها وقد عفت منذ زمان طويل، وباد أهلها، وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصريفها، على أنّك تنقل من السريانية، فما تقول في معانٍ متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية، ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية؟

قال متّى: يونان وإن بدت مع لغتها، فإنّ الترجمة حفظت الأغراض وأدت المعاني، وأخلصت الحقائق.

قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أنّ الترجمة صدقت وما كذبت، وقوّمت وما حرفت، ووزنت وما جزفت، وأنّها (ما) التاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام (بأخص الخاص ولا) بأعم العام - وإن كان هذا لا يكون، وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني - كأنّك تقول: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه"[54].


[1] محمد الشيخ، كتاب الحكمة العربية، دليل التراث العربي إلى العالمية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2008، ص 37

[2] أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون، بيروت، دار الجيل، 1996، ج.1، ص ص 44-45

[3] علي بن محمد أبو حيان التوحيدي وأبو علي أحمد بن محمد بن مسكويه، الهوامل والشوامل، نشره أحمد أمين والسيد أحمد صقر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1951، ص 180

[4] أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد الشعراني، الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998، ص 111

[5] الجاحظ، رسائل الجاحظ: الرسائل الأدبية، قدم لها وبوبها علي بوملحم، بيروت، دار ومكتبة الهلال، 1995، ص 252

[6] أبو حيان التوحيدي، البصائر والذخائر، تحقيق وداد القاضي، 9 ج في 5 مج، بيروت دار صادر، ج7، ص 232

[7] الراغب الأصفهاني، تفضيل النشأتين وتحصيل السعادتين: الإنسان (وجوداً وقيمة، وغاية)، تقديم وتحقيق عبد المجيد النجار، بيروت دار الغرب الإسلامي، 1988، ص 204

[8] أبوحيان التوحيدي، سبق ذكره، ص 118

[9] ابن عربي، كتاب التراجم، تحقيق عبد الرحيم مارديني، دمشق، درا المحبة، بيروت، دار آية، 2003، ص 65

[10] فريد الدين العطار، منطق الطير، دراسة وترجمة بديع محمد جمعة، بيروت، دار الأندلس، 1996، ص 392

[11] أبوحيان التوحيدي، كتاب الإمتاع والمؤانسة: وهو مجموع مسامرات في فنون شتى، صححه وضبطه وشرح غريبه أحمد أمين أحمد وأحمد الزين، بيروت، صيدا، المكتبة العصرية، 1953، ص 52

[12] أبو سليمان محمد بن الطاهر السجستاني، صوان الحكمة وثلاث رسائل، حققه وقدم له عبد الرحمن البدوي، طهران، انتشارات بنياده فرهنك إيران، 1974، ص 328

[13] أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز، بيروت، دار المعرفة (د.ت)، مج 1، ص 42

[14] أبو حيان التوحيدي، رسالة الصداقة والصديق، عني بتحقيقها والتعليق عليها إبراهيم الكيلاني، ط2، دمشق، دار الفكر، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1996، ص 36

[15] الراغب الأصفهاني، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، من تراثنا، 4ج، بيروت، دار الحياة، 1961، ص 20

[16] عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، صيد الخواطر، القاهرة، مكتبة الصفا، 2004، ص 240

[17] الراغب الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 365

[18] الراغب الأصفهاني، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، ص 409

[19] أبو سليمان السجستاني، صوان الحكمة وثلاث رسائل، ص 145

[20] أبو حيان التوحيدي، رسالة الصداقة والصديق، ص 69

[21] أبوعبد الله بن قيم الجوزية، مدارج السالكين، تحقيق محمد حامد الفقي، بيروت، دار الفكر، 1988، مج 1، ص 109

[22] أبو النعيم بن عبد الله الأصبهاني، كتاب أدب الغرباء، نشره صلاح الدين المنجد، بيروت، دار الكتاب الجديد، 193، ص ص 80-87

[23] أبوحيان التوحيدي، كتاب الإمتاع والمؤانسة: وهو مجموع مسامرات في فنون شتى، ص 151

[24] أبوحيان التوحيدي، الإشارات الإلهية، تحقيق ودادا القاضي، ط 2، بيروت دار الثقافة، 1982، ص ص 80-85

[25] أبوعلي أحمد بن محمد بن مسكويه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، 2001، ص ص 34-35

[26] أبوحيان التوحيدي، رسالة الصداقة والصديق، ص 34

[27] الشعراني، الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار، ج1، ص 85

[28] فريد الدين العطار، منطق الطير، نقله عبد الوهاب عزام في: عبد الوهاب عزام، التصوف وفريد الدين العطار، مؤلفات الجمعية الفلسفية المصرية، 6، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1945، ص 58

[29] أسامة بن منقذ، لباب الآداب، تحقيق أحمد محمد شاكر، بيروت، دار الجيل، 1991، ص 320

[30] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها، ج6، ص ص 314- 315

[31] أبوعثمان عمرو بن بحر الجاحظ، رسائل الجاحظ: الرسائل الرسائل السياسية، قدم لها وبوبها علي بوملحم، ط3، بيروت، دار ومكتبة الهلال، 1995، ص 99

[32] محي الدين بن عربي، عقلة المستوفز، تحقيق ليبرج، لندن، د.ن، 1919، ص 90

[33] محي الدين بن عربي، رسالة إلى الرازي، تحقيق عبد الرحيم مارديني، دمشق، دار المحبة، بيروت، دار آية، 2003، ص 45

[34] فريد الدين محمد بن إبراهيم العطار، منطق الطير، ص ص 142-148

[35] المناوي، الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية: الطبقات الكبرى، ج1، القسم الثاني، 588

[36] أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، 1963. ج 5، ص 302

[37] القفطي، إنباه الرواة على إنباه النحاة، ج 3، ص 224

[38] السيوطي، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، مج 2، ص 41

[39] السيوطي، بغية الوعاة في طلب اللغويين النحاة، مج 2، ص 110

[40] ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، ج 4، ص 227

[41] أبو العباس بن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص ص 402- 403

[42] أبو حيان التوحيدي، مثالب الوزيرين: أخلاق الصاحب بن عباد وابن العميد، عني بتحقيقه إبراهيم الكيلاني، ط 2، دمشق، دار الفكر، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1998، ص 117

[43] أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، كتاب الحيوان، ج 1، ص ص 85- 86

[44] الجاحظ، رسائل الجاحظ: الرسائل الأدبية، ص 249

[45] ابن الجوزي، صيد الخاطر، ص 11

[46] السيوطي، بغية الوعاة في طبقات الغويين والنحاة، ص 117

[47] القفطي، إنباه الرواة على إنباه النحاة، ج 1، ص 371

[48] أبوعثمان عمرو بن بحر الجاحظ، كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، بيروت، دار الجيل، 1996، ج1، ص 75

[49] أبو سليمان السجستاني، صوان الحكمة وثلاث رسائل، ص 193

[50] أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، ط 4، بيروت، دار الفكر، (د.ت)، مج 1، ج 1، ص 139

[51] أبو زيد العبادي حنين بن إسحاق، كتاب العشر مقالات في العين، طبع النص العربي وترجمه إلى الإنجليزية مع بيان شرح المصطلحات ومعجم الأسماء الطبية ماكس مايرهوف، سوسة، دار المعارف، 1989، ص 29

[52] أبو داود سليمان بن حسان بن جلجل، طبقات الأطباء والحكماء، تحقيق فؤاد سيد، ط 2، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1985، ص 68

[53] ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص 238

[54] أبو حيان التوحيدي، كتاب الإمتاع والمؤانسة: وهو مجموع مسامرات وفنون شتى، ص ص 111- 112