موسى عليه السلام والأسفار الخمسة


فئة :  مقالات

موسى عليه السلام والأسفار الخمسة

يعتقد اليهودي والمسيحي بسيط الثقافة أن الأسفار الخمسة من وحي الله لموسى، عليه السلام، وأنه، أي موسى، من كتبها، وهذا من المسلمات التي لا جدال فيها، إلا أن البحث والتدقيق، وذلك بالرجوع إلى المصادر والمراجع المسيحية، سيجعل الباحث يقف على كثير من الحقائق التي لا تعرفها العامة من مختلف الأديان عن هذه الأسفار، ويأتي هذا المقال العلمي الأكاديمي لتبيان هذه الحقائق بناءً على ما يؤمن به الآخر.

يقول حبيب سعيد عن الأسفار الخمسة: "كان طبيعيًا أن يميل اليهود إلى إرجاع الفضل في شرائعهم ونظمهم إلى الزعيم الذي حسبوه أعلى سلطة في تاريخهم المبكر. ولذلك، كان طبيعيًا أن يعتقدوا اعتقادًا راسخًا بأن موسى هو كاتب الأسفار الخمسة، وأن الله أنزل عليهم الشريعة عن طريقه. ولما تناول المسيحيون العهد القديم من اليهود، أخذوا عنهم في الوقت عينه نظريتهم عن الأداة التي كتبت بها أسفارهم، وظلت هذه النظرية قائمة أجيالاً طويلة لم يتعرض لها أحد. وما يزال فريق من المسيحيين معتصمًا بها، مؤيدًا أن موسى هو كاتب الأسفار الخمسة"[1]. أي إنّ هناك اعتقادًا راسخًا لدى اليهود والمسيحيين بأن موسى هو كاتب الأسفار الخمسة، فهل الأمر كذلك؟

يجيب حبيب سعيد بالقول: "على أنه خلال المئة سنة الأخيرة توسع العلماء في البحث والاستقصاء وأثبتوا خطأً هذه النظرية. وبينما يسلِّمون أن الله هو في الواقع موحي هذه الأسفار، إلا أنهم يعتقدون أن بعض أجزائها يرجع تاريخه إلى أزمنة مختلفة وعصور متأخرة. ويقول الباحثون والعلماء أن ثلاثة أسفار منها، هي التكوين والخروج والعدد، تضمنت ثلاثة أنواع من الكتابات، ونجد أحيانًا بيانين مختلفين عن حادثة واحدة، كما جاء في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين مثلاً. وأحيانًا نجد بيانين ممتزجين معًا، أو آيتين تتداخل إحداهما في الأخرى."[2] ويضرب حبيب سعيد لهذا الأمر المثال التالي: "فمثلا قصة الطوفان جات في الآية6/19 أن نوحًا أخذ اثنين من كل حي من كل ذي جسد، يقول النص: واَثنانِ مِنْ كُلِّ نوعِ مِنَ الخلائِقِ الحَيَّةِ لِتَنجوَ بِحياتِها معَكَ، ذَكَرًا وأنثى، بينما جاء في الآية 7/2 أنه أخذ سبعة من جميع البهائم الطاهرة واثنين فقط من غيرها يقول النص: "وخذْ معَكَ مِنْ جميعِ البَهائِمِ الطَّاهرَةِ سَبْعَةً سَبْعَةً، ذُكورًا وإناثًا". ولذلك، حسب حبيب سعيد، يذهب العلماء إلى أن كاتبًا واحدًا لا يكتب هذه الأرقام التي يختلف بعضها عن بعض، ويظنون أننا أمام قصتين مختلفتين عن حادثة واحدة."[3]وبهذا أنتقل إلى الحديث عن الأسفار الخمسة انطلاقًا من الكتب المسيحية لتكون الحجة أقوى.

