مسالك التّأويل في تلقّي الفكر الخارجيّ


فئة :  مقالات

مسالك التّأويل في تلقّي الفكر الخارجيّ

1- صعوبات التّأويل:

يشبّه بول ريكور (Paul Ricœur) الصّعوبة الّتي يواجهها المؤوَّل - أثناء الدّرس والتّحليل - ظاهرة تاريخيّة ببناء نصب تذكاريّ تخليدًا للأموات؛ فالتّأويل - حسب وجهة نظره - معالجة الأفعال اللّغويّة والأقوال المتداخلة، ضمن ملفوظات لها موضعها التّاريخيّ، وتتفاعل في هذا المركّب مكوّنات مختلفة تؤثّر في التّأويل؛ أوّلها: الرّغبة في التّوضيح والتّبيين، ونشر مجموعة من الدّلالات المعروفة بغموضها، من أجل فهم أفضل من جانب المخاطب.

ثانيها: الاعتراف بأنّه من الممكن دومًا التّأويل بطريقة مختلفة للموضوع ذاته، وهو ما ينتج عنه قبول بسجال مع تأويلات أخرى مختلفة، سمّاها ريكور "صراع التّأويلات المتنافسة".

ثالثها: الرّغبة في دعم التّأويل الّذي يتبنّاه المؤوّل بحجج مقنعة.

آخرها: الاعتراف بأنّ وراء كلّ تأويل دوافع - شخصيّة وثقافيّة - معتّمة، لا تنضب[1]. وانطلاقًا من الآليات الأربع الّتي ضبطها "ريكور"، حاولنا النّظر في وجوه افتراق المسالك بالمؤولين، انطلاقًا من عيّنات تعرض - بالتّحليل والنّقد - مواقف مختلفة، افترقت بها السّبل، وهي تتلقّى الفكر الخارجيّ وتؤوّله؛ فأثّرت في أحكامها الظّروف التّاريخيّة والخلفيّات المذهبيّة والإيديولوجيّة، وهي - في إطار معادلة الصّراع على الحقيقة - تسعى إلى إظهار رأيها الأصلح لها؛ سواء باعتماد منطق المقدّس الّذي قد يحتكره فريق من المسلمين على حساب آخر، أم بمنطق الموضوعيّة العلميّة الّتي يسعى أصحابها إلى اعتماد آليّات المقارنة، والكشف عن المغالطات الإيديولوجيّة من أجل مواجهة التّأويلات المتنافسة للحقيقة التاريخيّة، فيكون تأسيس صور مختلفة عن الخوارج، نتيجة تفاعل هذه العوامل، ووليد كيمياء تأويليّة تتجدّد نتائجها باستمرار.

2- تأويل آراء المحكّمة[2] في المصادر الرّسميّة:

كانت صورة المحكّمة في المؤلَّفات التّاريخيّة "الرّسميّة" حمّالة وجهين متناقضين؛ فتبدو من جهة ذات أصول دينيّة عريقة، يمثّل القرّاء قسمًا كبيرًا من المنتمين إليها، ولكنّهم يبدون - من جهة أخرى - متشدّدين ومندفعين ومتناقضين، وقد سعت المصادر الأولى إلى ترسيخ صورة مرجعيّة للمحكّمة؛ فقد صوّرت تلك المصادر الخلاف بينهم وبين معسكر "عليّ بن أبي طالب"، قائمًا على أساس افتراق في مسالك التّأويل، وخروج عن صراط الإجماع، ثمّ تولّت كتب الفرق ما يشبه "الحملات الإعلاميّة" في عصرنا، لتشويه الفرق المعارضة عامّة، والمحكّمة خاصّة، وكان من أهمّ آليّات التّشويه: إشاعة استعمال لقب الخوارج، وترسيخ الاعتقاد بدلالاته السّلبيّة عن المروق، بتأكيد خروج أتباع هذه الفرقة عن السنّة النّبويّة منذ حياة الرّسولﷺ، وتوظيف الأخبار لترسيخ اليقين بأنّهم قد "ضلّوا ضلالًا بعيدًا"، بسرد حكاية ذي الثّديّة[3]، وقد حرصت المصادر ذاتها على إيجاد حبكة قصصيّة ذات وظيفة إقناعيّة، تجعل من "عليّ" حريصًا على قتل "ذي الثديّة" زمن حربه مع الخوارج، لتُكسب حربه شرعيّة تنطلق أصولها في الفترة النّبويّة، وتمتدّ آثارها في الحروب الّتي شُنّت عليهم.

