المثقف والسُّلطة والعمران: في العمارة العمّانية


فئة :  مقالات

المثقف والسُّلطة والعمران: في العمارة العمّانية

المثقف والسُّلطة والعمران:

في العمارة العمّانية[1]

"العمارة ليست مجرد مأوى فحسب، بل هي تعبير حي عن وجدان الإنسان وتحقيق لرغباته في الانتماء وميله إلى التواصل الاجتماعي".

حسن فتحي

يرتبط المكان عمومًا، في ذهن المثقّف كما في مُتخيّل المُبدع تحديدًا، باليوتوبيا (الطوبى) حينا، وبصفة "الفاضل" و"الأفضل" غالبا، فلا يستطيع الشاعر مثلا أن يتخيّل، أو يتقبّل في أيّ صورة من الصور، العيش في مكان لا يكون "المدينة الفاضلة" التي يحلم بها، ويناضل لأجل تحقيقها على أرض واقعه، حتّى إذا ما اصطدم بغياب هذه الإمكانية، وهو يظلّ، وسوف يظلّ دائما يتعرض لهذه الصدمة، فيلجأ إلى واحد من الحلول الممكنة أو المتاحة، بدءًا من الانخراط في محاولات التغيير المحلوم به، وصولا إلى الانسحاب والانتحار كحلّ جذريّ أخير، مرورًا بالطبع في أشكال وصور كثير من التعبير عن الشعور بالضيق والقهر حيال عدم الانسجام وغياب أية إمكانية للتكيّف مع ما هو قائم.

أسوق هذا المُقترَح، لتناول ارتباط العمارة بالمكان، خصوصًا بوصفها ركنًا أساسًا فيه ومنه، ومن ثم فإن علاقة المثقف والمبدع بالعمارة، في جانب من جوانب هذه العلاقة، نابعة من علاقته بالمكان ومكوّناته عمومًا، لكنّ للعمارة والعمران قدرًا من الامتياز والتميّز لجهة كونها أكثر تحديدًا من أيّ فضاء مكانيّ آخر. ففي الفضاء الذي يُجسّده العمران، وتحتلّه العمارة، تترعرع جزيئات وتفاصيل حياة هذا الكائن المتميز عن سواه من الكائنات، تميّزًا يقع في درجة الحساسية ومستوى الوعي اللذين يجعلان منه كائنًا "غير طبيعيّ" ربّما، ولو بقدر من المبالغة.

ثمة درجات وتفاوت في سلّم الوعي ومساحة الحساسية، فلا يتساوى الجميع فيهما، وهو ما يعيدنا إلى "فئات" من المثقفين، يتشاركون في وصف "مثقّف"، وينتمي كلّ منهم إلى فئة أو جهة أو قبيلة، أو غير ذلك ممّا نعرف ولا نعرف من تصنيفات تقع ما بين فئتَيْ "الموظّف" و"العضويّ". وهو سجال لا مكان له هنا، بل محض إشارة عابرة، ففي الأساس نحن حيال تحديد دور المثقّف عموما في "صراع" فرعيّ، هو أحد أوجه الصراع الأكبر، الوجوديّ في النهاية، فإمّا أن تكون العمارة إنسانيّة تمامًا، أو لن يستطيع المثقّف/ المبدع أن "يكون".

ومن دون دخول في أهمية جماليّات العمارة، ضمن مفهوم جماليّات المكان، أو هُويّتُها، وهما عنصران مؤثران بالتأكيد في العلاقة مع العمران ومشكلاته وتأثيراته الاجتماعية والنفسية، لكن التأثير محدود في ما يتعلق بالمحور الأساس الذي يجري تناوله هنا؛ فالفاعل الأساس في موضوعنا هو المتعلق بتأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية، وحتى الأمنية، في نشوء العمران، وما يطرأ عليه من تحوّلات وتغييرات، وما دور المثقف في كشف هذه المؤثرات، والحد من آثارها السلبية على الإنسان.

