مفهوم المصالح الإنسانية في الفقه والكلام


فئة :  مقالات

مفهوم المصالح الإنسانية في الفقه والكلام

 I

يقول الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداءَ لله ولو على أنفسِكم أو الوالدَين والأقربين. إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أَولى بهما. فلا تتّبعُا الهوى أن تَعدِلوا وإن تلْوُوا أو تُعرضوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيرا} (سورة النساء: 135). لقد عوَّدَنا دارسان كبيران للقرآن الكريم هما الشيخ محمد عبد الله دراز[1] من جهة، وإيزوتسو المستشرق الياباني[2] من جهةٍ ثانية على مدخلٍ جديدٍ في قراءة القرآن، هو المدخلُ القيمي أو الأخلاقي. وكلا الدارِسَين اعتبر آية القِسْط في سورة النساء أساسيةً للولوج إلى هذا المدخل. وكان هناك من استعار من بحوث اللسانيات اسماً لقراءة مفردات الخطاب، واعتبر أنّ تلك المفردات هي مصطلحاتٌ مفاتيحُ إذا صحَّ التعبير، ينبغي تحديدُها بطرائق معينة، ثم المُضِيَّ منها لفهم أصول الخطاب وعالمه المصطلحي والمضموني. وبهذا المعنى فإنّ مفرَداتٍ مثل القسط ويُضادُّهُ الهوى، تصبح ضروريةً للفهم والاستيعاب، واستكشاف مكوِّنات الخطاب وما يريد الوصولَ إليه. وهكذا يكون عندنا أمران اثنان وليس أمراً واحداً: المدخل القيمي والأخلاقي لقراءة القرآن. والمفردات أو المفاهيم المفتاحية الكاشفة لمفاصل الخطاب وعالمه المصطلحي.

لقد تداولت على بحوث الخطاب القرآني منذ القرن الثاني الهجري عدة فئاتٍ من العلماء كان منهم اللغويون والمفسِّرون وقراء القرآن والمتكلمون والفقهاء. ومنذ البداية ما استقلّت فئةٌ من هذه الفئات بالقراءة أوالتفسير والتأويل. كما أنّ تلك الفئات تساندت وتنافست - دون ان تتقاطع - على استكشاف عقل القرآن الكريم إذا صحَّ التعبير. ويُهمُّنا منها في هذا السياق: المتكلمون والفقهاء. أمّا المتكلمون فقد اهتموا بالجوانب العَقَدية، في حين اهتمّ الفقهاء بالجوانب التشريعية. وكلا الاهتمامين بدعوة القِسْط هذه كان سقفُهُ - إذا صحَّ التعبير أيضاً - المفاهيم القيمية والأخلاقية الكبرى ومشتقّاتها أو مترادفاتها التي تشكّل عالَم الرؤية القرآنية.

لقد أقام المتكلمون منظوماتِهم العَقَدية على مفردين أو مصطلحين أو قيمتين: قيمة العدل وقيمة الرحمة[3]. وبالطبع فإنّ المشتقات والواردات والمترادفات لهما وعليهما لا تكادُ تتناهى. فالقسط والاستقامة مَثَلاً على اختلافات السياق تؤدّيان معنى العدل أو مقتضياته. والبرّ والمعروف يؤديان معنى الرحمة. ولأنّ المثال الأعلى للقيمة هو اعتبارُها صفةً لله عزَّ وجلَّ؛ فإنهما صارتا في منظومات المتكلمين مناط الحكم والتركيز في علاقة الله بعباده، وفي علائق العباد فيما بينهم. وباعتبارهما كذلك، أي أنهما بالدرجة الأُولى صفتان لله عزَّ وجلَّ؛ فإنهما تتّسمان في متعلّقاتهما الإنسانية بالحضور والشمول. فالله سبحانه وتعالى هو خالقُ الخَلْق. وقد خلقهم من نفسٍ واحدة. وتبعاً لهذا الأصل فإنّ هذه المساواة تستتبع في شموليتها أو تقتضي القيم الأُخرى مثل الخير والكرامة والعقل والعدل والرحمة.

