الإمام أبو الحسن الأشعري ودوره في وأد فتنة الخلاف والفرقة


فئة :  مقالات

الإمام أبو الحسن الأشعري ودوره في وأد فتنة الخلاف والفرقة

الإمام أبو الحسن الأشعري ودوره في وأد فتنة الخلاف والفرقة

محمد رضا عبد الصادق محمد[1]

استهلال

لا شك أن العالم الإسلامي منذ بزوغ فجره وتشكُل دعائمه الأولى، شهد بواكير حركة فكرية، ونهضة علمية ازدانت بها سماؤه وأضاءت بها أرضه وترابه. تشهد لذلك الدراسات والبحوث العلمية التي عالجت وتطرقت للحالة الفكرية للعرب قبل وبعد ظهور الإسلام، بأن الدين الإسلامي كان دائمًا وأبدًا المورد الوحيد للثقافة والفكر والعلوم في البيئة العربية. ولا شك أيضا أن المكتبة الإسلامية، منذ أن أقام أعمدتها وأرسى لبناتها الأولى الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، تمتلئ بالعديد من النماذج التي أثْرت وأثّرت في شتى ربوع العالم، والتي كانت موضوعاً لإعجاب كثير من المستشرقين الأوروبيين.

يشهد لذلك أيضا، تلك الحركة العلمية التي ترأستها وأخذت بادرتها مكتبة الإسكندرية من خلال مشروعها نحو إحياء تراث القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، تحقيقًا ومراجعةً وفحصًا وترجمةً إلى شتى اللغات، لكى يعي العالم أجمع أن العالم العربي الإسلامي لم ولن يقف مكتوف الأيدي أمام تلك الحركة العلمية والثورات الصناعية والتكنولوجية التي حدثت، ولا نزال نلحظ أصداءها في العالم كله. إن العالم الإسلامي لا يزال يورق بالعديد من النماذج المضيئة كما كان تمامًا في الماضي من أمثال الإمام محمد عبده، الأفغاني، الكواكبي، محمد إقبال، مالك بن نبي، الطاهر ابن عاشور، الشيخ مصطفى المراغي والشيخ مصطفى عبد الرازق، وغيرهم الكثير والكثير، نظرًا لما قدموه من إصلاح وفهم وتأويل واستنباط قويم لرسالة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، ولما قدموه من إسهامات فكرية وتراثٍ بشري استفاد منه العالم أجمع على وجه العموم، والعالم الإسلامي على وجه الخصوص.

إن هذا التأكيد في الحقيقة وتلك الطمأنينة تشهد لها وعود وتنبؤات رسولها الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال: "النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها"، رواه أبو داود. وأشار أيضا إلى أن دور العلماء يكمن في ورثتهم للأنبياء، فهم الأجدر على فهم وصياغة رسالتهم وحملها إلى أمتهم وإلى الأمم الأخرى. يقول النبي الكريم في هذا الصدد: "إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر". رواه الترمذي وغيره.

ومن أجل هذا، ونظرا لما يُحاك لتلك الأمة الإسلامية من أخطار تحيط وتعبث بتراثها، ومن أقلام لا تزال تنال من علمائها ومفكريها، يأتي دافع كتابة المقال لكي يؤكد أن الأمة الإسلامية منذ نعومة أظفارها، شهدت ولا تزال ميلاد أئمة وزعماء للفكر الإنساني الذي يصلح لكل زمان ومكان، وكان الإمام أبو الحسن الأشعري واحدًا منهم؛ إمام أهل السنة والجماعة، والذي لا تزال أفكاره نبراسًا للعديد من كبريات المؤسسات الدينية والفكرية في شتي ربوع العالم.

الإمام أبو الحسن الأشعري، مولده ونشأته

أجد من الضروري أن أُذكر بأن الإمام أبا الحسن الأشعري (رضي الله عنه)، أغنى من أيّ قول وترجمة، فسيرته العطرة ازدانت بها كتب التراجم والأعلام؛ فهو أًعْرف من أن يُعّرف، فهو إمام أهل السنة والجماعة، وواحدًا من أعمدة هذا الفكر الإنساني الذي يعبر عن الأمة الإسلامية. لكن ما نود أن نشير إليه فقط هو ما أجمعت عليه جُلّ الكتابات والمؤلفات؛ الغربية والعربية منها: ما كتبه هنري كوربان في كتابه "تاريخ الفلسفة في الإسلام"، وجوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب"، وجوستاف دوجا في مؤلفه (تاريخ الفلاسفة وعلماء الكلام المسلمون) وغيرهم الكثير والكثير، من أنه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسي بن بلال بن أبي بردة عامر ابن صاحب رسول الله صلي الله عليه وسلم، أبي موسي الأشعري.

