عوائق تدريس الفلسفة


فئة :  مقالات

عوائق تدريس الفلسفة

تقديم:

تقول لورانص كورنو: "يشتغل تدريس الفلسفة على الفكر داخل اللغة؛ أي على الأفكار داخل اللسان. ومسايرة لباشلار يمكن القول، إنّ العوائق الكامنة في مصادر اللسان، والتي تحول دون المفهمة، توجد أصلاً في طرائق استخدام اللسان.

إنّ مدرّس الفلسفة إذ يصغي لتلامذته بتعليمهم كيف ينتبهون إلى المقول والمكتوب، إلى النصوص والكلمات، إلى المعنى والمفهوم؛ فهو لن يفهم ذلك بالطريقة التي يفهم بها كلّ من الشاعر والمحلل النفسي، ولا أن يلاحظ بطريقة عالم الاجتماع نفسها. إنه يمارس حكمه الخاص من خلال هذه الدقة الشفافة في الكلمات والإحكام في المفاهيم، والذي يتعرض لسوء فهم على الدوام في مجال "التواصل". فكيف يتدبر أمره لكي يقوم بعملية الإفهام؟ ما هي المصادر التي يلجأ إليها ليقوم بالتفسير، وإعادة الصياغة، والاستعارة، والمثال؟ (محمد مزوز: تدريس الفلسفة في ملتقى الطرق، طوب إدسيون 2007 ص: 52).

هذا ملخص للعوائق التي تواجه مدرّس الفلسفة بالثانوي: إنه خوض لصراع مع النصوص، ومعركة بالكلمات، وجدل المفاهيم، والتقريب بين الأذهان والأعيان ... توتر دائم للذات، عدم رضا عن النتائج، اختبار دائم للمعلومات، استشراف مستمر للأفضل وللأنجع ... وهكذا.

ـ ما مصدر هذه العوائق؟

1- عائق اللغة:

يعود مصدر هذا العائق إلى كون الفلسفة لا تملك لغتها الخاصة، وليس لها مفاهيم تميزها بوصفها ممارسة معرفية عن الممارسات الأخرى. فالفلسفة خطاب يستخدم اللغة الطبيعية ويوظفها في سياق مغاير فقط، إلا أن السياق لا يجدد عناصر اللغة؛ أي المكونات اللسنية. ولهذا السبب، تظلّ موضوعات الفلسفة حبيسة الخطاب السيّار واللغة المتداولة. لاحظت فرانص لوران أنّ "خيبة التلميذ تأتي من أمله في اكتشاف موضوعات جديدة، فإذا به يلاحظ أننا نتحدث له عن عالم مشترك ... فقد سبق له أن تعرّف على الموضوعات الفلسفية في مجالات الأدب، من قبيل العنصرية والمخدرات والسعادة ... وهكذا ستتمثل مشكلة المدرس في كيفية الارتقاء بالتلميذ إلى إدراك معنى التساؤل الفلسفي؛ أي الطريقة التي تُسائل بها الفلسفة العالم" (F.Rollin , L’éveil philosophique, UNAPEC 1982, p.9 ) .

إنّ قضايا الحرية والسعادة والعدالة والوعي واللغة والفن والتاريخ ... ليست غريبة عن ذهن التلميذ، بل هي قضايا مألوفة لديه، وسبق أن تعرّف عليها في دراسته لمواد مختلفة. وسيكون هذا هو مكمن الارتباك لديه؛ أي عندما سيبدأ في دراسة قضايا مألوفة ولكن بطريقة غير مألوفة.

