نحو التّطبيع مع الفلسفة أو الفلسفة من التّجريد النّظري إلى فنٍّ للعيش


فئة :  مقالات

نحو التّطبيع مع الفلسفة  أو الفلسفة من التّجريد النّظري إلى فنٍّ للعيش

ضمور فعل التّفلسف: الأصولية الدّينية وعوامل الهيمنة

لا شيء يوحي في ذهنية الكثيرين منّا، أو على الأقل الجزء الغالب فينا بما يغيّر من النّظرة إلى الفلسفة، أو التمثّل السلبيّ ضدّها، سواء تعلّق الأمر بعامة النّاس وسلوكهم الانفعالي الطّبيعي، وربّما المتحيّز ضد أنماط التّفكير المغايرة للثّقافة الدينية التي ينشأ عليها المرء. أو تعلّق الأمر بالمثقف عموما، خاصة أولئك الذين لا يشتغلون على النُّصوص الفلسفية، أو ليس لديهم احتكاكٌ مباشر بطبيعة الخطاب الفلسفي. لا شيء كما أشرنا، وعلى المدى المنظور يوحي بأنّ هناك رغبة في التّطبيع مع التّفكير، ومحاولات الفهم والتّأويل والتّحليل، لسبب بسيط وهو هيمنة خطاب النصّ، والحقيقة، والقبض على المعنى، أو التّفسير على باقي أشكال وأنماط الفكر والتّفكير. هذه الهيمنة وذاك البسط أو التسلّط المعرفي لم يكن سوى ذلك الحضور القوي لخطاب ديني أقفل على العقل كلّ الممكنات، ليقيم مقامه الإقصاء والتّكفير والانشغال بتفاصيل الحياة، بدل الانشغال بكلّ القضايا الكبرى، وعلى رأسها تحقيق الحياة الطيّبة أو السّعادة في حدودها الإنسانية.

من هنا صاغ النَّص الدّيني الإطار المعرفي والإنساني والوجودي الذي يتحرّك فيه الإنسان. وبدَل أنْ يكون هذا النّص منطلقا للدراسة والكشف والنقد والخبرة، في إطار مكتسبات الإنسانية، وما وصلت إليه من العلوم والمعارف، قدَّم أجوبة وقواعد وأصولا وضوابط، حِيكَتْ فيما سمِّي بـ "العلوم الشرعية"، ليتأسَّس بذلك العقل الفقهي والأصولي، الذي يعتبر الدين مجالا لا يستطيع الإنسان أنْ يتحرّك بداخله إلا في إطار هذه المعرفة الجاهزة. وبذلك، تحوَّلتْ هذه المعارف "الشرعية" من إطارها الإنساني لتعيد بناء المُقدَّس من جديد، وصار المُقدَّس يتجاوز النّص والخطاب، إلى القواعد والمعارف والمؤسَّسة والأشخاص، وبدَل أنْ تنفتح هذه المقاربة النصية الدينية بنفسها على مقاربات مغايرة لمنظومتها قصد التّطوير والاندماج، انْكفأتْ من جديد باسم الشّرعية والمقاربة الدينية، واستمرَّ الجمود وإعادة الإنتاج، وانغلاق الرؤية إلى حدود عالمنا المعاصر.

لا يمكن تفسير الحضور القويّ للخطاب الدّيني وغياب الحضور الفلسفي، إلا بغياب الجرأة، أو لنقل بتعبير أدق الانسحاب من ساحة المعركة لصالح الأصوليات

