مفهوم الشباب في البحوث السوسيولوجية "قراءة في سياقات النشأة ومسارات التداول"


فئة :  مقالات

مفهوم الشباب في البحوث السوسيولوجية "قراءة في سياقات النشأة ومسارات التداول"

مفهوم الشباب في البحوث السوسيولوجية

"قراءة في سياقات النشأة ومسارات التداول"

مقدمة

حظي مفهوم الشباب باهتمام بالغ الأهمية؛ إذ تناولته حقول معرفية عدة ابتداءً بالسياسة وعلم الاقتصاد وعلم النفس والسوسيولوجيا، وقد أفضى هذا الاستخدام الواسع للمفهوم إلى غموض والتباس في المعنى والقصد منه. وزاد من صعوبة هذا الأمر، كون هذه الفئة الاجتماعية غير متجانسة وغير متساوية، فهي تتباين وتختلف حسب المجتمعات ووضعها الاقتصادي والاجتماعي ومستواها التعليمي والثقافي.

سنحاول في هذا المقال، أن نحدد بشكل دقيق المقصود بمفهوم الشباب؛ وذلك بالوقوف بداية عند الدلالة اللغوية للمفهوم ومصدره اللغوي خاصة في معجم اللغة العربية ونميزه عن باقي المفاهيم المرادفة له، ثم بعد ذلك سنتطرق إلى مسألة ومفهوم »الشباب« كما تم تناولتها مختلف الدراسات والأبحاث والتخصصات العلمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ثم نحدد بعد ذلك بعض أهم الخصائص التي تميز هذه الفئة الاجتماعية، لنخلص في الأخير إلى قراءة كرونولوجية وحفرية في الأبحاث السوسيولوجية التي اهتمت بمفهوم الشباب.

أولاً: فـــي مفهوم الشباب

- محاولة في التحديد والتعريف

في المعجم اللغوي العربي يأتي أصل كلمة »الشباب« من "شبب"، وتعني الفتاء والحداثة، والجمع "شباب" و"شبيبة" ومرادفاتها كثيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: يافع ومراهق وصبي وغلام (منظور، 1979) يتبين من خلال هذه المرادفات التي استقيناها من المعجم العربي لابن منظور على أنها مرادفات لا تدل على مراحل عمرية محددة ومفصلة تساعدنا على إعطاء تحديد دقيق للمفهوم، بقدر ما نرى فيها خصائص جسدية وأخلاقية ونفسية ووجدانية مرتبطة بمراحل عمرية من حياة الشخص، ويمكن أن نعتبرها من هذا المنطلق خصائص مرتبطة بالقوة والنشاط والذكاء والشهامة. وقد ورد أيضاً في قاموس محيط المحيط للمعلم بطرس البستاني والمبني أصلا على لسان العرب لابن منظور ما يلي "شبّ النار؛ أوقدها وشب الشيء ارتفع ونما، وشب الغلام يشب شباباً وصار فتياً.

تتراوح هذه الكلمات التي تصف هذه الفترات العمرية في حياة الشخص بين مدلولات مختلفة، وسنرى أيضا من خلال المعجم اللغوي لابن منظور تواجد كلمة "المرهق" ومنها "المراهقة" وتعني الرجل المُتهم في دينه. و"الرهقة" هي المرأة الفاجرة، كما توجد أيضاً كلمة "صباء"، ومنها "صبي" وتعني الخروج عن دين القبيلة، ويقال "تصبى المرأة" أي خدعها وفتنها، وبالمقابل تحمل كلمة "فتى" معنى "الاكتمال" ليس الفتى بمعنى الشاب الحدث، إنما بمعنى الكامل والجزل من الرجال ومعناه أيضا الجد والامتناع عن اللعب. (منظور، 1979)