ولد الإمام أبو الحسن الأشعري سنة 260هـ بالبصرة، ونشأ رحمه الله سنّيًا، ثم درس الاعتزال علي يد أبي علي الجبائي وتبعه في الاعتزال، ثم تاب عن ذلك حتى رقي كرسيًا في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة، ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني! ومن لم يعرفني فإنني أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان: كنت أقول بخلق القرآن. وإن الله لا تراه الأبصار. وإن الأفعال الشر أنا أفعلها.... وأنا تائبٌ مقلعٌ معتقد الرد على المعتزلة مخرجٌ لفضائحهم ومعايبهم.

قال الفقيه أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى نشأ الأشعري فحجزهم في أصقاع السماسم. كما أشارت بعض المؤلفات التاريخية أيضا، وهي تتناول براعة الإمام أبي الحسن الأشعري، وجزالة عباراته وحجته القوية في الدفاع عن موقفه، حتى ضد أستاذه أبي علي الجبائي (ت303هـ) وزوج أمه، من أن هذا الأخير كان يقدمه في المناظرات: "وحاز الأشعري ثقة أستاذه الجبائي، حتى إنه كان يُنيبه عنه في حضور مجالس المناظرة، وفسر ذلك بأن الجبائي كان صاحب تصنيف وقلم إذا صنف، يأتي بكل ما أراد مستقصيا، وإذا حضر المجالس وناظر لم يكن بمُرْض، وكان إذا دهمه الحضور في المجالس يبعث الأشعري، ويقول له: "نُب عني، ولم يزل على ذلك زمانا"[2].

كما ينقل الإمام أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي (ت571هـ)، وهو أفضل من صنف في سيرة الإمام أبي الحسن الأشعري وذكر فضائله ومآثره، في كتابه الموسم (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلي الإمام أبي الحسن الأشعري)، فيقول: "وكان أكثر مناظرته مع الجبائي المعتزلي، وله معه في الظهور عليه مجالس كثيرة، فلما كثرت تواليفه، ونصر مذهب السنة وبسطه تعلق بها أهل السنة من المالكية والشافعية وبعض الحنفية، فأهل السنة بالمغرب والمشرق بلسانه يتكلمون، وبحجته يحتجون، وله من التواليف والتصانيف ما لا يحصى كثرة".[3]

كما قال أبو بكر بن فورك (ت 406هـ) رحمه الله: انتقل الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رضي الله عنه من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية، وصنف في ذلك الكتب، وهو بصري من أولاد أبي موسي الأشعري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلي الله عليه وسلم، وهو الذي فتح كثيرا من بلاد العجم منها كور الأهواز ومنها أصبهان، وكان نفر من أولاد أبي موسي الأشعري رضي الله عنه بالبصرة إلى وقت الشيخ أبي الحسن، منهم من كان يذكر بالرياسة.

لعل في ما ذكرناه آنفا، ينبئ بهذا السياق التاريخي الذي ظهر فيه الإمام أبو الحسن الأشعري. تشير كتب الحوليات التي تتناول السرد التاريخي لحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكذا تاريخ الأمة الإسلامية، ولا سيما التاريخ العقدي منها، إلى أنه كانت هناك ثلاث من كبريات المسائل التي عرضت للأمة الإسلامية في مهدها، وفي أول ابتلاء حقيقي هدد وحدتها واستقرارها، بعد أن كانت أمة واحدة اصطفت خلف نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وظلت على هذا عدة عقود. فكان هناك مبحث الإمامة، ومَنْ الأحق بالإمامة بعد وفاة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وأَمْر سقيفة بني ساعدة، وقضية التعلل بالقدر الذي بدأت بواكير ظهوره في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتشكلت أركانه ومبادئه في أيام عبد الله بن عمر، وأمر الخلاف الذي ظهر بين علي ومعاوية، والذي أظهر معه خلاف من نوع آخر حول مرتكب الكبيرة؛ أأمره إلى ربّه إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، وهل لا يضر مع الإيمان عمل كما لا ينفع مع الكفر طاعة كما تقول المرجئة؟ أمْ هو مخلدٌ في النار كما تقول الخوارج على تعدد فرقهم ومذاهبهم حول تلك المسألة كالأزارقة الذين "استباحوا قتل نساء مخالفيهم، وقتل أطفالهم، وزعموا أن الأطفال مشركون، وقطعوا بأن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار".[4]