ضمن هذا الأفق، وهذه الرؤية/ الرؤيا، أو الرؤية الحُلُميّة إلى العالم كلّه، نرغب في تحديد مكان المثقّف و"مكانته" على خارطة صراع أزليّ، في المكان والزّمان المؤطِّرَين للعلاقة الخاصة بين المثقف والسُّلطة، خصوصيّة هذا الكائن نفسه، وبصرف النظر عن موقعه في فضاء الفعل الثقافيّ والحياة الثقافيّة، حيث تتغيّر وتختلف المسؤولية وطبيعتها من موقع إلى آخر، من حيث التفاصيل، لكنّها تلتقي في الجوهر. وهذا ما نحاول أن نكشف عنه من خلال المثال الأردنيّ عمومًا، والأنموذج العمّانيّ على وجه الخصوص، وفي قسمين، الأوّل يتّكئ على العلاقة الشخصيّة/ الذاتيّة مع المكان وعَمارته، في حين يستحضر القسمُ الثاني بعض التجارب السائدة والمهيمنة في العمارة العمّانية.

حاضر التاريخ، البعيد والقريب، بفاعليّة

تاريخيّا، احتضنتْ عمّان التلال والوديان وعيون الماء، مثلما احتضنت التجمعات السكانية البشرية منذ العصور الحجرية، وتتابعت فيها وعليها مجتمعات تركت وراءها تأثيرات ومؤثرات ومعالم أثرية ما تزال حاضرة حتى اليوم، أبرزها المدرج الروماني والقلعة الرومانية وغيرها من الآثار الصغيرة الأقلّ شهرة.

للعمارة في عمّان خصوصًا، ضمن الفضاء العمرانيّ الأردنيّ، حضور ذو أبعاد متعدّدة، متداخلة ومتباعدة، بل متنافرة في أغلب الأحيان، لجهة علاقة المثقّف بها، وتأثيرها المزدوج عليه، إيجابًا وسلبًا، قبولًا ونفورًا، بحسب تعدّد صيَغ العمارة، وتنوّعها، واختلاف مرجعيّاتها وآفاقها وحداثتها، وفي العمق حسب منسوب إنسانيّتها، وهذه عناصر محكومة برؤى عدّة، مثلما تعكس قضايا وهمومًا عدّة، من دون أن يكون ثمّة تدخّل للإيديولوجيات، بل للذائقة والحاجة الإنسانيّتين.

عرفتُ عمّان منذ أواخر الستينيات من القرن المنصرم (العشرين)، وكبُرنا معًا، أكبُر أنا عامًا، فتزدادُ هي زقاقًا هنا، وشارعَين هناك، وعشرَ بنايات وثلاثة دكاكين، ومسجدًا رابعًا هنالك ينهض أمام كنيسة وحيدة ومعمَّرة. أحببتُها، أعني عمّان، في البداية، حين كنت قادمًا إليها من "الكرامة" التي هجرها أهلُها بعد معركتها الشهيرة، فيما غادرها الفدائيّون بعد تلك المعركة. وكانت عمّان مختلفة، مترامية الأطراف، بسهول وحقول وبساتين وبيوت منخفضة، وأدراج تفضي من وسطها إلى الأحياء المحيطة، الوسط الحميميّ في مكوّناته وكائناته. وفي واحد من الأحياء/ التلال المحيطة كان بيتُنا بين حقول القثّاء ووادٍ يُدعى "وادي الحدّادة" (نسبة إلى بيوت الصفيح من جانب، وإلى انتشار مهنيّين في الحِدادة من جانب آخر)، وإلى جواره مُعسكر للجيش يحرس قصور "رغدان" الملكية المُقام على تلّة واسعة يُدعى "جبل القصور". (ولدى ذكر القصور، نقرأ لبعض المتخصصين، كما للصحافيين، قولهم إن هذه القصور تمثّل "العمارة الهاشمية"، كما لو أنها نمط معماري يمتلك نظريّته وقوانينه الخاصة؛ حيث يردّد البعض أن مؤسس القصور الأمير عبد الله بن الحسين (وهو الملك المؤسّس أيضًا) قد "اتّخذ داراً متواضعة من البناء العثمانيّ مقابل المدرج الروماني، وقصر رغدان هو البداية للمجمع الذي يقف بزهو كامتداد لتاريخ العمارة الهاشمية، وامتدادا لتاريخ عريق من تاريخ أصيل يمتد إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام".