ـ كيف يصبح المألوف غير مألوف؟

إذا قمنا بتقطيع أيّ نصّ فلسفي إلى وحدات وفقرات، ودققنا النظر في مكوّناته، فلن يبدو غريباً ولا بعيداً عن النصوص المماثلة في الأدب والتاريخ والدين: هاهنا أفعال ومصادر، وحروف الجر والعطف، وأدوات الجزم والنصب والتوكيد والاستثناء، هاهنا جمل اسمية وفعلية، وأخرى إنشائية وخبرية، هاهنا الحال والبدل والصفة المشبهة، هاهنا الاستعارات والكنايات، هاهنا البراهين والمثالات ... و ما شئت من فنون اللغة وإبداعاتها. فأين الفلسفة من كل هذا؟

تقول شانطال دومونك: "إنّ اللقاء الأولي للتلاميذ بالخطابات الفلسفية يجعلهم في وضع غير مريح يشبه وضع المتكلمين بلغة أجنبية، حيث يترجمون الكلمات أو الجمل التي يتعرفون عليها ويضفون عليها معنى بعيداً جداً عمّا يفهمه المتكلم باللغة الأم. ففي وضعية مألوفة، يجد القارىء والمستمع نفسيهما أمام اطلاع على معنى مجمل المصطلحات أو المنطوقات بشكل متفرق، لذا فهما لا يعرفان التوجه العام الذي يرومه مجموع الخطاب: يمكن لما هو مقروء أو مسموع ألا يدرك إطلاقاً أو يتم ربطه بتساؤلات مختلفة تماماً عن تلك التي أفضت إلى إنشائه" (تدريس الفلسفة... ص: 71)

سيفاجأ مدرس الفلسفة بلغز غير مفهوم من الناحية البيداغوجية، ويتعلق بغياب ملكة التركيب لدى التلاميذ أو شبه غيابها. فالنجباء من هؤلاء لديهم قدرة على التواصل مع المدرس (إجابة عن تساؤلاته أو طرح لأسئلة خاصة ...)، غير أنّ إدراك المقاصد العامة لصاحب النص تظلّ متمنعة عن أفقهم ومجال تفكيرهم في الغالب الأعم. فبمجرد الحديث عن تحديد موقف الفيلسوف؛ أي الأطروحة الثاوية خلف اللغة يظهر الارتباك في الأجوبة (عادة ما ينقسم االفصل إلى فريقين، وكأننا أمام مباراة في كرة القدم). وفي أحسن الأحوال، يتبع التلاميذ الجواب الذي يقدمه التلميذ النجيب، بوصفه موضع ثقة لدى الجميع. وقد يحدث أن يتساهل المدرس في القبول بتعدد الأجوبة ـ بدعوى حرية النقاش والتعبير عن الرأي ـ فيتحوّل الفصل إلى ورشة لصناعة الضجيج. إنّ تسابق الأصابع المرفوعة في فضاء القسم ليس دليلاً على إصابة الهدف (أي الفهم و الإدراك)، كما أنّ الإحجام عن التسرّع في الجواب ليس دليلاً على انعدام الفهم، وقد يكون العكس صحيحاً أيضاً. لذا يلزم أن يكتسب المدرس نوعاً من الفراسة التي تجعله يميز بين الصمت الدالّ والصمت الذي ينمّ عن انسداد الأفق أمام تلامذته، وكذلك التمييز بين ضجيج الاستئذان بوصفه علامة على نوع من "الجذبة" أو "الفرجة"، وبين الحماس الذي يشعر به التلاميذ لإبداء الرأي بخصوص معالجة قضية ما تؤرق مضاجعهم فعلاً.

هناك إذن هُوّة عميقة تفصل بين التحليل والتركيب: قد يجري تحليل النصّ أو القولة أو السؤال خارج الموضوع (وهذا أمر يختبره الأستاذ المصحّح في أكثر من مناسبة)، لأنّ التحليل هو اشتغال على اللغة العادية. أمّا التركيب، فهو خلق جديد؛ أي تأليف لمعنى وإنشاء لتصوّر وبناء لموقف. فما هو الحاجز الذي يقف أمام التلميذ ويمنعه من العبور إلى التركيب عبر التحليل؟

