من الحراك الاجتماعي إلى الحراك المواطني: قراءة في ديناميكيات الفعل


فئة :  مقالات

من الحراك الاجتماعي إلى الحراك المواطني: قراءة في ديناميكيات الفعل

مقدمة:

لقد أظهرت نتائج الانتخابات الرئاسية 2019 في تونس، أنّه يصعب فعلا الفصل على مستوى الأفعال والممارسات بين ما يتّصل بقيم الشّباب، وما يرتبط بالمؤسّسات والخبرات والعلاقات التي يعيشونها. فالأفعال ليست منطلقات خارجة عن السياق المجتمعي، "وهي مرجعيات يبرر الشباب وفقاً لها أفراداً وجماعات مواقفهم واختياراتهم وتفضيلاتهم"[1]، وتتحدّد هذه المواقف من خلال ظروف وجودهم الاجتماعي الذي جمع بينهم وتأثير المؤسّسات في حياتهم، بدءاً من الأسرة والمؤسّسة التّعليمية، ومروراً بالإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي وصولا للشّارع. "وهذه المؤسسات ليست أوعية خاوية من المحتوى وقواعد السّلوك، وإنما يتأثر محتواها بحصاد سياق مجتمعي، له تضاريسه التّوزيعية للثروة والسلطة، وله تجليات تاريخية ومعاصرة تسهم في تشكيل مرجعيات الفعل للشباب"[2].

1. البحث في دينامكيات الفعل: طريق لفهم الواقع على حقيقته

إنّ محاولات الفهم والتّأويل لمجمل الأحداث والوقائع الاجتماعية التي يعيشها النّسق المجتمعي في تونس يحتاج في مرحلة أولى إلى الاعتراف بأنّ الشباب في تونس يتحرّكون من أجل بناء وضع نوعي. ينحتون فيه بحراكهم المواطني لقيم المستقبل، بتوجه مباشر للتّغيير من خارج الصندوق المتقادم، ومن خارج سلطة البلاط الموروثة، لأن مجمل أهدافه التي هتف من أجلها لم تتحقّق بعد، والتي من أجلها رفع شعارات الحراك الثوري، والتي يتطلّع اليوم، إلى تحقيقها بأسلوب مختلف ينزع فيها إلى تحريك قوى الشارع. هذا الفضاء المشترك -الموصوم بالهامش- الذي تخلّص من رقابة السيستام، وأصبحت خيوط حراكه بيد قوى الشباب، والذي سمح لهم أن يعبّروا فيه عن أمرين يستوجب التوقف عندهما:

- أفعالهم التي لا يمكن تصنيفها على أنها ردود أفعال تجاه ما تكرسه المؤسسات الاجتماعية عليهم، ولكنها أفعال ينتجونها ويحددونها من خلال توجهاتهم الثقافية، ومن خلال الصراعات الاجتماعية التي انخرطوا فيها[3].

- سقوف تفضيلاتهم واختياراتهم، وهي سقوف تتحدّد بأنماط توزيع الفرص الاجتماعية بينهم، من حيث موقعهم الطبقي، وطبيعة الفضاء النوعي للمجتمع المحلي الذي يعيشون فيه.

الحركة الاجتماعية قائمة على وعي جمعي، وتحمل صفات الشمولية من أجل النجاح في التأثير على الرأي العام، والحصول على الحقوق والمطالب

ومن هنا، لا يمكن فهم هذا الفعل المجتمعي الذي اختار الشارع -الممثل الرمزي للهامش- ليقطع مع المفهوم التقليدي للمؤسسة، والتنظيم، وتقاليد التعبئة، على أنّه مجرد حالة تمرّد، تتمّ على هامش المجتمع دون تأثير كبير، بل يجب إخضاعه في البداية لحفريات ألان توران[4] حول الحركات الاجتماعية الجديدة التي تتشكل على أساس ثلاثة مبادئ:

- مبدأ الهوية، والتي يمكن أن تكون متعددة ومركبة: شباب يمثلون فئة اجتماعية ممتدة من حيث الكم في الجغرافيا السكانية للمجتمع التونسي، يمثلون طبقة اجتماعية تقف على هامش وأطراف السيستام الذي يمثل لها خصم اجتماعي واقتصادي وسياسي. إذن، فهدف هذا الحراك يحمل فكرة وقضية مواطنية يمكن اختزالها في شعار -مانيش مسامح[5]- وفي رموزه المحرّكة الأولى للشارع، وتعبئته في فترة الانتخابات الرئاسية الثانية.