في هذه البيئة الخليط، المُهجّنة بالتعدّد، كنت أرى عمّان تتمدّد، وتتحوّل من قرية كبيرة إلى مدينة صغيرة، أو مدينة بروح قَرويّة. وبالتدريج، كانت روح العمارة تزحف لتغتال حقول الخضراوات- روح القرية الحميمة، المحبّبة للتنزّه والترويح عن أنفُس القاطنين وأنفاسهم، حتّى لم يعد من ذلك الاخضرار سوى الذكريات. ولم يعد من ملاعب الأطفال سوى أطلال تغمرها الطرقات الإسفلتية، بل لم تعد هناك شجيرات شوكية نصطاد منها العصافير والجنادب (الجراد) والأفاعي الصغيرة، وأكثر من ذلك جرى اجتثاث الأمكنة الدافئة التي كنا، مراهقين، نلتقي فيها حبيباتنا المتخيّلات. لكنّنا كنّا، مع سنابل القمح، وأكواز الذُّرة الصَّفراء وأقراص عبّاد الشمس، قد أطلقنا سبائك الشِّعر الأولى، وخيول الحياة الجامحة، ومنّا من غاب في صورة ما من صور الغياب، وقلائل باقون.

تحوّلات دراماتيكيّة

كانت هذه هي عمّان حتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين. وكما هي عادة الأشياء والبشر مع النموّ والتحوّلات، كانت تحوّلات عمّان تدريجيّةً، ثمّ بتسارُع دراماتيكيّ جعل كثيرين يفقدون قدرتهم على استيعاب ما يجري من تطوّر، في المعنيين السّالب والإيجابيّ، فتختلف الآراء والمشاعر حيالها حدّ التضارُب، بين عاشق مُتيَّم ولهان، ومنافق يبغي التزلُّفَ لسُلطانها وحاكمها، وثالث لا يطيق إقامة فيها غير عابئ حتى بأن يحمل وصف "ناكر الجميل".

