مفهوم الطبيعة لدى ابن رشد


فئة :  مقالات

مفهوم الطبيعة لدى ابن رشد

مفهوم الطبيعة لدى ابن رشد

تقديم

إشكال مفهوم "الطبيعة" هو إشكال ورثته الفلسفة الإسلامية عن أرسطو، وهذا الأخير ورثه عن الحكماء الطبيعيين الأوائل، ولا يخفى موقف أرسطو الرافض لمواقف أولئك الحكماء، بدعوى أنهم فهموا "الطبيعة" فهماً متواطئاً؛ وذلك بإرجاعهم أصل الوجود الطبيعي إلى عنصر واحد (الماء أو الهواء أو النار..)، في حين أنّ هذا الوجود لا يختزل في علة واحدة أو ماهية واحدة. فأرسطو يرى أنّ علل الوجود الطبيعي لا ترجع إلى "الواحد"، كما ذهب إلى ذلك الطبيعيون الأوائل، وإنما يعود إلى مجموعة من المبادئ (العلل الأربع).

ناقش أرسطو تلك المبادئ وغيرها في الجزء الأول من المنظومة الطبيعية، ونقصد بذلك كتاب "السماع الطبيعي"، وبخاصة في المقالة السابعة والثامنة، كما ترك نقاشاً مستفيضاً لهذه المبادئ وعلاقتها بالجواهر المحسوسة في كتاب ما بعد الطبيعة، وبخاصة في مقالتي الزاي واللام. بعد ذلك جاء دور الشراح اليونان والمسلمين على السواء، وحاولوا التدقيق أكثر في أمر العلاقة بين موضوع الطبيعة من جهة، وما يسميه أرسطو بـ"المبادئ الأول" لذلك الموضوع بوصفه جوهراً محسوساً من جهة أخرى. وقد جنح النقاش بالجميع إلى القول إنّ مبادئ الوجود الطبيعي لا تتبين في العلم الطبيعي (الفيزياء)، بل تتبين في علم أعلى هو علم ما بعد الطبيعة (الميتافيزيقا).

يعود الفضل إلى ابن رشد في إدراكه لخطورة هذا الإشكال؛ وذلك بوقوفه على الأبعاد التي يتضمنها مثل هذا القول؛ بمعنى أنّ المصادرة على كون مبادئ موضوع العلم الواحد لا تتبين في ذلك العلم، وإنما تتبين في علم آخر أعلى وأشمل؛ هو قول سيفضي لا محالة إلى إخضاع الفيزياء للميتافيزيقا؛ أي هيمنة الثانية على الأولى. لذا وجد ابن رشد نفسه أمام إرث ثقيل من الشروحات التي عملت على ترسيخ المصادرة السابقة، فراح يعيد النظر في تأويلات المفسرين وينزع أغلفة التقليد، لعله يهتدي إلى رسم العلاقة بين العلوم الدنيا والعلوم العليا من جهة، وبين موضوعات تلك العلوم ومبادئها من جهة أخرى.

إنها المهمة الشاقة التي ندب لها ابن رشد جهده، واستغرقت منه حياته الفكرية بأسرها، أعني العودة إلى الأصول الأرسطية إن جمعاً أو تلخيصاً أو تفسيراً.

1 ـ تحديد مفهوم الطبيعة

يقول ابن رشد: "غرض هذا الكتاب المترجم بالسماع الطبيعي هو النظر في الأسباب العامة الأول لما يوجد بالطبيعة من جهة ما هو موجود بالطبيعة، وفي اللواحق العامة لهذه الأسباب. وأنه يجب أن يوضع أولاً لهذا النوع أنّ هاهنا أسباباً أربعة تتقوّم بها الموجودات الطبيعية، على جهة ما يوضع موضوع الصناعة للصناعة. ولذلك يقول أرسطو ليس على صاحب العلم الطبيعي أن يبرهن أنّ الطبيعة موجودة، كما ليس ذلك على صاحب علم من العلوم، بل يضعها وضعاً سواء كانت بيّنة بنفسها أو لم تكن. وإن كان الظاهر من كلام أرسطو ومن تبعه من المفسرين أنّ وجودها بيّن بنفسه وأنّ القول الشارح هو حدّ، إلا ابن سينا، وسيأتي القول في هذا عند حدّ الطبيعة... "[1]؛ بمعنى أنّ جميع المفسرين متفقون على أنّ الطبيعة وجودها بيّن بنفسه في العلم الطبيعي، إلا ابن سينا هو الذي خرج عن هذا الإجماع.

