مستقبل الحوار الثقافي: دروس الماضي ومتطلبات الحاضر


فئة :  مقالات

مستقبل الحوار الثقافي: دروس الماضي ومتطلبات الحاضر

1ـ عبرة الماضي (من أقصى المشرق):

يفتتح الشهرستاني (ت 1153م) كتابه الشهير "الملل والنحل" بالإعلان عن الدافع الذي حذا به إلى تأليف مثل هذا المصنف، فقال: "فلما وفقني الله تعالى لمطالعة مقالات أهل العالم من أرباب الديانات والملل، وأهل الأهواء والنحل، والوقوف على مصادرها ومواردها، واقتناص أوانسها وشواردها، أردت أن أجمع ذلك في مختصر يحوي جميع ما تدين به المتدينون، وانتحله المنتحلون، عبرة لمن استبصر، واستبصارًا لمن اعتبر".

إنها مهمة جليلة وعمل جبار، أن يعزم المرء على تأليف كتاب يجمع فيه كل ديانات العالم، ومذاهب أهله، ونظريات مفكريه، قصد استخلاص العبر والدروس مما سلف لهداية من خلف. وعندما يطالع المرء، مثل هذا الكم الهائل من الكتب والمقالات والمصنفات، سيجد نفسه حائرًا أمام الطريقة التي يلزم اتباعها قصد عرض الآراء، واختيار المنهجية المفترض أن تفي بالغرض. يزداد الأمر صعوبة، عندما نعي أن الأمر لا يتعلق ببحث علمي موضوعي محايد تمامًا، وإنما بالخوض في قضايا دينية وعقدية تتقاطع فيها التصورات الثقافية، وتتصادم فيها الرؤى الحضارية، وتتنافر فيها الخصوصية مع الكونية، فما الطريقة؟ وما المنهج؟

كان الشهرستاني على وعي بهذه الصعوبات، وكان يعلم أن الانزلاق نحو رفض الآخر أمر سريع الوقوع، وأن الانتصار لدينه وملته أو نحلته أمر يحصل عن غير روية وبشكل لاإرادي. لذا نبه القارئ في البداية إلى أنه سيورد آراء الآخرين ومذاهبهم ومعتقداتهم بنوع من الحياد والموضوعية قدر الإمكان؛ أي دون العمل على تشويه أفكارهم أو تبخيسها حقها أو إبراز أفضلية ما يعتقده أهل ملته على ما يعتقده الغير. فقبل أن يبدأ بعرض المقالات والمذاهب والآراء المختلفة، كتب توطئة يوضح فيها المنهجية التي اختارها، ثم نبه على أنه سيلتزم بأدبيات الحوار وأخلاقيات النقاش وكذا شرط الموضوعية الذي يقتضيه الخوض في مناقشة ثقافة الآخر، دون تشويه أو تحريف الخطاب عن مقاصده وغاياته. لذلك، فهو يوضح هذا الشرط قائلاً: "وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم، من غير تعصب لهم، ولا كسر عليهم، دون أن أبين صحيحه من فاسده، وأعين حقه من باطله. وإن كان لا يخفى على الأفهام الذكية في مدارج الدلائل العقلية، لمحات الحق ونفحات الباطل." (ص: 14)

كيف طبق الشهرستاني هذا المنهج الذي ارتضاه، وهذا الالتزام الذي قيد به نفسه كي لا يقع في الزلل؟

بدأ بتقسيم أهل الملل إلى من لهم كتاب محقق، مثل التوراة والإنجيل، ومن لهم شبهة كتاب كالمجوس والمانوية. ثم بعد ذلك، ينصرف إلى تحديد العلاقة بين الديانات السماوية الثلاثة، ويبين طبيعة الاختلاف الحاصل بينها. يذهب الشهرستاني إلى رأي متقدم ومتنور بخصوص هذه العلاقة، من خلال المعنى الذي أعطاه لعملية النسخ. فديانات التوحيد السماوية ترتبط فيما بينها تاريخيًا بعلاقة نسخ، إلا أن النسخ في الحقيقة ـ يقول الشهرستاني ـ ليس إبطالاً، بل هو تكميل. وهذا الموقف يذكرنا بما تقوله الدراسات الأنثربولوجية اليوم بكون العلاقة بين الثقافات هي علاقة تكامل وليست علاقة تنابذ؛ فالمجتمع المكتفي بذاته ولذاته هو مجتمع راكد، والتاريخ الراكد لا يتطور.