واليوم، وفي محاولة لقراءة واقع المدينة، حاضرها وماضيها، من زوايا مختلفة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، يتساءل البعض عن مسبّبات هذه العلاقة بين المثقّف ومدينته، وتتعالى الأصوات، فيبرز من بينها صوت الفنّان التشكيليّ والفوتوغرافي والباحث الأردنيّ هاني حوراني متأمّلًا صورًا عدّة لعمّان، إحداها كما تبدو في معرضه "وجوه مدينتي"، قائلًا إن هذا المعرض يحاول أن يروي قصة عمان من خلال إعادة إنتاج بعض صور المدينة في الثلاثينيات والأربعينيات (ق 20)، عندما كانت أقرب إلى البلدة الصغيرة، حيث طوبوغرافيتها وتضاريسها الطبيعية هي السمة الأبرز لصورتها، وفي المقابل تظهر لوحات عمان اليوم كيف طغى النسيج العمراني على تضاريس عمان، وجعل من كل سفح جبليّ من سفوحها لوحة فسيفسائية مزدحمة بالتفاصيل والألوان". وعن صورتها في الأدب يقول: "في زمن مبكر اقترنت عمّان بصور سلبية في الأدب الأردني، فهي مدينة التجّار والمرابين والحكومة والهيمنة الأجنبية، كما نراها في بعض قصائد عرار (مصطفى وهبي التل). لكنّ عمّان المعاصرة فقدت أهميّتها في الآداب والفنون، حتى كمدينة مذمومة. إنها مدينة غير مرئية في المجالات الإبداعية كافة". وهو يعطف على ذلك متسائلًا بقدر من القلق والتأسّي ربّما "لماذا هذه الصلة الفاترة، وحتى علاقة الود المفقود بين عمان كمكان وفضاء وبين غالبية مواطنيها؟! أيعود ذلك مثلاً إلى أن أصول غالبية سكّانها الحاليين ليست عمّانية، فضلاً عن كون أصول جزء مهم من سكانها "غير أردنية"؟! قبل أن يضيف من موقعه كفنّان "وإلى جانب فداحة حقيقة الودّ المقطوع بين عمان وقاطنيها، هناك أيضًا إشكالية ضعف الصلة بين عمان والفنانين التشكيليين، حيث قلة منهم التفتت إلى جماليات المدينة، وجعلت من المشهد الطبيعي لعمان موضوعًا لأعمالها.. أيعود ذلك إلى أن عددًا كبيرًا منهم يندرجون في إطار الحداثة التشكيلية، أو بعبارة أخرى لا يشكّل المشهد الطبيعيّ (Landscape) جزءًا من اهتماماتهم الفنية (...)، في حين كان الانشغال بالطبيعة والمكان في أعمال الجيل الأول من رسامي الأردن، ينصرف غالبًا إلى الأماكن ذات الطابع التاريخيّ، أو الدّينيّ أو الأثريّ، مثل البتراء، آثار جرش، القدس، وربّما المشاهد الريفية، وغالبًا ما كانت هذه الأعمال تتراوح ما بين الكلاسيكية التقليدية والواقعية الساذجة أو النزعة السياحية.. إلخ؟". إنّها إذن، وبحسب حوراني أيضًا المدينة التي "تتحول إلى مفهوم غامض، إنّها العاصمة ومركز الحكومة والنشاط الاقتصادي الأكبر في المملكة، لكنّها ليست مكانًا ننتسب إليه. إنها موئل للسكن والإقامة وليست مكانًا طبيعيًّا للعيش". (ورقة مرفقة بمعرض للفنان حمل عنوان "وجوه مدينتي" أقيم في عمّان في الفترة ما بين 5 و15 سبتمبر (أيلول) 2013).

وهناك، في الواقع التشكيليّ، ما يخالف رأي الفنّان حوراني ويوافقه في آن، لجهة حضور الكثير من التجارب الفنية، التشكيلية والفوتوغرافية، التي عُنيت بالمدينة وعَمارتها في صورة من الصور، بعضها فنّيّ بحت، والبعض الآخر فنيّ بطابع سياحيّ. وربّما تجدر الإشارة هنا إلى واحدة من هذه التجارب، تتجسد في تجربة الفنّان والمعماريّ الأردني (الفلسطيني الأصل) عمّار خمّاش، بما له من حضور على غير صعيد، تجربة كنتُ تابعتُها وكتبتُ عنها من بداياتها الأولى، لكنّها تظلّ تجربة شبه معزولة عن المجتمع والشائع والسّائد، وأقرب إلى التجارب ذات الطبيعة النخبوية.