ما اختلف المتكلمون إذن بشأن وجود المشترك الإنساني. فالخلق واحدٌ، والبشر مخلوقاتُه. وهم يتساوون على اختلافهم ويتكاملون. وهم مُخاطبون جميعاً وعلى قَدَم المُساواة بالرسالات. وإنما اختلفوا على كيفية فعالية القيم والشرائع في أَوساطهم أفراداً وجماعات ومجتمعات. لقد اتفقوا بعد القول بالمشتركات، وشمولية الدعوة والخطاب، على أنّ العقل الإنساني هو مناطُ التكليف والإدراك والتفكير والتدبير؛ وفي العلاقة مع الله، كما في العلاقات فيما بينهم. ولذلك قالوا جميعاً ما توصَّل إليه أو توصَّل للتعبير عنه الحارث بن أسد المحاسبي (- 243هـ) من أنّ العقل غريزة[4]، بمعنى أنّ الناسَ يتساوون فيه. وهذه قيمةٌ إنسانيةٌ كبرى وجامعة ومشتركة. وقد كان هناك أيام أبي الهُذيل العلاّف والنظّام والمحاسبي تيارٌ فكريٌّ كبيرٌ يقول بتفاوُت العقول وتفاوُت الأفهام، وبالتالي تفاوُت الحظوظ والمسؤوليات. وذلك لأنّ الناسَ لا تتساوى عقولهم في أصل الخَلْق؛ وبالتالي فإنهم وإن تساَوُا في أصل الإنسانية، تتفاوتُ مراتبهم ووظائفهم وتكليفاتهم بناءً على تفاوُت الأصل. هكذا قال فلاسفةُ الإسلام[5]، وخالفهم المتكلمون والفقهاء في ذلك. إنما رغم الاتفاق على الأصلين: المساواة في الخَلْق، والتساوي في العقول، عادوا للاختلاف بشأن العدل والرحمة من حيث التراتُب والتفاضُل، ومن حيث علاقةُ الفعل الإنساني بالتنزيه الإلهي. وهذا الأمر عامٌّ بين أهل ديانات التوحيد. فهناك تيارٌ يُغَلِّبُ في العلاقة بالله عزَّ وجلَّ قيمة الرحمة. وهناك من يُغلِّبُ قيمة العدل. فالمرءُ يقع - بحسب المعتزلة - بين التنزيه والعدل الإلهي والعقل. أما أهل تيار النعمة والرحمة والفضل فالأمر عندهم بين التوحيد والقيم المترتبة عليه والصانعة لما صار يُعرف حديثاً برؤية العالم من جهة، والرحمة والنعمة التي تقع في أصل عملية "العقل عن الله"[6] في المجتمعات الإنسانية. فالعقل الكلامي والفقهي وإن يكن غَرَزياً يجعل من الُلبّ القرآني والفؤاد القرآني قوةً من قوى الإنسان شائعةً ومشتركةً في الأفراد والجماعة – لكنه بيقى عُرضةً للاقتراب من مقولة "العقل المجرَّد" المتفاوت والتراتُبي إن لم يرتبط أو ينضبط خلال تفاعُلِهُ النفسي والاجتماعي بالعقل عن الله من خلال صفاته وقيمه. وبالفعل فإنه في حين مضى تيار الرحمة والعقل عن الله باتجاه الحياة الأخلاقية العملية لإنسانية الإنسان؛ فإنّ تيار التنزيه والعدل، مضى باتجاه مسألة الحُسْن والقُبح العقليين في الحكم على العقائد والأفكار والأعمال[7]. وقد اعتبر المعتزلةُ ذلك ضرورةً أو مقتضىً من مقتضيات العدل الإلهي.فأهل التنزيه والعدل يهمهم التجريد والإطلاق وما هو ملائمٌ لهما. وأهل التوحيد والرحمة يُهمُّهم سريان قيمتي الرحمة والعدل في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية. المعتزلي يهمُّه ثباتُ مقولتي التنزيه والإطلاق . وأهل تيار النعمة تُهمُّهم آثار الإطلاق التوحيدي (أي تبلور المشتركات) في عوالم الكثرة والكون والفساد. إنّ قيم ومقولات الحرية والكرامة والعدل لا تتحقق في مواجهة الذات الإلهية أو في الاستقلال عنها؛ بل تتحقق بالتفاعل والتواصل مع الصفات الإلهية من جهة، وفطرة الخير لدى الإنسان، بحيث تبرز بوصفها مشتركاتٍ إنسانيةً فعلية. وهذا معنى التوتر الإيجابي بين الخالق وخطابه وواقع الاختلاف ومشتركات التعارُف باعتبارها عمليةً جدليةً واحدةً أو متفاعلة. وهذا بالضبط ما لا يريده المعتزلي من أهل تيار العدل. إذ يرى أنّ الشمولية الإطلاقية في خالق الخَلْق، لا علاقة لها بحياة وحركية بني البشر. وإنما تكونُ العلاقةُ وحسْب، من خلال العقل بميزانه في الحُسْن والقبح. وهذا تصورٌ عادلٌ أو مُلائمٌ من وجهة نظره، لأنه يضع الله سبحانه وتعالى خارج مواطن النزاع. ويظلُّ العدلُ تصوراً قوياً وفعّالاً عندهم رغم الفصل القاطع بين البُعدين الإلهي والإنساني فيه، لأنه قيمةٌ قرآنيةٌ، ولأنه داخلٌ في مطلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهو مسؤولية كبرى لأنه داخل في حرية الإنسان، وحرية اختياره، واستقلاله في ذلك[8].