وإذا انتقلنا من سجل اللغة والمعاجم اللغوية إلى حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، فإننا نستنتج أيضاً صعوبة الوقوف عند تحديد دقيق للمفهوم؛ إذ كثيراً ما تجنح بعض الأبحاث عند تناولها للمفهوم بالتركيز على بعض العوامل البسيطة، فتختزل مفهوم "الشباب" في فئة عمرية أو في فترة انتقال أو في طور طبيعي. في حين أن الإشكال يكمن في توضيح حدود هذه الفئة وموقعها الاجتماعي. "فالمشكل الإبستيمولوجي الذي قد اعترض خطاب العلوم الإنسانية أمام مفهوم الشباب، هو كون الباحثين يرون أن الشباب يحدد في إطار دورة الحياة الفردية؛ إذ نجده يتموقع أساساً بين مرحلة الطفولة والمراهقة، سن الرشد والشيخوخة (محمد-علي، 1987). وقد ربط علم النفس على سبيل المثال بين خصائص هذه الفئة العمرية بصفات محددة كالقوة والنشاط والإرادة واكتمال البناء الدافعي والانفعالي للفرد في ضوء استعداداته واحتياجاته الأساسية، واكتمال نمو كافة جوانب شخصيته الوجدانية والمزاجية والعقلية في حين أن الشباب كفئة تتجاوز هذه العوامل إلى عوامل أخرى ترتبط بما هو اجتماعي وثقافي.

أما الديموغرافيون والإحصائيون(علم السكان)، فهم في إطار اشتغالهم على الشباب، فإنهم منشغلون قبل كل شيء بالتقسيم الكمي لأجزاء ومراحل الحياة، ويظهر مفهوم الشباب من هذا المنطلق كقسم من السكان معرف بفئة (15-24 سنة). أما رجال القانون من جانبهم، فإنهم يركزون على مبدأ الأغلبية الجزائية 19 سنة والأغلبية المدنية ب 18 سنة، حيث تتم ثنائية المقابلة بين القاصر والكبير، وعليه يتم تناول الفئة الشبابية تحت غطاء القاصر بنصوص منظمة لهذه الفئة، والتي لم تعد مسؤولة كل المسؤولية إزاء تصرفاتها. وهكذا نجد قانون العقوبات في المغرب على سبيل المثال، يحدد سن التمييز ب 13سنة وابتداءً من سن 14 سنة نجد أن الفرد له إمكانية للتميز بين الخير والشر، هذا يعني على المستوى العملي احتمالية وجود بعض من القاصرين في مراكز حماية الطفولة لارتكابهم جنح مخالفة للقانون، تم قس على ذلك الحد الأدنى والقانون الرسمي لسن الزواج أيضا، والذي يحدده التشريع المغربي في 18 سنة بالنسبة إلى الفتيات، و21 سنة بالنسبة إلى الذكور. وعليه، فإن عقد الزواج من هذا المنطلق، يعد ويمثل بداية القطيعة بين عالم القاصر والبالغ، بالرغم من أن الزواج عملياً تحكمه محددات اجتماعية وثقافية. وبهذا، فإن المقاربة القانونية لتحديد فئة الشباب لا تقنعنا في تفسير معنى ودلالة المفهوم ولا تحددها في خصائص معينة؛ وذلك لأنها تركز على معطى جامد وفارغ من محتواه الثقافي والاجتماعي الذي يختلف أساساً من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى.

وإذا انتقلنا بهذا الموضوع إلى سجل المقاربة البيولوجية، فإننا نستنتج أن مفهوم الشباب يقتصر على تلك الملامح والتطورات الفيزيولوجية التي تبصم لحظة الانتقال من الطفولة إلى الشباب، ومنه أيضا إلى النضج أو الشيخوخة، فنجد أن مرحلة الشباب تحدد انطلاقاً من خصائص بيولوجية محضة، حيث يتم تميز الطفل عن المراهق والراشد، انطلاقاً من خصائص بيولوجية وتغيرات فيزيولوجية تتميز فيها كل فترة من فترات عمر الشخص كما تميزه أيضاً على أساسا اختلاف التكوين الفيزيولوجي للجنسين.

عموماً يتضح من خلال المقاربات التي قمنا باستحضارها، أن تناول مفهوم ومسألة الشباب بقي رهين اختزالات عملية قد أفرغها حتماً من محتواها الاجتماعي؛ فالشباب ليسوا جماعة متجانسة يتفق أعضاؤها في قسماتهم، وهو ما يتطلب منا في هذا المجال تحديد أهم الخصائص العامة التي تميز فئة الشباب عن باقي الفئات والأعمار.