لكن لماذا كلّ هذا الحضور الدّيني المطلق على حساب الحضور الفلسفي النّسبي؟

ربّما يتساءل البعض عن هذا القلق الذي يسكن في ثنايا العقل المنفتح، أو الإنسان الذي يستخدم عقله في حدوده القصوى، وكيف تبدأ هذه المسيرة ثم تنشأ، ثم ترافق العقل في مسار لا متناه. نعم، ربما يتساءل كل منا، لأنّ الإنسان في طبيعته ابن فوضى المفاهيم التي يخلقها الواقع بتجلّياته المختلفة. واقعٌ كلّ همِّه إيقاف حركة العقل والتاريخ والجغرافيا لتستقرّ فقط في ما أنتجه القدماء، أو عبَّر عنه السّلَف، أو صادق عليه سدنة الأفكار وحرّاسها الأوفياء. واقعٌ يجعل التَّفكير في الممكن مستحيلا، خاصّة إذا كان يبحث عن معنىً مختلف ومغاير لصورة مرسومة سلفاً. واقع ينحاز إلى الماضى ويقيم فيه، ليشعر بالأمان، ويخاف على نفسه قلق المستقبل، والانفتاح على المجهول. أنْ تقلق يعني أنّك خرجت إلى ذاتك وحقّقت التواصل معها وبها، فالذّات ليست سوى الخروج عن العقلية الجاهزة والبحث عن منافذ الخلاص. الذات هي الدخول في تحطيم الأصنام سواءٌ كانت أصناما مادية أو ذهنية. حيث أنّ هذه الأخيرة أشدّ خطراً من غيرها لخفائها وخطورتها. وهي ليست سوى الأشياء التي تبقى مصونة في الذّاكرة القومية، حيث إنّ الانقطاع عنها يمثّل انقطاعا عن الجذور، وبالتالي اغترابا يقذف صاحبه إلى هاوية العدمية كما كان يرى فرانسيس بيكون[1]. لهذا، فالقلق المنبثق على واقع الحال ليس وصولاً إلى نهايات يتمّ رسمها سلفاً من طرف العقل المنفتح، فهذا مجرّد وهم، بل كلّ ما يصل إليه العقل في أبعاد انفتاحه هو مجرّد نماذج بشرية، أو مشاريع قابلة للنقد، والتطوير، وخاضعة لصيرورة النشوء والارتقاء.

لا يمكن تفسير الحضور القويّ للخطاب الدّيني- وغياب الحضور الفلسفي، أو غياب فعل التَّفلسف في دلالاته النبيلة- إلا بغياب الجرأة، أو لنقل بتعبير أدق الانسحاب من ساحة المعركة لصالح أصوليات همّها الوحيد هو الهيمنة على المشهد، في انتظار لحظة الإمساك الممكنة على السّلطة، وحينها سيعاد مشهد التّنكيل والتّقتيل والتّجريم لكلّ ممكنات العقل البشري. نعم تحتاج الأفكار لتأخذ مكانها، وتتجذّر في الواقع إلى جرأة وثقة كبيرتين، وليس فقط إلى اتّصافها بالعقلانية والمنطقية. وهنا يشير الحلاق إلى أنّ فعل التّغيير يتم عبر الفعل وليس بالنية فقط. وهذا ما يفسّر انبطاح البعض أمام ما يلاقيه من معارضة ونقد من المحافظين وحرّاس الأفكار والعقيدة. فالأفكار إمّا تنكفئ أو تتوهّج. وربما تجربة سارتر هنا خير مثال كما يقول الحلاّق على ذلك؛ فهو يؤكّد في قراءته لكتاب الرأسمال: "بدا لي كلّ شيء في غاية الوضوح، لكنّي في الواقع لم أفهم أيّ شيء، لأنّ الفهم أنْ تغيّر نفسك، وأنْ تتجاوز ذاتك..."[2]. وهذا يحيلنا بالضرورة إلى أنّ الفكر الحقيقي هو ما كان ملتصقا بالسّلوك. ولعلّ ما يثير الانتباه في هذا الصّدد هو اشتغال المثقّف بحراسة الأفكار، ويعني ذلك التعلّق بالفكرة، وتحويلها إلى أقانيم مقدّسة، يصعب تجاوزها، ونماذج لا انفكاك عنها. وهنا يكمن مقتل الفكرة ذاتها، حين تنقلب إلى ضدّها، فماركس مثلا الذي كان ينظِّر لمشروع البروليتاريا، والدِّفاع عن حقوقها يحكي بول جونسون: "أنّه كانت لديه خادمة اسمها إليانور تطبخ وتنظّف المنزل وتدبّر أموره المالية، لم يدفع لها ماركس بنساً واحدا"[3].

المنفتح لا يخلق آلهة، ولا يصنع قداسة من جديد بأفقٍ اصطفائيّ كما يفعل مثقّفو اليوم، ومن يشتغلون بحراسة الأفكار، فهو ليس وصيّاً على النّاس، أو قائدا ملهماُ لهم. المنفتح يأبى اليقين، ولا يبحث عنه. إنّه ذلك السّاعي نحو التّطابق مع الذّات، والغوص في عوالم النّسبية، وكأنّه يحيى في عالمٍ ارتجالي يستوجب منه المشي في الشّارع وعيناه خارج المحيط، يقلِب كلّ المفاهيم، من أجل أنْ يحدُث ثقباً في جدار إسمنتي متين، يساعد على تعرّف الأفراد على ذواتهم، وتحرير الإنسان من نفسه بفعل الهدر الذي يتعرّض له من طرف ثلاثية: الديكتاتوريات/العصبيات/الأصوليات كما يسمّيها مصطفى حجازي[4]، وهي نفس الثّلاثية التي أشار إليها علي حرب في كتابه الإرهاب وصناعه[5]، حيث اختزلهم في المرشد، الطاغية والمثقف. المرشد: سخّر اسم الله، ليديم تسلّطه على رقاب الناس، وأبعد كل من خالفه العقيدة أو الفكر عن مسمّى الإنسانية. الطاغية: لم يتعامل مع الوطن إلا باعتباره مزرعة، ومِلْكاً خاصّاً. وبدل أنْ يمنح النّاس حقوقهم، جعل من عنفه شيئا مشروعاً في حقهم. والمثقّف: بدل أنْ يطرح مشروعه بأفق إنساني، تحوّل إلى بوق لهذا النّظام أو ذاك. لقد أراد تغيير العالم، لكنّه تغيّر بعكس ما فكّر فيه أو نظّر له.