إننا نعلمٌ من تطورات النقاش والجدال الكلامي أنّ التيارين تقاربا في النهاية. فالمعتزلي ما لبث أن قال باللطف إلى جانب العدل في العلاقة بين الله وعباده. وأهل الرحمة والفضل اعترفوا بمبدأ الحسن والقبح نصف اعتراف، عندما أعملوا مقياس الحُسْن والقبح العقلي خارج الأوامر والنواهي الشرعية. ولنعد إلى إيجاز جوامع مسألة المشترك الإنساني لدى المتكلمين من تياري الرحمة والنعمة، والتنزيه والعدل. تدور المسألةُ ضمن مبحثي الذات والصفات، والأسماء والأحكام. فالخالق واحد، والمخلوقون من البشر متساوون في أصل الخلق والقيمة والقدرات. والقناةُ التي تنزّل الوحي على الوقائع هي العقل الغَرَزي. ثم يختلف التياران. فيقول أهل التنزيه إنّ العدل هو القيمة العليا في العلاقة بين الله والبشر، وفي العلائق بين البشر أنفسهم. ومنهج الحسن والقبح العقلي هو السبيل لإحلال هذا المنهج وتحديد المسؤوليات. أما أهل الرحمة والفضل فيقولون إنّ غرزية العقل لا تُطِلُّ على مبدأي الحسن والقبح، بل على العقل عن الله، ومقتضاه الرحمةُ في العلاقة بين الله وعباده، والرحمةُ والعدلُ في علائق العباد بعضهم ببعض. فالمعتزلي يريد إعمال المشترك من خلال مبدأي الحسن والقبح العقليين. والصفاتيون يريدون إعمال المشترك الإنساني من خلال القيم القرآنية المتمثلة في الصفات والتي تُطِلُّ على المصالح الإنسانية الأساسية أو أنها تُقوّي الوعي بها بما يؤدّي إلى تحوّلها أعرافاً في المجتمعات بالمعنى الأخلاقي والسلوكي لذلك.