لقد استكمل كتّاب الفِرَق ما دشّنته كتب التّاريخ الرّسميّ، من مسالك تأويل تحاملوا فيها على الخوارج؛ فركّز كتّابها على انقسام الخوارج، وتكفيرهم لبعضهم، إيحاء بأنّهم ضيّقوا من سعة الإيمان، وأفرطوا في اعتماد سلاح التّكفير ضدّ خصومهم المسلمين، مقابل تساهلهم مع أصحاب الدّيانات الأخرى؛ فقد بيّن "البغداديّ" (ت 429 هـ) أنّ الخوارج انقسموا إلى فرق "كلّ فرقة تكفّر سايرها"[4]، وقد زعمت الأزارقة أنّ كلّ كبيرة كفر وشرك، وأنّ دار مخالفيهم دار كفر، وزعموا أنّ كلّ من أقام في دار الكفر فهو كافر"[5]، وقد نتج عن هذا الغلوّ في التّكفير غلوًا في الحدود؛ إذ ينقل "ابن حزم" (ت 457 هـ) - مثلًا - قول العوفيّة، وهم طائفة من البيهسيّة: "إنّه لو وقعت قطرة خمر في جبّ ماء بفلاة في الأرض، فإنّ كلّ من حضر ذلك الجبّ فشرب منه، وهو لا يدري بما وقع فيه؛ فهو كافر باللّه تعالى"[6].

وقالت النّجدات: "من كذب كذبة صغيرة، أو عمل ذنبًا صغيرًا، قاصرًا على ذلك فهو كافر"[7]، وقالوا: "من ضعف عن الهجرة إلى عسكرهم فهو منافق، واستحلّوا دماء القعدة وأموالهم"[8]، وقالت طائفة من الصّفريّة بوجوب قتل كلّ من أمكن قتله من مؤمن عنده أو كافر"[9]، "وأباحوا دم الأطفال ممّن لم يكن في عسكرهم"[10].

ويعرض كتّاب الفِرَق - بالمقابل - مظاهر تساهلهم مع معتنقي الأديان الأخرى، فهم يحرّمون قتل من انتمى إلى اليهود أو النّصارى أو إلى المجوس، ويُوجد "ابن حزم" حجّيّة من الحديث النّبويّ لإثبات مروقهم عن الدّين، ووصف أعمالهم بإنذار النّبيّ: "إنّهم يقتلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان"[11].

وتكتمل قائمة الإدانة بإثبات قضيّة خطرة في حقّ الخوارج، تستهدف المنظومة الأخلاقيّة السّائدة، لا في بُعدها الدّينيّ فحسب؛ إنّما في امتدادها الاجتماعيّ أيضًا، عُرْفًا سائدًا وعادات راسخة، يبدو من الصّعب التّنازل عنها، فقد ذكر البغداديّ - مثلًا: "أنّ الميمونيّة ازدادوا كفرًا على كفرهم، بقولهم: إنّه يجوز نكاح بنات البنات، وبنات البنين، ونكاح بنات أولاد الإخوة، وبنات أولاد الأخوات"[12].

ويبدو تصديق مثل هذه الادّعاءات صعبًا، لما يُعرف عن العرب - عامّة - من رفضها القطعيّ لنكاح المحارم، ولما عُرف - عن الخوارج خاصّة - من تشبّث بالمرجعيّة القرآنيّة الّتي تحرّم صراحة مثل هذا النّكاح؛ فالأكيد أنّ مثل هذه التّهم الملفّقة، تروّج لإضعاف الشّرعيّة الدّينيّة الّتي سعى الخوارج إلى اكتسابها بآليّة الإقناع، بأنهم يطبّقون شرع الله، ويحتكمون إلى كتابه؛ فهم - في الأصل - قرّاء وصِلَتهم بالنّصّ القرآنيّ وطيدة بشهادة خصومهم، لهذا؛ فحتّى حديث المروق عن الدّين، لا يثبت تهمة مجانبة الدّين؛ بل الإفراط في التّعمّق المؤدّي إلى المروق، بالمقابل، اتّهم المتصوّفة أهل السّنّة والجماعة - مثلًا - أنّهم اكتفوا بقشر الدّين، ولم ينفذوا إلى لبّه، فقابلوا بين علوم القشر وعلوم اللّباب، وتلك تهمة تعدّ أخطر من تهمة المروق؛ إذ الفرق بيّنٌ بين من تعمّق حدّ المروق، ومن اكتفى بالقشر، ولم ينفذ إلى اللّب.