إنّ العلم الطبيعي (والسماع الطبيعي هو الجزء الأول منه) ينظر في "الأسباب العامة الأول لما يوجد بالطبيعة... وفي اللواحق العامة لهذه الأسباب". هذا يعني أنّ مجال العلم الطبيعي ليس محدوداً ولا مختزلاً في المفهوم الضيق للطبيعة، باعتبارها تغيراً محضاً وحركة فقط، بل يتجاوز ذلك إلى النظر في الأسباب العامة واللواحق العامة. أي أنّ العلم الطبيعي يمكن أن ينظر ـ بالإضافة إلى الموجودات المتغيرة - في أسباب موضوعه (المادة الأولى والمحرك الأقصى)، ويمكن أن ينظر في الصورة والغاية والفاعل بوجه ما. ومن البدهي أنّ هذه الأسباب بما هي أسباب لا تخضع للحركة، لأنها ليست أجساماً وإنما هي مفاهيم لا غير. إذن فموضوع العلم الطبيعي لا يقتصر على الموجود المتغير، بل يمتد إلى طرفيه أيضاً. فبالإضافة إلى النظر في أسباب الأجسام في الطرف الأول، يمكنه النظر في لواحق هذه الأجسام مثل الزمان والمكان والاتصال والانفصال والتناهي واللاتناهي والتتالي والتشافع في الطرف الثاني.

إذن فالطبيعة بهذا المعنى، هي "مبدأ وسبب لأن يتحرك به ويسكن الشيء الذي هي فيه أولاً وبذاته، لا بالعرض. وإنما قلنا أولاً وبذاته لا بالعرض، لأنّ هاهنا أشياء صناعية مبدأ تحريكها فيها بالعرض كالطبيب يبرئ نفسه. وإنما قلنا أولاً[2]، لأنّ هاهنا أشياء صناعية مبدأ تحريكها فيها ليس، أولاً كالسفينة تتحرك عن الملاح نفسه". وإذن "فقد ظهر من هذا القول ما هي الطبيعة، وإذا كان الأمر كذلك فإنّ ابن سينا متعسف على المشائين في قوله إنّ هذا الحد ها هنا للطبيعة غير بيّن بنفسه وإنّ صاحب الفلسفة الأولى هو الذي يتكفل بيان ذلك .. وإذا كان أراد بذلك أنّ الطبيعة مجهولة الوجود ـ كما هو الظاهر من قوله - وأنّ صاحب العلم الإلهي يبرهن وجودها، فقد أخطأ. وذلك إن تبرهنت فإنما تبرهن من الأمور المتأخرة التي في هذا العلم أعني العلم الطبيعي، ولو تبرهنت في العلم الإلهي لوجب أن تبرهن من أمور هي أقدم منها وأعرف عندنا، وذلك غير ممكن".[3]

لم تتبين الطبيعة بوضوح لدى ابن سينا وهي بيّنة عند ابن رشد؛ لأنّ ذلك يعود إلى تباين في الفهم لمعنى الطبيعة. فابن رشد ـ سيراً على طريقة أرسطو- يميز في الطبيعة بين الوجود المادي الخارجي، وبين "الطبع" أي تأثير الأسباب في المسببات أو ما يدعى عندهما بـ"الطبيعة السارية بين الأجسام". بينما يركز ابن سينا على الطبيعة بالمعنى الأول؛ أي الوجود المادي الذي يعتبره وجوداً ممكناً بذاته واجباً بغيره، ومن ثم فهو لا يحمل المقومات الضرورية لبقائه وثباته الدائمين. إنّ الطبيعة بالمعنى السينوي ليست ضرورية، وإنما هي جائزة، بمعنى أنّ وجودها يجوز أن يتغير ويفسد ما دامت مجموعة من الجزئيات. وبما أنه لا علم بالجزئي، بل العلم يكون بالكلي، إذن فلا برهان على الجزئيات. في حين أنّ الطبيعة بالمعنى الرشدي يعطينا فهماً آخر يتلخص في النظر إلى "العلاقة" بين الجزئيات وليس إلى الجزئيات، إنّ تلك العلاقة العلية هي ضرورية وثابتة لا يعقل جوازها أو إمكانها.