كلنا نتوق أنْ نمسك بالمعنى، ونقبِض على الحقيقة، لهذا اشتغلنا على الجانب التّفسيري على التّأويل والقراءة، لكنّنا لم ندرك أنّ من يبحث عن الحقيقة، سيلغي غيرها، ومن يقاتل من أجل الاتّفاق ومسايرة الجمهور، سينسى طبيعة الاختلاف وتلك آفتنا. ننشغل دوماً بذهنية التسلّط حتّى ونحن نريد أنْ نستخرج ممكنات النّصوص، أو نبحث عن حلول لقضايا تبدو في طبيعتها قابلة لكلّ التّأويلات. لم تكن ذهنية الأصولي تحتمل هذا الانفتاح، وهو الباحث عن أفق يذوب فيه كلّ شيء تحت سطوته، أو سلطته السّياسية والفكرية والمعرفية. نحن لا ندرك بأنّ فعل القراءة: "هو نشاط فكري لغوي مولّد للتباين ومنتج للاختلاف"[6]. وليس العكس؛ أي إنّ القراءة ليست مولِّدة للاتّفاق والاندماج. من هنا يمكننا فهم هذا التّنوع الثّقافي الذي تولَّد وتفتّق مع ظهور النّصوص. فهي لم توحِّد، بقدْر ما فرّقتْ بالمعنى الإيجابي، وقبل أنْ يتحوّل هذا الاختلاف الفكري إلى اختلاف سياسي، وهنا مقتل الفكرة. فقراءة النّصوص المقدّسة اختلفت حتّى مع المعاصرين لنزولها. كما اختلفت الأنساق الفقهية، والتّفسيرية، وانقسمت المدارس والمذاهب والطوائف منذ أنْ تقدّم النّقل على العقل، أو النصّ على الواقع بتعبير حسن حنفي[7]. فحوربت كلّ الاتجاهات العقلانية بوصفها أدوات نقدية لموروث وفكر ديني ينهل من منابع وبنيات تأسّست على محاربة كلّ ما هو عقلي أو فكري أو نقدي. لينتقل هذا الصّراع إلى التّصفية الجسدية كما تشهد فصول التاريخ الدموي في ثقافتنا، الذي أزهقت فيه أرواح جزء كبير من الناس لأسباب سياسية أو دينية أو مذهبية[8]، كما فعلوا بالجعد بن درهم فيما رواه ابن كثير أنّ: "خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد يوم عيد الأضحى بالكوفة، وذلك أن خالدا خطب الناس فقال في خطبته تلك: أيها الناس ! ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر".[9]

كان النّقد في الثّقافة الدينية مقتصرا على الرّجال والأسانيد، ولم يستهدف البنى والمرجعيات، بل كانت كل المحاولات الوسطية أو التوفيقية تخدم أجندات معينة اجتماعية وسياسية. فالشافعي مثلا أسَّسَ الوسطية في الفقه والشّريعة. وأسَّسَ أبو الحسن الأشعري الوسطية ذاتها في العقيدة. أمّا الغزالي، فقد أسَّس وسطيته في مجال الفكر. لم يكن هذا التّيار نقديا بقدر ما كان إيديولوجيا في طرحه، بالمعنى الذي تصير فيه الإيديولوجيا تزييفا للواقع. فالكثيرون لا يدركون أنّ أسبابا تاريخية وسياسية هي التي دفعت بهذا التيار إلى موقع السّيادة والسيطرة. وأنّ تغيّر الظروف والملابسات كان يمكن أن تدفع بتيار آخر.[10]