وإذا فهمنا علاقة النسخ باعتبارها تكاملاً وتكميلاً، فسيصبح الحوار ممكنًا، لأن جميع الأطراف ستكون حاضرة ومعنية بالنقاش الدائر. أما إذا فهمنا علاقة النسخ باعتبارها إلغاءً وإبطالاً، فهذا سيترتب عنه إقصاء الآخر؛ أي استحالة الحوار. يرتب الشهرستاني علاقة التكامل بين التوراة والإنجيل أولاً على لسان المسيح، يقول: "وقد قال السيد المسيح في الإنجيل: ما جئت لإبطال التوراة، بل جئت لأكملها. قال صاحب التوراة: النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص. وأنا أقول: إذا لطمك أخوك على خدك الأيمن، فضع له خدك الأيسر". أما العلاقة بين الإسلام والديانتين السابقتين، فتظهر بمثابة علاقة تكامل في صيغة جمع وتركيب، ويوضح الشهرستاني ذلك بالقول: "والشريعة الأخيرة وردت بالأمرين جميعًا: أما القصاص، ففي قوله تعالى: "كتب عليكم القصاص في القتلى"، وأما العفو، ففي قوله تعالى: "وأن تعفو أقرب للتقوى" ( ص : 214 ـ 215 ). علاقة الإسلام إذن بكل من المسيحية واليهودية هي علاقة نسخ تكاملي وليست علاقة نسخ إقصائي، وهي علاقة تركيبية، أو لنقل بلغة هيجلية هي علاقة جدلية (اليهودية = أطروحة، والمسيحية = نقيض الأطروحة، الإسلام = تركيب). هكذا فكر الشهرستاني في تاريخ الأديان، وقد كان في ذلك "هيجليًا" على الطريقة الإسلامية.

2 ـ عبرة الماضي (من أقصى المغرب):

لننتقل الآن من أقصى الشرق الإسلامي إلى أقصى غربه، ولننظر في مصنف آخر ينتمي صاحبه إلى ديانة أخرى. يتعلق الأمر بالفيلسوف اليهودي الأندلسي موسى بن ميمون (ت 1204م)، وكتابه "دلالة الحائرين" يشرح ابن ميمون أسباب الاختلاف بين الثقافات، ويستشهد بما قاله الإسكندر الأفروديسي ـ وهو شارح أرسطي يحظى بتقدير كبير لدى ابن رشد ـ في تعديد أنواع تلك الأسباب، يقول على لسان الإسكندر: "إن أسباب الاختلاف في الأمور ثلاثة:

ـ أحدها: حب الرياسة والغلبة الصادان للإنسان عن إدراك الحق على ما هو عليه.

ـ والثاني: لطافة الأمر المدرَك في نفسه، وغموضه وصعوبة إدراكه.

ـ والثالث : جهل المدرك وقصوره عن إدراك ما يمكن إدراكه". (ص : 68 / 96)

بعد هذا يضيف ابن ميمون سببًا رابعًا لم ينتبه إليه الإسكندر، ويعزو عدم الانتباه ذاك إلى اختلاف الظروف الثقافية والحضارية؛ فالأندلس عرفت تعايش ديانات متباينة، ونشأت علوم أصول دين خاصة بكل ديانة. مما أدى إلى ظهور الاختلاف بشكل أكثر وضوحًا، ونتج عن ذلك دخول في مناظرات ومساجلات قاسية أحيانًا (مثال ابن حزم في كتابه " الفصل في الملل والأهواء والنحل "). لهذا يضيف ابن ميمون: " وفي زماننا سبب رابع لم يذكره [ الإسكندر]، لأنه لم يكن عندهم، وهو الإلف والتربية، لأن الإنسان بطبعه " محبة ما ألفه"، والميل نحوه، حتى أنك ترى أهل البادية على ما هم عليه من الشعث وعدم اللذات وضيقة الأقوات؛ يكرهون المدن ولا يستلذون بلذاتها، ويؤثرون الحالات السيئة المعتادة على الحالات الصالحة غير المعتادة، فلا تستريح أنفسهم لسكن القصور ولا للباس الحرير ولا للتنعم بالحمام والأدهان والأطياب. كذلك يحدث للإنسان في الآراء التي ألفها ورُبي عليها، من المحبة والحماية لها، والاستيحاش مما سواها. وبحسب هذا السبب يعمى الإنسان عن إدراك الحقائق، ويميل نحو معتاداته". (ص: 69)

الإنسان بالتعريف هو "محبة ما ألفه واعتاد عليه "، ومن ثم فهو أميل إلى تفضيل دينه ولغته وجنسه وعرقه على ما سواه. وهذا الميل يفضي إلى طمس الحقائق، وعدم القدرة على رؤية المختلف والمباين، ولذلك يصاب المرء بالعمى الأيديولوجي. والمخرج الوحيد من هذا العمى لا يخلو من أمرين: إما الإمساك عن الخوض في مثل هذه الأمور العقدية، وإما التقصي والبحث الدقيق في جميع الملل (الديانات) والنحل (المذاهب) قصد الوقوف على تفاصيلها ودقائقها، والتزام الموضوعية في عرضها والحياد أثناء بيان أغراضها. إن اختيار المخرج الثاني، سيؤدي لا محالة إلى تكوين رؤية شمولية ونظرة عامة، ومن ثم ستكون المقارنة موضوعية إلى حد ما، مقابل الاتهامات المتبادلة بالزيف والتحريف.