ثانياً: أهم خصائص الشباب

تبدأ مرحلة الشباب حسب بعض الكتابات- بتخطي مرحلة الحِلم أو اكتمال النضج الجنسي- بلوغ القدرة على التناسل وتيقظ الحاجة الجنسية، ويحدث ذلك قبل سن الخامسة عشرة أو قبل ذلك بقليل وتغطي مرحلة الشباب عشر سنوات تقريباً، وتنتهي في الخامسة والعشرين أو ما حولها (عزت، 1990). وتشهد بداية مرحلة الشباب اقتراب شكل الجسم ووظائفه من آخر درجات النضج. ومن الناحية النفسية، يكاد عمر الفرد العقلي يصل إلى قمته ويتيقظ إحساس الشخص بأنه لم يعد صغيرا ويطالب بتوقف معاملته على أنه صغير. ومن الناحية الاجتماعية يتأكد اعتراف الآخرين بأن الشخص لم يعد طفلا وإن كانوا يترددون في الاعتراف به كرجل، وبداية الشباب هي بهذا نقطة تحول.

وثمة من يحددون بداية مرحلة الشباب بسن الثالثة عشرة، ويطلقون عليها- حتى سن الواحدة والعشرين على الأقل-مرحلة المراهقة. "وهناك من يبدأها بالرابعة عشرة، ويحدد فترتها الأولى بنهاية الثامنة عشرة ويصل بفترتها الثانية-أو المتأخرة-إلى سن السابعة والعشرين (شويمات، 2017)، ويرى آخرون أنها تغطي الفترة من سن السابعة عشرة حتى السابعة والعشرين أو ما بعدها، بل إن بعض الباحثين يبدؤون بها عند الخامسة عشرة ويصلون بنهايتها إلى حدود الثلاثين. ويراها آخرون عصية على التحديد تختلف بدايتها ونهايتها من فرد إلى فرد ومن جنس إلى جنس ومن ثقافة إلى أخرى.

أمام هذا التشظي في تحديد مرحلة الشباب، قام علماء الاجتماع من جانبهم بصياغة محددة لمرحلة الشباب استناداً إلى أبعاد اجتماعية وثقافية تتلخص في ثلاثة أبعاد، وهي: "العلاقة مع التغيير في المكانة الاجتماعية، بداية الحياة المهنية والخروج للعمل، ضف إلى ذلك الانفصال عن العائلة الأصلية، الزواج (Galland، 2001) فإشراك هذه الخصائص يسمح بقراءة المرور إلى مرحلة الشباب.

تحمل هذه الخصائص والمؤشرات التي حددها علماء الاجتماع لمرحلة الشباب أبعاد اجتماعية وثقافية تجعل من مفهوم الشباب نتاجا اجتماعيا يتحدد بشروط مجتمعية معينة، وليس مرتبطا بالضرورة بما هو بيولوجي أو قانوني أو نفسي، كما أن هذا التعريف هو تعريف مرن لا يؤطر مرحلة الشباب في قالب جامد بقدر ما يجعله مرتبطاً بسياق اجتماعي وثقافي واقتصادي لكل مجتمع؛ إذ إن كل مجتمع ينتج شبابه ويحدد احتمالات الارتقاء الاجتماعي إلى هذه الفئة أو السقوط منها، حيث يبقى لدرجة التعقيد المجتمعي دور حاسم في تحديد الارتقاء أو السقوط.

وتلخيصاً لما ذكرناه يمكن تحديد بعض النقاط المركزة التي حددها علماء الاجتماع، والتي توضح الخصائص الإجرائية لفئة الشباب ودرها المحوري داخل النسيج الاجتماعي:

أ- الشباب مصدر من مصادر التغير الاجتماعي

الشباب يتطلعون باستمرار إلى الأخذ بما هو جديد وهم أكثر الفئات تقبلاً للتطور والتغير، وأكثرهم تكيفا مع منتجات التكنولوجيا، ولهم استعداد كبير للإبداع والابتكار. وبالتالي، فإن الشباب ظاهرة موضوعية ومطلوبة، يدعم ذلك أنهم أقل ارتباطا بالواقع القائم وأكثر إمكانية على استيعاب المتغيرات المتجددة... ما هو كائن هو ناقص من وجهة نظرهم.

