من أجل تجاوز التماهي اللامعرفي بين الدين والأخلاق


فئة :  مقالات

من أجل تجاوز التماهي اللامعرفي بين الدين والأخلاق

 تذهب الدراسات الاجتماعية والأنثربولوجية والفلسفية إلى أن ثمة حضارات ربما تكون قد قامت من دون ارتكاز ديني، لكنّ هذه الدراسات ترى أنْ لا حضارة قامت من دون أساس أخلاقي أو قانوني ناظم للاجتماع، يتيح تبادل المصالح بين الناس وقضاءها، وتحسين شروط عيشهم.

مثل هذا الحديث يقود إلى ضرورة فتح النقاش مجدداً حول الدين والأخلاق؛ فالطقوس والعبادات تؤدَّى بدافع الطاعة والامتثال الكامل، غير أنّ المعضلة هنا، وفق عزمي بشارة «هي أن الطاعة الناجمة عن الإيمان المطلق من جهة، أو عن الخوف من العقوبة من جهة ثانية، لا تؤسس للأخلاق. الأولى تؤسس للتقوى في أفضل الحالات، وقد تؤسس للتعصب. والتعصب قد يدفع لأعمال غير أخلاقية. والثانية تؤسس لنفعية ذاتية وليس لأخلاق».

ومن شأن الاشتغال على هذا الحقل التأسيس لمعنى تجديدي وتنويري للتدين متصالح مع العقل والأخلاق، ومن ثم إعادة صوغ المُثُل الدينية عبر ارتكازها على المشترك الإنساني العام، والوعي الإنساني العام الذي بقدر ما يُدرك أن «الواقع يخون المُثُل دائماً، (فإنه يبقى عارفاً) بأن المُثُل تظل دافع الإنسانية الخيِّرة في نضالها المستمر ضد الأنانية والظلم والتسلُّط. والإصلاح الديني الحقيقي ليس الذي يُواجه المُثُل الحديثة بالمُثُل الدينية، بل هو الذي يعيد صياغة المثل الدينية لتُشارك آلاف البشر من كل التقاليد الدينية في ذلك النضال».

إعادة صياغة المثُل الدينية

إن إعادة صياغة المثُل الدينية، في تقديرنا، ركيزة أساسية في أي إصلاح ديني مرتجى، وإعادة الصياغة، في الحالة الإسلامية المعاصرة، إذا جاز هذا الوصف، تقتضي الانطلاق من أربع نقاط أساسية:

الأولى، أن المثُل الدينية في الإسلام لا تستهدف، في الحقيقة، إقامة "يوتوبيا"، وإنما تستهدف إقامة واقع تظلله القيم والمُثُل. والتاريخ يبيِّن أن التجارب الإنسانية في بناء الدول والمجتمعات التي تبنَّت (أي التجارب) رؤية طوباوية للأخلاق وتحقيق الفضيلة كاملةً بين الناس، وإرغامهم على تبني مدوَّنة سلوك تنميطية لأفراد المجتمع كان مصيرها الفشل، وهو مجال لأخذ الدروس والعِبَر من قِبَل أي أيديولوجيات خلاصية تتبنى النهج ذاته تحت لافتات عديدة؛ مثل: "الأمن الأخلاقي" أو حملات "نشر الفضيلة" أو لجان "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".

الثانية، أنَّ واقعية المثُل الدينية في الإسلام، تعني أن استمرار الفرد على المطابقة مع تلك المثل ومع المستوى العالي الذي تنطوي عليه، لم يتحقق له الوجود في أي فترة من فترات الحضارة الإسلامية، ناهيك عن أن يكون في وقتنا الحاضر، وهذا يدفع إلى التنبيه إلى الإشكالات والتعقيدات التي تولَّدت عن مساهمات الخطباء والمفتين والمؤسسة الدينية التقليدية والعقل الفقهي والسلفي في "أسْطرة" القرون الأولى من التاريخ الإسلامي، على وجه الخصوص، بشكل نزع عنها صفة التاريخية، وبتنا وكأننا أمام "أخلاقية دينية لا تاريخية" أو "خصوصية أخلاقية"، لا تخضع لشروط الزمان والمكان ورغبات البشر وميولهم وأهوائهم وتقلباتهم ومدى صعودهم في سُلَّم الأخلاق أو ارتكاسهم فيه. بمعنى آخر، لقد أوجد العقل الفقهي السَّلَفي «تماهياً لامعرفياً بين الدين و(تجليات) الأخلاق، وأصبح كل ما يرتضيه الدين فضيلة، وكل ما لا يرتضيه الدين رذيلة. أو بمعنى أدق أصبح كل ما كان يرتضيه الدين منذ أكثر من 1400 عام، حسب العادات والأعراف السائدة وقتها، فضيلة يجب أو يمكن الأخذ بها في عصرنا هذا، وإنْ رفضه العقل (مثل ضرب الزوجات والأطفال لغايات التأديب وخلافه، ونكاح القاصرات، وختان البنات...)، وكل ما كان لا يرتضيه الدين حينئذ رذيلة يجب نبذها، وإن قبله العقل».