- مبدأ التعارض: يقوم على تحديد الخصم، وقائم على سؤال لماذا الحركة الاجتماعية؟ وهنا يمكن الإجابة من خلال مجمل الشعارات التي ظهرت خاصة في فترة الانتخابات الرّئاسية الثانية، والتي تمحورت حول -السيستام- أي النّسق الذي يدير دواليب العالم السياسي، والذي أصبح هو العطب الأساسي في كل ما هو اجتماعي وما هو اقتصادي. ويصبح النسق هو الخصم الأول لهذا الحراك ولا نعني به الدّولة ولا مؤسساتها في مفهومها الرمزي، ولكن فاعليها المتحكمين من الداخل فيها. فالسيستام يعيد إنتاج نفسه طيلة ثماني سنوات، ولم ينجح الفاعلون -الذين يمتلكون تاريخا في السياسة- في إعادة تشكيله. فكان من الواجب الدّفع بفاعلين من خارج مؤسّسات هذا النسق -يشبهون الشارع، ويشبهون الهامش- لإسقاطه، والقطع معه.

- مبدأ الكلية: أي إن الحركة الاجتماعية قائمة على وعي جمعي، وتحمل صفات الشمولية من أجل النجاح في التأثير على الرأي العام، والحصول على الحقوق والمطالب. وهذا ما حدث في حملات التوعية في قنوات التواصل الاجتماعي، والتي تهدف إلى توسّع حالة الوعي. هذا الطرح لآلان توران يساعد كثيرا في تفكيك دينامكيات الفعل في بداياته، ولكنه يثير مجموعة إشكاليات عميقة من داخل الحراك الذي تحول في اعتقادنا إلى حراك اجتماعي مواطني بتشكيلات جديدة أكثر فاعلية.

2. من الحراك الاجتماعي إلى الحراك المواطني: تشكيلات حراك جديدة

يعيش المجتمع التونسي على نسق الحركات الاجتماعية منذ 2011، ولكن السيستام نجح في الكثير من الحالات في تفتيت هذه الحركات الاجتماعية، أو على الأقل نجح في التّحكم في مسارها والعودة إلى ديكتاتورية السيطرة على الشارع وثقافة حفظ الأمن. ولكن يبدو أنّ هذه الحركات الاجتماعية، والتي كانت تهدف إلى مواجهة النسق بفشله، تمكنت من أن تتطور إلى حالة الفعل المواطني الاجتماعي الذي نجح في أن يكون ممثلا ومشابها خاصة لتطلعات عموم الشباب الذي استطاع أن يؤسس لسلطة فعل مركّب، وسريع، تجاوز سقوف التّوقعات، والمسارات التي من المفروض أن تلائم ما خطّط له من قبل السيستام. وذلك باعتماد أساسيات ومبادئ أهمها:

- مبدأ اللّا-أيديولوجيا: وهنا نخرج من ذلك التّصنيف التّقليدي، والذي يرمي إلى الكشف عن الأهداف الأيديولوجية لكل صوت ضد السيطرة. وعلى عكس هذه التصنيفات التّقليدية، خرج الحراك المواطني في تونس ليؤسّس لتشكيلة جديدة من الحراك أهم ما تقوم عليه هو أن لا تكون يساريا ولا إسلاميا ولا تقدميا. وهذا يتناسب تمامًا مع مواصفات "السّاخطين" الذين يرفعون أصواتهم ضد أيديولوجية الاحتكار. ينطوي هذا الحراك حول العالم على العديد من المتطلبات... أهمها أنها حركة سخط ضد انتهاكات النظام العام. يدعون فيها إلى حياة ديمقراطية حقيقية يشعرون حقا أنّهم محرومون منها [6]...