- سفر التكوين:

جاء في كتاب المدخل إلى الكتاب المقدس: "كاتب التكوين مجهول لكن العهد الجديد يدلنا ضمنًا على أن كاتبه هو "موسى" ولم يعترض أحد على هذا المفهوم حتى العصر الحديث... كما أننا لا نعرف كيف كتب هذا السفر، لكن من المعقول أن نرى موسى كمحرّر استطاع أن يضم معًا عددًا كبيرًا من القصص والحقائق التي قد يكون بعضها قد أصبح شائعًا قبل تاريخ تدوينه."[4]

وينقل لنا صموئيل يوسف ما يلي: "أولاً: يرى فيلهوزن وجراف: تبعًا لنظرية المصادر أن سفر التكوين كتب بواسطة شخص غير معروف بأن أخذ مواد السفر من المصادر P,E,J. كما يرى ذلك أيضًا بعض العلماء الآخذين بنظرية المصادر.ثانيًا: يرى أحدهم أن كاتب سفر التكوين استقى بعض مواد السفر وتعاليمه التي حفظت من جيل إلى جيل بأسلوب حفظ التقاليد والمعتقدات التي ترددت شفاهًا في المجالات المختلفة في أعياد الفصح والأعياد الأخرى في المناسبات الدينية."[5]

ويضيف صموئيل يوسف أيضًا: "ثالثًا: الرأي الثالث الخاص بأصل كتابة السفر، وينادي به هاريسون، وهو مبني على الكلمة العبرية "مبادئ" أو "مواليد"، إذ أسلوب الكتابة على ألواح فخارية صغيرة (حتى لا يسهل كسرها) كان منتشرًا في الشرق الأدنى القديم... والكلمة مبادئ أو مواليد في العبرية תולדות والواردة بالسفر هي إشارة لما سبق هذه الكلمة وليس لما ورد بعدها (قارن تكوين 2/4) هذه مبادئ السموات والأرض حين خلقت؛ فخلق السماء والأرض حدث سابق لهذا الكلمة( هذه مبادئ السموات والأرض). ويرى هاريسون بأنه لو انتبه العلماء إلى هذه الفكرة المهمة لحصلوا على مفتاح أصل وكتابة السفر. فالاسم الوارد في اللوحة ربما يكون إشارة إلى أنه كاتب اللوحة، ففي التكوين6/9 وردت العبارة "هذه مواليد نوح" ويتساءل هاريسون: أليس من الضروري أن تكون هذه اللوحة خاصة بنوح ويكون هو كاتبها"[6]. أي أن موسى ليس هو كاتب هذه الأمور بل هناك كتاب آخر.

وجاء في المدخل إلى الكتاب المقدس: "كاتب التكوين مجهول... ويفترض الكثيرون أن العلم الحديث والتاريخ قد أضعفا مكانة سفر التكوين"[7]. أي أن سفر التكوين الذي ينسب إلى موسى فيه نظر حسب ما شهد به الكتّاب المسيحيون؛ فالكاتب مجهول ومواد السفر ترجع إلى مصادر قديمة.

- سفر الخروج:

تقول دائرة المعارف الكتابية عن سفر الخروج: "ويزعم النقّاد، من مختلف مدارس النقد العالي، أن سفر الخروج وغيره من الأسفار الخمسة، يتكون من عدة وثائق أو تقاليد مستقلة، جمعت معًا بعد زمن موسى بقرون كثيرة. ويُقسم أتباع مدرسة جراف ولهاوزن سفر الخروج في تدوينه إلى ثلاثة أطوار رئيسية، ويطلقون على المراجع المزعومة الحروف الإنجليزية "J" (من "Jehovah" أي "يهوه")، "E" ( من "Elohim" أي "إلوهيم" أو اللـه)، "P" (من "Priest" أي كاهن). ويزعمون أن كهنة أورشليم بعد العودة من السبي، جمعوا مواد متناثرة واستكملوا الوثائق القديمة المنسوبة "لليهوديين" (الذين يستخدمون اسم "يهوه"، والإلوهيين (الذين يستخدمون اسم "إلوهيم" أي اللـه)، ومزجوها بالحديث عن طقوس العبادة (الأصحاحات 25-31، 35ـ 40). ويزعم ولهازون وآخرون أن الخيمة في البرية ليست إلا من خيال الكهنة المتأخرين الذين ضخموا من شأن الخيمة البسيطة التي أقيمت للاجتماع، وخلطوا بينها وبين الصورة الفاخرة لهيكل سليمان. ويقول "ج. إ. رايت" (Wright) في كتابه "سفر الخروج" إن هناك الكثير من العوامل المجهولة في نقل مادة السفر عبر القرون الطويلة، حتى ليعد من العسير الجزم بشيء في مثل هذه الحال."[8]