تابعتُ تجربة خمّاش منذ التسعينيات من القرن العشرين، حين كان يرى، بوصفه رسامًا تشكيليًّا ومصمّمًا ومهندسًا معماريًا أيضًا، أن العمارة الأردنية، والعمّانية تحديدا، تعاني تشوّهات بِنيويّة وعُضويّة حتّى، وهو بوصفه السابق أيضًا، سعى في معظم تصاميمه المعمارية، ومنذ بداياته، لترسيم عمارة تندمج في المكان والبيئة وتخدمه، وكانت له تجارب في تصميم وتنفيذ بيوت عدد من الأصدقاء والمعارف، من جهة، ومن جهة ثانية يقف وراء عدد من التصميمات الرفيعة في الأردن وخارجها، من بينها تصميمه لمسجد الناصرة، وهو عمل أحدث جدالًا صاخبًا لقربه من كنيسة البشارة. كما أعطى مثالا جيّدًا على حرصه الكبير في تثبيت أسلوب عمارة "حسّاس"، حين طُلب منه وضع تصميم لإعادة ترميم وبناء قصر هشام الفلسطيني، قرب أريحا، حيث قرّر بناء القصر بجدران تعتمد على ورق الجرائد الخفيف والمُريح، لأنه رأى أن أساسات المبنى لا تحتمل الجدران الثقيلة. وآخر ما أنجزه بيت بين بيوت جبل عمان القديمة، في نهايات شارع الرينبو، يعد تحفة فنية هندسية تنتصب على أرجل خرسانية، تحاكي الطبيعة في بنائها، وتلبّي دعوة البيئة في تصميمها، وتُدعى "البرية"، وتضم معالم رفيقة للبيئة، إذ تحتوي على نظام مساعد للتسخين يستخدم الطاقة الشمسية، ونظام عزل عالي الكفاءة، بالإضافة إلى نظام إضاءة يستخدم مصابيح توفير الطاقة.

التقسيم الطبقيّ للمدينة

منذ بدايات نشوء عمّان، راحت بالتدريج تنقسم إلى مدينتين، عمّان الشّرقية المعروفة بفَقرها وبؤس قاطنيها، وعمّان الغربيّة المخصّصة للشريحة الأعلى طبقيّا. وقد جرى ترسيخ هذا الانقسام، بل التقسيم الإكراهيّ، بوسائل وأساليب قانونية وتشريعية، حيث يصعب التداخل والاختلاط بين المدينتين، ولا يسهل تبادل المواقع بين القاطنين في كلّ منهما، بل إن ما يزيد الأمر سوءا هو الحساسية العالية لدى أحدهما تجاه الآخر، حساسية تنذر بمخاطر، وإن على المدى البعيد وغير المنظور ربّما.

إنّ خطورة مثل هذا التقسيم، قائمة أساسًا في التمييز بين العالمين، تمييزًا يقع في جوانب الحياة كافّة، بدءًا من شكل البناء وفخامته في جانب، أو تدنّي قيمته ومستواه في الجانب المقابل، وانتهاء بمستوى الخدمات المقدّمة وحجمها وطبيعتها في كل جانب. ونشير هنا إلى أن الإمكانيّات المالية للطبقة العليا تتيح لها بناء ما تشاء، فهناك من يذهبون إلى المكتب الهندسي مصطحبين معهم صورا لتصميمات شاهدوها في الإنترنت أو في المجلات المتخصصة، ما يدل على الاطلاع الواسع والثقافة التي يتمتعون بها، فيطلبون نماذج مشابهة.

وفي مثل هذه الحالة من التمييز، والشعور الحادّ بها لدى الطبقة الدُّنيا خصوصا، تضطرّ السلطات غالبا إلى قمع أية محاولة من أفراد هذه الطبقة للاقتراب إلى الطبقة العليا واقتحام أماكن إقامتها ووجودها. وتبدو جلية مساعي "الأمن" مثلا لمنع أي اختلاط لأفراد من الأحياء الفقيرة بأبناء الأحياء الغنيّة، أو "التمشّي" في هذه الأحياء، تحت طائلة العقوبات، وبذريعة حفظ الأمن دائمًا.

ولعلّ حالة الفقر والبؤس المرافق للاكتظاظ السكانيّ التي تعاني منها عمان الشرقية، أصبحت مقلقة على المستوى الاجتماعي، ويتمظهر هذا القلق في مستوى ارتفاع ظاهرة الجريمة وحالات التفكك الأسري، بالإضافة إلى زيادة نسبة البطالة في فئة الشباب. في الوقت ذاته، ما تزال الخطط والمشاريع التي تحاكي عمّان الجديدة ترتكز على الإنفاق الترفي ولا تلتفت إلى أولويات ابناء المحافظات وعمان الشرقية.