يذكر الإمام محمد زاهد الكوثري (ت1378هـ)، في كتابه – مقدمات الإمام الكوثري- في تقدمته لكتاب تبيين كذب المفتري فيما نسب إلي الإمام أبي الحسن الأشعري، قائلا: "وكانت البصرة بندر الآراء والنحل. وقد سمع هناك معبد بن خالد الجهني من يتعلل في المعصية بالقدر فقام بالرد عليه ينفي كون القادر سالبًا للاختيار في أفعال العباد، وهو يريد الدفاع عن شرعية التكاليف، فضاقت عبارته وقال: «لا قدر والأمر أُنُف». ولما بلغ ذلك ابن عمر تبرأ منه فسُمّي جماعة معبد: قدرية، ودام مذهبه بين دهماء الرواة من أهل البصرة قرونًا، بل تطور عند طائفة منهم إلى حد أن جعلوا للخالق ما ينسبه الثّنوية إلى النور، وإلى المخلوق ما يعزونه إلى الظلمة".[5]

لكن المسألة التي وقعت في تاريخ أمة المسلمين، ولا تزال تعاني من أصدائها إلى الآن، وتوقف أمامها الإمام الطبري (ت310هـ) في تاريخه وجُلّ مؤلفات المؤرخين عبر العصور، تلك المعروفة بمحنة الإمام أحمد بن حنبل، بين المعتزلة وأصحاب الحديث وأهل السنة أتباع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. تلك المسألة التي استعانت بها طائفة المعتزلة بالعامل السياسي- ونقصد به هنا الخليفة العباسي المأمون (ت218هـ)، وأدى ذلك إلى امتحان الفقهاء والعلماء وأهل النظر من أجل عقيدتهم الاعتزال لا شك في ذلك)، بل أدى الأمر إلى الطعن على العلماء والزج بهم في غياهب السجون، فكان منهم من وقع في الأسر طيلة ثمانية عشر شهرًا، وكان منهم من سقط صريعًا من شدة التعذيب كالإمام محمد بن نوح.

وهنا يتجلّى دور الإمام أبي الحسن الأشعري في توحيد كلمة الأمة الإسلامية، وإعادتها إلى سابق عهدها كما كانت عليه في صدر الإسلام.

يكمن هذا الدور التاريخي الذي قام به الإمام أبو الحسن الأشعري من خلال النقاط الثلاث الآتي ذكرها:

-الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم؛

إن المتأمل للقرآن الكريم، يدرك سريعًا هذا التنوع، وأن قيمة الاختلاف هي الأصل الذي يجب أن يكون بنو البشر جميعهم. ولعل تلك القيمة وتلك الغاية النبيلة هي سنة الله عز وجل في أرضه: ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم، وكأن هذا الاختلاف هو مصدر ثرائهم وأساس ازدهارهم ونموهم. وبعيدًا عن خطاب القرآن الكريم ذاته عن قيمة الاختلاف وضرورة التنوع، فإن العلماء والمفكرين يخبرونا بأن القرآن الكريم ذاته تتعدد خطاباته وتتنوع وفقا لحال المخاطب، حيث إن آيات القرآن الكريم منها ما هو تستهل صدر آياته ب -يا أيها الناس- كما في قول الله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ"، سورة الانفطار آية رقم (6)، وقوله تعالي "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ"، سورة الانشقاق آية رقم (6). ومنها ما هو يبدأ ب -يا أيها الناس- كما في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"، سورة الحجرات آية رقم (13)، وكذا قوله تعالى: "يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، سورة البقرة آية رقم (21). من الآيات في القرآن الكريم ما يبدأ بقوله تعالى -يا أيها الذين آمنوا- كما في قوله تعالى: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ"، سورة المائدة آية رقم (101). ومن آيات القرآن الكريم ما مستهله خطاب تم توجيهه لأهل الكتاب، كما في قوله تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"، سورة آل عمران آية رقم(64). ومن هذه الآيات خطاب خاص بالكافرين كما في قوله تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" سورة الكافرون (1). ومن تلك الخطابات ما هو موجه للذين أشركوا "وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"، سورة البقرة آية رقم (23). وهناك الخطاب الذي يدل دلالة واضحة علي هذا التنوع المحمود، والذي يدل على الاختلاف الذي يرتقي بأية أمة كانت ملتها وأنماط عيشها وتشكلها، كما في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"، سورة البقرة آية رقم (62).