نحتاج للنقد، وخاصة فلسفة النقد، لأن هذا المصطلح يستلهم مصطلحا رائجا في التداول الفلسفي وهو "النقد الثقافي". لقد أشار عبد الله الغذامي في كتابه "النقد الثقافي" إلى وظيفة هذا المصطلح، حيث يُعَدُّ نظرية في نقد المستهلك الثقافي؛ أي الاستقبال الجماهيري والقبول القرائي لخطاب ما، مما يجعله مستهلكا عموميا، في حين أنه لا يتناسق مع ما نتصوره عن أنفسنا وعن وظيفتنا في هذا الوجود. فهذا الجهد النقدي هو نقد للمتن الثّقافي، والحيل النّسقية حسب الغذامي، والتي تتوسّل بها الثقافة لتعزيز قيمها الدلالية[11]. ومن هذه الحيل تغييب العقل وتغليب الوجدان[12]. فالواقع أنّ هذا النّقد الثقافي قد كسّر مركزية النصّ أو الموروث بشكل عام. لكن النص كما يقول الدكتور حفناوي ليس هو الغاية القصوى للنّقد الثّقافي، وإنما الغاية المبدئية هي الأنظمة الذّاتية في فعلها الاجتماعي، في أيّ تموضُعٍ كان، بما في ذلك تموضُعَها النّصوصي.[13]

لقد طرحت مسألة دور الفلسفة في النّقد منذ القديم، وتعدّدت الأجوبة بتعدّد الاتّجاهات الفلسفية. فهناك من يقصرها فقط على جانب التّحليل كما عرف عند مدرسة الوضعية المنطقية أو حلقة فيينا خاصة مع فيجنشتين. وهناك من يراها أداة للوصف الظّاهراتي كما هو الحال بالنسبة إلى هوسرل. وهناك من يراها أداة للنقد السّياسي والاقتصادي كما قامت به مدرسة فرانكفورت وروادها أدورنو وهوركماير وماركوز وصولا إلى يورغن هابرماس. فكلّ هذه الأدوار وكلّ هذه الاتّجاهات تجعل من العمل الفلسفي متجاوزا لكلّ ما سبق، ليصير نقداً للمعتقدات والأفكار السّائدة أيضا. وهذا منطلق تصوّر للفلسفة، باعتبارها نشاطاً معياريا وتحليليا وتركيبيا كما يقول عادل ضاهر. فهي همزة وصل بين العلم والثّورة، بين معرفة الواقع والعمل على تغييره.[14]

الفلسفة بوصفها فنّاً للعيش:

لم تقدّم الفلسفة نفسها ومنذ لحظات النّشأة الأولى إلا بوصفها علاجاً، أو فنّاً يمكِّن المرء من التّعامل مع قساوة الطّبيعة، ومصاعب الحياة، والتغلّب على ما يواجهه من مخاوف في عالم لا متناهٍ من الأسرار. الخوف، أو ذاك الشّعور الذي يلازمنا دون أنْ نتعرف على كنهه أو ماهيته، سوى أنّه المحطم للآمال، أو الدّافع الخفيّ لكلّ المشاعر السّلبية، أو الهادر لوجودنا الذّاتي والجماعي. لا نحتاج لكثير من العبارات لكي نفهمه أو نشرحه ونحن نعيشه في كلّ لحظة، وفي كلّ سقطة، وصوب كلّ هدف، إنّه: "ليس شيئا نملكه بل هو أمر نقوم به"[15]. كما عرّفه جوزيف أوكنور. ويمكنني أنْ أضيف أنّه ليس شيئا نملكه فنتحكّم فيه، ولكنّه شيء نمارسه ليتحكّم فينا وهنا المفارقة. بين الإنسان والخوف حكاية عشق لا تنتهي، فهو العدوّ والصديق في آن واحد. لهذا، أكّد إدمون بيرك أنّه: "ليس هناك شعور يسلب العقل قدرة التفكير والتصرف بصورة مؤثرة مثل الخوف"[16]. لهذا، كان وما زال الخوف مصدراً للاستثمار والمتاجرة والتّوظيف من كلّ من يرغب في هدر وقهر الكائن الإنساني، أو كلّ من يريد أنْ يديم سلطته الرّمزية أو المادية، أو كلّ من يسعى إلى هندسة العقل الإنساني ليحقِّق من خلاله رغباته وطموحاته.