بما أنّ الطبيعة بيّنة الوجود بنفسها داخل حقل العلم الطبيعي عند ابن رشد وغير بيّنة الوجود عند ابن سينا داخل الحقل نفسه، فإنّ العلم الإلهي (ما بعد الطبيعة) هو الذي يتكفل ببيانها إذا لم تكن بيّنة بنفسها، أما إذا كانت بيّنة الوجود فلا مجال لتدخل العلم الإلهي من أجل بيانها. هكذا نجد أنفسنا أمام تصورين متناقضين حول مفهوم الطبيعة وموقعه داخل الحقل الإبستيمولوجي للعلم الطبيعي: تصور سينوي يعمل جاهداً من أجل إلحاق الطبيعة بالعلم الإلهي، وتصور رشدي يعمل جاهداً لحصرها في مجال العلم الطبيعي. إننا باختصار أمام تصور ميتافيزيقي للطبيعة من جهة، وتصور فيزيائي من جهة ثانية.

يمكن أن نقرأ هذه الهموم النظرية (العلمية) في علاقتها بالرؤية التي يصدر عنها هذا الموقف أو ذاك، من خلال الدوافع التي كانت وراء القيام بعملية الشرح ذاتها للنص الأرسطي. أي لماذا تم اختيار النص الأرسطي دون غيره من النصوص ـ الفلسفية والعلمية ـ التي انتقلت من اليونان إلى بلاد الإسلام؟ وأكثر من هذا كيف تفرعت تأويلات متناقضة للنص الواحد، وظهرت "أحلاف" متناحرة على المستوى النظري؟

2 ـ تجريد القول العلمي في الطبيعة

نقرأ في الديباجة التي صدّر بها ابن رشد "جوامع السماع الطبيعي"، الدافع الذي وجّهه إلى شرح هذا الكتاب وغيره من الكتب العلمية: ".. قصدنا من هذا القول أن نعمد إلى كتب أرسطو فنجرد منها الأقاويل العلمية التي تقتضي مذهبه أعني أوثقها، ونحذف ما فيها من مذاهب غيره من القدماء، إذ كانت قليلة الإقناع وغير نافعة في معرفة مذهبه. وإنما اعتمدنا نقل هذا الرأي من بين آراء القدماء، إذ كان قد ظهر للجميع أنه أشد إقناعاً وأثبتها حجة. وكان الذي حركنا إلى هذا أنّ كثيراً من الناس يتعاطون الرد على مذهب أرسطو من غير أن يقفوا على حقيقة مذهبه، فيكون ذلك لخفاء الوقوف على ما فيها من حق أو ضده".[4]

فالانتصار للأرسطية لا يعني الانتصار لشخصية أرسطو، بل هو انتصار للعلم الذي وجد إحدى تجلياته في هذا المذهب. وحذف أقاويل القدماء يعني حذف الأقاويل اللاعلمية. لذا، فإنّ ما يبرر شرح النص الأرسطي هو الخلط الذي وقع فيه الخطاب العلمي، بفعل الترسبات التي راكمتها الشروح والتفاسير اللاحقة. حيث تسربت أقاويل القدماء اللاعلمية إلى جسم الخطاب العلمي بعد أن قعّده أرسطو، بل إنّ المفسرين الذين أدخلوا هذه الأقاويل اللاعلمية بدأوا ينتقدون الأرسطية بعد امتزاجها بتلك العناصر الغريبة. من هنا تصبح المهام المطروحة على العالم / الفيلسوف هي تخليص الأرسطية من تلك الشوائب التي علقت بها خلال تاريخها الطويل، ثم الرد على المفسرين الذين انتقدوا أرسطو دون أن يميزوا بين الأرسطية "الحقة" وأرسطية المفسرين والشراح. إنها مهمة مزدوجة: إعادة بناء الأرسطية من جديد ثم الرد على النقاد والمشائين الذين لم يفهموا "حقيقة" النص الأرسطي. إذن فالدافع الذي كان وراء الاتجاه نحو شرح النص الأرسطي، هو العودة إلى النص الأصلي ونزع الترسبات التي غطت ملامح المذهب في نقائه الأولي. والهدف من هذه العودة هو نشر العلم في المجتمع، "وقد كان أبو حامد رام هذا المرام في كتابه المعروف بالمقاصد، لكنه لم يف بما رام من ذلك[5]. فرأينا أن نقصد قصده، لما رجونا في ذلك لأهل زماننا من المنفعة التي رجاها".[6]