II

ما تحدّث المتكلم التنزيهي ولا المتكلِّم الصِفاتي عن المصالح الإنسانية، بل تحدَّثا عن المشترك الإنساني بشكل غير مباشر من خلال صفات وقيم الرحمة والعدل، والتي تتنزل على مجتمعات النفس الواحدة والكرامة والخير العام والاستخلاف والعمران - إمّا بمقياس الحُسْن والقبح، أو من خلال الصِفات والقيم التي يُشيعُها العقلُ عن الله (=البصيرة) في الأنفس والآفاق، والأفراد والمجتمعات. فالمتكلم حتى لو كان صفاتياً تغلب عليه الصبغةُ العقَدية، والتي تُغَلِّبُ رؤية الوجوب والتكليف. فالطريف أنّ أهل الحُسْن والقبح ما اشتغلوا حتّى على الرأْي الذي عمل عليه الفقهاء العراقيون من أهل الكوفة. بيد أنهم قبلوا أساساً مشتركاً حتى مع خصومهم من الفقهاء، هو اعتبارُ العقل غريزة، أي قوةً من قوى النفس الإنسانية مثل سائر الغرائز والدوافع الأُخرى. والقُوى هذه ذات وظائف متمايزة لكنها تتكامل في قضاء الحاجات الأساسية للإنسان. ووظيفةُ العقل الغَرَزي هذا إدراكُ الواردات من خارج، والانصرافُ إلى التدبير على أساس ذاك الإدراك. وهذا الإنجاز، أي القول بغَرزية العقل نجده مروياً عن أبي الهُذيل العلاّف المتوفَّى عام 227هـ، وهو متكلمٌ معتزليٌّ كبير. لكنّ الثابت والذي وصل إلينا مكتوباً في هذه المسألة رسالة الحارث بن أسد المحاسبي (- 243هـ): مائية العقل وحقيقة معناه واختلاف الناس فيه[9]. وهذا المذهب مرويٌّ أيضاً عن مُعاصره أحمد بن حنبل (- 241هـ)[10]. والمحاسبي ما كان صديقاً للمعتزلة، ولا كان على وِفاقٍ مع أحمد بن حنبل. وإنما كان زاهداً صفاتياً من أهل لاهوت الرحمة. ويدلُّ ذلك على الاتفاق بين المتكلمين وطلائع الفقهاء والمحدِّثين في هذه المقولة الأساسية الخاصة بعالَم الإنسان، وتساوي الناس في العقول، بخلاف ما كان يقوله فلاسفة الإسلام، والذين يبدو أنّ المحاسبي كان يردُّ عليهم في رسالته في العقل.

إنّ أهمية هذه المقولة أنها تُطِلُّ بنا على عالَم الإمكان، والاختيار الإنساني، وليس لكي تُحدث قطيعةً مع عالم الوجوب والإطلاق؛ بل لكي تقيم تواصُلاً وتفاعُلاً معه من خلال الصِفات والقيم القرآنية والعقل عن الله، بحسب تعبير المحاسبي.

بيد أنّ المُلاحَظَ أنه عندما كان المتكلمون يتحولون عن مباحث الذات والصفات، والأسماء والأحكام في النصف الثاني من القرن الثالث، وينصرفون إلى بحوث الجواهر والأعراض وتكوين العالم - فإنّ تلامذة الإمام مالك بن أنَس (- 179هـ) كانوا يتحدثون عن "المصالح المُرسَلة" باعتبارها من المصادر الثانوية أو الفرعية للتشريع إلى جانب "عمل أهل المدينة"[11]. والطريف أنّ هذا الأمر بدا وكأنه تحررٌ من نوعٍ ما من الالتزام بالقياس، لأنّ "المصلحة" نظرٌ شبه استقرائي في الحاجات الجامعة أو العامة للناس، واعتبار الحاجة العامة تلك مسوِّغاً تشريعياً إذا صحَّ التعبير. في حين ما جرؤ أصحابُ الرأْي على ذلك، واعتبروا حالات الخروج القليلة على القياس "استحساناً"؛ مع أنّ أصلَ الاعتبار واحدٌ. إذ الأمر في حالة الاستحسان كما قال الجصّاص الحنفي هو توخِّي الأصلَح للناس[12]. وكان القدوري الحنفي أقلّ جرأةً عندما عاد فقال بل إنّ الاستحسان هو في الحقيقة قياسٌ خفي[13].