لكلّ منّا مثله الأعلى، أو نموذجه الذي تتحقّق من خلاله آماله وأعماله. ولكلّ منا طريقته لتجسيد هذا المثال، أو ذاك النّموذج. فالحكمة أو فعل التّفلسف، أو بتعبير آخر هذا السّعي إلى تحقيق ذاتك، لا يؤدي بك فقط إلى اكتساب المعرفة، بل إلى أنْ "توجد" أو "تكون". كانت هذه هي حكمة من سبق من الفلاسفة الرّواقيين أو الأبيقوريين وغيرهم "لقد استمروا في تعليم مبادئ الحكمة، رغم أنّهم يعتقدون أنّه لم يوجد حكيمٌ على الأرض قط" كما عبّر كينتيليان. وهناك مثل أبيقوري ينقله بيير هادو يقول: "عبثٌ كلمة ذلك الفيلسوف التي لا تخفّف أيّ شقاءٍ إنساني"[17]. فالخطاب الفلسفي لم يكن يوما نسقيا، لأنّه فقط يريد أنْ يقدم تصوّرا عاما أو كونيا على هذا العالم اللاّمحدود، بل كان نسقيا، لأنّه يريد أنْ يمنح المتلقي عدداً صغيرا من المبادئ المرتبطة ارتباطا وثيقا، وتستمد قوة إقناعية كبيرة، تحدّد ملامح السّلوك والطريقة التي يجب على الإنسان أنْ يعيش بها أو فيها.

بدأت العودة إلى هذا الخطاب التأمّلي للفلسفة، أو لنقلْ إعادتها إلى حيث موقعها الرّسمي، ووظيفتها الأسمى مع مجموعة من الرّواد، خاصّة الفرنسيين، أو من يطلق عليهم أندريه كونت سبونفيل جيل الثمانية والستّين[18] أيْ 1968، ويفتخر بأنّه ينتمي إلى هذا الجيل. لكن المثير ليس فقط الانتماء إلى فترة تاريخية معينة، فهذا الأمر لا يعني شيئاً بالنسبة إلى المتتبّع أو القارئ. وإنّما المثير هو ما يميّز هذه الحقبة التّاريخية في فرنسا، وانعكاساتها أيضا على باقي العالم، ونحن جزءٌ منه. فالطّابع المميّز لهذه الفترة هو عدم الاهتمام بالأخلاق، أو لِنقُل لم تكن الأخلاق هي الجزء الأصيل من تفكير الشّباب العالمي في تلك الحقبة، حيث كان الشّعار الملازم لهم هو: "المنع ممنوع" و"لنعش دونما إبطاء لنستمتع دونما هوادة". هذا الابتعاد أو لنقُل النّفور من كلّ ما هو أخلاقي كان نتيجة طبيعية لإيديولوجية سياسية سادت العالم حينذاك مفادها أنّ الكلّ سياسيٌّ، بمعنى أنّ كلّ تفكير الشّباب وقتذاك كان منصبّاً على التّفكير السّياسي، فهو المبتدأ وهو المنتهى، حتى أنّ البعض كان يرى في التّفكير السّياسي ضرورة أخلاقية، وربّما هي الأخلاق الوحيدة المعترف بها حينذاك.

لم ينشأ هذا النّمط من التّفكير لجيل بأكمله من فراغ، بل كانت جذوره ممتدّة إلى فلسفة المطرقة التي اعتمدها نتشه في تفكيكه للميتافزيقا، حيث: "يمكن قراءة المشروع النتشوي في الفلسفة باعتباره محاولة لاجتثاث الميتافزيقا من الفلسفة، علماً أنّ الميتافزيقا في الاستعمال النتشوي هي العنوان الكبير للانحطاط la décadence أو الرّوح الانتقامية بما هو علة المرض الحديث للغرب الذي يسمّى العدمية nihlisme le"[19]. كذلك فعَل ماركس في نقده لفلسفة الحقّ عند هيجل، حيث اعتبر الدّين: "زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنّه روح الظّروف الاجتماعية التي طرد منها الرّوح. إنّه أفيون الشّعوب"[20].

إنّ ما يبرر هذه العودة لخطاب العودة إلى الفلسفة باعتبارها فنّاً للعيش، بعيدا عن التّجريد النّظري، أو تحوّلها إلى مادة للاستهلاك ضمن برامج تعليمية قتلتْ الفعل الفلسفي بدل إحيائه، هو أنّ الفلسفة ليست معرفة كما يرى سبونفيل[21]، لأنّه لا وجود لمعارف فلسفية كما يظنّ الكثيرون. ففي اللّحظة التي ينتمي فيها شيء ما إلى المجال المعرفي، يتوقّف حينذاك أنْ يكون فلسفيا، فعلى سبيل المثال سؤال: هل توجد الأرض وسط الكون؟. فقد كان هذا سؤالا فلسفيا لآلاف السِّنين، لكن بمجرد أنْ عُرف أنّ الأرض ليست وسط الكون، توقَّف هذا أنْ يكون قضية فلسفية. هذا يحيلنا على قضية أخرى أشار إليها سبونفيل[22] أيضا هي: ماذا أفعل بالمعارف بعد امتلاكها؟. ماذا أفعل بها كي أسيِّر حياتي؟. المسألة الحقيقية بحسب سبونفيل ليست ما هو الإنسان؟ رغماً عن كانط. ولكن كيف نعيش؟. هنا يأتي دور الفلسفة بوصفها نمطاً للعيش، وفنّاً للحياة، حيث إنّ الفلسفة كما رآها أبيقور ليست: "سوى نشاط يمنحنا الحياة السّعيدة بخطابات وتأمّلات مبرّرة"[23].