الهدف من العودة المأمولة إلى النص في صفائه الأرسطي / اليوناني، ليس هدفاً علمياً / نظرياً في حد ذاته، بل هو هدف منفعي / مصلحي. أي أنّ هذه العودة وهذا العناء الحاصل من النظر في كتب القدماء والمفسرين، ومحاولة استعادة النص "المفقود" بين شروحات المفسرين، هذه العودة لها علاقة بالمدينة المغربية- الأندلسية بالنسبة لابن رشد. إننا نلمس ها هنا رؤية سابقة على اعتناق المذهب، ومحاولة لإقامة نوع معين من الثقافة تتأسس داخل حدود يشترط فيها أن تكون واضحة المعالم. هذه الحدود التي ستجعل من مفهوم "الطبيعة" مجالاً يلزم أن ينحصر في حقل العلم الطبيعي، لكي تنبني عليه رؤية فيزيائية للعالم عندما ننتقل إلى الوعي.

3 ـ القول العلمي في الطبيعة بين الاضطرار والاختيار

لكننا حينما نعود إلى ابن سينا، نجد أنّ هناك هاجساً آخر هو الذي دفعه إلى قراءة الفلسفة المشائية وغير المشائية. إذ لم يكن الهدف ـ كما هو الحال عند ابن رشد- هو تخليص الأرسطية من الشوائب التي علقت بها، واستخراج القول العلمي وفصله عن شروحات المشائين، بل الأمر لا يعدو أن يكون انحيازياً اضطرارياً للخطاب المشائي السائد. أي أنه "لما كان المشتغلون بالعلم شديدي الاعتزاء للمشائين من اليونانيين، كرهنا شق العصا ومخالفة الجمهور، فانحزنا إليهم وتعصبنا للمشائين. إذ كانوا أولى فرقهم بالتعصب لهم، وأكملنا ما أرادوه وقصروا فيه ولم يبلغوا أربهم منه، وأغضينا عما تخبطوا فيه وجعلنا له وجهاً ومخرجاً، ونحن بدخلتهم شاعرون وعلى ظله واقفون. فإن جاهرنا بمخالفتهم ففي الشيء الذي لم يكن الصبر عليه، وأما الكثير فقد غطيناه بأغطية التغافل. فمن جملة ذلك ما كرهنا أن يقف الجهال على مخالفة ما هو عندهم من الشهرة، بحيث لا يشكون فيه، ويشكون في النهار الواضح. وبعضه قد كان من الدقة بحيث تعمش عنه عيون عقول هؤلاء الذين في العصر، فقد بلينا برفقة منهم كأنهم خشب مسندة، يرون التعمق في النظر بدعة، ومخالفة الجمهور ضلالة، كأنهم الحنابلة في كتب الحديث".[7]

إنّ عودة ابن سينا إلى النص الأرسطي هي عودة اضطرارية، فرضتها ظروف الثقافة وسيادة الخطاب المشائي. لهذا لم يجد ابن سينا مفرّاً من ولوج ثقافة العصر، فراح يشرح النص الأرسطي على الطريقة المشائية، فوضع كتاب "الشفاء" لتفسير المنظومة المنطقية والطبيعية والإلهيات. لكنّ هذا التقليد المفروض لم يمنعه من حشر آرائه المخالفة للمشائين في بعض الحالات التي يتعذر فيها التوفيق بينه وبين الأرسطية، ومجموع تلك الآراء هو ما يؤسس فلسفته المشرقية.[8]