هناك كلامٌ كثيرٌ منذ القديم - كما يعرف المتخصصون في الفقه وأُصوله - عن علائق الفقه بالكلام، وأنه مستقلٌّ عنه أصولاً واهتماماً. فالمتكلم معنيٌّ بالشأن الاعتقادي كما تبين من الفقرة السابقة. في حين يُعني الفقيه بالأحكام الواردة في القرآن والسنة وإجماعات السلف الصالح والمتعلقة بالعبادات، والمُعاملات أو معاش الناس. إنما حتى لو اعتبرنا ذلك صحيحاً، فما الذي يفعله الفقيه بخطاب الشارع العامّ في القِسْط والمعدَلة والاستقامة والإنصاف دونما حكمٍ صُراح وإنما هو الأمر والنهي العام أو التوجيه؟ كان هناك من قال إنّ الفقيه غير مَعْنٍ إلاّ بما يتضمن حكماً أو يؤدّي إلى حكم. وكان هناك من قال: بل المقصود بالتوجيهات العامة السلطات والقضاء. وكان هناك من قال أيضاً إنها نصائح تربويةٌ وتوجيهيةٌ للأفراد وتوجيهات في الفكر والتصرف. وعلى أيّ حالٍ فإنّ المؤرخين لأُصول الفقه اعتبروا منهج أهل الرأْي منهجاً في النظر إلى الجزئيات؛ في حين أصَّل الشافعيُّ للكليات[14]. وعلى هذا الأساس فقد اعتبر بعض الشافعية وأهل الحديث المجتهدين في الجزئيات من أهل الرأْي مبتدعة لأنهم يجتهدون على غير أصل. لكنْ أين نضعُ المالكية والحنابلة من هذه القسمة، وقد تحدث المالكية عن المصالح، وكانت للإمام أحمد آراء متعددة في أكثر المسائل الواردة عليه، وليس كما يقال تبعاً للأثر أو للآثار فقط، بل ولاعتبار المصالح.

فلنعُدْ إلى اهتمامات الفقهاء بالمشتَرَك الإنساني (إذ صحَّ التعبير) من خلال أمرين؛ اتجاه الأُصوليين الأوائل إلى فقه التعليل ذهاباً مع القياس إلى الآخِر. واتجاه قِلّةٍ إلى التصريح بإنشاء الأحكام وليس باكتشافها بالتحدث عن فقه المصالح. إنما هل صحيحٌ أنّ عِلَل الشرائع أو الأحكام تتناقضُ مع إدراكات المصلحة[15]؟ الحكيم الترمذي - وهو ليس فقيهاً بارزاً بل هو صوفيٌّ كشفي من القرن الثالث - استعمل ثلاثة مفردات: العِلَل والمصالح والمقاصد. وهو استخدمها بمعنًى واحد أو معاني متقاربة. ومع ذلك فإنّ القرن الرابع وأوائل الخامس شهد ظاهرةً مفاجئةً إذا جاز اعتبارُها كذلك، وهو اتجاه عددٍ من الفقهاء ذوي التوجهات الصوفية أو الفلسفية إلى توسيع النظر الفقهي باتجاه القيم والأخلاق. ومن هؤلاء أبو زيد الدبُّوسي في كتابه: الأمَد الأقصى. والماوردي في أدب الدنيا والدين - والراغب الأصفهاني في: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين. فلكلٍ من هؤلاء مؤلَّفات في الفقه والأُصول لا يظهر فيها النزوع الأخلاقي أو الصوفي أو الفلسفي. لكنهم - كما سبق القول - كتبوا مؤلَّفاتٍ مستقلّةً ذات طابع أخلاقي همُّها كما قالوا صلاح أو إصلاح حال الإنسان، هكذا بشكلٍ عام. وقد قسّموها إلى أبوابٍ وخُطاطاتٍ تَغَصُّ بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية ذات الطابع القيمي والأخلاقي التوجيهي والسلوك العملي. ونحن نعلمُ أنّ القرنين الرابع والخامس شهدا ظهور فلاسفة للأخلاق في المجال الإسلامي، اعتمدوا جميعاًعلى فلسفتي أرسطو والأفلاطونية المُحْدَثة، وهدفت تلك الكتب صراحةً إمّا إلى تهذيب الأخلاق من خلال الرياضات العقلية أو الروحية، أو إلى تحصيل السعادة والإسعاد، كما ذهب لذلك أبو الحسن العامري والفارابي[16]. وأريد التنبيه في هذا السياق إلى اتجاهٍ ثالثٍ أو رابع في الثقافة الإسلامية تبلور في تلك الحقبة أيضاً: هو الاتجاه الصوفي. وقد اعتاد مؤرّخو التصوف إلى اعتباره اتجاهاً عرفانياً. وهو في الحقيقة يرمي إلى استكشاف أسرار النفس الإنسانية وسرائرها. فالمتكلم يُعنى بالإيمان والاعتقاد، والفقيه يُعنى بصلاح الإنسان في التفكير والسلوك. والصوفي والفيلسوف يُعنيان بالرياضات العقلية والروحية. إنما الصوفي من خلال التأمُّل الداخلي، والفيلسوف من خلال الثقافات الإغريقية الواردة. إنها جميعاً بحوثٌ في الإنسان إذن، وفي المشترك الإنساني. ولذلك قال دارس الإسلاميات المعروف جورج مقدسي إنّ الثقافة الإسلامية الوسيطة عرفت بحوث الإنسانويات أولاً، ثم المدرسيات الكلاسيكية فيما بعد. في حين عرفت أوروبا الوسيطة بحوث ودراسات المدرسيات الكلاسيكية أولاً، ثم الإنسانويات ثانياً[17].