المشروع الأنموذج لعمارة الـ"بِزْنِس"

وفضلًا عن هذا التقسيم، تأتي مشاريع العمران ذي الطابع التجاري الاستثماري "البزنس"، من دون مراعاة لمشاعر "الناس" البسطاء الذين لا تربطهم رابطة بهذه المشاريع، باستثناء كونهم الآلة التي ترفع البنيان، ثم يجري طردها من المكان. ولهذا يرى كثيرون "أن عمّان لن تُصنع كمدينة من خلال مشاريع وأبراج تكرّس التفتيت، وأن "تغيير النهج الاقتصادي القائم على عقلية رعاية البزنس بدلًا من رعاية المجتمع، هو الخطوة الأولى تجاه بناء "عمّان الناس". فالمستهدفون من رعاية "البزنس"، كما يقول رهيف فياض، لا يصنعون مدنًا، لأنهم لا يخرجون من منازلهم، فهم يركبون سيّاراتهم ويتّجهون إلى مصاعد أبراجهم، دون أن يمرّوا بالمدينة. الفقراء والنّاس العاديّون هم من يسكنون ويصنعون المدن".

هذه البِنية المُشوَّهة للمدينة وعَمارتها، هي في جزء منها نتاج تخطيط متعمّد من قبل المؤسسات الحكومية المعنية بشؤون العمران، وجزء منها ناجم عن غياب التخطيط؛ وفي الحالين، فنحن أمام سياسات عمرانية لا عقلانية، بل موجّهة لخدمة فئات وشرائح وطبقة معينة، هي جزء من السلطة أو مقرّبة منها وتخدم كلّ منهما الأخرى على نحو ما. ولعلّ شيوع نمط من "الإسكانات" التجارية، ذات الطابع الاستثماريّ البحت، والتي تفتقر إلى الشروط والظروف المعيشية الإنسانية، هو دليل على هذا النمط من العلاقة "النفعيّة" بين السلطة ورأس المال التجاري، فهي علاقة قائمة على المنفعة المتبادلة، من دون أيّة اعتبارات للمجتمع. وهناك العشرات، بل المئات من هذه المشاريع السكنيّة الاستثمارية المنتشرة في صورة عشوائية، وهي مشاريع لا يضع أصحابُها في الاعتبار حجم الأضرار في الطبيعة المحيطة، بما في ذلك الاعتداء على المساحات الزراعية الخضراء، وحتّى أماكن اللعب الوحيدة أحيانا في منطقة ما.

ولعلّ الأخطر من ذلك كله، ما رصدته وسائل الإعلام المحلية من اعتداء على الكثير من القيم، من خلال واحد من أحدث المشاريع العمرانية، السكنية والتجارية والترفيهية، وهو المشروع المتمثّل في مشروع عمارة "العبدليّ"، مشروع أُريد له أن يقام على مساحات وفضاءات متعدّدة الحاجات للمجتمع العمّاني، حيث شكّل طوال سنوات تجمُّعا لمرافق خدماتية وتجارية عدّة، وقد أقيم برؤوس أموال من الخارج (بعضها تعود إلى رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري ووريثه سعد الحريري)، والقليل منها رؤوس أموال لمستثمرين أردنيين صغار نسبيا.

يجسّد هذا المشروع مجموعة من القواعد والشروط التي تقوم العمارة في عمّان بناء عليها، وهو مثال ساطع على ما يمكن أن يقدّمه من تلخيص للظروف "العدوانية" على البيئة والمجتمع، وهذا ما يتحدّث عنه كثيرون هنا، في الصحافة كما في المجالس، ويمكن التوقف عند أبرز معالم هذا المشروع وملامحه التي تؤشر على "خطورته" المرصودة.