هذه الآراء التي حشرها ابن سينا في النص الأرسطي هي التي سيتصدى لها ابن رشد بالنقد العنيف. وهذه الآراء التي حشرت داخل الأرسطية هي التي دفعت به أيضاً إلى إعادة النظر في النصوص المشائية / الأرسطية، للتمييز بين ما ينتسب لأرسطو فعلاً وما تأوّله عليه المشاؤون. ولكن بما أنّ قراءة النص الأصلي ستؤدي إلى تأويل ولا بدّ، فإننا سنجد تأويلين متعارضين للنص نفسه. وها نحن أولاء نقف ـ بالنسبة للعلم الطبيعي ـ عند قراءتين متضادتين لمفهوم واحد وقوي تتأسس عليه الفيزياء المشائية بأسرها، وأعني به مفهوم "الطبيعة". فإذا كان الفيزيائي لا يستطيع البرهنة على موضوع علمه، فهذا دليل على أنّ الطبيعة ليست بينة الوجود بنفسها عند ابن سينا. في حين أنّ العكس هو الصحيح عند ابن رشد، أي أنّ استحالة البرهنة على الطبيعة من طرف الفيزيائي دليل على أنها بينة الوجود بنفسها، فلا حاجة إلى البرهنة عليها.

4 ـ دلالة الموقف الرشدي

إذا سلمنا بالموقف الرشدي، فإنّ معنى قولنا: الطبيعة بينة الوجود بنفسها، يدل على أنّ الفيزيائي قادر على بيان مبادئ موضوعه، أي أنّ أسباب الجوهر المحسوس يبينها العلم الطبيعي، وإذا كنا نعلم أنّ مبادئ الجسم الطبيعي أربعة، فإنّ "صاحب العلم الطبيعي يطلب أن يعطيها في موجودٍ وليس يقتصر على القريبة منها دون أن يعلم قبل ذلك البعيدة المشتركة، وذلك فيما يمكنه منها في هذا العلم وهي المادة الأولى والمحرك الأقصى. إذ كان أحد هذين هو السبب الأقصى في التحريك والآخر في التحرك والانفعال، وهما جهتا الاشتراط المأخوذ في نظر صاحب العلم في الموجودات. وليست كذلك الصورة الأولى والغاية الأولى، فلذلك لم يكن إعطاؤهما في هذا العلم"[9].

إذا كان العلم الطبيعي بإمكانه أن يبرهن على المادة الأولى والمحرك الأقصى، فهذا سيطرح إشكالاً إبستمولوجياً خطيراً داخل حقل الأرسطية؛ لأنّ ذلك سيؤدي إلى إحداث تحول جذري في قناعة قديمة كانت تطمئن إلى التمييز الواضح بين العلم والميتافيزيقا من حيث موضوعهما. فإذا كان موضوع العلم الطبيعي هو الجسم المحسوس القابل للتغير والحركة، فإنّ موضوع الميتافيزيقا هو الجواهر المفارقة. لكن إذا سلمنا مع ابن رشد بأنّ العلم الطبيعي قادر على برهنة مبادئ الطبيعة، فهذا يعني أنّ موضوعه سيمتد إلى الجواهر المفارقة. وبذلك سيغيب ذلك التمييز القديم بين موضوع الفيزياء وموضوع الميتافيزيقا، القائم على معيار الحركة أو عدمها؛ بمعنى أنّ العلم الطبيعي لا يكتفي بالنظر في الجسم (المركب من المادة والصورة)، بل ينظر بالإضافة إلى ذلك في المادة الأولى وحدها والمحرك الأول الذي ينقله الجسم من حالة إلى أخرى. وهذا النوع من النظر الطبيعي في المادة منفصل عن الصورة أو في المحرك الأول بغض النظر عن الجسم المتحرك عنه، هو نظر في مبادئ الجسم المحسوس وليس في الجسم المحسوس. وظاهر أنّ المبادئ لا تخضع للحركة مثل الأجسام، لأنها مفاهيم وليست مواد مركبة. إنّ الرؤية الجديدة التي يرتكز عليها ابن رشد تهدف إلى سحب البساط من تحت الميتافيزيقا (علم ما بعد الطبيعة) التي أعطتها الشروحات امتياز الاختصاص في المبادئ، واقتصار العلم الطبيعي على النظر في الأجسام فقط.