******

إنّ الذي أردتُ الوصولَ إليه من وراء هذا الاستعراض أنّ التيارات الفكرية والثقافية في الحضارة الإسلامية القديمة انفتحت وتداخلت، وأفاد كلٌّ منها من الآخر أو الآخرين. وكان الفقيه واقعاً في قلبها. والمثال الأبرز على ذلك في تلك الفترة هو أبو حامد الغزالي الذي كتب مؤلَّفاتٍ باقية وبارزة في كلِّ هذه الفنون: في الفقه والأصول، وفي الفلسفة ونقدها، وفي علم الكلام، وفي الأخلاق، وفي التصوف. وقد نجم عن هذا التداخُل في ثقافة الفقيه وعمله ظهور فقه المصالح الإنسانية العامة أو المشتركة عنده وفي مجاله. وهو فقهٌ يرمي كما قال الغزالي والعز ابن عبد السلام[18] إلى إصلاح حال الإنسان استناداً - كما قال إمام الحرمين والشاطبي فيما بعد - إلى التطابق أو التماهي أو التلاؤم الحاصل بين عقل القرآن أوخطابه أو دعوته والمصالح الضرورية الباقية أو التي لا يُتصوَّرُ للبشر عيشٌ أو استمرارٌ اجتماعيٌّ دون تحققها. وقد قال الشاطبي إنّ تلك القناعة حصلت لديه بالاستقراء. لكنْ بين الشاطبي وإمام الحرمين الذي أورد للمرة الأولى فيما نعلم كشفاً بالمصالح الضرورية الخمس[19] زُهاء الثلاثمائة عام، فهل كان الجويني استقرائياً أيضاً؟

إنّ الذي أراه أنّ فقه المصالح هذا إنما ظهر نتيجة التداخُل والنُضج، والبصيرة التي اكتملت وجعلت الماوردي خصم الجويني أيضاً يتحدث عن القواعد اللازمة لصـلاح حال الإنسـان أو الوجود الإنساني أو قواعد صلاح الأَنام بحسب تعبير العز ابن عبد السلام. واستقراء الشاطبي بعقليته الفقهية هو الذي حوَّل تلك القواعد إلى علمٍ أو فلسفة.