تقدّمت شانطال دومونك بجواب مفاده أنّ هناك حلقات مفقودة بين نوعين من التداول للغة لدى التلاميذ: التداول العادي والتداول الفلسفي، تقول: "إنّ الحلقات المفقودة في هذه المرحلة من القراءة ( أي قراءة النص) هي من طبيعة لسنية ومفاهيمية، وتعزى للمسافة القائمة بين مرجعيات التلاميذ العفوية عن وجودهم الخاص، وبين المجال الثقافي الذي تتخّذ فيه هذه الإشكالات التي يصادفونها معنى خاصا"، ( تدريس الفلسفة، ص: 78). فكيف يمكن تقليص المسافة بين مرجعيات التلميذ من جهة، والفهم الخاص الذي تطرحه النصوص الفلسفية من جهة ثانية؟

عندما ينتقل التلميذ إلى التعليم الثانوي التأهيلي، ويجد نفسه مقبلاً على دراسة مادة جديدة تسمى الفلسفة؛ فهو يأتي مثقلاً بعدد هائل من المنظرات: "ينتظر الكثيرون من هذا التدريس (تدريس الفلسفة) أن يكون مجالاً متميزاً بمعالجة التساؤلات الكبرى المتعلقة بالشرط الإنساني، بنظام العالم، ومعنى الحياة... يأمل هؤلاء أن يعثروا في هذا التدريس على امتداد لـ "معارفهم و تجاربهم الشخصية"، بل أيضاً على أجوبة عن بعض الانشغالات التي يعتبرونها أساسية. إلا أنّ العلاقة بين مصاعب الحياة اليومية وإكراهاتها أو الخضوع للقوانين، وبين المعالجة الكانطية لمسألة الأخلاق أو تأملات روسو في الإرادة العامة، بين السعي نحو السعادة الفردية وبين أفكار الفلاسفة حول الخير المطلقة؛ إنّ تلك العلاقة ليست مدركة بطريقة مباشرة". (ص 77)

إنّ اللغة العادية لا تنتج سوى المعاني التي تتحمّلها التجربة اليومية؛ أي المخزونات المتراكمة في سجل الأجيال المتعاقبة والمعبر عنها بلسان الأدب أو التاريخ أو القانون أو الثقافة الشفوية. أما المعاني الفلسفية التي تختزنها نظريات الوجود والمعرفة والقيم، فهي تحتاج إلى تفكيك شفرة اللغة المستخدمة من طرف الفلاسفة؛ أي الانتقال من المعنى الأولي إلى المعنى المؤوّل. وهذا الانتقال يصطدم بالهوّة المذكورة، وهي الهوّة التي لا يمكن ردمها إلا بتحليل النصّ؛ أي بتفسيره وتأويله قصد الاهتداء إلى معناه الإجمالي عن طريق التركيب. والاهتداء عملية محففوفة بالمخاطر من كلّ جانب، لأنّ المؤشرات الدالة على الطريقة قليلة. ولذلك عادة ما يلجأ التلميذ إلى اختيار المؤشرات بطريقة عفوية، من خلال انتقاء بعض العبارات، ليجعل منها معبراً نحو الفكرة الرئيسة أو المعنى العام للنص.

2- عائق التبليغ:

يتبيّن من العائق الأول أنّ التلميذ في حاجة إلى مساعدة؛ فهو ضرير رغم أنه يبصر. من سيقود خطاه عدا شخص واحد هو المدرس؟ فمن هو مدرس الفلسفة؟ وما الحاجة إليه؟

عادة ما نسمع من يشتكي من تدني مستوى التلاميذ، غير أنّ أحداً لم يتساءل: "متى كان مستوى التلاميذ مرتفعا"؟، "في أية حقبة"؟، و"في أي زمن"؟. وعادة ما نسمع الأجوبة الجاهزة، فكلّ متسائل يعتبر أنّ المستوى كان مرتفعاً أثناء الحقبة التي كان فيها تلميذاً أو طالباً، هل هو الحنين إلى الماضي؟ هل هو الرغبة في استرجاع أيام الطفولة الزاهية؟ هل هو تقديم العزاء للذات بعد فقدان الأصدقاء والخلان أيام الجلوس على مقاعد الدراسة، والذي ولى إلى غير رجعة؟ لا أدري.