أما ابن سينا فسيجد أمامه تراثاً غنياً من شروحات المشائين والفلسفات غير المشائية، لتكريس هيمنة الميتافيزيقا على العلم الطبيعي. فهو ينطلق من الميتافيزيقا ليصل إلى الطبيعة، أي من واجب الوجود إلى العالم المادي عن طريق عملية الفيض. لذا كان لا بدّ من البرهنة على مبادئ موضوع العلم الطبيعي من طرف علم أعلى هو العلم الإلهي. بينما يتخذ ابن رشد مساراً آخر: من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، عن طريق الحركة وتتبع أنواعها للوصول إلى أبسط مكوناتها، أي إلى الهيولى أو المادة الأولى. إذن فالعلم الطبيعي يقودنا ضرورة إلى التسليم بوجود محرك أول ومادة أولى، أما السبب الفاعل (الذي هو صورة بوجه ما) وكذلك السبب الغائي فلا يمكن أن نتوصل إليهما بواسطة العلم الطبيعي، وإلا سقطنا في أطروحات المتكلمين الذين يبرهنون على الفاعل انطلاقاً من الطبيعة، أي الاستدلال على وجود الخالق بالارتكاز على الحوادث.

هكذا نخلص مع ابن رشد إلى موقف يرتكز على نظر العالِم الطبيعي في مبادئ موضوعه، وبذلك تمتد دراسته إلى حدود أكثر اتساعاً من تلك التي يفرضها الاقتصار على موضوع الحركة والتغير فقط. ومن ثم يصبح مفهوم الطبيعة بيّناً بنفسه في مجال العلم الطبيعي، ولن يكون في حاجة إلى طلب المساعدة من الميتافيزيقا من أجل بيان مبادئه أو البرهنة عليها.

[1]- ابن رشد: جوامع السماع الطبيعي، طبعة حيدر أباد 1365 هـ، ص: 6

[2]- بصدد معنى "الأول" الوارد في تعريف الطبيعة عند ابن سينا: "وقد حدت الطبيعة بأنها مبدأ أول .."، يرى أنّ "معنى قولنا: أول، أي قريب لا واسطة بينه وبين التحريك، فعسى أن تكون النفس مبدأ لبعض حركات الأجسام التي هي فيها ولكن بوساطة". (ابن سينا: السماع الطبيعي، ص: 31).

وإذا كانت الطبيعية مبدأ أولاً بهذا المعنى أي وجود واسطة في عملية التحريك، فإنّ النفس بما أنها تفعل الحركة بتوسط بعض الأعضاء (الأجسام الطبيعية)، فهي بذلك تقع خارج الطبيعة لأنها مبدأ فاعل من خارج. في حين أنّ الطبيعة إذا كانت مبدأ أولاً ولكن بمعنى أنّ الأول ذاتي للشيء الطبيعي، فهاهنا سنخرج برؤية حول النفس باعتبارها مبدأ طبيعياً غير مفارق، أي سنصل إلى الموقف الرشدي.

[3]- ابن رشد: جوامع السماع الطبيعي، ص ص: 13-14.

4- ابن رشد: جوامع السماع الطبيعي، ص: 2

[5]- لم يف أبو حامد الغزالي بالمشروع العلمي الذي بدأه في كتابه "مقاصد الفلاسفة"، إذ سرعان ما انقلب المشروع إلى هدف مضاد في "تهافت الفلاسفة". ومن هنا يكون مسار هذا المشروع قد عرف كبوة أثناء طريق إنجازه، وإذا كان "لا بد للجواد من كبوة، فكبوة أبي حامد في وضعه هذا الكتاب" أي كتاب "تهافت الفلاسفة" (ابن رشد: تهافت التهافت، تحقيق موريس بويج، الطبعة الثانية ـ بيروت 1987، ص: 108).