فلنتأمَّلْ في هذا العلم التجريبي أو الاستقرائي. ما يزال مؤرّخو الفقه الإسلامي حائرين فيه: هل يعتبرونه علماً مستقلاً أو يلحقونه بأصول الفقه. أنصار إلحاقه بأُصول الفقه يذهبون إلى أنه كان في الأصل من الأدلة الفرعية عند المالكية. أو أنه كان من مباحث تحقيق المناط ضمن بحوث العِلّة في القياس. والذين يذهبون لاستقلاليته يقولون إنه من طبيعةٍ تُخرجُهُ من القياس لأنّ القياس يتطلب انضباطاً شديداً يأباه تكاثر المصالح وتجددُها وتعدُّدها أوعدمُ تحددها بحدودٍ وقيودٍ من أي نوع. وقد اعتقد ابن قيم الجوزية (- 751هـ) أنه حلَّ المشكلة عندما قال إنّ الشريعة خيرٌ كلُّها ورحمةٌ كلُّها، فحيثما تحققت المصلحةُ فثمَّ شرعُ الله. وهذا كلامٌ جليلٌ وجميلٌ عن الشريعة، وليس عن المصالح والمقاصد. ولننظر في تقسيمات وتصنيفات الشاطبي لتدرج المصالح بين الضروري والحاجي والتحسيني. فنجد أنها تدرجاتٌ أو تعبيرات تتعلق بالقيم والأخلاق، أكثر مما تتعلق بالتشريع أواستنباط الأحكام. ولـذلك كان شيخنـا محمد أبـو زهرة رحمـه الله متـردداً في وضـع علم المصـالح أو المقاصد ضمـن علم أصـول الفقه، وكان يقـول: علم الأصـول هو بالدرجة الأولى علم الأدلّة والمصـادر، وهدفُهُ قـراءة الجوانـب التشـريعية من الخطاب الإلهـي، أمّـا المقـاصد فيـمكن اعتبـارها في أحسن الأحوال مقـدمات. ولـذلك قـال مـرةً في محاضرة لقـد أصـاب اللبنانـي صبحي المحمصـاني في تسمية ذلك العلم - تبعاً للشيـخ مصطـفى عبد الرازق -: فلسفة التشريع. وهذا لولا أنهما اعتبرا أصول الفقه كلَّها فلسفةً للتشريع!

فلنستجمع أطرافَ الحديث - كما يقول التعبير العربي - عسانا نصل إلى توطينٍ لعلم المصالح أو المقاصد. بدأ الأمر بالأسماء والصفات والقيم الكبرى في الخطاب القرآني. واتّصل المطلق بالنسبي والإنساني المشترك لدى المتكلمين بغَرَزية العقل وتساوي وتكامل قوى النفس الإنسانية. وعندما انصرف المتكلمون إلى بحوث الجوهر والعرض والمنطق والتولُّد وما شابه، تسلَّم الفقهاء الدفَّة وأبدعوا فيها لولا أن حاصروا أنفُسَهم في بوتقةَ القياس وتدقيقاته، وصورية المنطق اليوناني. ثم تصحَّح المسار واتّسع وإنْ لم يتّسق بالعودة إلى الأبعاد القيمية والأخلاقية للخطاب القرآني. وهذا الاتّساع هو الذي سدَّد النظر من جديد إلى المصالح الجامعة أو المشتركة أو الضرورية. ورغم أنّ الغزالي ما كتب في المصالح كتاباً مستقلاًّ، لكنه اعتبر مبحث المصالح مبحثاً أخلاقياً يتصل بطبيعة الشريعة أكثر مما يتصل بالتشريع. والذي يقرأ كتاب العز ابن عبد السلام في المصالح، ورسائله الاُخرى في الواردات، يدرك أنه كان يعتبر فقه المصالح بحثاً في الأخلاق. وبذل القرافي والشاطبي جهداً جباراً من أجل اعتبار المصالح من أدلّة التشريع، فنجحا في تحويل المقاصد والمصالح إلى علمٍ دون أن ينجحا في استخدامه لاستنباط أي حكم. وهكذا فإنّ الذي أراه أنّ علم المصالح الضرورية هذا هو نظريةٌ إسلاميةٌ في الإنسان، أو أنه فلسفة الوجود الإنساني في التيار الرئيسي في الفكر الإسلامي.