لكن ما أعلمه أنّ تقديم مثل هذه الأجوبة هو مدعاة أو حافز للتدخّل: تدخّل مدرس الفلسفة لتصحيح الوضع البيداغوجي. فمن أين يبدأ؟

من حسن حظ مدرس الفلسفة أنه ليس فاعلاً وحده في الساحة البيداغوجية، بل هناك فاعلون آخرون يحملون همومه، و يقدمون يدّ العون. من بين هؤلاء الفاعلين: هناك منظرو علوم التربية و البيداغوجيا والديداكتيك، والمؤطرون في مراكز التكوين، هناك المفتشون والمرشدون التربويون، هناك واضعو البرامج والمناهج، ومؤلفو الكتب المدرسية، ومؤلفو الكتب الموازية... وغيرهم. إلا أنّ هذا الحشد من الفاعلين لا يدخلون في تشكيل عناصر العملية التعليمية ـ التعلمية بشكل مباشر، بل هم يتوارون إلى الخلف ولا يظهرون أمام التلاميذ بشكل مباشر. وهذا يعني أنّ الفاعل التربوي الوحيد الذي يقذف به في أتون التجربة، ويقود سفينة الفصل الشراعية هو المدرس: إنه الملاح الذي يتحمّل مصير الكثير من النفوس المتعلمة، بالإضافة إلى مصيره الشخصي. سيجد المدرس نفسه في وضعية المايسترو الذي يتوقف عليه تسيير الجوق البيداغوجي والتربوي: الكلّ ينتظر قدومه كلّ صباح، لكي يبدأ "العزف الديداكتيكي". يبدأ تهييء الظروف الملائمة بدءاً من رئيس المؤسسة إلى ناظر الدروس ثم الحراس العامون والمعيدون، ويقرع الجرس مؤذناً بانتهاء عمليات التهييء ومعلنا إعطاء الكلمة للمايسترو. البدايات الأولى تكون دائماً حاسمة، صورة القائد أهم شيء في المشهد. ماذا سيفعل هذا القائد؟ ما المطلوب منه عملياً؟ المايسترو لايعزف، والقائد لا يحارب؛ ولكن من دونهما لا يمكن إنجاز أيّ شيء، وهذه مفارقة.

يجب على مدرس الفلسفة أن يطرح على نفسه في كل صباح سؤالاً بسيطاً قبل أن يتوجه إلى عمله: لماذا أنا ذاهب إلى المدرسة؟ هل من أجل إعطاء معرفة للتلاميذ؟ إذا كان هذا هو المبتغى، فمن الأفضل أن يعود إلى بيته، لأنّ مصادر المعرفة شتى، ويمكن للتلميذ أن يحصل عليها بسهولة من دون حاجة إلى المدرّس. توجد مصادر المعرفة الفلسفية في الكتب المدرسية، توجد في الملخصات والتمارين العديدة التي تزخر بها الكتب الموازية، توجد في الأنترنت... إلخ. فأين تتجلى مهمة مدرس الفلسفة بالضبط؟