لكن كيف تراجَعَ دور الفلسفة من تعليم الحكمة أو تعليم فنّ الحياة إلى مادة جوفاء في مقرّرات تعلِّم أطروحات فلسفية حول قضايا معينة؟.

للجواب عن هذا السؤال، لا بدّ من استحضار ما أكّد عليه لوك فيري، من كون أنّ في أغلب تعاليم اليونايين الأوائل من الأبيقوريين والرّواقيين، وأيضا عن أرسطو والبوذيين والطاويين تأخذ فكرة السّعادة مركزية في العقل اليوناني القديم لمجموعة من الاعتبارات. ومفاد هذا النّمط في التفكير هو أنّ الإنسان مُطالبٌ لكي يحقِّق سعادته أو حياته الطيّبة، بالبحث عن التّناغم مع الكون. أي أنّ الرّوح الأصلية للعالم تكمُن في التّناسق؛ أيْ النّظام الذي هو في آن معا قويم وجميل، مما حدا باليونانيين لتسميته بالكوسموس أيْ الكون. فلا شيء حسب نظرة الرّواقيين خاضع للعبث، أو اللّعب، أو اللّهو، بل كلّ شيء خاضع لنظام خاصّ يدل على عظيم الصّنعة. وما على المرء إلا أنْ يبحث عن ذاته داخل هذا النّظام، حتى يحسّ بالتّناغم بشكل أقوى، وبالتّالي يحقّق سعادته وحياته الطّيبة. إنّها نظرة إلى الكائن الإنساني على أنّه قطعة من السّرمد على وجه التّقريب؛ أي أجزاء من الكلّ الكوني الكبير. وبحسب هذا الرّؤية، فلن تفقدنا كما يقول فيري هذه الموت بالأساس إلا النّصيب الأتفه من وجودنا الفردي.

لكنْ لتحقيق هذا المبتغى تعلّمنا الفلسفة الأبيقورية والرّواقية على أنّه يجب علينا تجنّب مجموعة من المحاذير التي تجعل من وجودنا مهدّدا في تحصيل سعادته أو هنائه. ولعلّ أهمّها فكرة الإفراط hybris ذلك الغرور المنفلت من كلّ قيد، والّذي يجعلنا نقدر أنفسنا اكثر مما نحن عليه. ويخرجنا من المنزلة التي أسندت إلينا، بل يجعلنا على هذا النّحو نهدّد بالقطع مع التّناغم الكوني المسمّى بالكوسموس. إضافة إلى ما سبق، فإنّ اليونانيين القدامي تنبّهوا من خلال تأمّلاتهم الفكرية والفلسفية أنّ تحصيل السّعادة أو الحياة الطيبة رهين بالانفصال التامّ عن هواجس الماضي أو المستقبل. فالماضي يمنعنا من الإقامة في الحاضر، إما لأنّه كان سعيدا فيشدّنا، أو حزينا فيغمرنا بالأحزان والآلام، وهو ما كان يسميه سبينوزا بـ "الأهواء الحزينة". فالحنين كما الأمل، والماضي كما المستقبل. كلاهما يثقلان كاهل الإنسان ويمنعانه من سعادته، لأنّ الماضي زال، والمستقبل لم يحن. وعلى حد تعبير sénèque: "فإنّنا من فرْط العيش في الماضي أو في المستقبل تعوزنا الحياة"[24].

أمّا الخطر الثالث الذي يتهدّد سعادتنا نحن البشر الفانون، فهو الخوف، لهذا اعتبر اليونانيون القدامى الخوف عدوّهم الأول، لأنه يحوِّلنا إلى أغبياء وخبثاء: أغبياء لأنّ دواعي الخوف تكون لا عقلانية في أغلب الأحيان. كما أنّه يجعلنا منغلقين على أنفسنا، ومتمركزين على ذواتنا، وهو ما يتناقض مع الحكمة التي كانت إحدى تجليّاتها فِعْل التفلسف. إذ الحكيم هو نقيض الخوّاف، فهو ليس سوى شخصٍ قادر على التغلّب على ضروب الخوف، وبالتّالي على التّفكير بحرّية أكثر.