www.ridwanalsayyid.com

القيت المحاضرة في مسقط/عمان تاريخ 2014/4/7


[1] محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم. القاهرة: 1956

[2] Izutsu: The Structure of the Ethical Terms in the Koran. Tokyo 1959; Ethico - Religious Concepts in the Qur’an. Montreal 1966.

[3] قارن برضوان السيد: منظومة القيم والحياة الأخلاقية في الرؤية الإسلامية؛ في مجلة التسامح، عدد 28، ص ص 12-23، وشواهد التغيير ومشاهده في القرآن الكريم؛ في مجلة التفاهم، عدد 34، ص ص 28-47

[4] الحارث بن أسد المحاسبي: العقل وفهم القرآن. تحقيق ودراسة حسين القوتلي. (بيروت: 1978)، ص ص 201-202. وقارن بدراستي عن المحاسبي بعنوان: القرآن والعقل والتأويل عند المحاسبي، في أعمال الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، 2012، ص ص 38-52

[5] قارن بدراستي: العقل والدولة في الإسلام: دراسة مقارنة لمفاهيم الاجتماع البشري والعقل والتدبير عند الفلاسفة والفقهاء؛ في: الأمة والجماعة والسلطة، الطبعة الخامسة 2011، ص ص 190-196

[6] التعبير للمحاسبي في رسالته: مائية العقل، وكتابه فهم القرآن. وكتابه الآخر المشهور: الرعاية لحقوق الله.

[7] القاضي عبـد الجبار بـن أحمد: المغني في أبواب التوحيد والعدل. م13، 217-225. وشرح الأصول الخمسة له، ص ص 117-125. وقارن بعبد الرحمن بدوي: مذاهب الإسلاميين، ص ص 311-333، 412

[8] قارن بعبد الجبار الراوي: العقل والحرية في تفكير المعتزلة. بيروت: 1973، ومحمد عمارة: المعتزلة والحرية الإنسانية. بيروت: 1976

[9] نشر رسالة "مائية العقل" حسين القوتلي مع "فهم القرآن". ونشرها عبد القادر عطا مع رسائل أُخرى للمحاسبي.

[10] الفراء: العُدّة في أصول الفقه، م1، ص ص 66-67

[11] محمد المختار محمد الماحي: في انفراد المذهب المالكي باعتبار المصالح المرسلة؛ في: المذهب المالكي، مدارسه ومؤلفاته وخصائصه وسماته. أبوظبي: مركز زايد للتراث والتاريخ، 2002، ص ص 415-424

[12] أبو بكر الجصّاص: الفصول في الأصول، م2، ص ص 61-62

[13] مختصر القدوري، ص ص 76-77

[14] قارن عن هذه المسألة الإشكالية في تاريخ أصول الفقه؛ مقدمة ابن خلدون. نشرة إبراهيم شبّوح، م2، ص ص 216-221. وانظـر وائـل حـلاّق: تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام، مقدمة في أصول الفقه. بيروت: 2007، ص ص 171-215

[15] وائل حلاق: تاريخ النظريات الفقهية. مرجع سابق. ص ص 217-237

[16] العامري: في: السعادة والإسعاد- والفارابي في: تحصيل السعادة

[17] G. Makdisi: The Rise of Islamic Humanism, 1974. PP. 208-214.

[18] الغزالي في المنحول، وفي إحياء علوم الدين. وعز الدين ابن عبد السلام في كتابه المشهور: قواعد الأحكام في مصالح الأنام.

[19] الجويني: غياث الأمم في التياث الظُلَم. نشرة عبد العظيم الديب، ص ص 228-234