إنها المهمة التي حددها كانط في قولته الشهيرة: "لا نتعلم الفلسفة، بل نتعلم كيف نتفلسف". كيف نتفلسف معناه: كيف نفكر فلسفياً؟ تكمن مهمّة مدرس الفلسفة إذن في تعليم التلاميذ كيف يفكرون: مهمة شاقة وعسيرة لا يعرفها إلا من اختبرها. والدليل على عسرها هو الخلط الذي اكتسته هذه المهمة في أذهان المدرسين خلال السنوات التي شكلت عمر تدريس الفلسفة. ففي زمن الدرس الماجسترالي، تجلت هذه المهمة في صورة المدرس بوصفه خطيباً مفوّهاً؛ فهو محور العملية التعليمية ومركزها، هو الأول والآخر في كل شيء، هو المرجع الذي لا غنى عنه معرفياً و سلوكياً، هو القدوة التي تحتذى. وكان من الطبيعي أن يهيمن الخطاب الأيديولوجي في هذه المرحلة من التدريس: كان كلّ شيء يدرّس ما عدا الفلسفة. طغى تاريخ الفلسفة على الفلسفة، هيمنت التأويلات الأيديولوجية على التحليلات الفلسفية. لم يكن أحد يعود إلى أمهات الكتب الفلسفية بقدر ما كانت الأمور تنحصر في الأحكام المبتسرة، والتصنيفات المتكلفة. كان الفيلسوف ينسب إلى مدرسة أو مذهب بعينه، سواء شاء ذلك أم أبى، سواء كان ذلك واقعاً أم مجرد افتراء أو توهم. كان الجميع يردّد هذه الأحكام أو تلك عن هذا الفيلسوف أو ذاك، ثم ينغلق الدرس الفلسفي وتختتم المهمة في ما يشبه دوغما Dogma جماعية. لم يكن هناك فرق بين مدرس الفلسفة والخطيب (النقابي أو السياسي أو الديني ..): يبدأ الدرس بعرض سريع لمضمون الحصة، ثم ينزلق الخطاب من درس الفلسفة إلى درس التاريخ (تاريخ الأفكار والمذاهب والمدارس والنظريات ...)، و لكن ليس قصد تحليلها ومناقشتها؛ وإنما قصد تصنيفها وفق مزاج المدرس أو توجهه أو انتمائه. يتحوّل المدرس في هذا الدرس إلى قاض يصدر الأحكام، ولكن أيّ قاض؟ إنه يتحوّل إلى حكم يفصل بين الفلاسفة: يكيل العتاب أو المديح، يعلي من شأن هذا، و يرفع من قدر ذاك. وبذلك تتحول حصة الفلسفة إلى مبارزة أو مباراة، لا بدّ لها أن تنتهي بغالب ومغلوب: يتوّج فيها الأبطال و يندحر فيها المنهزمون.

أمّا التلميذ فهو آخر من يفكر فيه: ماذا فهم؟ ما تأثير الدرس على سلوكاته و قناعاته؟ ما الذي تغيّر فيه بعد الخروج من حصة الفلسفة؟ لم تكن مثل هذه الأسئلة تجد مكانها في مخيلة مدرس الفلسفة آنذاك، لأنّ ذهنية الوعظ والإرشاد هي التي كانت سائدة. يبدأ الواعظ أو المرشد "درسه" هادئاً، ينتهي مجذوباً. يفكر بيديه أكثر مما يفكر بعقله، يشغّل دورته الدموية أكثر مما يشغّل خلاياه العصبية.

مع تآكل الأيديولوجيات وبداية الإعلان عن انهيارها، بدأ مدرس الفلسفة يهدأ قليلاً قليلاً، وبدأ يعود إلى رشده بالتدريج. فبعد انصرام زمن "الجذبة" الذي ساد خلال السبعينيات وإلى حدود منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت رياح التغيير البيداغوجية تهب على درس الفلسفة. وهكذا بدأ مدرس الفلسفة ينتبه شيئاً فشيئاً إلى ضرورة العودة إلى النصّ الفلسفي، و فتح مصنفات ديكارت وكانط وهيجل، وكذلك العودة إلى محاورات أفلاطون...وهلّم جرا. غير أنّ هذه العودة لم تكن سهلة، لأنّ مواجهة النص الفلسفي والدخول في حوار مباشر مع الفيلسوف كان أمراً يتجاوز طاقة المدرس، وهو الذي لم يُهيأ لذلك، ولم يفتح عينيه على ما خطه الفيلسوف بيديه. فكيف يمكنه تدريس أمور لم يألفها، وتحليل قضايا لا يملك العدة الديداكتيكية المساعدة على إنجازها؟

بادرت وزارة التربية الوطنية إلى إرسال ثلة من الأساتذة إلى بلجيكا للتمرن على هذه العدة البيداغوجية، وعادوا إلى كليّة علوم التربية بالرباط لتكوين الطلبة/الأساتذة. وكان البرنامج يركز على تحليل العملية التعليمية من خلال التدريس بالأهداف. بدأ الحديث يدور عن ضروة تغيير دور المدرس من كونه رمزاً للسلطة الممركزة إلى كونه مجرد مسيّر مكلف بإدارة النقاش والحوار، ومساعدة التلاميذ على الوصول إلى الأهداف بمجهوداتهم الذاتية. وكان الطالب/الأستاذ مطالباً بالإلمام الدقيق بنوعية الأهداف وكيفية تطبيقها أثناء الدرس، لأنّ الأهداف هي سلوكات قابلة للقياس والملاحظة، كما ذهب إلى ذلك ماجر وبلوم وتيلر... وغيرهم.