كان النّقد في الثّقافة الدينية مقتصرا على الرّجال والأسانيد، ولم يستهدف البنى والمرجعيات، بل كانت كل المحاولات الوسطية أو التوفيقية تخدم أجندات معينة اجتماعية وسياسية

ولا بدّ من التّأكيد هنا، أنّ المسيحية أحدثتْ شرخاً كبيرا في الفلسفة اليونانية، حين اقترحت خلاصا آخر بعيدا عن فكرة التّناغم الكوني الذي اقترحتْه الفلسفة اليونانية وتحديدا الفلسفة الرّواقية ومن دار في فلكها. لكنْ هذا لا يمنعنا كما يؤكّد لوك فيري أنّ هذا النّصر، وهذا الانقلاب الفكري في التصوّرات والمفاهيم جاء بناء على خسائر أيضا. لعلّ أكبرها كان هو إخضاع العقل للإيمان. فبدل أنْ يكون المحدّد الأساسي لسعادة الإنسان همُ البشر أنفسهم، أصبح الإله هو المحدّد الوحيد. إنّ الفكرة الجديدة التي اقترحها اللاّهوت المسيحي كانت من طبيعة الحال انقلابا في التصوّرات إذا ما استحضرنا البنيات الفكرية التي كانت سائدة حينذاك، وقد يبدو هناك الاقتراح الرّواقي أكثر سذاجة. فحالة الذّوبان التي تقترحها الرّواقية تجعلنا ذائبين ومغيّبين في نظام كوني المطلوب منّا أنْ نبحث عن أوجه التّناغم معه، حتى نحقّق آمالنا أو سعادتنا، ولا يخفى على قارئ أنّ حالة الذوبان هذه تجعلنا نفقد هويتنا الفردية الواعية. أمّا مع اللاهوت المسيحي فالأمر مختلف تماما، إذ يصبح الخلاص هنا هو نوع من الخلود المغاير والمفارق للخلود الرّواقي، خلود شخصي لنا ولأحبّتنا ولمعارفنا وأصدقائنا جسدا وصورة وصوتا، حيث تتحوّل العقيدة المسيحية إلى إعادة صياغة عقيدة عالية التّقنية مكنّتها من هزيمة أعتى الفلسفات والسّيطرة على العالم خلال خمسة عشر قرنا تقريبا[25].

لكن كيف تفوّقت المسيحية على النّظام الفكري اليوناني القديم؟. هنا يجيبنا لوك فيري بأنّ هناك معطيات موضوعية لا يجب تجاهلها مهما كان موقف الإنسان من المسيحية:

- السمة الأولى: العقل الذي كانت سمته التّناغم مع النّظام الكوني عند الرّواقيين، سيتماهى عند المسيحيين مع شخص جديد، وهو المسيح. هذه الشّخصنة ستفسح المجال أمام انتقال آخر لفهم العالم. وتعطي للخلاص بعداً آخر. بتعبير آخر، لولا التّثمين المسيحي لشخص المسيح، لما أبصرت فلسفة حقوق الإنسان اليوم النّور كما هي متعارف عليها في العالم المعاصر.

السمة الثانية: الإيمان يأخذ مكان العقل، ويقف في وجهه.

السّمة الثالثة: لم يعد المطلوب لتطبيق وممارسة النّظرية بشكل صحيح فهم الفلاسفة، بل تواضع البسطاء.

- السمة الرابعة: انطلاقا من هذا المنظور الذي يعطي الأولوية إلى التواضع وإلى الإيمان، وإلى التفكير بواسطة الآخر، بدل التفكير بواسطة الذات. لن تختفي الفلسفة بشكل كامل، بل ستصبح خادمة للدين.

- السمة الخامسة: وبما أنّ الفلسفة لم تعد عقيدة خلاص، بل خادمة للدين، فإنّ الفلسفة ستصبح فلسفة مدرسية؛ أيْ بالضبط مادة مدرسية، وليس حكمة أو مادة حياة.

ختاما، لا بدّ من التأكيد على العودة إلى الأصل الأوّل للفلسفة باعتبارها حكمة، دون التقليل من أهمية التّنظير؛ أيِ أنْ تعود الفلسفة فنّاً للعيش كما كانت، أو كما عُرِفتْ سيرتها الأولى. لكنْ هذه العودة لا بدّ أنْ تستحضر في أساسها مصيدة الأمل، حيث لا يقتصر أمر العودة فقط على التمنّيات. هنا يمكننا طرح السؤال: ما العمل كي تكون لنا علاقة بالمستقبل بعيدة عن العلاقة بالأمل؟. يجيبنا سبونفيل[26] بأنْ تكون علاقتنا بالمستقبل علاقة إرادة، لأنّها هي العلاقة بالمستقبل التي نملك أمرها. بينما الأمل هو العلاقة بالمستقبل التي لا نملك أمرها كما كان يقول الرّواقيون. لذلك: "ليس هنالك أملٌ بلا خوف ولا خوف بلا أمل" كما يقول سبينوزا. فالحكيم هو الذي لا يأمل، تكفيه المعرفة والعمل.