ومن يطالع السفر يجد فيه ما يثبت أن الكاتب ليس هو موسى، نقرأ في سفر الخروج 2/10: "10 ولمَّا كبُرَ جاءَت بِه إلى اَبْنَةِ فِرعَونَ فتَبنَّتْهُ وسَمَّتْهُ موسى، قالت: «لأنِّي اَنْتَشَلْتُهُ مِنَ الماءِ». فمن خلال هذا النص يتضح أن هناك كاتب آخر يتحدث عن موسى وليس موسى نفسه. يقول حبيب سعيد: "ومع تسليمنا بأن هذه الشرائع والأحكام قد كتبت تحت إرشاد روح الله، فإنه لا يخامرنا شك في أن كثيرًا منها قديم العهد، مأخوذ من مصادر قبل عصر موسى."[9] أي أن هناك ما هو من وحي الله وهناك ما هو غير ذلك، فكيف يقولون أن الأسفار الخمسة أنزلها الله على موسى، وهي في شقّ منها ترجع إلى مصادر غير إلهية؟

- سفر اللاويين:

يقولون عنه: "لم يذكر لنا السفر اسم كاتبه... والكثير من مادته، أعطاه الله لموسى على جبل سيناء. لكننا لا نستطيع معرفة تاريخ كتابة السفر أو الذي جمعه وصاغه على صورته الحالية."[10]أي أن كاتب السفر غير معروف، والكثير من مادته أعطاها الله لموسى، يعني ذلك أن هناك أمورًا أخرى توجد بالسفر لم تُعطَ لموسى. ومن يرجع إلى السفر يجد ما ينفي كتابة موسى لهذا السفر بدليل النصوص التالية:

- 11/1: "وقالَ الرّبُّ لموسى وهرونَ".

- 14/1: "وكلَّمَ الرّبُّ موسى".

- 15/1: "وكلَّمَ الرّبُّ موسى وهرونَ فقالَ".

فلو أن موسى هو كاتب السفر لقال: "قال لي الرب..."، و"كلمني الرب..."

- سفر العدد:

يقول صموئيل يوسف عن هذا السفر: "يتفق الكثيرون من العلماء أن سفر العدد وباقي الأسفار الأخرى الموسوية أخذت صياغتها وشكلها الحالي في زمن بعد موسى... وهنا ينبغي التفرقة بين هذا الكلام وبين ما هو خاص بالشرائع والوصايا والأحكام التي يعد موسى كاتبًا لها، وهو أصل وكاتب هذه الشريعة بأمر الرب."[11] وهذا كلام فيه نظر، فما دام أن مادة السفر أخذت شكلها الحالي في زمن بعد موسى، يعني ذلك أن هناك تدخلا بشريا في النص. ويضيف صموئيل أيضًا: "يرى العلماء أن كاتب السفر استعان بالكثير من المصادر الشفوية أو المكتوبة. وترجع بعض هذه المصادر إلى زمن بعيد."[12] هنا ينكشف الأمر، فصموئيل قال: "كاتب السفر" ولم يقل: "موسى". وبالرجوع إلى النصوص يتضح الأمر أكثر، من خلال ما يلي:

-1/1 "وكلَّمَ الرّبُّ موسى في برِّيَّةِ سيناءَ، في خيمةِ الاجتِماعِ".

- 3/14 "وكلَّمَ الرّبُّ موسى في برِّيَّةِ سيناءَ".

- 4/34 "فعدَّ موسى وهرونُ ورؤساءُ الجماعةِ بَني قَهاتَ بِحسَبِ عشائرِهِم وعائلاتِهِم".

ولو كان موسى هو الكاتب لكانت هذه النصوص كالآتي:

- وكلَّمَني الرّبُّ في برِّيَّةِ سيناءَ، في خيمةِ الاجتِماعِ.

- وكلَّمَني الرّبُّ ...

- فعددت رفقة هارون ورؤساءُ الجماعةِ بَني قَهاتَ.