قوبل هذا التجديد البيداغوجي بالرفض في البداية، بدعوى أنّ الفلسفة ممارسة معرفية تحتوي على منهجيتها الخاصة، ومن ثمّ فهي في حلّ من أي عتاد أو عدّة بيداغوجية مستوردة، سواء من مادة أخرى ـ ولو كانت علوم التربية ـ أو من الخارج؛ أي من الغرب. ورفع هؤلاء المعارضون شعار الخصوصية ضدّ الكونية، ما دام واقع التلميذ المغربي يختلف عن واقع التلميذ الغربي، ومادام المجتمع المتخلف أو النامي يختلف عن المجتمع المتقدم. غير أنّ هذه الردود بدأت تهدأ بدورها، وأمسى الجميع يستأنس بالخطوات البيداغوجية الجديدة.

3- من بيداغوجيا الأهداف إلى بيداغوجيا الكفايات: تذليل العائق أم ترسيخه؟

لتذليل العوائق المذكورة سابقاً ـ أقصد عوائق اللسان- طرحت بيداغوجيا الأهداف طريقة عمليّة لردم الهوّة بين اللغة العادية و"اللغة" الفلسفية. وتتمثل هذه الطريقة في الانتقال من تمثلات التلميذ الأولية، والارتقاء به إلى التمثلات الفلسفية، مروراً بتمثلات وسيطة هي التي تتضمنها المعاجم. وجاء الكتاب المدرسي الذي وضع في التسعينيات من القرن الماضي مبنياً بهذه الصيغة الثلاثية في مقاربته لأيّ مفهوم من المفاهيم التي عالجها. كان الأمر يتعلق إذن، بالمفهوم أو الموضوعة la notion كما كنا نقول آنذاك؛ أي الانتقال من الدلالة الأولية لذلك المفهوم كما نجدها متداولة لدى عامة الناس، ثم الدلالة المعجمية كما نعثر عليها في الاشتقاقات اللغوية التي تتضمنها المعاجم، وأخيراً الدلالة الفلسفية كما تعرضها المعاجم المتخصصة في المصطلحات الفلسفية، (مثل معجم لالاند على سبيل المثال).

بعد هذا التقديم، يتمّ الانتقال إلى النصوص التي يتمّ رصفها وترصيصها بشكل يستجيب للعناوين الفرعية التي ينقسم إليها المفهوم أو الموضوعة التي نعالجها. غير أنه تبيّن بعد الممارسة، أنّ التركيز يتمّ على الدلالات المختلفة التي يحيل إليها المفهوم، بدل التركيز على تحليل النصوص الفلسفية التي تعالج ذلك المفهوم. وما زاد الطين بلّة هو تعامل التلاميذ مع الدرس الفلسفي، إذ بدل أن ينقلهم هذا الدرس إلى المستوى الفلسفي، عمل ـ مقابل ذلك- على سجنهم في شبكة الدلالات. وهكذا ضاعت الأهداف التي كان من المفروض الوصول إليها، وبخاصة الأهداف الكبرى أو ما سماه طوزي وجماعته الأهداف ـ النواة (الأهداف النووية) objectifs noyaux les، ونعني بها: الأشكلة والمفهمة والمحاجة.