لقد حاولت كتب الفرق جَعْل الغلوّ في التّكفير تُهمةً تُلَاحق الخوارج، وتستوجب تكفيرهم بذلك، ولكنّهم لم يوفّقوا في خلق صورة منطقيّة متماسكة لهذه الفرقة، الموسومة بخروجها للقتال في سبيل الحقّ الّذي تؤمن به؛ فالصّورة تبدو متناقضة ومرتبكة، لهذا؛ فهي غير مُقنعة، يحاول أصحابها تشويه مفهوم الخروج إلى الحرب[13]، وهي صفة المجاهدين في الإسلام المبكّر، وصفة الشّجعان قبل الإسلام، بتحويلها إلى فعل خروج عن السّنّة والجماعة؛ فالخروج - في معناه الأصليّ - هو: ضدّ القعود والتّقاعس وتولية الأدبار للحرب، فحوّلت المصادر السّنّيّة دلالة الخروج - بذلك - من معانيها الإيجابيّة إلى مفهوم يخدم منطق السّنّة والجماعة، ويشرّع لحكّامها اضطهاد "المارقين"، فاستطاعوا بفضل سلطة التّأويل الرّسميّ الّذي عاضدته السّلطة السّياسيّة الحاكمة، أن يجعلوا من الخروج فعلًا سلبيًّا، يعني المروق عن الإسلام، والخروج عن الطّاعة، ومخالفة تعاليم الشّريعة، غلوّا في بعض المسائل الدّينيّة؛ كالتّكفير، واستباحة دماء المخالفين من المسلمين، بمن فيهم الأطفال، واستباحة نكاح المحارم، وهي تُهم يجد فيها أصحاب السّلطة - من السّنّة والجماعة - مُبرّرًا لإعدام المخالفين وقتلهم، ويصير احتماء الضّعيف بالعنف وسيلة للدّفاع عن آرائه ومبادئه، وسبيلًا للدّخول في دائرة مفرغة من العنف والعنف المضادّ، تحت رايات إسلاميّة يرفعها المتنازعون على الحقيقة الدّينيّة والمغانم السّياسيّة، ولكن، كيف انفتحت آفاق التّأويل لتلقّي الفكر الخارجيّ، وقد سدّت السّياجات الأورثوذكسيّة مسالكه، واحتكرت فهمه، باعتماد السّلطتين السّياسيّة والدّينيّة؟

3- انفتاح مسالك التّأويل، واتّساع دائرة التّلقّي:

لقد شقّت القراءات الاستشراقيّة مسالك جديدة للتّأويل، تفاعلت فيها ثقافة المؤوِّل مع النّصوص المؤوَّلة، فمنحت القراءات المهمّشة حظّها، وكشفت عن زوايا معتّمة، لم تكن القراءات الرّسميّة الّتي رسّخها أهل السّنّة والجماعة تسمح بالنّظر إليها، لذلك؛ فقد كانت ردود أفعالهم تجاه الاستشراق سلبيّة؛ إذ مثّلت تلك القراءات تهديدًا حقيقيًّا لمسالك التّأويل السّائدة، وفتحًا لمسارات أخرى للتّأويل، تُنهي احتكار فئة من المؤوّلين للحقيقة الدّينيّة، لكنّ ذلك لا يحجب عنّا أنّ قيمًا - كالحرّيّة والثّورة - كانت حاضرة في تصوّر المستشرق، فمثّلت فرقة الخوارج عيّنة من القيم الغربيّة الصّاعدة، الّتي يسعى المستشرق إلى إثبات أصالتها، بالبحث عن صورة مماثلة لها في التّراث الإسلاميّ، وقد أشاد "فلهاوزن" بمواقف الخوارج، وشروطهم لاختيار أمير المؤمنين، وعدّ دعوتهم إلى أن يصير من حقّ الأمّة إسقاط الحاكم الذي يحيد عن الطّريق المستقيم، وإقرارهم أنّ الإمامة تحقّ لمن تختاره الجماعة، أيًّا كان، ولو كان عبدًا أسود، تعبيرًا عن نزعة ديمقراطيّة دينيّة أصيلة، ثاروا بها على النّزعة الأرستقراطيّة الّتي تفرض أن يكون الخليفة قرشيّ النّسب[14]، وقد بيّن "فلهاوزن": أنّ مذهب الخوارج كان "تعبيرًا عن تيّار عميق الشّعور، في نفوس شديدة الإيمان، من هنا أيضًا، كانوا يمثًلون تيارًا أصيلًا في طبيعة تطوّر أيّ دين من الأديان، وإنْ اختلفت الأسماء في الدّيانات المختلفة، وخلاصة هذا التّيار: العودة إلى المقدّس الّذي أتى به، دون تأويل ولا ترخُّص،؛بل بتشدُّد في الفهم لا يقبل المساومة"[15].