- سفر التثنية:

يقول حبيب سعيد: "هناك رأيان عن مؤلف وتاريخ كتابة الأسفار الخمسة: أحدهما يقول إن موسى هو كاتبها، ويقول الآخر أنها كتبت في تواريخ متأخرة وبأيدي كتاب كثيرين لم يمكن الاهتداء إلى أسمائهم، ويرجح علماء الكتاب المقدس الرأي الثاني. على أنه حتى إذا أخذنا بهذا الرأي الأخير، فإن سفر التثنية يمتاز بخاصية فريدة في كتابه، حتى لقد أجمع غالبية العلماء على أنه كتب بيد واحدة لا بأيد كثيرة."[13]

وهذا كلام خطير من مسيحي إذ يقر أن الأسفار الخمسة، ما عدا سفر التثنية، كتبت بأيدي كتاب كثيرين لم يمكن الاهتداء إلى أسمائهم، معنى هذا أن موسى بعيد كل البعد عن هذه الأسفار، إذ لم يكن هو الكاتب، وبالتالي بناء على هذا القول فلا مجال للقول إن مصدر هذه الأسفار هو الله. ونحن المسلمين لا ننكر أن الله أنزل التوراة، وإنما الذي نعتقده أن التوراة والإنجيل قد تعرّضا للتحريف. ولبيان أن سفر التثنية لم يكتبه موسى أثبت النصوص التالية:

- 31/1 "وتابعَ موسى كلامَهُ إلى جميعِ بَني إِسرائيلَ".

- 31/ 24 "ولمَّا فرَغَ موسى مِنْ تدوينِ كلامِ هذِهِ الشَّريعةِ كُلِّها في سِفرٍ".

- 33/1 "وهذِهِ هيَ البَركةُ التي بارَكَ بِها موسى، رجلُ اللهِ، بَني إِسرائيلَ قَبلَ موتِهِ".

من يتأمل في هذه النصوص يجد أن المتكلم شخص آخر غير موسى، لأنه لو كان هذا الأخير كاتب السفر لقال:

- وتابعت كلامي إلى جميع بني إسرائيل.

- ولما فرغت من تدوين كلام هذه الشريعة كلها في سفر.

- وهذه البركة التي باركت بها بني إسرائيل.

ثم كيف يعقل أن يكتب عن وفاته وهو ميّت، إذ جاء في سفر الخروج 34/5-6: "هُناكَ موسى عبدُ الرّبِّ في أرضِ موآبَ بأمرِ الربِّ، 6 ودَفَنَهُ الرّبُّ في الوادي، في أرضِ موآبَ، تُجاهَ بَيتَ فَغورَ، ولا يعرِفُ أحدٌ قبرَهُ إلى يومِنا هذا." مما يؤكد أن الاعتقاد بكون الأسفار الخمسة الحالية هي التي أنزلت على موسى سابقًا دون أية زيادة أو تدخّل بشري، هو اعتقاد مرفوض؛ وذلك بناء على أن هذه الأسفار غير معروف كاتبُها أو كُتّابُها، وبالتالي تسقط قدسيتها. وتجدر الإشارة إلى أنه ليس الغرض من هذا المقال هو النقد، وإنما هذا يدخل في إطار دراسة الآخر المختلف عنا في العقيدة الدينيّة دراسةً علميةً مبنيّةً على الحجج.


* باحث مغربي في مقارنة الأديان، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، سايس فاس

[1]- حبيب سعيد، المدخل إلى الكتاب المقدس، القاهرة، دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية، ص 70

[2]- نفسه، ص 70

[3]- نفسه، ص 70

[4]- جون بالكين- بيتر كوتريل- ماري ايغانز- جيلبرت كيربي- بيجي نايت- ديريك تبدبول، مدخل إلى الكتاب المقدس، تحليل لأسفار العهدين القديم والجديد، ترجمة نجيب إلياس، القاهرة، دار الثقافة، ط1، ص ص 23-24

[5]- القس صموئيل يوسف، المدخل إلى العهد القديم، القاهرة، دار الثقافة، ط2، ص ص 81-82

[6]- نفسه، ص 83

[7]- مدخل إلى الكتاب المقدس، تحليل لأسفار العهدين القديم والجديد، ص 23

[8]- دائرة المعارف الكتابية، مجلس التحرير: دكتور صموئيل حبيب، القس منيس عبد النور، دكتور القس فايز فارس، جوزيف صابر، المحرر وليم وهبة بباوي، نشر دار الثقافة، م3، ص 261

[9]- المدخل إلى الكتاب المقدس، ص ص 79-80

[10]- مدخل إلى الكتاب المقدس، تحليل لأسفار العهدين القديم والجديد، ص 43

[11]- المدخل إلى العهد القديم، ص 124

[12]- نفسه، ص ص 124-125

[13]- المدخل إلى الكتاب المقدس، ص 90