[6]- ابن رشد: جوامع السماع الطبيعي، ص: 2

[7]- ابن سينا: منطق المشرقيين، دار الحداثة 1982، ص ص: 20-21

[8]- الفلسفة المشرقية "كانت بحثاً كاملاً في الفلسفة في ثلاثة أقسام (المنطق والطبيعيات والإلهيات)، ولم تكن كما اعتقد حتى الآن كتاباً في التصوف المستور. وإذا كان قد ثبت أنّ المنطق الناقص المطبوع في القاهرة بعنوان: "منطق المشرقيين" هو كتاب "الحكمة المشرقية"، وإذا كنا قد بينا في جلاء ووضوح أنّ هذه الحكمة "المشرقية" مختلفة اختلافاً شديداً عن "حكمة الإشراق"، أي عن مذهب السهروردي المقتول، فإنه ينتج أيضاً بوضوح أنه لا أساس مطلقاً للسبب الوحيد الذي اتخذه الباحثون من أجل القول إنّ العنوان "الحكمة المشرقية" لابن سينا عنوان مزور غير صحيح، وهو العنوان الوارد في مخطوطتي أكسفورد وإسطمبول، وعلى العكس مما كان معتقداً حتى اليوم، فإنّ هذه هي الحقيقة، وهي أنّ الكتاب يبحث في المنطق والطبيعيات والإلهيات لا في مذاهب صوفية مستورة، نقول إنّ تلك الحقيقة نفسها دليل يؤيد احتمال صحة الكتاب الموجود في هاتين المخطوطتين وصحة عنوانه".

هذه هي الخلاصة التي انتهى إليها ألفونسو نلينو في بحثه: "محاولة المسلمين إيجاد فلسفة مشرقية"، والتي نشرها عبد الرحمن بدوي في كتابه: "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية". وما يعنينا من هذه الخلاصة هو أنّ عرض موقف ابن سينا يمكن أن يتم سواء بالاعتماد على كتاب "الشفاء" أو "النجاة" أو بالاعتماد على "الفلسفة المشرقية" إذا صح أنّ "منطق المشرقيين" هو مقدمة لهذه الفلسفة (يراجع اعتراض الأستاذ محمد عابد الجابري على موقف نلينو في بحثه المتعلق بـ: "ابن سينا وفلسفته المشرقية" ضمن أعمال ندوة الفكر العربي والثقافة اليونانية، منشورات كلية الآداب، الرباط 1980).

ويقول ابن سينا في "منطق المشرقيين": "نريد أن نورد من أصناف العلوم هذا العدد، ونورد العلم الآلي ونورد العلم الكلي ونورد العلم الإلهي ونورد العلم الطبيعي الأصلي، ونورد من العلم العملي القدر الذي يحتاج إليه طالب النجاة. وأما العلم الرياضي، فليس من العلم الذي يختلف فيه" (منطق المشرقيين، ص: 28).

هذا يعني أنّ "الفلسفة المشرقية" هي بحث في المنظومة المنطقية (العلم الآلي) وفي المنظومة الطبيعية (العلم الطبيعي الأصلي) وفي الإلهيات (العلم الكلي والعلم الإلهي)، بالإضافة إلى أجزاء العلم العملي. لذا فإنّ كتاب "الفلسفة المشرقية" لا يضيف إلى موقف ابن سينا الشيء الكثير، و"من المحتمل كثيراً أن يكون اختلاف "الحكمة المشرقية" عن كتب ابن سينا الأخرى ذات الطابع المشائي، اختلافاً في طريقة العرض وتوزيع المواد، أكثر من أن يكون اختلافاً في المضمون والجوهر" (نلينو: المصدر السابق نفسه). هذا إذا افترضنا أنّ كتاب "الفلسفة المشرقية" هو مؤلف مستقل على رأي نلينو. وسواء صادقنا على صحة هذا الافتراض أو على عدم صحته، فإنّ ذلك لن يغير شيئاً من استخلاص موقف ابن سينا من مؤلفاته المتوفرة.

[9]- ابن رشد: جوامع السماع الطبيعي، ص: 18