مفهوم العدالة


فئة :  مقالات

مفهوم العدالة

مفهوم العدالة[1]

لا بدّ لأيّ بحثٍ في مفهوم، أو في نظريّة، العدالة أن ينبني من خلال استدعاء العديد من المفاهيم المتداخلة أو المتضايفة معه. وسنشير هنا، بتكثيفٍ، إلى بعض أهمّ المفاهيم التي تعالجها أو تتعامل معها نظريّات العدالة.

يحيل مفهوم العدالة، صراحةً أو ضمناً، على العلاقة مع الآخر؛ فالعدالة كما يقول أرسطو، هي الفضيلة «من حيث إنّها متعلّقة بالغير»[2]. وتتّخذ العلاقة مع الآخر أو الغير شكلين أساسيّين: علاقةٌ بين طرفين حاضرين مع بعضهما بعضاً (الأنا مع الأنت، أو الأنا مع الأنتم، أو النّحن مع الأنت، أو النّحن مع الأنتم). وفي كلّ هذه الحالات، يمكن الحديث عن مدى عدالة أو لا-عدالة العلاقة بين هذين الطرفين، مع العلم أنَّه يمكن، في مثل هذا النّوع من العلاقة مع الآخر، تجاوز مستوى العدالة الحقوقيّة والواجباتيّة -أي العدالة المرتبطة بالحقّ والواجب- وبلوغ مستوى عدالة السّماح أو التّسامح. وتصبح مسألة العلاقة مع الآخر أكثر إشكاليّةٍ، عندما نأخذ بالحسبان وجود طرفٍ ثالثٍ (الهُوَ). فهذا الطّرف الثّالث لا يكون حاضراً مباشرةً، لأتفاوض أو لأتحاور معه، ولنتبادل السّماح أو التّسامح، وإنما هو حاضرٌ، حضوراً غير مباشرٍ، بوصفه حقّاً ينبغي عدم التّنازل عنه. وإلى وقتٍ قريبٍ، كان الآخر «الثالث»، في نظريّات العدالة، دائماً تقريباً، هو الآخر القريب؛ أي الآخر الذي تربطني به رابطةٌ عضويةٌ ما. وفي عصرنا الراهن، تُعدُّ الروابط القوميّة أو الدّينيّة أو الوطنيّة من أبرز الروابط السّياسيّة التي تحدّد مفهوم الآخر القريب. ولهذا كان مفهوم العدالة غالباً، وحتى وقتٍ قريبٍ، يقتصر على العلاقة بين الأطراف المنتمية إلى دولةٍ واحدةٍ. لكن، بدأ الأمر يتغيّر، في العقود الأخيرة، حيث أصبح بالإمكان الحديث عن عدالةٍ دوليّةٍ أو عن عدالةٍ عالميّةٍ. فكلُّ علاقةٍ مع الآخر - قريباً كان أو بعيداً - هي علاقةٌ «أخلاقيّةٌ»، تسمح لنا بالحديث عن مدى عدالة أو عدم عدالة هذه العلاقة. ويمكن القول: ثمّة عدالةٌ عالميّةٌ، بقدر عالميّة الأخلاق. وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم لماذا رأى ليونارد نيلسون «Leonard Nelsons» في قانون الأخلاق - المتمثِّل في تساوي جميع البشر على مستوى الكرامة - «دستوراً للعدالة»[3].