ب‌- الشباب مرحلة الرغبة في رسم المستقبل

إن المستقبل هو الأمل الذي ينتظره الشباب، وبما أن ملامحهم تتحدد في الحاضر يطالب هؤلاء، الكبار، بضرورة المشاركة في بنائه.

ت‌- الفئة الأكثر انفتاحا على العالم

والذي يفسر هذه الخاصية هو قدرة الشباب على التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة.

ث‌- الشباب مرحلة عمرية غير متجانسة

فهي مثلها مثل كل المراحل العمرية الأخرى تجمع بين فئات مختلفة، وذلك باختلاف جنسها، طبيعة مجتمعها، مستواها التعليمي، الثقافي والاجتماعي...إلخ (علي، 20004)

ثالثاً: الاهتمام السوسيولوجي بفئة الشباب

لقد شكلت ظاهرة الشباب أحد المواضيع الحديثة التي شغلت مختلف الأبحاث والدراسات العلمية؛ وقد ارتبطت بدايات التفكير فيها كظاهرة اجتماعية مع بداية مرحلة التصنيع والتحضر الذي شهدته البلدان الغربية خصوصاً أوروبا في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين. وقد كانت الكتابات الأولى حول ظاهرة الشباب تندرج أساساً ضمن مجال الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا بشكل خاص. ويعتبر إميل دوركايم (Émile Durkheim) من الباحثين السوسيولوجين الذين اشتغلوا على موضوع الشباب خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر خاصة في كتابه" السوسيولوجيا والتربية"، حيث تناول ظاهرة الشباب، باعتبارها نتاج التنشئة الاجتماعية المتراكمة عبر الأجيال. ويقول في هذا الصدد وبصريح العبارة: "إن التربية هي التنشئة الاجتماعية الممنهجة لجيل الشباب" (دوركايم، 1992)، حيث يبدأ الحديث عن الطفل كمرحلة عمرية متميزة، باعتباره كائناً لا اجتماعياً لم يتلقّ بعد الخطوط التي تمحى في الإكراه الاجتماعي المخزن، ولم تتم بعد عملية التمرن على الإخضاع الضروري للقوانين المكتوبة وغير المكتوبة التي تسير المجتمع، لكن التربية هي التي ستقوم بدورها على محو هذا المعطى الطبيعي البيولوجي لتنتقل به إلى كائن اجتماعي. هنا تظهر الحتمية التي يقدمها المجتمع للفرد في خضم التعقيدات والتناقضات الخاصة به، والتي تفرض على الفرد أن يتقمص مكانة اجتماعية في إطار تقسيم الأدوار، كما أن دوركايم في حديثه عن ظاهرة الشباب من هذه الوجهة لم يغفل تعقيدات المجتمع الحديث وتأثيره على سيرورة تشكل مسألة الشباب كظاهرة حديثة.

يكمن فضل هذا التعريف الذي قدمه إميل دوركايم لمفهوم الشباب، ولو أنه ظل غير مكتمل، مجمله في أنه قد مكن مختلف الأبحاث التي جاءت بعده على الالتفات نحو ظاهرة الشباب ودراستها، باعتبارها ظاهرة مجتمعية ترتبط أساساً بالمعيار الثقافي والاجتماعي للمجتمع. وهكذا، فقد دشن من خلال هذا التعريف السوسيولوجي طريقاً لقيام سوسيولوجيا خاصة بالشباب، بل إنه ألهم من خلال هذا التعريف مختلف الدراسات القائمة في مجال الأنثروبولوجيا، والتي أخذت في تحليلها المنهجي منعطفاً مهمّاً بإعادة النظر في بعض المقولات الخاصة بالشباب والمراهقة وربطها بالمعيار الثقافي والاجتماعي. ويعتبر من أبرز من استلهمته أبحاث دوركايم وأخذ بعين الاعتبار المعطى الاجتماعي والثقافي في دراسة ظاهرة الشباب، هي تلك الدراسات الأنثروبولوجية التي قامت بها الباحثة الأمريكية "مرغريت ميد "Margaret mead" على قبائل (المانوس)[1]، والتي من خلالها توصلت إلى أن "ظاهرة المراهقة" كما ظاهرة الشباب هي أيضاً جد حديثة ترتبط أساسا بظهور المجتمع الصناعي؛ وذلك في ظل تعقد الحياة خاصة في أمريكا" (عزت، 1990). وقد توصلت الباحثة إلى هذه النتيجة انطلاقاً من عقدها لمقارنات بين المجتمع الأمريكي والمجتمع القبائلي (البدائي)، حيث نجد من جهة تعدد سلوكيات المراهق واختلاف الانطباعات التي يتميز بها في ظل تعقد الحياة اليومية في أمريكا، ومن جهة ثانية نجد القبائل البدائية السالفة الذكر التي لم تشهد ظاهرة المراهقة نظراً لبساطة بنية المجتمع البدائي وسيادة السلطة الأبوية التي لم تسمح بظهور هذه السمات والخصائص المرتبطة بالمراهقة، كما تخلص مركاريت ميد في دراساتها الأنثروبولوجية إلى خلاصات مهمة تفضي إلى حداثة ظاهرة الشباب والمراهقة في المجتمعات المعاصرة، وبالتالي فهي تقترح انطلاقاً من أبحاثها على دراسة ظاهرة المراهقة أن يتم الأخذ بعين الاعتبار أهمية الأبعاد الاجتماعية ومؤثرات المحيط في تكوين شخصية الإنسان الشاب.