وبناءً على هذه الرؤية القائمة على أخلاق البحث العلمي وعلى شرط الحوار الثقافي، سيظهر الجانب الإيجابي في الملل والنحل؛ أي ستبرز أوجه التشابه وأوجه الاختلاف؛ فما هو مشترك يمثل نقطة لقاء تجمعنا، وما هو مختلف يمثل الخصوصية الثقافية لكل أمة ولكل شعب. يقول ابن ميمون في هذا الصدد: "لا شك أن ثمة أشياء تعمنا ثلاثتنا؛ أعني اليهود والنصارى والمسلمين، وهي القول بحدث العالم الذي بصحته تصح المعجزات وغيرها. وأما سائر الأشياء التي تكلفت هاتان الملتان الخوض فيها، كخوض أولئك في معنى الثالوت وخوض بعض فرق هؤلاء في الكلام ... فلا حاجة بنا نحن إليها بوجه". (ص: 181)، وذلك لأن ديانة ابن ميمون لها قضايا خاصة تخوض فيها أيضًا، ولا تشترك فيها مع غيرها. هذه هي النقطة الحاسمة في التعايش بين الديانات والثقافات: إنها تتمثل في الاعتراف بالخصوصية والتمسك بالكونية. أما التعصب، فهو ـ عكس ذلك ـ يأتي من مطالبة الآخر أن يكون شبيهًا لا مختلفًا؛ أي أن يتخلى عن معتقده ويتبنى معتقدي. وهذه العملية تقتضي أولاً تدمير وعي الآخر، ثم بناء وعي جديد على أنقاض القديم ثانيًا. ولن يتأتى كل هذا إلا باجتثاث الهوية من أصلها، واقتلاع الإيمان الراسخ من جذوره. وليست عملية استبدال وعي بوعي آخر من السهولة والبساطة التي قد تخطر على بالنا لأول وهلة، بل إنها تتطلب الدخول في حروب معلنة وغير معلنة، وفي الحالات القصوى تتطلب إبادة حضارات بأكملها ومسخ ثقافات بأسرها.

3ـ عبرة الحاضر (جدل الراهن و المستقبل):

ما هي الصورة التي يمكن رسمها، إذ نتأمل حالنا اليوم؟ إنها ليست صورة سوداوية بالتأكيد، ولكنها صورة لا ترقى إلى مستوى ما كان لدى أسلافنا؛ فبالإضافة إلى التعايش الفعلي بين أصحاب الملل كأفراد واقعيين؛ أي كمواطنين يقطنون المدينة، كان هناك إلمام فعلي أيضًا بتفاصيل ثقافة الآخر ومعرفة بدقائق المسائل الخلافية؛ فإذا كان العالم الذي نعيش فيه اليوم يميل إلى تحطيم الحدود والحواجز عبر وسائل الاتصال وسهولة انتقال الأموال والبضائع والخدمات. مع ما تفرضه العولمة الزاحفة من حضور للآخر بيننا، فإن هناك نوعًا من الإقصاء المتزايد أيضًا: رفض ثقافة الآخر، إما باعتبارها زيفًا وتحريفًا، وإما باعتبارها غزوًا واستلابًا. وما يزيد في الطين بلة اقتران ثقافة الآخر بالحروب الاستعمارية، وما نتج عنها من نهب واستغلال للثروات المحلية. فإذا كان التاريخ يغير من دفق أحداثه بتسريعها تارة وإبطائها تارة أخرى، فإن الثقافة لا تسير على الوتيرة نفسها. إن مخيلة الشعوب ورؤية الأفراد تحتفظ بصورة الماضي القريب والبعيد على السواء، ومن ثم فهي لا تستجيب للتغيرات بتقلبات الأحداث نفسها.