إن الرؤية القرآنية التي تتجلى في قول الله عز وجل: "وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، سورة الأنعام آية رقم (153)، وكذا تطبيق النبي محمد صلى الله عليه وسلم من خلال أقواله وأفعاله وتقريراته لتلك الفطرة الإلهية، طرأ عليها الكثير من التغيرات والتحولات عبر تاريخ الأمة الإسلامية المترامي الأطراف، فشهد هذا المفهوم الفطري واعتراه الكثير من التشوهات، أدت إلى انحراف الأمة الإسلامية عن جادة الطريق، حتى أصبحوا وأضحوا دويلات وقبائل وعصبيات بعد أن كانوا أمة واحدة تضمهم راية واحدة، وصدق فيهم قول النبي الكريم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها".

ولهذا، فإن الإمام أبا الحسن الأشعري كان واعيا بتلك المخاطر التي اصطرعت داخل الأمة الإسلامية، حيث التيارات والمدارس الكلامية، والأخطار الخارجية التي تتمثل وتتوالد تارة بعد أخرى جرّاء الفتوحات الإسلامية التي تتنامى، وانتماء عدد كبير من غير ملة الإسلام إلى الدين الإسلامي، فشكل ذلك خطرا آخر على المسلمين.

لقد جمع الإمام أبو الحسن الأشعري أمة الإسلام تحت راوية واحدة، راية أهل السنة والجماعة. ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري في مقدمة كتابه الموسوم [مقالات الإسلاميين واختلاف المصليين] قائلا: "اختلف الناس بعد نبيهم صلي الله عليه وسلم في أشياء كثيرة ضلل فيها بعضهم بعضًا، وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقًا متباينين، وأحزابا متشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم"[6]. إن في هذا الاعتراف وهذا المنهج الذي اعتمده الإمام أبو الحسن الأشعري نبراسًا تنتهجه الأمة الإسلامية عبر تاريخها المديد. لقد كان الإمام رحمه الله أول من استخدم مصطلح (الإسلاميين) في التراث الإسلامي برمته، ليفند بذلك دعاوى الفرق والتيارات المتناحرة عبر العصور، من كونها الفرقة الناجية وسائر التيارات الأخرى هي الفرق الضالة المنحرفة.

حري بنا أن نتوقف عند هذا التعبير الذي استجدّ علي واقع المسلمين بعد أن لم يكن، فلم يكن منهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته هو الفرقة والخلاف، بل على العكس تمامًا كما ذكر الباري تعالى في قرآنه الكريم: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ "، سورة (آل عمران)، آية (103).

لكن لعل هذا -أي تداول وانتشار تعبير الفرقة الناجية- أتى من حديث للنبي صلى الله عليه وسلم من أنه: ستختلف أمتي علي ثلاث وسبعين فرقة. لكن نجد من الأهمية بمكان أن نشير إلى بعض الملاحظات التي تتعلق بهذا الحديث، الذي يذهب الكثير من العلماء إلى رفضه، بل وتكذيبه، وذلك للاعتبارات الآتية:

أ- أن هذا الحديث لم يرد في صحيح البخاري (ت256هـ) ومسلم (ت251هـ)، وهو من أخبار الآحاد لا من الأحاديث المتواترة التي هي غير ملزمة في الاعتقادات والأمور التعبدية لدى بعض من علماء أهل السنة والجماعة، وإلى هذا ذهب العديد من علماء المسلمين في العصر الماضي والحاضر؛ ومنهم الإمام ابن حزم الظاهري الأندلسي (ت456هـ)، في كتابه الموسوم (الفصل في الملل والأهواء والنحل)، وكذا الدكتور حسن حنفي والشيخ عبد الحليم محمود في عصرنا، في كتابه "التفكير الفلسفي في الإسلام".