بعد أن استكان مدرس الفلسفة إلى هذه الطريقة، وبعد أن جاءه طوق النجاة من جهة لم تكن في الحسبان؛ حلت به طامة جديدة: إنه التدريس بالكفايات بدل التدريس بالأهداف، وجد مدرس الفلسفة في الكتاب المدرسي السابق شيئاً يرضي نزوعاته، هو شبيه إلى حد ما بما كان سائداً فيما قبل عندما كان يدرّس تاريخ الفلسفة بدل تدريس الفلسفة. ونعني بذلك، أنّ التركيز على الدلالات العاميّة والمعجميّة والفلسفيّة أشبه ما يكون بعملية التأريخ لإنتاج المفهوم. فنحن فعلاً أمام تطور كرونولوجي، وهذا ما يرضي المدرس والتلميذ على السواء. وسواء كنا أمام تاريخ أو أمام كرونولوجيا، فإنّ الأمر يتعلق بمخاطبة الذاكرة. وعندما نقول الذاكرة، فإننا نقول الحفظ ثم الاستظهار؛ (أي الخصم العنيد لفعل التفلسف).

مع بداية المنتصف الثاني من هذا العقد، تمّ تغيير البرامج والمناهج. بدأ العمل بالتدريس بواسطة الكفايات بدل التدريس بواسطة الأهداف. وترافق ذلك مع تحرير التأليف في مجال الكتب المدرسية، بالإضافة إلى تعدّد الكتاب الواحد في المادة نفسها. فما هو الحلّ الذي يقدّمه هذا التدريس الجديد لتجاوز العائق المذكور (عائق اللسان)؟

يحدّد فيليب بيرنو الكفاية بوصفها "قدرة على التصرف بفعالية في نمط معين من الوضعيات؛ فهي قدرة تستند إلى المعارف، لكنها لا تختزل فيها. فلمواجهة وضعية ما، يجب استخدام موارد معرفية متكاملة ومتعددة، ومنها المعارف" (ص 12 من الترجمة العربية). فالتدريس بالكفايات إذن، لا يضع تحليل النصوص هدفاً له. أمّا الأهداف النووية، فما هي سوى جزء من الموارد التي يلزم استنفارها أو تحريكها عند الاقتضاء، قصد التكيّف مع وضعيات طارئة أو مستجدات غير متوقعة.

إذن، كيف يمكن تهيئة المعلم قصد التكيّف مع مختلف الوضعيات الممكنة؟ يقترح التدريس بالكفايات الانطلاق من الوضعية ـ المشكلة بدل الانطلاق من التمثلات الأولية، فما الفرق بين الانطلاقتين؟

هناك من يعتبر الكفايات جيلاً جديداً من الأهداف، غير أنّ مثل هذا الرأي يصطدم بهذا التباين الحاصل في نقطة الانطلاق. فالهدف من الوقوف عند التمثلات الأولية لدى التلاميذ هو التغلب على العائق اللسني كما ذكرنا سابقاً؛ أي الانتقال التدريجي من التداول العادي إلى التداول الفلسفي. بينما الهدف من الوقوف على الوضعية ـ المشكلة هو العكس تماماً؛ أي تجذير العائق والزيادة من حدّته. يقول أسطولفي Astolfi عن الوضعية ـ المشكلة إنها: "يجب أن تكون صعبة، حيث تلزم التلميذ بتحريك دراياته السابقة وتصوراته بشكل ينتهي إلى مساءلتها، وإلى بلورة أفكار جديدة "( نفسه: 72 ). وهذا يعني أنّ الوضعية المشكلة كما تطرحها بيداغوجيا الكفايات، تختلف عن المشكلة كما طرحتها الممارسة التقليدية، لأنّ هذه المشكلة "تطرح لكي تحل"، وتتخذ شكل تمرين. إنّ المهم في الوضعيةـ المشكلة هو العائق، فهو القادر على تحريك المعارف والمكتسبات للبحث عن حلول. لذا يحدّد فيليب ميريو أهمّ خصائص المقاربة بالكفايات في العناصر التالية:

ـ اعتبار المعارف موارد يجب تحريكها؛

ـ العمل المنتظم بالمشكلات؛

ـ ابتكار وسائل تعليم جديدة واستعمالها؛

ـ التفاوض مع التلاميذ حول المشاريع وتسييرها؛

ـ الاعتماد على التخطيط المرن والتوجيهي والتلقائية؛

ـ صياغة عقد ديداكتيكي وإبرازه؛

ـ الاعتماد على التقويم التكويني أثناء العمل؛

ـ التوجّه نحو أدنى فصل بين المواد.