لا ريب في أنّ ذاتيّة المؤوّل ورؤيته تنعكسان في تأويله، وأنّ مرجعيّته الدّينيّة تؤثّر في مواقفه من الفرق الإسلاميّة، لكنّ فضل الاستشراق العالميّ كان كبيرًا في إحداث تحوّل جوهريّ، أنصف المحكّمة، ومكّن من رسم صورة جديدة للخوارج، فقاد ذلك المسلمين أنفسهم إلى مراجعة مواقفهم السّائدة، ونقد المواقف السّلطويّة المدعومة بالمقدّس الدّينيّ؛ فقد عدّ "محمود إسماعيل" - مثلًا - الخوارج - على عكس ما كان سائدًا في القراءات السّنّية - "يمثّلون من النّاحية الدّينيّة، الفئة القليلة المؤمنة الّتي لا تقبل في الحقّ مساومة وإدهانًا، ولا غروّ في ذلك؛ فزعماؤهم من جماعة القرّاء والفقهاء، الحريصين على الالتزام بالكتاب والسّنّة، دون مواربة أو تأويل، جباههم قرحة لطول السّجود، وأيديهم كثفنات الإبل من طول العبادة"[16]، مقصده من وراء هذا المسلك التّأويليّ؛ تغيير الصّورة المشوّهة والزّائفة لفرقة الخوارج، إلّا أنّ النّاظر في أسباب تأليفه لكتاب "الحركات السّريّة في الإسلام"، يدرك أنّ التّأويل الذّاتيّ هو الّذي وجّه القراءة التّأويليّة، وجهة البحث عن الرّوح الثّوريّة الّتي انقلبت بها صورة الخوارج من الإدانة إلى الثّناء.

يقول محمود إسماعيل في مقدّمة الطّبعة الأولى لكتابه: "حفّزني على إعداد هذه الدّراسة؛ العمل الفدائيّ الّذي قام به نخبة من رجال منظّمة أيلول الأسود، إبّان دورة مونيخ الأولمبيّة في العام الماضي، ذلك أنّ الإمبرياليّة العالميّة والصّهيونيّة، تظافرتا لإبراز أنّ هذا الحادث عمل إرهابيّ فوضويّ، وانساق الرّأي العامّ العالميّ وراء تلك الادعاءات المغرضة، لتشويه النّضال المشروع لشعب فلسطين، متناسيًا الدّوافع الحقيقيّة الّتي ترغم المناضلين في الظّروف العصيبة، أن يمارسوا نشاطهم بصورة سرّيّة، قد تبدو إرهابيّة في تقدير القوى الّتي استهدفها النّضال"[17].

لقد كان دوره كشف النّزعة الاشتراكيّة الّتي اتّخذت من التّراث حقلًا لتبرير اختياراتهم الإيديولوجيّة، لكن، ورغم جلاء تلك النّزعة، كانت لهذه القراءات القدرة على الولوج إلى زوايا جديدة للحقيقة الدّينيّة، بعدِّها وسيلة للتّحريض على الثّورة، فغيّرت من وعي سائد كان التّديّن في مفهومه السّنّي السّائد فيه، خضوعًا لسلطة الله، والنّصوص الرّسميّة، والحاكم؛ فتلك القراءات الّتي تفاعلت فيها قيم الثّورة والحرّيّة مع مقولات الخوارج، صيّرت من الدّين ناطقًا بمقاصد المعارضين، بعد أن كان في صفّ السّلطة بجميع أشكالها - المادّيّة والرّمزيّة - لكنّ تدخّل ذاتيّة المؤوّل، الّتي حاولت الوصل بين العمل الفدائيّ الفلسطينيّ وأعمال الخوارج، تظلّ فتحًا لمسالك الآراء الانطباعيّة، ذلك أنّ ما فتحه المؤلّف - استحسانًا - من قنوات تواصل بين ثوريّة الأمس واليوم، هو ما سيمنح كثيرًا من المؤوّلين شرعيّة الوصل بين الخوارج والإرهاب استهجانًا.