ويرتبط مفهوم العدالة بمفهوم المساواة، لدرجةٍ تغري، أحياناً على الأقل، بالتّوحيد بين المفهومين، وحتّى إذا سلّمنا باختلاف هذين المفهومين، فلا يمكن استبعاد مفهوم المساواة من فهمنا لمفهوم العدالة. لكن يكون السّؤال حينها: ما نوع المساواة، ودرجتها، اللذين تقتضيهما العدالة؟ والسّؤال الأساسيّ، في هذا الإطار، لا يتعلّق بوجوب المساواة وتبريرها، أو العكس؛ وإنَّما يتعلّق بموضوع هذه المساواة «Equality of what?»[4]، وفقاً لأمارتيا سِن، الذي بيَّن أيضاً أنَّ الحديث عن المساواة، وتبنّي نوعاً من أنواعها، في نظريّات العدالة، لا يقتصر على أنصار مذهب المساواة «egalitarianism»، وإنَّما يشمل، أيضاً، أنصار كلّ المذاهب السّياسيّة والأخلاقيّة، بما في ذلك أنصار المذهب النّفعيّ «utilitarianism». ولا وجود لمن يَدْعون إلى المساواة الكاملة والمطلقة، في هذا الإطار، بل إنَّ المطالبين بالمساواة، على صعيدٍ معيِّنٍ، يقبلون، بل ويدعون إلى، عدم المساواة، على صعيدٍ أو صعدٍ أخرى[5]. ومن الأسئلة المبحوثة في هذا الإطار: هل تكون المساواة في الفرص والمدخلات، أم في النّتائج والمخرجات؟ وبكلماتٍ أخرى، هل المساواة المنشودة هي مساواةٌ في الثروة، أم في السّعادة، أم في الحرّيّة، أم في الحقوق، أم في الفرص المتاحة، أم في إشباع الحاجات؟ وهل المساواة المطلوبة مبدئيّةٌ، وإجرائيّةٌ، ومقتصرةٌ على الصعد الأخلاقيّة والقانونيّة والتّشريعيّة، أم إنّها تشمل الحصاد أو الإنجاز الاقتصاديّ، كما هو الحال مع «المساواة الاقتصاديّة» التي تحدَّث عنها توماس نايجل[6]؟ وهل تكون المساواة في الحرّيّة، وتوزيع المنافع أو الخيرات الأساسيّة، كما يرى جون رولز، أم في الموارد، كما يرى رونالد دوركين[7]؟

وإذا كانت العدالة تقتضي التّعامل المتساوي مع المتساوين، فما العدالة، حين يتعلّق الأمر بغير المتساوين؟ ألا يتفاوت البشر فيما بينهم، من حيث قدراتهم وإمكانيّاتهم وإنجازاتهم؟ وهل من العدل أن نساوي بين غير المتساوين؟ لقد أجاب أفلاطون عن السّؤال الأخير بالنفي، ورأى أنَّ المساواة لا تطبَّق إلا داخل كلّ طبقةٍ من الطّبقات الثلاث (طبقة الصّناع والتّجار والزّرَّاع، طبقة المحاربين، وطبقة الحكَّام الفلاسفة)، أما بين هذه الطّبقات، فيسود التّوازن والانسجام، لا المساواة. وفي تمييزه بين العدالة التّوزيعيّة والعدالة التّعويضيّة، يرى أرسطو أنَّ النوع الأوّل من العدالة يسوده مبدأ الجدارة أو الاستحقاق، وتكون المساواة في الحصص مطلوبةً، فقط حينما يكون الأشخاص المعنيون متساوين في الاستحقاق. وفي النوع الثانيّ فقط، يمكننا الحديث عن هيمنة المساواة الحسابيّة التي تغضّ النظر عن جدارة الأشخاص أو تفاوت مكاناتهم وقدراتهم. وهكذا، تتمثّل العدالة التّعويضيّة في المساواة أمام القانون أو القضاء. وتهدف هذه المساواة القانونيّة - عند أرسطو تحديداً - إلى «إزالة الظّلم الذي ليس هو إلا عدم مساواة»[8]. وعند رولز أيضاً، «الظّلم هو ببساطة اللامساواة التي لا تكون في منفعة الجّميع»[9].

وإلى جانب التوتّر القائم بين المساواة والجدارة، نجد، في نظريّات العدالة، توتّراً مشابهاً بين المساواة والحرّيّة؛ إذ يمكن للتّشديد على المساواة بين البشر، بوصفها فحوى العدالة، أن يفضي إلى تبرير الحدِّ من حرّيّاتهم بعامةٍ، وتلك الاقتصاديّة بخاصّةٍ، أو حتّى إلى قمع هذه الحرّيّات. ولنتذكّر أنّ ثنائيّة «شرقٌ وغربٌ»، أو «اشتراكيّةٌ أو شيوعيّةٌ ورأسماليّةٌ أو ليبراليّةٌ»، أو «يسارٌ ويمينٌ» -والتي طبعت بطابعها القرن العشرين[10]- كانت تتضمّن، غالباً، تشديد الطرف الأوّل على العدالة ذات الطابع الجّمعيّ والمساواتيّ عموماً، «على حساب» الحرّيّة الفرديّة؛ وإعطاء الطّرف الثّاني الأولويّة للحرّيّة الفرديّة، في مقابل العدالة الاجتماعيّة أو المساواتيّة ذات الطابع الاقتصاديّ المهيمن. وقد دفع ذلك الكثيرين إلى التّساؤل عن كيفيّة، بل وعن مدى إمكانيّة، التوفيق بين الحرّيّة والمساواة، ضمن إطار نظريّات العدالة[11].