- مبدأ الحكم للشارع: يبدو أنّ هذا الحراك المواطني الذي ظهرت ملامحه في تونس أثناء الانتخابات الرئاسية وما بعدها، والذي اختار الشارع فضاء ممثل لديناميكيته لا يمكن فهمه إلا في إطار تحول سياسي نوعي في علاقة المواطن بالسّلطة، تحول الشارع في تونس اليوم، إلى فضاء تعبيري، وتقيمي لأداء السلطة، لقد أصبح بالفعل فضاء تمثيلي لشعار "الشعب يريد":

عملية التّعبئة لا تحتاج لمؤسسات في شكلها التّقليدي المتقادم، ولكن تحتاج لحملة تضامن اجتماعي

-  تغيير التّمثلات حول السياقات التقليدية للسلطة.

-  القطع مع كل أشكال الوصاية الأيديولوجية والحزبية.

- التذكير بالمطالب الثورية التي رفعت في بداية الحراك الثوري 2011، والتي تذكر كل أنواع القيادات السابقة بأن للهامش سلطة يستمدها من الشارع-الهامش.

-  القيادة في تونس تحتاج لشرعية الشارع وليس شرعية الصندوق.

- مبدأ التضامن الاجتماعي الذي أصبح يتخذ أشكالا جديدة في الظهور وفي الفعل. لقد تمّ تجسيده فيما يسمى بتجربة [7]Le covoiturage présidentielle، الذي أظهر أنّ عملية التّعبئة لا تحتاج لمؤسسات في شكلها التّقليدي المتقادم، ولكن تحتاج لحملة تضامن اجتماعي تدفع بفواعل الشّارع للدخول في حالة من أشكال التّعبير الواعي الذي حرّك السّاخطين على الوضع من أجل الالتفاف حول فعل مواطني يحرج كل صناديق السلطة ويواجهها بفشلها باعتماد سلطة الافتراضي الذي ساهم في امتداد هذا الشكل من التضامن.


[1]- Muxel, (A.), L’expérience politique des jeunes, Edition Press de Sciences, Paris, 2001, p.120

[2]- عليخليفةالكوري، مفهومالديمقراطيةالمعاصرة: المسألةالديمقراطيةفيالوطنالعربي، سلسلةكتبالمستقبلالعربي 19، مركزدراساتالوحدةالعربية، ص22

[3]- Touraine, (A.). Les mouvements sociaux: objet particulier ou problème central de l'analyse sociologique?. In: Revue française de sociologie, 1984, 25-1. pp. 3-19

[4]- تعتبر الحركة الاجتماعية من بين أهم المباحث الأساسية التي اشتغل عليها ألان تورين، وتعني بالنسبة إليه تحديداً، أن ما يقوم به الفاعلون لا يمكن اختزالها على أنّها مجرد ردود أفعال تجاه ما تكرسه المؤسسات الاجتماعية عليهم -السيستام الذي يعتبر خصم أول للحراك الاجتماعي للشباب في تونس-، ولكنهم ينتجونها ويحددونها بتوجهاتهم الثقافية وبالصراعات الاجتماعية المنخرطين فيها.

[5]- حراك مانيش مسامح قادها شباب من أجل التصدي لقانون المصالحة مع رموز الفساد بعلة إنعاش الاقتصاد. حراك اجتماعي خرج للشارع للضغط على حكومة السبسي من أجل عدم المصادقة، ولقد عاد هذا الشعار للظهور في الحملات الانتخابية في الرئاسية الثانية وخاصة بعد فوز قيس سعيد بالرئاسية.

[6]- Le Bourgeois, (J.). Les mouvements citoyens: nouvelles idéologies?

http://lodel.irevues.inist.fr/cahierspsychologiepolitique/index.php?id=2013

[7]- هو شكل من أشكال التضامن الاجتماعي التي أسسها مجموع الفاعلين الشباب لتسهيل تنقل الطلبة خاصة من أماكن دراستهم إلى مركز الاقتراع المرسمين فيها من أجل ضرب السيسيتام وكسب أكثر دعم من أجل الإطاحة برموزه، وخلق نموذج جديد للسلطة الحاكمة.