أمّا قراءة جعيّط؛ فقد كانت تنزع - بحكم انتمائها إلى الحقل الأكاديميّ - إلى توظيف المناهج الحديثة في دراسة التّاريخ، لذلك؛ كان تصوّره لفرقة الخوارج ناطقًا برؤية تنوّعت مصادرها، ولم يكتف فيها بزاوية واحدة للحقيقة، لكنّ الموضوعيّة تظلّ نسبيّة في ظلّ رسوخ قراءات رسميّة، هيمنت وصيّرت كثيرًا من المفاهيم حقيقة تاريخيّة لا يمكن تجاهلها، فرأى أنّ مجادلة المحكِّمة تمتدّ كسلسلة من الاستدلالات المترابطة، تظهر في ما دار بينهم وبين ابن عبّاس، ثمّ بينهم وبين عليّ ذاته، وعدّها جدليّة تقود المخاطب - درجة درجة - إلى أن يقول: نعم. وتهبهم الحقّ في قتل عثمان، وإراقة دماء أهل الجمل، واستباحة دماء معاوية وعمرو بن العاص، باعتبارهما من الفئة الباغية الّتي تحدّث عنها الله في قرآنه، وأمر بقتالها، ومادام الله قد أصدر أحكامه؛ فلا يمكن لبشر أن يعترض على أوامره، وليس لهم التّدخّل في أحكامه، ومنطوق شريعته، وخلاصة هذا المسار: أنّ معاوية وأتباعه كفّار، ودارهم هي دار حرب، ولا وجه لقيام هدنة بينهم وبين المسلمين، أمّا عليّ؛ فقد رجع عن دينه - أي عن صراطه - الّذي كان قد دعانا إليه، الّذي أُريقت الدّماء من أجله، وتنازل عن لقب الخلافة، لهذا؛ فهو ملزم بالتّوبة، لكنّ وَسم صاحب كتاب الفتنة خطاب المحكّمة بأنّه ديالكتيك خطير، وعدّ الخوارج الأوائل مصابين بوسواس الاقتناع بكونهم أصحاب حقّ، وبقدر إطلاقه الأحكام استنادًا إلى رؤية عقلانيّة، أتاحتها له معارفه التي تسلّح فيها بالمناهج الحديثة لقراءة التّاريخ، فقد وقع تحت تأثير تيّار سنّيّ له سلطة الأحكام التي أطلقها حول الخوارج، وعدِّها فرقة مارقة، وأصحابها غلاة في استعمال سلاح التّكفير، وينزعون إلى الإفراط في استعمال العنف، لذلك؛ نجده متذبذبًا في خطابه؛ بين يقينه بأنّ المسار الحجاجيّ للخوارج مقنع ومفحم، وسلطة القراءات السّنّيّة الّتي تصنّف الخوارج في خانة الغلوّ والتطرّف والعنف، ومن ضمن تلك الثنائيّات؛ أحكامه الّتي تراوحت بين الإشادة بمنطق المحكّمة، وإدانة مستمدّة من مرجعيّة أخلاقيّة، (اقتناع/ وسواس، متماسك/ هذيانيّ، منطقيّ صارم/ حماسيّ أعمى، ...إلخ).

لقد أقرّ جعيّط بوجاهة الرّواية المنقولة عن البرّادي: بأنّ عليًّا وعد بمراجعة مواقفه من التّحكيم، وإلّا لما كان تصوّر اللّحاق به في الكوفة، لكنّه تراجع تحت ضغط الأشعث والأشراف الّذين ذكروه بعهوده والتزاماته، وخوّفوه من مصير مماثل لمصير عثمان، ولئن وجد جعيّط مبررّات لمواقف عليّ الّذي خضع لإملاءات الواقع وأحكام أصحاب النّفوذ والمال؛ فإنّ المحكّمة الّذين خرجوا من المدينة الكافرة - حسب تصوّرهم - اقتداء بهجرة النّبيّ، انكبّوا - في نظر جعيّط - "على إرهاب عدميّ، ينكر العالم؛ أي ينكر هذه الحياة الدّنيا والأمّة الإسلاميّة المنظّمة، على حدّ سواء"[18].