وإلى جانب، أو في مقابل، صيغة «لكلٍّ حسب عمله أو جدارته»، ظهرت صيغة «لكلٍّ حسب حاجته». ويدافع متبنّو الصيغة الأخيرة عن أولويّة الحاجة ومركزيّتها، في أيّ نظريّةٍ في العدالة. فعند توزيع الخيرات بين أعضاء المجتمع أو أفراد الدّولة، يجب أن تكون الأولويّة للمحتاجين ولسدّ حاجات المواطنين؛ ومن بعدها، يمكن الحديث عن المساواة أو الحرّيّة أو الجّدارة. لكن، ألا يمكن أن يفضي التّركيز على الحاجة أو على المساواة، على حساب الحرّيّة والإنجاز، إلى التّساوي في الفقر والافتقار، أكثر من التّساوي في إشباع الحاجات والاكتفاء؟ نجد، في نظريّة العدالة عند رولز عموماً، وفي مبدأي العدالة في هذه النّظريّة خصوصاً، إحدى أبرز المحاولات للتوفيق بين الحرّيّة والمساواة والحاجة، أو بين الليبراليّة والاشتراكيّة، في هذا الإطار. فوفقاً لهذين المبدأين -في صيغتهما النهائيّة[12]- تكون الأولويّة للمساواة في الحرّيّات الأساسيّة، ومن ثم للمساواة أو التّكافؤ في الفرص؛ ولا يمكن قبول ظواهر اللامساواة والتّفاوت الاقتصاديّ والاجتماعيّ، إلا في حال كانت هذه الظواهر تخدم مصالح الناس الأكثر فقراً وحاجةً. وتشير أولوية الحرّيّة إلى ليبراليّة رولز، في حين يشير تركيزه الكبير على حاجات الفئات أو الطّبقات الفقيرة - بوصفها معياراً لقبول أو تبرير أيّ تفاوتٍ أو لا- مساواةٍ- إلى الطابع الاشتراكيّ لنظريّته. ويختلط البعدان الليبراليّ والاشتراكيّ في تركيز رولز على فكرة التكافؤ الفعليّ في الفرص. وإنَّ المفهوم الأساسيّ الذي يطبع بطابعه نظريّة رولز عن العدالة هو مفهوم الإنصاف. ففي هذه النّظريّة، يتمُّ الحديث عن «العدالة بوصفها إنصافاً». ومن خلال هذا المفهوم تحديداً، حاولت نظريّة العدالة عند رولز أن تحلَّ التّوتّرات القائمة، أو التي يمكن أن تقوم، بين مفاهيم المساواة والحرّيّة والجدارة أو الاستحقاق والحاجة.

ولا تقتصر التّوترات المفاهيميّة على المفاهيم السابقة الذكر؛ فكلُّ نظريّةٍ للعدالة بحاجةٍ إلى توضيح علاقة مفهوم العدالة بمفهومي الحقّ والقانون، من جهةٍ، وبمفهوم الخير، من جهةٍ أخرى. ألا يمكن القول إنَّ العدالة هي «إعطاء كل ذي حقٍّ حقّه»؟ وهل الحقوق التي يجري الحديث عنها، في هذا الإطار، هي حقوقٌ «طبيعيّةٌ»، أم وضعيّةٌ، أم الاثنان معاً؟ وإنّ علاقة العدالة بالخير ذات طابعٍ معقّدٍ وإشكاليٍّ، لكنّها تبقى، في كلِّ الأحوال، علاقةً غير قابلةٍ للانفصام أو الانحلال، كما يؤكِّد روسّو، مثلاً[13]. والسؤال الأساسيّ، في هذا الإطار: هل يمكن اعتبار العدالة بمنزلة الحلقة الوسيطة بين الحقّ -بوصفه أكثر المفاهيم الأخلاقيّة تعيُّناً- والخير، بوصفه أكثر المفاهيم الأخلاقيّة تجريداً؟ وهل ينبغي للعدالة أن تتأسّس على مفهومٍ واضحٍ للخير، بوصفه غايتها؟