يذكر الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود قائلا: "إن هذا الحديث الذي ذكره الشهرستانى وتقيد به، وأورده البغدادي في الفرق بين الفرق، وجعله صاحب المواقف في مستهل بحثه عن الفرق، لم يتقيد ابن حزم في الفصل، ولم يتقيد به الرازي في كتابه اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، ثم إنه لم يُرو في واحد من الصحيحين: البخاري ومسلم".[7]

ب- أن هذا الحديث ورد بألفاظ أخر غير التي أوردناها آنفا؛ ومنها "كلهم في النار إلا الجماعة"، "كلهم في الجنة إلا الزنادقة"، وهذا ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور علي جمعه، مفتي الديار المصرية الأسبق، من أن هذا الحديث حدث فيه إدراج أو زيادة على أصله.

ج- أن كل فرقة من تلك الفرق الإسلامية، أخذت في ادعاء أنها الفرقة الناجية، فوجدنا أن الروايات لهذا الحديث قد اختلفت وفقا لرؤية كل فرقة من تلك الفرق. فوجدنا مثلا أن المعتزلة يرتكزون في تعليل اعتزالهم وانشقاقهم عن الصف الإسلامي، مستدلين برواية الحديث التالية: ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أبرّها الفئة المعتزلة[8]، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: من اعتزل من الشر سقط في الخير. ولا غرو أنهم استدلوا أيضا بآيات من القرآن الكريم لتبرير تلك التسمية (المعتزلة)، فاستدلوا بقوله تعالى: "وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا"، سورة مريم آية رقم (48)، وقوله تعالي "وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلً"، سورة المزمل آية رقم (10).

كما رأينا أن الإمام أحمد بن يحيى بن المرتضي (ت840هـ)، بعد أن أخذ في تقسيم الفرق الإسلامية إلى الشيعة والخوارج والمعتزلة والمرجئة والعامة والحشوية، يذكر بأن "الزيدية هي الفرقة الناجية"[9]. كما وجدنا أن الإمام عبد القاهر البغدادي (ت429هـ)، وهو إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، في كتابه الموسوم (الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم)، يقول إن الفرقة الناجية هي فرقة أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث[10]؛ وذلك بعد أن اعتمد على الحديث الذي ذكرناه آنفا، وقسم الفرق التي وردت في الحديث وفقا لعدد الفرق الذي تم النص عليه فيه، وذكرهم كالآتي: عشرون روافض، عشرون خوارج، عشرون قدرية، وخمس مرجئة، وثلاث نجّارية وبكرية وضرارية، وجهمية، وكرامية. لكن الخطورة في هذا التقسيم تكمن في أن أبا منصور عبد القاهر البغدادي بدأ في القول بأنه إذا كانت البدعة من جنس بدع المعتزلة، أو الخوارج، أو الرافضة الإمامية أو الزيدية، أو من بدع: النّجّارية، أو الجهمية، أو الضِرارية، أو المجسّمة، فهو من الأمة في بعض الأحكام، وهو جواز دفنه في مقابر المسلمين، وفي ألا يمنع حظه من الفيء والغنيمة إن غزا مع المسلمين، وفي ألا يمنع من الصلاة في المساجد. وليس من الأمة في أحكام سواها؛ وذلك أنه لا تجوز الصلاة عليه، ولا خلفه، ولا تحل ذبيحته، ولا نكاحه لامرأة سُنية، ولا يحل للسّني أن يتزوج المرأة منهم إذا كانت على اعتقادهم.