 

[1]- درايوش، شايغان. الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية. ترجمة حيدر نجف. بيروت. دار الهادي. ط1. 2007. ص: 32

[2]- جمال، علي الحلاق. فن الإصغاء للذات قراءة في قلق المنفتح. منشورات الجمل، عمان/سيدني، 2002/2013.. ص: 92

[3]- بول، جونسون. المثقفون. ترجمة طلعت الشايب. دار شرقيات للنشر والتوزيع. القاهرة. ط1. 1998. ص: 87

[4]- حجازي، مصطفى، الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005، ط1. ص: 24

[5]- حرب علي، الإرهاب وصناعه: المرشد، الطاغية، المثقف. بيروت: الدار العربية للعلوم، 2015، ط1. ص: 10

[6]- علي، حرب. نقد الحقيقة. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 1993. ص: 5

[7]- يحاول حسن حنفي تجديد علم أصول الفقه من خلال ما أسماه "من النص إلى الواقع". التراث والتجديد. (1992). ط4. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. ص: 178

[8]- انظر شذرات من هذا التاريخ الدموي كتاب. الهادي، العلوي. (1999). فصول من تاريخ الإسلام السياسي. (ط2). مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي.

[9]- ابن كثير، إسماعيل الدمشقي، البداية والنهاية، دار الحديث، ط5، 1418/1998، ج 9، ترجمة الجعد بن درهم

[10]- أبو زيد، نصر حامد. الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء، (ط1). 2007. ص: 85/86

[11]- الغذامي، عبد الله. (2005). النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية. (ط3). المركز الثقافي العربي. ص: 81/83

[12]- نفس الفكرة طرحها غوستاف لوبون في حديثه عن سيكولوجية الجماهير. حيث قال بأن الجماهير لا تتأثر بالمحاجاة العقلانية بل فقط بالعواطف. انظر. سيكولوجية الجماهير. (1991). ترجمة وتقديم هاشم صالح. دار الساقي. ص: 123

[13]- حفناوي، بعلي. (2007). مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن. (ط1). منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم. ص: 21

[14]- ضاهر، عادل. (1990). نقد الفلسفة الغربية: العقل والأخلاق. (ط1). دار الشروق للنشر والتوزيع. ص: 12

[15]- جوزيف، أوكنور. حرر نفسك من الخوف. ترجمة سهى نزيه كركي. العبيكان، 2008، ط2. ص: 30

[16]- نقلا عن فهمي، أحمد. هندسة الجمهور كيف تغير وسائل الإعلام الأفكار والتصرفات. مجلة البيان 1436.ط1. ص: 174

[17]- بيير، هادو. الفلسفة طريقة حياة: التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو. ترجمة عادل مصطفى. القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2019. ص: 385

[18]- سبونفيل، أندريه كونت. هل الرأسمالية أخلاقية؟. ترجمة بسام حجار. بيروت، دار الساقي، ط1، 2005. ص: 19

[19]- أندلسي، محمد. نيتشه وسياسة الفلسفة. الدار البيضاء. دار توبقال، دون طبعة أو تاريخ نشر. ص: 26

[20]- ماركس، كارل. نقد فلسفة الحق عند هيجل. ملف pdf. ص: 11

[21]- انظر حوارا لأندريه كونت سبونفيل حول الفلسفة فنا للعيش في كتاب: فلسفات عصرنا: تياراتها، مذاهبها، أعلامها، وقضاياها. جان فرانسوا دورتيي. تأليف جماعي مجلة العلوم الإنسانية. ترجمة إبراهيم صحراوي. منشورات الاختلاف، ط1، 2009. ص: 277

[22]- المرجع السابق ص: 279

[23]- المرجع نفسه. ص: 279

[24]- فيري، لوك. أجمل قصة في تاريخ الفلسفة. بالتعاون مع كلود كبلياي. ترجمة محمود بن جماعة. دار التنوير للطباعة والنشر، ط1، 2015. ص: 29

[25]- فيري، لوك. تعلم الحياة. ترجمة سعيد الولي. دون دار النشر، أو طبعة أو تاريخ. ص: 93

[26]- سبونفيل، أوندري كونت. المرجع السابق. ص: 284