علاوة على كل هذه التحديدات التي ذكرناها؛ فإن تناول مسألة الشباب في مجال الدراسات السوسيولوجية لازال ضئيلاً خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، رغم أن هناك إرهاصات وبداية التناول السوسيولوجي لفئة الشباب كموضوع سوسيولوجي مع الدراسات والأبحاث التي أنجزت في إطار مدرسة شيكاغو الأمريكية، والتي اشتغلت خاصة على الشباب الجانح والمنحرف، وبالتحديد خلال أربعينيات القرن الماضي، حيث ستبرز على الساحة العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية الأفكار الوظيفية للباحث السوسيولوجي الأمريكي "تالكوت بارسونز" "Talcot parsons" الذي كرس بعضاً من أبحاثه لدراسة مشكلة الشباب؛ وذلك في مقالته الأولى التي نشرها سنة 1942 في المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع «American Journal of Sociology» "تحت عنوان السن والنوع في البناء الاجتماعي للولايات المتحدة الأمريكية "حيث تحدث بارسونز عن ظاهرة الشباب، باعتبارها ثقافة مميزة في فترة عمرية معينة مشيراً إلى ما يعرف بثقافة الشباب، حيث يعتبرها ثقافة اللامسوؤلية وخطها المميز هو الأخذ بكل ما هو جميل في الحياة، وهي تختلف بالنسبة إلى الجنسين". فالذكور يفضلون التجاذب وممارسة الرياضة، في حين تفضل الإناث الاهتمام بمظهرهن وممارسة سلطة الإغواء.(Roche, 2006) من هذا المنطلق، ففئة الشباب تبدو بالنسبة إلى بارسونز على أنها فئة اجتماعية أكثر ترميزاً للواقع الاجتماعي، وتظهر مميزاتها من خلال اللقاءات الغرامية والعاطفية بين الجنسين وتبادل أطراف الحديث.

إن هذا التحليل الذي يقدمه بارسونز حول ظهور ثقافة خاصة بالشباب لا يمكن فهمها، إلا إذا انطلقنا من تحليل موضوعي لواقع المجتمع الأمريكي في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي؛ إذ شهد المجتمع الأمريكي خلال هذه الفترة تحولات بنيوية على كافة مستوياته، وبرزت بشكل كبير ثقافة الاستهلاك والفردانية وما صاحبها من ظهور لحركات الهبيين وذوي العبادات السوداء وجماعات الخنافس التي ظهرت كفئة اجتماعية وثقافة فرعية ثائرة ضد كل أشكال الثقافات التقليدية القائمة على سلطة المؤسسات وسلطة الآباء.