بدأت بعض نظريّات العدالة، في الفلسفة المعاصرة، تتناول كلّ الأسئلة السّابقة، وما يتّصل بها أو يماثلها، انطلاقاً من زاويةٍ مفهوميّةٍ جديدةٍ، تتمثَّل في مفهوم «الاعتراف recognition». وهكذا، بدلاً من الحديث عن العدالة بوصفها إنصافاً، برز الحديث عن العدالة بوصفها اعترافاً[14]. ولا تبدو صلة مفهوم العدالة بمفهوم الاعتراف واضحةً، كما هو حال صلته بمفهومي الإنصاف والمساواة، على سبيل المثال. وعلى الرغم من أنّ تاريخ الفلسفة والفكر عموماً لا يزخر بالكثير من الأمثلة التي تربط، ربطاً وثيقاً وواضحاً، بين مفهومي العدالة والاعتراف، إلا أنّ العقود الثّلاثة الأخيرة شهدت ظهور عددٍ كبيرٍ من الفلاسفة والمفكرين الذين تحدّثوا عن العدالة بوصفها اعترافاً. ولا يعني هذا أنَّ هذه النّظريّات ذات جدّةٍ مطلقةٍ، أو أنّها لا تنبني على نظريّاتٍ أو فلسفاتِ أقدم منها؛ على العكس من ذلك تماماً، فكلّ النّظريّات التي تتحدّث عن العدالة من زاوية الاعتراف تحيل على فلسفة هيغل التي تنبني بدورها، في هذا الخصوص، على فلسفتي روسّو وفيشته. وقد بلغ مفهوم «الاعتراف» درجةً من التّعقيد والغنى والعمق والسّعة، تسمح بالحديث عن فلسفةٍ تؤسِّس لهذا المفهوم وتتأسَّس عليه، في الآن ذاته.

[1] - مقتطف من كتاب "في فلسفة الاعتراف" الصادر عن دار مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع 2023

[2] - أرسطوطاليس، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ترجمة أحمد لطفي السيد، الجزء الثاني، (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، 1924)، ك 5، ب 1، ف 20، ص 61

[3] - أودو فورهولت، «العدالة - التصور الفلسفي لدى ليونارد نيلسون»، المجتمع المدني والعدالة، تحرير توماس ماير وأودو فورهولت، ترجمة راند النشار وآخرون، مراجعة علا عادل عبد الجواد، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010)، ص 139

[4]-Amartya Sen, ``Equality of what?,'' in Robert, E. Goodin & Philip Pettit, eds., Conteporary Political Philosophy: An anthology, (Oxford; Cambridge, Mass.: Blackwell, 1997), pp. 476-486

[5]- Amartya Sen, Inequality Reexamined, (New York; Oxford: Russell Sage Foundation & Clarendon Press, 1992), p. 16

[6] - Cf. Thomas Nagel, Equality and Partiality, (New York; Oxford: Oxford University Press, 1995).

[7]-Cf. Ronald Dworkin, Sovereign Virtue. The Theory and Practice of Equality, (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 2000), pp. 65-119

[8] - أرسطوطاليس، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ك 5، ب 4، ف 6، ص 73

[9] - جون رولز، نظرية في العدالة، ص 95

[10]-Cf. Steven Lukes, ``Epilogue: The grand dichotomy of the twentieth century,'' in Terence Ball & Richard Bellamy, eds., The Cambridge History of Twentieth-Century Political Thought, (Cambridge: Cambridge University Press, 2008), pp. 602-26

[11]- Cf. G. A. Cohn, "Are freedom and equality compatible?,'', in Jon Elster & Karl Ove Moene, eds., Alternatives to Capitalism, (Paris; Cambridge: Maison des Sciences de l'Homme; Cambridge University Press, 1993), pp. 113-26

[12] - انظر: جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، ترجمة حيدر حاج اسماعيل، مراجعة ربيع شلهوب، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009)، ص 148

[13] - انظر: جان جاك روسّو، إميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد، ترجمة نظمي لوقا، تقديم أحمد زكي محمد، (القاهرة: الشركة العربية للطباعة والنشر، 1958)، ص 213

[14] - انظر: الزواوي بغورة، الاعتراف: من أجل مفهومٍ جديدٍ للعدل، دراسةٌ في الفلسفة الاجتماعية، تقديم فهمي جدعان، (بيروت دار الطليعة، 2012)، ولم يتسنَّ لنا الاطلاع على مضمون هذا الكتاب قبل كتابة هذه النصوص.