إن المنهج الذي اعتمده عبد القاهر البغدادي في التعامل مع الفرق الكلامية أو الاعتقادية يختلف تمامًا مع منهج الإمام أبي الحسن الأشعري (ت324)؛ إمام أهل السنة والجماعة ومؤسس المذهب الذي سارت عليه وتوحدت الأمة الإسلامية، في كتابه الموسوم (مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين)، حيث لم يعتمد على هذا الحديث، وربما لم يكن هذا الحديث معروفًا في عهده، فأظّل كل الفرق ووسمها كلها بطابع الإسلام وليست خارجة عنه، وأن هذا الاختلاف هو اختلاف التنوع الذي يهدف إلى إثراء الفكرة وداعم لحرية الرأي والفكر والإبداع. وكما هو معروف لدى المتبحرين في علوم الكلام والتاريخ الإسلامي، فإن الإمام أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري كان له بالغ الأثر في توحيد شتات الفرق والمذاهب في عصره، ولا سيما بين المعتزلة وبين أصحاب الحديث أتباع الإمام أحمد بن حنبل، حيث جمع الأمة الإسلامية على مذهب واحد وسطى بين آراء جل الفرق الإسلامية، سار بعدها وعلى هديها علماء الأمة المعروفين نذكر منهم على سبيل المثال أبو بكر الباقلاني (ت403هـ)، أبو إسحاق الإسفراييني (ت418هـ)، عبد القاهر البغدادي (ت429هـ)، أبو نعيم الأصبهاني (ت430هـ)، الخطيب البغدادي (ت463هـ)، أبو المعالي الجويني (ت478هـ)، أبو حامد الغزالي (ت505هـ)، محمد بن عبد الكريم الشهرستانى (ت548هـ)، أبو القاسم بن عساكر (ت571هـ)، فخر الدين الرازي (ت606هـ)، ابن دقيق العيد (ت685هـ)، عضد الدين الإيجي (ت756هـ)، ابن خلدون (ت 808هـ)، تقي الدين المقريزي (845هـ)، عبد الرحمن السيوطي (ت911هـ) وغيرهم الكثير والكثير من علماء الأمة، رضي الله عنهم وأرضاهم، ورحم الله إمام الأمة أبي الحسن الأشعري.

-التوازن والتكامل بين الدليلين: النقلي والعقلي

يمثل الإمام أبو الحسن الأشعري في منهجه الوسطي الذي تبناه بين كافة الفرق والمدارس الكلامية في ناحية الاستدلال موقفًا بلغ له الرضا فيه بين كافة علماء الأمة؛ على امتداد الأمة بواقعها الجغرافي ومحيطها الزماني؛ فبعد أن مالت المدرسة الاعتزالية ناحية العقل ميلًا جنح بها وببعض ربّانها إلى هاوية الضلال والانحراف عن جادة الإسلام؛ وذلك لتغليبها أداة العقل على النقل المقدس. وبعد أن مال أهل الحديث ناحية النص الديني، قرآنا وسنة، ميلًا غلب على رجاحة كل عقل، حيث لا يمكن إعمال العقل في أي نص ديني، مما أدى بالتالي إلى امتهان دور العقل في كثير من الأحيان.

"حرص الأشعري على إقامة توازن وتكامل بين الأدلة الشرعية والأدلة العقلية؛ فهو يبدأ بالأدلة الشرعية، ثم يضيف إليها ما يساندها ويدعم ما ترمي إليه من الأدلة العقلية. ويظهر هذا فيما ذكره من الآراء في الإبانة واللمع وغيرهما كرسالة أهل الثغر، بل إنه في بعض ما قدمه من الآراء كان يدعو إلى التزام الأدلة الشرعية، وعدم التغافل عنها، طلبا للنجاة من الوقوع فيما وقع فيه أهل البدع من مفارقة الأدلة الشرعية، وموافقة طرائق الفلاسفة. وقد بين في مواضع كثيرة- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوضح لجميع من بُعث إليهم من الفرق فساد ما كانوا عليه بحجج الله وبيناته، ودل على صحة ما دعاهم إليه ببراهين الله وآياته، حتى لم يبق لأحد منهم شبهة فيه، ولا احتج مع ما كان صلى الله عليه وسلم في ذلك إلى زيادة من غيرها".[11]