أما في فرنسا، فإن الاهتمام بظاهرة الشباب كان مع بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وبالتحديد مع بروز مقاربات سوسيولوجية مختلفة من بينها مقاربة "موريس دوبيس" (maurice Debesse) الذي يعتبر من بين كبار الباحثين المهتمين بسوسيولوجيا الشباب في تلك الفترة، حيث يرى أنه كثيراً ما تم الخلط بين مصطلح المراهق والشاب، فأشار إلى أن المراهقة ذات مدلول عام تعني مجموع التحولات البيولوجية والسيكولوجية التي تحدث تغيرات في حياة الفرد، والتي تحدث بين سن الطفولة والبلوغ، نفس الأمر أشار إليه كذلك أولفي كالون في هذا الجانب، حيث أكد أنه عندما نتحدث عن الحِلم، فإننا نقصد الجانب العضوي للمراهق خاصة ظهور الوظائف الجنسية. أما الشباب، فيعني الجانب الاجتماعي للمراهق (Galland O. , 2001, pp. 611-640) وقد تطرق هذا الباحث لمسألة الشباب انطلاقاً من براديغم سوسيولوجي يأخذ بعين الاعتبار المرحلة الراهنة التي دخلتها المجتمعات الغربية، والتي تتميز ببروز الفردانية ونمط الاستهلاك.

نفس المنحى سار عليه أيضاً الأنثروبولوجي والسوسيولوجي إدغار موران في دراساته حول الشباب، حيث قام بربط بين ظاهرة الشباب والتحولات البنيوية التي عرفتها المجتمعات الغربية على كافة مستوياته. وبيّن أن الشباب ظاهرة برزت مع انتفاضات مايو 1968 حينما اندلعت ثورة الطلاب من أعماق المدارس ضدا في أنماط التعليم الأرثوذوكسية ورفضا أيضا للسياسة الرأسمالية الماحقة لإرادة الفرد. وبهذا، فإن الشباب ظاهرة لها خصوصيتها التاريخية، حيث تندرج في الأساس ضمن المرحلة المعاصرة التي دخلتها المجتمعات الغربية؛ أي مرحلة الحداثة الثقافية وظهور مجتمع الفردانية والاستهلاك.

أما العالم الفرنسي بير بورديو، فيرى بالمقابل أن السوسيولوجيا اليوم تجد نفسها أمام مهمة صعبة تتمثل في ضرورة التدليل على أن الشباب مجرد كلمة ((la jeunesse n'est qu'un mot كما أنه قبل كل ذلك بناء اجتماعي (un construction sociale) يتطور عبر التاريخ وخاضع لمحددات اجتماعية. فالحدود الفاصلة بين الشرائح العمرية هي حدود اعتباطية وأيديولوجية، فيقول إننا لا نستطيع أن نعرف أين ينتهي الشباب لتبدأ الشيخوخة، كما لا يمكن أن نقدر أين ينتهي الفقر ليبدأ الثراء (Pierre Bourdieu, 1980). أشار بير بورديو إلى أن الحدود بين هاتين الفئتين كانت دائما محض رهان وصراع يتجلى مثلاً في العلاقة التي كانت قائمة بين النبلاء والشباب في فلورنسا في القرن الرابع عشر. هذه العلاقة كانت تحكمها ثقافة تربط الشباب بقيم الفحولة والرجولة والعنف والقوة، في حين تبقى قيم الحكمة والرصانة من شيم الشيخوخة مما يؤهلهم لامتلاك الثروة والنفوذ. أما أصحاب الثروات، فكانوا يحرصون على أن تظل لمن هم مؤهلون لخلافتهم، كما يركز بورديو في تحليله لمسألة الشباب على ذلك الصراع الذي يبدو قائما تاريخياً بين الشباب والشيخوخة، وحينما يركز على هذا المنحى فإنه بالمقابل يحاول أن يبرهن على أن مسألة الشباب والشيخوخة مهما اقتضى الأمر تبقى دائما مسألة بناء اجتماعي خاضعة للصراع الاجتماعي والإكراه.