لعل هذا ما يدفع عبد الكريم سروش إلى تقديم تفسير يوضِّح ويحلل تبدُّل القيم وتغيُّرها من زمن لآخر، ومن ظرف لآخر، ومن بيئة لأخرى، بالتمييز بين القِيَم، وتصنيفها في فئتين رئيستين: قيم خادمة، وقيم مخدومة. ويقول سروش في شرح ذلك: «يمكننا تحديد كون القيم خادمة أو مخدومة من خلال علاقتها بالحياة. فثمة فئة من القيم الأخلاقية تُنذَر لها الحياة، وهناك فئة أخرى تُنذَر هي للحياة. القيم التي تُنذَر لها الحياة نسميها قيماً مخدومة، أي أننا نضطلع بخدمتها، أما القيم المتوخاة للحياة فهي القيم التي نسميها قيماً خادمة. والواقع أن القسم الأعظم من الأخلاق تشغلها قيم خادمة، فـ99% من القيم خادمة، و1% منها مخدومة، إنْ بلغتْ الـ1%، وأي تحوُّل على الحياة ينعكس، لا محالة، على مسرح الأخلاق (القيم الخادمة للحياة)، وإذا كان الدين قال كلمته في القيم المخدومة، فإنه لم يفعل ذلك مع القيم الخادمة؛ لأن الثانية، وهي غالبية القيم الأخلاقية، تتصل بأواصر وطيدة بنمط الحياة، وهي في الحقيقة "آداب" لا "فضائل"».

هنا، نؤكد أن مما قد يسعف في نقد ومراجعة وتجاوز التماهي اللامعرفي بين الدين والأخلاق أمرين:

1ـ الالتفات إلى «أن (تمثُّلات) الأخلاق نسبية في الزمان والمكان، وبالتالي فإن تجليات الفضيلة ذات مفهوم متغير، يختلف باختلاف الطرح وصاحب الطرح، سواء أكان فرداً أم جماعة. فالفضيلة التي يتحدث عنها سقراط وتلميذه أفلاطون، هي غير تلك التي يتحدث عنها أرسطو المنتقد لأستاذه أفلاطون، وهي غير تلك التي يطرحها مكيافيلي باختلاف كليٍّ، وهي ليست الفضيلة والأخلاق ذاتها التي يطرحها نيتشه، وعلى ذلك قس»، وفق الباحثين.

2ـ الانتباه إلى محدِّد مهم في مجال المعرفة الأخلاقية، فما «يمكن الحصول عليه من الكتب الدينية هو قواعد عامة ومعايير خُلُقية محدودة. فالمعرفة الخُلُقية؛ مثل العلمية، غير متضمَّنة في الكتب المقدسة. والنصوص العينية؛ مثل إقامة الحدود وغيرها، تبقى جائزة؛ لا لأنها مشتقة من قواعد عامة جائزة وغير ضرورية فحسب، ولكن أيضاً لأن التفكير في تناقضها مع قيم أخرى، أو نشوء شرٍّ عند تطبيقها أكبر من الشر الذي تمنعه، تجعل غالبية المتدينين لا يطبقونها، ويظلون مع ذلك متدينين، أي إنهم ينفون عنها صفة الإطلاقية في سلوكهم نفسه. أما النصوص العامة المتضمَّنة في النصوص مثل "لا ضرر ولا ضرار" أو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في الإسلام، فهي قواعد عامة إلى درجة أن من الممكن أن تكون موجودة في ديانات أخرى أو ثقافات أخرى، ولا تميِّز بالضرورة ديناً بعينه».

الثالثة، أن نزع "الأسْطرة" عن التجارب الأولى في العصور الإسلامية فيما خصَّ الاعتقاد بأنها انطوت على "درجة قياسية" من الامتثال والتماهي مع أعلى رُتب الصلاح و"الالتزام" والانضباط الأخلاقي، من شأنه تقليص دوائر الالتباس بأن ثمة خصوصية أخلاقية إسلامية تقف عائقاً أمام محاولات إشاعتها بوصفها منظومة قيمية إنسانية عامة، لا تختص بمجموعة من البشر دون غيرهم.

الرابعة، أن مسألة تمثُّلات الأخلاق في الاجتماع الإنساني مسألة حياتية يومية، تعني كل فرد من أفراد أي مجتمع، ولذا فإن تأطيرها ينبغي ألا يكون بمعزل عن الثقافة والقانون واللوائح الدستورية الخاصة بحقوق الإنسان كما استقرت وتبلورت في عصرنا الحديث، كما إن تمثُّلات مسألة الأخلاق لا تنفصل عن ظروف السياسة والاقتصاد والحكم، ومن ثم فإن توسيع فرجار الرؤية عند مقاربة مسألة الأخلاق في سياقها الاجتماعي التفصيلي والتطبيقي، ربما يكون من شأنه أن يضعنا أمام "أخلاقوية شعبية"، تُقدِّمها حركات سياسية عديدة في سياق رؤيتها للسلطة والدولة والحكم وإدارة المجتمع والشأن العام.