وعن قيمة العقل عند أبي حامد الغزالي (ت505هـ)، وهو أحد أقطاب السادة الأشاعرة، وأكثرهم أثرًا، ولا سيما في العالم الغربي في عصرنا الحالي، يذكر الأستاذ الدكتور مصطفى النشار في مقال له بعنوان "مكانة العقل والعلم عند الغزالي" قائلا: "لقد كان الإمام الغزالي من فلاسفة الإسلام المعتدلين الذين عرفوا للعقل وللحجاج العقلي مكانته، وعرفوا للعلم والعلماء أيا ما كانت تخصصاتهم مكانتهم السامية عند الله. وليس معنى أنه هاجم بعض فلاسفة الإسلام في بعض أقوالهم التي خالفت بعض أسس العقيدة من وجهة نظره، أنه تسبب بذلك في الجمود والتخلف؛ لأن العكس هو الصحيح؛ فلولا كتابات الغزالي وموقفه المعتدل الداعي إلى استخدام المنطق والحجاج العقلي في الدعوة وفى الفقه وعلم الأصول، ما كان للفلسفة والفلاسفة وجود في عصره ولا بعده، وخاصة أن حملة غلاة الفقهاء ضد الفلسفة والمنطق كانت في أوجها، حيث كانت هذه الحملات كفيلة بوقف الترجمة من اليونانية إلى العربية وبتوقف الفلاسفة عن التفلسف" !!

-حُمل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر

إن هذا الملمح الأخير، الذى لا يفوتنا أن ننوّه إليه، هو آفة الآفات، ورواجه في مجتمع يؤذن مما لا يدع مجالًا للشك بانهياره وزوال ملكه، وهذا درس يعلمنا إياه مسار التاريخ. لقد لجأت شتى تيارات الإسلاموية السياسية إلى تلك الآفة من جديد في العهد الأخير، على الرغم من أن حظر التكفير يعتبر أصلًا وركنًا بارزًا في عقيدة أهل السنة والجماعة من أصحاب الحديث والرأي؛ عقيدة الإمام أبى الحسن الأشعري (260 - 324 هـ/ 874 - 936 م)، حيث يقول: «ولا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر، والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره حلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم. والإسلام هو: أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله على ما جاء في الحديث والإسلام عندهم غير الإيمان».[12] يتحدث الإمام محمد عبده أيضا عن آفة التكفير، فيقول في كتابه "الإسلام بين العلم والمدنية والنصرانية": "إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر".

خاتمة

وهكذا ومن خلال تلك الملامح الثلاثة التي تشير إلى دور الإمام أبي الحسن الأشعري، وأثره في وأد فتنة الخلاف والفرقة، والتي تشير أيضا إلى أن الإمام بما كانت لديه من رؤية مستقبلية استطاع معها استشراف المستقبل، استطاع أن يترك للأمة الإسلامية منهجًا فكريًا وعقيدة وسطا تتوافق عليها، وتوحد بالتالي الفرق المختلفة، وتحمي بالتالي الأمة الإسلامية من الانزلاق في براثن الجهل والعصبية والغلو.

رحم الله الإمام أبا الحسن الأشعري ورضي عنه، وجزاه الله عنا وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء.

[1] باحث مصري.

[2] بحث للأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور، الأشعرية، موسوعة الفرق والمذاهب في العالم الإسلامي، وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 2015، ص89

[3] ابن عساكر الدمشقي، تبين كذب المفتري فيما نسب إلي الإمام أبي الحسن الأشعري، حققه وخرج احاديثه وعلق عليه بشير محمد عيون، مكتبة دار البيان، الطبعة الأولي، 2010، ص85

[4] عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم، تحقيق محمد فتحي النادي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولي، 1431ه-2010م، ص114

[5] الإمام الكوثري، مقدمات الإمام الكوثري، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الثانية، 1436ه/ 2015م، ص41

[6] الإمام أبي الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصليين، تقديم وتحقيق الدكتور نواف الجراح، دار صادر بيروت، الطبعة الأولي، 2006م، ص9

[7] الدكتور عبد الحليم محمود، التفكير الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، الطبعة الثانية، ص74

[8] انظر الإمام احمد بن يحي بن المرتضي، طبقات المعتزلة، عُنيت بتحقيقه سوسنه ديفلد-فلزر، بيروت-لبنان، 1961م، ص2

[9] الإمام أحمد بن يحيى بن المرتضي، مرجع سابق، تصدير الكتاب، ص(يد)

[10] الإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم، تحقيق محمد فتحي النادي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولي، 2010م، ص50

[11] بحث للأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور، سابق، ص96

[12] أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تقديم وتحقيق الدكتور نواف الجراح، دار صادر بيروت، الطبعة الأولى، 2006، ص171