على خلاف بير بورديو، يرى السوسيولوجي أوليفي غالون (Olivier. Galland) أن الشباب قبل كل شيء ظاهرة اجتماعية حقيقية لها خصوصيتها ومميزاتها واهتماماتها. وقد ظهرت بشكل واضح وأوضح بعد الثورة الشبابية سنة 1968 في فرنسا لتصير فرعاً سوسيولوجيا في حقل علم الاجتماعي (Galland، 2001). وفي هذا الإطار، يشير غالون إلى أنه إذا كانت الأزمة الاجتماعية التي شهدتها المجتمعات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين هي التي أوجدت علم الاجتماع؛ فإن هذه الأزمة نفسها هي التي أوجدت حقلاً سوسيولوجيا هو علم الاجتماع الشباب، فانتفاضة الشباب سنة 68 وغيرها من الحركات الشبابية التي اجتاحت العالم من بعد في إيطاليا واليونان وألمانيا وإنجلترا...بمثابة حركات اجتماعية جد مميزة؛ إذ جاءت لتؤكد أهمية الشباب وحضورهم الفعلي داخل المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى كانت تعبر عن نفسها باعتبارها فئة رافضة لكل صور وأشكال التهميش والإقصاء والهشاشة التي تميز هذه المرحلة، وبالتالي فهي تشكل ظاهرة اجتماعية بامتياز.

إن هذه الخصوصيات التي باتت تميز الشباب عن باقي الفئات الأخرى هي التي دفعت أوليفي غالون من جهة أخرى للتساؤل عن حدود هذه الفئة ودورها في المجتمع؛ وما إذا كانت فئة منسجمة أو تخضع لمتغيرات محددة. وقد قاده ذلك في نهاية المطاف إلى القول إن فئة الشباب ترتبط بالمحددات الاجتماعية التي يتأطرون وفقها؛ أي إن لكل مجتمع قيمه وعقله الجمعي ينضبط إليه ويحتكم إليه، وبالتالي فله له أيضاً مفهوماً خاصاً للشباب وتحديداً اجتماعياً لخصائص وتحولاته، بل يمكن أن نجد داخل المجتمع الواحد أكثر من مفهوم للشباب وذلك كله في اتصال وثيق بالمجتمع وما يتعلق بقيمه ونظمه وتصوراته الجمعية وتفاعلات الأفراد وعلاقتهم داخل هذا المجتمع.

أما إذا انتقلنا إلى الأبحاث السوسيولوجية في العالم العربي، فنستنتج بالمقابل أن تناول مسألة الشباب سوسيولوجياً يعد محدوداً ولم يرق إلى مستوى التخصص العلمي؛ إذ ظل في بعض الأحيان استطلاعياً وصفياً وأحياناً مناسباتياً. فعندما تفطنت المجتمعات المتقدمة إلى أهمية الشباب كفاعل مؤثر بشكل كبير في سيرورة التغير الاجتماعي، وأولته ما يستحقه من اهتمام، وأنشأت له مراكز للبحث المتخصص، فإن مجتمعاتنا العربية لا تزال غير قادرة على صياغة مشروع مجتمعي يكون فيه الشباب محركا للتنمية. ولهذا، فإننا نجد أن حجم الدراسات والأبحاث التي تم إنتاجها في هذا المجال تعكس مدى غياب التناول العلمي لهذا الموضوع، كما أن الدراسات المتوفرة اليوم تشهد تفاوتات كبيرة خاصة بين التخصصات العلمية؛ إذ نجد مثلا من خلال تصنيف أكثر من 250 عملا علميا حول الشباب حتى نهاية الثمانينيات، أن علم النفس وعلم التربية استأثرا بأكثر من61%من هذه الأعمال، في حين لم تتجاوز الدراسات السياسية أكثر من %1,5 والدراسات الأنثروبولوجية 0,5% (الزيدي، 2002). الشيء الذي يؤكد محدودية الدرس والتحليل السوسيولوجي لسؤال الشباب، كما تعد البحوث التي اهتمت بالشباب في الأقطار العربية، من أُفق نظرية ومنهج العلوم الاجتماعية شحيحة بل منعدمة، باستثناء بعض البيانات الإحصائية، والتقارير الرسمية/الحكومية التي تفتقد للصرامة المنهجية والأكاديمية.

وضمن هذا الفراغ الأكاديمي في التعاطي مع المسألة الشبابية، صدر سنة 2000 كتاب للباحث المغربي، عبد الرحيم العطري، تحت عنوان "سوسيولوجيا الشباب المغربي: جدل الإدماج والتهميش". ويُرجِع المؤلف الدواعي والأسباب التي دفعته لإنجاز هذا البحث، إلى ضرورة استكمال التأسيس العلمي لسوسيولوجيا الشباب، خصوصا وأن المسألة الشبابية في بعدها العلائقي مازالت بعيدة عن الاحتواء والفهم الموضوعي؛ فهناك من جهة ندرة الدراسات، ومن جهة أخرى ثانية هناك فارق البحث السوسيولوجي في ظل مجتمعات لا تؤمن بالحق في النقد والمساءلة.