ففي رأي البعض، كما جاء في مقالة بعنوان "المال شيطان المدينة": "كيف يغرّب مشروع العبدلي سكّان عمان عن مدينتهم"، بقلم شاكر جرار، أن عمارة هذا المشروع قد "هبطت بـ "الباراشوت"، وفُرضت على المكان ببلاهة ودهشة، كعمارة سُلطوية قسرية"، ولما كان يجري الحديث عن تعدّد أغراض المشروع، رأى البعض أن "التعددية في إطار شكلي، بينما الواقع هو، كما يقول المعماري رهيف فياض "سيطرة فكر واحد، وهو الفكر السائد الذي يحمل معه أيضًا فكرًا سائدًا في العمارة (... و) إن هذا الكلام هو ترويج للغة واحدة في العمارة، تتجاهل بالدرجة الأولى المكان". ويوضح فيّاض أن "مشروع العبدلي بشكله الحالي أفرَغ الحيز العام من بعده الاجتماعي، بقوة المال والسلطة، وقام بتشيئ المكان وتحويله إلى مشروع استثماريّ يخضع بالمطلق لمعايير الشكل الحداثيّ للعمارة، أو ما يسمى بالطراز الدولي (International Style) القائم على العمارة الزجاجية العملاقة، دون أية مراعاة للبنية الاجتماعية التي سُلب منها المكان..، ولتفرض نفسها كعمارة متعجرفة طاغية بوجودها الذي يتوافق مع متطلبات السوق وتطلعات المستثمر الذي حوّل العمارة من كونها منتَجًا اجتماعيًا إلى سلعة تُستخدم وتوظّف في إطار السوق"؛ بل إن الشوارع داخل المشروع تحمل أسماء تعبّر عن مصالح طبقة معيّنة، وأقرب إلى وعي ومخيال هذه الطبقة، كشارع الأبراج وشارع البنوك وشارع الأعمال.. فالمشروع يعتدي- إذن- على الفضاء الاجتماعي لمناطق الفقراء والطبقة الوسطى التي جرى انتزاعه منها". وبهذا يغدو المشروع مفروضًا على المكان، وفارضًا عليه "نمط حياة الأغنياء، ليزيد من حدّة التناقضات التي تعيشها عمّان، ويصبح الأغنياءُ وحدهم المواطنين في مدينة السوق التي تمنحهم كل اهتمامها، لأن لديهم القدرة على الشراء. فلا يسمح لأبناء المحافظات وأهالي عمّان الشرقية بالدخول إلى "البوليفارد" إلا كعمال يُطردون عند مغيب الشمس وانتهاء الدوام، أو كغرباء لا علاقة وجدانية تجمعهم بالمكان الذي يُمنعون من دخوله بذريعة أنه "Couples Only"، مما يشعرهم دومًا بالاغتراب عن المكان الذي كان قبل زمن ليس بالبعيد مكانًا لهم". إننا أمام ما يسمّيه المعماريّ العراقيّ رفعت الجادرجي "عمارة البذخ" (حوار في بنيوية الفن والعمارة، رياض الريس للنشر، بيروت، 1995).

والبوليفارد، الذي دشنه الملك عبد الله الثاني في يونيو (حزيران) 2014، ليكون إضافة جديدة لقلب العاصمة عمّان، وليشكل مركز جذب اقتصاديّ وسياحيّ عصريّ يضاهي المراكز العالميّة في هذا المجال، يعدّ أكبر مشروع إنمائي متعدّد الاستخدامات، يقع وسط مشروع العبدليّ، وسيساهم في إضفاء الطابع العصري، وإضافة وجهة عالمية تمزج الحياة المهنية والحضرية والترفيهية، في إطار واحد يعزّز الوجه السياحيّ والاقتصاديّ للعاصمة عمان. وقال رئيس مجلس إدارة شركة بوليفارد العبدلي نائب رئيس مجلس إدارة شركة العبدلي للاستثمار والتطوير، الدكتور منذر حدادين إن "منطقة العبدلي أصبحت مركز جذب رئيس للأعمال والسيّاح، وعنوانا لتعاضد القطاعين العامّ والخاصّ لتحقيق النجاح لبناء حضريّ وحضاريّ يشكّل وسطا جديدا للعاصمة عمان".

[1]- ذوات العدد 23