ونستنتج من ذلك: أنّ التّأويلات الّتي عنيت بالتّراث الخارجيّ، استطاعت رسم صور متناقضة لهذه الفرقة، ولم يكن هذا التّناقض سوى دليل على تفاعل مكوّنات مختلفة، أثّرت في وجهة نظر المؤوّل، ووجّهت آراءه وجهة محدّدة، وليس افتراق السّبل بين المؤوّلين - في وجه من وجوهه - سوى تعبير عن اختلاف وجهات النّظر، ومقاصد المؤوّل؛ فهي الغلوّ في التّكفير، وهي التّشبّث بالحقّ، وهي الثّورة، وهي الإرهاب، وهي تمثّل - في آنٍ واحد - ذروة التّعمّق في الدّين، ومثال المروق عنه.

لعلّ ذلك يثبت شرعيّة ما بيّنه "ريمون آرون"؛ فالفهم يستهدف - حسب رأيه - تملّك الماضي، لكنّه يظلّ مرتبطًا - دومًا - بذات المؤوِّل؛ فهو إنسان، فضلًا عن كونه عالمًا، والموضوعيّة الّتي يدّعيها غير مكتملة، لأنّها لا يمكن أن تتخلّص من آثار التّواصل الوجدانيّ، والمؤوِّل يعيش جدلًا مستمرًّا مع معطيات تاريخيّة، خضعت بدورها إلى كلّ مقوّمات السّرد، ويمارس نشاطه - دائمًا - في عالم غير متماسك، ويلاحق حقيقة عصيّة وزئبقيّة، ومسارات التّأويل متجدّدة ومتعدّدة، وإن كان الحدث واحدًا[19].


[1] انظر:

Paul Ricœur, La Mémoire, L’histoire, L’oubli, 1ere édition, Paris, Seuil, 2000, p 441, 442.

[2] هي التسمية الأولى التي أطلقت على الخوارج. وتعني أنّهم رفعوا شعار "لا حكم إلاّ لله" أثناء حادثة التحكيم.

[3] هو حرقوص بن زهير التميميّ الذي احتجّ على قسمة الرسول الغنائم إثر غزوة حنين. ويسمّى أيضا ذا الخويصرة.

[4]عبد القاهر البغدادي، الملل والنحل، ط4، بيروت، دار المشرق، 2006، ص 57

[5] المصدر نفسه، ص 63

[6] ابن حزم، الفصل في الملل والنحل، الفصل في الملل والنحل، ط2، بيروت، دار الجيل، 1996، ج5، ص 54

[7] المصدر نفسه، ج5، ص 52

[8] المصدر نفسه، ج5، ص 52

[9] المصدر نفسه، ج5، ص 52

[10] المصدر نفسه، ج5، ص 52

[11] المصدر نفسه، ج5، ص 52

[12] البغداديّ، الملل والنحل، ص 69

[13] تقول ناجية الوريمي بوعجيلة: "فمن حيث المفاهيم؛ نجد أنّ أكثرها شيوعًا، المفهوم الّذي أسّسه الخطاب السّنّيّ، ونجح في تكريسه، بكيفيّة أربكت الأتباع منذ القديم إلى العصر الحديث"، وهو: المجموعة الّتي خرجت عن دائرة الحقّ، بمخالفتها ما أجمعت عليه الأغلبيّة"، الإسلام الخارجيّ، ط 1، دار الطّليعة/ رابطة العقلانيّين العرب، بيروت، 2006م، ص 28

[14] انظر: المرجع نفسه، ص 9

[15] يوليوس فلهاوزن، أحزاب المعارضة الدّينيّة في صدر الإسلام (الخوارج والشّيعة)، ترجمة: عبد الرّحمن بدوي، مكتبة النّهضة المصريّة، مصر، ط 1، 1958م، ص 3

[16] محمود إسماعيل، الحركات السّرّية في الإسلام، دار سينا/ الانتشار العربيّ، مصر- بيروت، ط 5، 1997م، ص 18

[17] المرجع نفسه، ص 11

[18] هشام جعيّط، الفتنة جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكّر، ترجمة: خليل أحمد خليل)، دار الطّليعة، بيروت، ط 4، 2000م، ص 214

[19] انظر: Raymond Aron, introduction à la philosophie de l’histoire, 2éme édition, France, Gallimard, 1981, P P 154- 350.