إن العلاقة بين الثقافة والتاريخ هي علاقة معكوسة تقريبًا، ما دام التاريخ يوفر العناصر من خلال حركيتها، بينما تعمل الثقافة على تأسيس البنية الثابتة من أجل ترسيخ الذهنية العامة. وإذا كانت هذه الفجوة بين الثقافة والتاريخ تزيد من حدة التباعد بين الشعوب والحضارات، فإن عامل السياسة يتدخل بدوره ليؤججها تارة ويلطفها تارة أخرى. إلا أن رجل السياسة لا يملك الوعي الذي يوجد لدى المؤرخ في تعامله مع الأحداث والوقائع الراهنة والماضية على السواء. فالسياسي يعمل على تجنيد وسائل الإعلام وتأليب الجمهور من أجل استثارة الذاكرة الجماعية، عندما تتصادم المصالح الاقتصادية أو تتباين الرؤى الجيوسياسية. وإذا ما عادت تلك المصالح إلى التقارب مرة أخرى يغير السياسي خطابه ولهجته ورؤيته بصفة جذرية، ويعمل من جديد على تطويع الذهنية المترسخة لدى الأفراد. لكن الاستجابة تكون فاترة من طرف الناس، ولا يحصل التحول بالدرجة نفسها والمقاس نفسه. الفعل السياسي هو سير فوق رمال متحركة، بينما الثقافة عبارة عن ترسبات جيولوجية عميقة ومتجذرة، في حين أن التاريخ عبارة عن هزات عنيفة وارتجاجات باطنية، قد تغير من شكل الطبقات المترسخةـ صعودًا و نزولاً، أو التواءً وانعراجًاـ ولكنها لا تلغيها أبدًا ولا تطمسها نهائيًا.

هكذا نفهم دور المفاوضات على مستوى الحوار السياسي، ولكن من الصعب أن نفهم دور الحوار الثقافي والحضاري. إن المفاوضات تتم بين طرفين معروفين (رجال السياسة، رجال الأعمال...إلخ)، حول موضوع محدد (مشاريع اقتصادية، ترسيم الحدود، الأمن الإقليمي...إلخ). أما الحوار الثقافي، فنحن نجهل هوية المتحاورين كما نجهل أيضًا موضوع الحوار. فمن لديه الحق في الحديث باسم حضارة معينة، ومن الذي خول له الدخول في الحوار نيابة عن شعب بكامله أو أمة بأسرها؟ عم يتحاور المتحاورون: عن الدين أم عن التاريخ؟ عن الطقوس أم عن الذهنيات؟ عن الإنتاج الفكري والعلمي أم عن الرؤى المشتركة تجاه العالم والإنسان؟ عن الأفراد أم عن الجماعات؟ عن الماضي أم عن المستقبل؟

وإذا قمنا بعزل موضوع واحد من هذه الموضوعات المذكورة، فإننا سندخل مجال التخصص الضيق. وإذا فتحنا الحوار بصدد ذلك الموضوع، سندخل دائرة ضيقة تهم أهل المهنة، وسيصبح الأمر شبيهًا بعقد حلقات دراسية، لأن موضوع الحوار الثقافي شامل وعام، ومن ثم فهو يستدعي شخصًا متخصصًا في العام كي يتحدث عنه. هل يتعلق الأمر بالفيلسوف؛ أي المتخصص في العام وبالفلسفة، باعتبارها روح العصر معبرًا عنه بالأفكار كما يقول هيجل؟ هل سيقودنا هذا التوجه نحو التفكير في طريقة تكوين هؤلاء المفكرين أو المثقفين المتخصصين في العام؟

إن كان الأمر كذلك، فهذا يعني أننا أمام طريقين أو مسلكين لمعالجة قضية الحوار الثقافي، وهي القضية التي يظهر أنها مزمنة، إذ كلما كثر عقد اللقاءات والندوات، كلما ازدادت الحاجة إلى النقاش. وكلما ازداد ضغط التاريخ، كلما كان الحوار ملحًا.

ـ الطريق الأول: إصلاح البرامج والمناهج في أفق تكوين مواطن قادر على الاستماع إلى الآخر، والاعتراف بوجوده وحقه في أن يكون مختلفًا ومباينًا، ولن يتأتى الوصول إلى تحقيق هذا الهدف سوى بالانفتاح على معتقدات الآخرين وتصوراتهم، وتقديمها بشكل موضوعي دون تشويه أو تحريف تمامًا كما كان يفعل أسلافنا.

ـ الطريق الثاني: الاكتفاء الثقافي الذاتي؛ أي التمسك بالهوية والاحتماء بالخصوصية، ولكن بشرط عدم إلحاق الأذى بالآخر من خلال عقد مقارنات غير منصفة وإجراء مقايسات تقوم على المفاضلة، لأن هذا السبيل سيؤدي إلى تكوين مواطن لا يفهم سوى لغة القدح والقذف، بدل النقد الموضوعي والتفكير المعقلن القائم على عدم التسرع في إصدار الأحكام، والانطلاق من الأفكار الجاهزة والخطابات السيارة.