خاتمـة:

في نهاية هذا المقال، الذي جاء تحت عنوان مفهوم الشباب في البحوث السوسيولوجية »قراءة في سياقات النشأة ومسارات التداول «يمكن أن نخلص إلى جملة من الاستنتاجات نرى إمكانية إدراجها ضمن فكرتين أساسيتين هما:

- إن بلورة مفهوم الشباب من المنظور السوسيولوجي، والذي صار اليوم متداولاً في الأبحاث السوسيولوجية المعاصرة، جاء بفعل التراكم والبناء كما أسلفنا الذكر في العناصر السابقة من بحثنا بدءا بالدراسات البيولوجية والإحصائية والنفسية والقانونية، وانتهاء بالتحديد السوسيولوجي الذي رأينا على أنه يمنح لمفهوم الشباب الدلالة العلمية العميقة من خلال وضع حد لتلك النظرة الاختزالية التي تحدده وفق عوامل بيولوجية أو نفسية أو إحصائية أو قانوية.

- بالرغم من البناء والتراكم الذي عرفته السوسيولوجيا عبر تاريخها، فإن المجال الدلالي لمفهوم الشباب يظل متحركاً بفعل اتساعه وهلاميتة من جهة، وكذلك بفعل خضوعه لجملة من العوامل الابستيمولوجية التي تتحكم فيها عدد من الاعتبارات المتعلقة بالمشارب الفكرية والمنهجية للباحث، وتلك التي تتعلق بطبيعة البحوث السوسيولوجية من جهة أخرى.

 

قائمة المراجع المعتمدة

*- المراجع باللغة العربية

1. ابن منظور محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين، لسان العرب. بيروت، دراسة العربي، ص 257

2. حجازي مصطفى، الشباب الخليجي والمستقبل: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، ط1، المغرب، المركز الثقافي العربي، 2008، ص16

3. ابن منظور محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين، لسان العرب. بيروت، دراسة العربي، ص 257

4. حجازي مصطفى، الشباب الخليجي والمستقبل: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية.ط1، المغرب، المركز الثقافي العربي، 2008، ص16

5. محمد علي-محمد، الشباب العربي والتغير الاجتماعي، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1987، ص 26.

6. عزت. حجازي، الشباب العربي ومشكلاته، عالم المعرفة: المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب، الكويت، 199م. ط2، 1985 ص 35

7. شويمات كريم، حجال سعود، نحو تأسيس لسوسيولوجيا الشباب في الجزائر، الجزائر 2017، مجلة ASJP، المجلد 31، العدد 1، الصفحة 203-223

8. ليلى علي، الشباب والمجتمع أبعاد الاتصال والانفصال، الإسكندرية، 2004 ص 182

9. دوركايم, ترجمة علي سعد، التربية والمجتمع، دار معد للنشر والطباعة 1992، ص29

10. عزت، حجازي، الشباب العربي ومشكلاته، عالم المعرفة: المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب، الكويت، 199م. ط2، 1985 ص 35

11. الزيدي المنجي، مقدمات لسوسيولوجيا الشباب، عالم الفكر، الكويت، المجلد30، العدد3، يناير-مارس2002، ص27-54

*- المراجع الأجنبية:

1. Galland olivier: Les jeunes, Ed la découverte, Paris, 2002. P78

2006, p9-23, open Edition journal 2 Agnès Roche: Les jeunesses au prisme de la sociologie. État des lieux.

3. Galland Olivier: Les jeunes, Ed la découverte, Paris, 2002. P78

4. Pierre Bourdieu, « La jeunesse n’est qu’un mot », Questions de sociologie, Paris, 1980.

5. Galland Olivier: Les jeunes, Ed la découverte, Paris, 2002. P112

[1] المانوس: قبيلة بدائية تتواجد في جزر الأدمير التابعة لغينيا الجديدة قرب أستراليا، أما الساموا، فهي قبيلة تقع في جزر نيوزيلاندا، استراليا وهواي.